من المؤكد أن الكثيرين قد أسهبوا في الحديث عن التصوف والمتصوفين لا سيما في بلاد الرافدين، غير أن هذا الكتاب قد أضفى جانباً من الوجد ربط أولئك المتصوفة بمدينة بغداد، كرباط يعقد بين عبق الأرض وروحانية القلب، يفيض بما خبروه من أنوار ربانية وما قاسوه في ذلك من شديد البأس والتنكيل، قتلاً أو تكفيراً، والذي يذهب فيه (الحلاج) مضرب مثل لا يُضاهى!.
قد تتقاطع سيرة الكاتب الذاتية مع أولئك المتصوفة، في أرواحهم التي بذلوها ثمناً للحق الذي آمنوا به وتحدثوا به جهاراً نهاراً، غير آبهين بسطوة حاكم، أو بتملّقه، أو ممالأة القوم فيما يعتنقون. إنه (عزيز السيد جاسم الموسوي) كاتب ومفكّر من أرض العراق، وله العديد من الإصدارات الروائية والفكرية والسياسية، وقد جاء هذا الكتاب كآخر إصداراته، كما يُعتقد. وكما تذكر شبكة المعلومات، فقد نشأ محباً للاطلاع لا سيما في الأدب والتاريخ العربي والإسلامي، غير أنه وفي مطلع شبابه، أخذ بتناول الفكر الماركسي والاطلاع على فكر فلاسفة الغرب، أمثال فولتير وجان جاك روسو، ما نمّى لديه روح المقاومة، فتزعّم تنظيماً شبابياً، وقد انخرط في إحدى تنظيمات الحزب الشيوعي، وقاد عدد من المظاهرات من أجل المطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية، التحريض الذي أودع على إثره السجن، ولعدة مرّات. وفي كبره، أصبح مقرّباً من الرئيس الأسبق صدام حسين، بعد أن تولّى منصب رئاسة التحرير بجريدة الثورة التابعة لحزب البعث الحاكم، حتى أنه كان يلتقيه أسبوعياً ليخرج منه بإصدار جديد يتناول آرائه في عدة مسائل قومية، كرأيه في الدين والماركسية والشيوعية والجبهة الوطنية والقضية الكردية، وفي مكانة حزب البعث وقدرته على التصدي لمشكلات العصر الشائكة. يتعرّض للاعتقال بأمر مباشر من الرئيس، وذلك لمخالفته آرائه، ورفضه أوامره بإصدار بعض الكتب التي تتنافى مع مبادئه، لا سيما في تأليف كتاب يُقرأ من عنوانه (صدام حسين وصلاح الدين الأيوبي)، وكتاب آخر يتعرّض لنساء الاهوار العراقية! تنقطع أخباره على حين غرّة، ولا تشفع وساطة بعض زملائه الأدباء في إطلاق سراحه، وفي حين تتضارب الأقوال عن خبر مقتله، يُفيد أخاه د. محسن الموسوي في إحدى البرامج المتلفزة، عن احتمالية تصفيته من قبل النظام في سجن أبو غريب إثر اعتقاله عام 1991، في الوقت الذي لم يتم فيه العثور على جثمانه حتى اليوم.
يُسهب الكاتب في الحديث عن المكانة التاريخية لمدينة بغداد التي يعتقد أنها وُلدت “بضرورات تاريخية حاسمة”، مهدت لذلك الاتصال الوثيق مع من عاش عليها من المتصوفة. فينقل ابتداءً عن الخطيب البغدادي في موسوعة (تاريخ بغداد)، ماورد في تحولها التاريخي من مجرد قرية إلى عاصمة عظيمة تُدعى مدينة السلام، على يد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، إذ يقول أبو القاسم المظّفر بن أبي الأغر: “دخلت إلى بغداد وهي أجمة ليس فيها إلا كوخ واحد، وفيه رجل من الأولين ينظر مبقلة له، فلما أن جاءها المنصور، قالوا: لا ندري! ولكن ههنا رجل من الأولين سله، فبعث إليه، فقال له: ما اسمك؟ فقال: داد، فقال له: وما يقال لهذا الموضع؟ فقال: هذا باغ لي -يعني البستان- فقال: سموه باغ لداد، فسميت بغداد”.
وبينما يعمل الكاتب على التأكيد بأن “بغداد منحة الرافدين” من خلال ما جادا به من جