كتاب يستعرض طريقة من طرق التقرّب إلى الله، أقرب إلى مسالك الصوفية في التدرّج الروحي، من خلال المكاشفة القلبية ومعاينة التجليّات الإلهية وبعض أمور الغيبيات. غير أن سمت الملامتية -كوجه من أوجه الخلاف بينها وبين الصوفية- ليس هو الكتمان وحسب، بل تعمد الإتيان في الظاهر من مذموم الأفعال ما يستوجب اللوم، فلا يُظن بالمريد خيراً ويعافه الخلق، فيختلي بالخالق، وذلك مراده .. وهو على الناحية الشخصية كذلك، لا يبرح من لوم نفسه على أدق تقصير وتفريط، وعلى مجرد الاغتباط بما قدّم من طاعات، بل وعلى البكاء الذي قد يخفف شيء من وطأة اللوم وتوبيخ الذات، وذلك كصورة من صور الزهد الغالب وقوة العاطفة الدينية والجهاد العنيف للنفس.
لا يترك أتباع الملامتية ولا مؤسسها الأول أي كتب حول الرسالة، حيث إن أكبر الظن ينفي وجود طُرق منظمة وقواعد ثابتة ينتهجها المشايخ والمنتمين للمذهب، في المقابل، لم يكن هناك سوى مجموعة من الصفات والحالات والآداب التي تم تحديدها في خمس وأربعون أصل من أصول المذهب، ترفع من مقام المريد في القرب إلى الله.
ينقسم الكتاب إلى قسمين رئيسيين، يندرج تحت كل منهما عدد من المواضيع ذات الصلة، ويحظى معها الكتاب بثلاث نجمات من رصيد أنجمي الخماسي، وهي كما يلي:
- القسم الأول: ويتطرق تاريخياً إلى نشأة مذهب الملامتية بما فيها مدرسة نيسابور، المدينة الواقعة في خراسان والتي احتضنته ابتداءً في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، وما يربط من صلة بين تعاليمه وتعاليم مذهبي التصوف والفتوة، ومعاني كل مذهب. يتحدث كذلك عن فلسفة المذهب مع عرض تحليل نقدي لأصوله، وعلى وجه الخصوص فلسفة اتهام النفس ومداومة لومها، وتوجهها في محاربة الرياء، لا سيما الرياء في العلم والأعمال والأحوال.
- القسم الثاني: ويتطرق إلى رسالة الملامتية من خلال تسليط الضوء على مؤلفها، أبو عبدالرحمن السُلمي، الذي يعود في أصله من جهة أمه إلى قبيلة السلمي والتي تعود بدورها إلى قبيلة مضر العربية، ومن جهة أبيه إلى قبيلة الإزدي التي تعود على الأرجح إلى قبيلة إزد بن غوث العربية، وإبراز منزلته الروحية في تاريخ التصوف، وتصانيفه، وأشهر تلاميذه.
وفي التفرقة بين تلك الفرق الثلاث، أدوّن ما علق في ذهني عنها بعد القراءة، بالإضافة إلى شيء مما رسّخت من أصول روحانية، وباقتباس في نص زاهد (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:
- بينما ينمّ ظاهر الصوفي عن باطنه، فتكتسي أقواله وأفعاله بأنوار الأسرار التي اعتملت في قلبه، ولا يتحرّج عن إظهار الدعاوي من علوم وأعمال وأحوال وكرامات، والإعلان على الملأ بما فتح الله عليه من غيب وأسرار، والتحدث عن أمور لا يألفها عامة المؤمنين كما “في الوصول والقرب والفناء والحلول والاتحاد”، فإن الملامتي لا يُبدي أي نوع من الدعاوي التي لا تعدو عن كونها “رعونات وجهل وتقصير في مراقبة النفس” في تقديره، بل إنه يتجنب إظهار أي كرامة خشية أن تكون الكرامة نفسها “ابتلاء من الله، يمتحن بها غرور النفس وعجبها” وخوفاً من افتتان الناس به. لذا، فالملامتية “أهل صحو وإدراك” ويتحرون الإخلاص في الأعمال والجهاد في تحريرها من الرياء .. “فالصوفي مع الله أشبه بموسى عليه السلام لما أظهر أثر باطنه في ظاهره عندما كلّمه ربه، فلم يطق أحد النظر إليه. والملامتية مع الله أشبه بمحمد عليه السلام، لم يؤثّر باطنه في ظاهره بعد ما ناله من القرب والدنو عندما رُفع إلى المحل الأعلى، فلما رجع إلى الخلق تكلّم معهم في أمور دنياهم كما لو كان واحداً منهم، وهذا أكمل العبودية”.
- وماذا عن (اللوم) أو (الملامة) الذي يبدو أنه اشتقاق للملامتية؟ أهو لوم الملامتي لنفسه؟ أم لوم الناس له؟ وبينما ينفي الملامتية في هذا المعنى لوم الدنيا، إذ لا يجوز ذم الدنيا بأي حال من الأحوال، فإن هذين المعنيين يدخلان مباشرة في جوهر الملامتية، حيث “أن الملامتي لا يرى لنفسه حظاً على الإطلاق، ولا يطمئن إليها في عقيدة أو عمل، ظناً منه أن النفس شر محض وأنها لا يصدر عنها إلا ما وافق طبعها من رياء ورعونة! ولذلك وقف منها دائماً موقف الاتهام والمخالفة، وهذا هو المراد بلوم النفس”. وهذا من ناحية الملامتي مع نفسه، أما من ناحية الغير “يرى الملامتي أن معاملته مع الله، بينه وبين ربه، لا يصح أن يطلع عليه غيره، فهو حريص على كتمان ذلك السر، غيور على محبوبه أن يطلع الخلق على صلته به. فهو يظهر للخلق بآداب العبودية ويحفظ سره مع الله. بل إن الملامتية –خوفاً من أن تنكشف أحوالهم وأسرارهم التي يضنون بها على الخلق، وخشية من أن يتسرب الغرور إلى نفوسهم إذا ظهروا للناس بما يوجب مدحهم– تعمدوا فعل ما يجلب عليهم من الخلق السخط والازدراء ويرسل ألسنتهم بالذم والتأنيب! وهذا لوم الناس إياهم”. وبينما يرى بعض الملامتية بأن الملامة تستوجب عدم إظهار الخير وعدم إضمار الشر، يعتقد أبو حفص السهروردي -وهو أحد أعلام التصوف- بأن “أهل الملامة قوم قاموا مع الحق تعالى على حفظ أوقاتهم ومراعاة أسرارهم فلاموا أنفسهم على جميع ما أظهروا من أنواع القرب والعبادات، وأظهروا للخلق قبائح ما هم فيه وكتموا عنهم محاسنهم فلامهم الخلق على ظواهرهم ولاموا أنفسهم على ما يعرفونه من بواطنهم”.
- ومع ما تقدم، فإنه من غير المستبعد “أن يكون اسم الملامتية متصلاً ببعض الآيات القرآنية التي ورد فيها ذكر اللوم كقوله تعالى: (ولا أقسم بالنفس اللوامة). وقوله: (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم)، فإن الآية الأولى تُعلي من شأن النفس اللائمة لصاحبها، المؤنبة المحاسبة له على كل ما يصدر عنه، وهي النفس الكاملة في الاصطلاح الملامتي. وتذكر الآية الثانية من صفات عباد الله الذين يحبهم ويحبونه أنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وأنهم في جهادهم في سبيل الله وإخلاصهم في ذلك الجهاد لا يخافون في الله لومة لائم ولا يكترثون بمدح الناس وذمهم”. وبناءً على جهاد النفس كتفسير لمعنى الجهاد حسب المفهوم الملامتي، فإن الآية القرآنية “تشير إلى أخص صفات الملامتية” والتي تصلح لاتخاذها أساس للمذهب، بل ومصدراً لاسمه.
- أما الفتوة فقد وُجدت عند العرب والفرس قبل بعثة الإسلام، فهي تعني بـ “مجموعة من الفضائل أخصها الكرم والسخاء والمروءة والشجاعة، تميز المتصف بها عن غيره من الناس”. رغم ذلك، لم يُعرف لها تنظيماً جماعياً إلا في عصور متأخرة فقد كانت تظهر كأمر فردي وصفة لمن يحملها، كما لُقب بها علي بن أبي طالب وأهل بيته في صدر الإسلام. “ومن ناحية أخرى نرى أن كثيراً من رجال الصوفية المشهورين ذوي المكانة العالية كانوا من الفتيان قبل أن يدخلوا الطريق الصوفي” مثل أحمد بن خضرويه، وقد كان أكبر مشايخ خراسان ولُقب بالزاهد الكبير. وقد “كان الفتى قبل الإسلام فرداً غايته المحافظة على شرفه الذي هو شرف قبيلته، فأصبح بعد الإسلام عضواً في جماعة يعمل من أجلها”. لذا، هي أقرب إلى الفتوة العربية القديمة المتمثلة في سجايا ومبادئ وأفكار، كالإيثار وبذل النفس وكف الأذى وترك الشكوى وإسقاط الجاه والعفو عن الغير …، وغيرها من الفضائل التي أُضيفت إلى تقوى المتصوفة، والمستمدة جميعها من الفتوة. “قال علي بن أبي بكر الأهوازي: إن أصل الفتوة ألا ترى لنفسك فضلاً واحداً. وقال القشيري: أصل الفتوة أن يكون العبد أبداً في أمر غيره. وقال بعضهم في تفسير قوله تعالى: (قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم): الفتوة هي كسر الصنم (الوارد في القصة) وصنم كل إنسان نفسه .. فمن خالف هواه فهو فتى على الحقيقة“.
- يؤكد أبو عبدالرحمن السلمي في (رسالة الملامتية) عندما طُلب منه تبيان بعض طرق أهل الملامة وسيرهم وأحوالهم وأخلاقهم، بأن القوم لا لهم تصنيفات من الكتب ولا مؤلفات من الحكايات، “إنما هي أخلاق وشمائل ورياضيات”، فيصّنف اجتهاداً، بعد الاستعانة بالله وبهديه وبتوفيقه، خمس وأربعين أصلاً يعدّها كأطراف جمعها من هنا وهناك يُستدل بها على أولئك القوم. وبدوري، أعرض أول ثلاثة أصول، فيما يلي:
-
- “ومن أصولهم أنهم رأوا التزين بشيء من العبادات في الظواهر شركاً، والتزين بشيء من الأحوال في الباطن ارتداداً.
- ومن أصولهم ألا يقبلوا ما يفتح عليهم بعز ويسألوا بذل، حتى إن أحدهم يسأل عن ذلك فيقول: في السؤال ذل وفي الفتوح عز، وإنا لا نأكل إلا بذل لأنه ليس في العبودية تعزز. وأصلهم في ذلك قول النبي ﷺ: (إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبيد). فإن قيل إن هذا مخالف لظاهر العلم، فإن النبي ﷺ قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما أتاك الله من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف فاقبله. قيل إن عمر رضي الله عنه رأى في ذلك عزاً لنفسه، فرأى النبي تعززه بذلك، فقال يحثه على ذلك مخالفة لنفسه وإسقاطاً لذلك التعزز عنه، فقال: ما أتاك الله من هذا المال بغير مسألة ولا إشراف نفس فاقبله، ولا تعزز بذلك، فإن في رد الرفق حظاً للنفس وتكبراً يحدث فيها.
- ومن أصولهم قضاء الحقوق وترك اقتصاد الحقوق“.
وبالإضافة إلى هذا الكتاب، تحتوي مكتبتي الجوداء على عدد جيد من كتب التصوف وما يصبّ فيها، مما تعني بالتقرب إلى الله قلبياً، وإلى الارتقاء روحياً. منها على سبيل المثال الآتي:
رسالة حي بن يقظان – تأليف: أبو جعفر بن طفيل الأندلسي / إخوان الصفا وخلان الوفا – تأليف: إخوان الصفا / منازل السائرين إلى الحق عز شأنه – تأليف: عبد الله الهروي / كتاب الصدق – تأليف: أبو سعيد الخراز / حكمة الإشراق – تأليف: شهاب الدين السهروردي / مشرب الأرواح – تأليف: أبو محمد روزيهان البقلي الشيرازي / (شمس المعارف الصغرى، شمس المعارف الكبرى) – تأليف: أحمد بن علي البوني / كشف السر الغامض في شرح ديوان ابن الفارض – تأليف: عبدالغني النابلسي / وجه الله: ثلاثة سبل إلى الحق – تأليف: د. ألفة يوسف / ترانيم الحلاج: تأملات صوفية – تأليف: د. رامز محمود / هكذا تكلم ابن عربي – تأليف: د. نصر حامد أبو زيد / متصوفة بغداد – تأليف: عزيز السيد جاسم / الحسين بن منصور: الحلاج – تأليف: طه سرور / حي بن يقظان: ابن سينا وابن طفيل والسهروردي – تأليف: أحمد أمين / التصوف: الثورة الروحية في الإسلام – تأليف: د. أبو العلا عفيفي / شرح كتاب مواقع النجوم للشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي – تأليف: عبدالله صلاح الدين / (الكشف الأتم لمفاتيح كتاب فصوص الحكم لابن عربي، العرفان عبر تاريخ الملل الكبرى) – تأليف: عبدالباقي مفتاح / في التصوف الإسلامي وتاريخه – تأليف: رينولد نيكولسون / الحياة والأبدية – تأليف: أوشو / بحثاً عن الشمس: من قونية إلى دمشق – تأليف: عطاء الله تدين / تعاليم المتصوفين – تأليف: حضرة عنايت خان / آلام الحلاج – تأليف: لويس ماسينيون / الرومي: ماضياً وحاضراً شرقاً وغرباً – تأليف: فرانكلين لويس / تصوف: منقذو الآلهة – تأليف: نيكوس كازنتاكيس / (فصوص الحكم، التجليات الإلهية، رسائل ابن العربي، شرح كتاب عنقاء مغرب في ختم الأولياء وشمس المغرب) – تأليف: محي الدين بن عربي / (رباعيات مولانا جلال الدين الرومي، فيه ما فيه، المثنوي المعنوي، الطريق إلى الله: مختارات عميقة شاملة مشروحة من مثنوي مولانا جلال الدين الرومي) – تأليف: جلال الدين الرومي.
ختاماً، وكما حرّضت الصوفية عموماً والملامتية خصوصاً على اتهام النفس ومحاربتها والتضحية بها ما أمكن، فإن هذه النفس في خلاف مع الروح، كما إن القلب هو مستودع المعرفة والسر هو مركز التجلي .. فالنفس هي اسم لتلك “اللطيفة المودعة في القلب الجسماني التي هي محل الأخلاق المذمومة والأفعال القبيحة، في مقابل الروح التي هي لطيفة مودعة في القلب الجسماني أيضا ولكنها محل الأخلاق المحمودة والأفعال الحسنة، وفي مقابلة القلب والسر اللذين هما لطيفتان أخريان مودعتان في ذلك المجموع الذي نسميه إنساناً” .. وهذا الإنسان في شموليته إنما هو مجموعة قوى سُخرت بعضها لبعض .. فـ “الروح مبدأ الحياة، والنفس مبدأ الشهوات، والقلب مركز المعرفة، والسر مركز المشاهدة أو الشهود” .. فالنفس للشهوة والروح للحياة والعقل للعلم والقلب للمعرفة، والإنسان متقلّب بينها ما مال أحد جوارحه على الآخر .. فـ “النفس مبدأ الشهوات والأفعال المذمومة، والروح مبدأ الحياة والأفعال المحمودة، والعقل محل العلم، والقلب محل المعرفة، والمحبة أصالة .. ولكنه إن مال إلى النفس اتصف بصفاتها، وإن مال إلى الروح اتصف بصفاتها، فهو متقلب بينها” .. غير أن السر هو أحد لطائف الله الخفية .. “فهو محل المشاهدة التي ليس لواحدة من القوي السابقة اطلاع عليها. وقد يتكلم الصوفية أيضاً عن سر السر، أي السر المودع في لطيفة السر .. وهذا أمر لا يطلع عليه إلا الله“.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
نقلاً من المفكّرة: جاء تسلسل الكتاب (17) في قائمة لا تنتهي من الكتب التي خصصتها لهذا العام .. 2022، وقد حصلت عليه من معرض للكتاب في إحدى المدن العربية خلال العام، ضمن (120) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض.
أنشطة شهر أغسطس: استأنفت القراءة بعد انقطاع عدة أشهر لاستكمال مهمة ما .. وكأني تنفست الصعداء من جديد!
تسلسل الكتاب على المدونة: 348
التعليقات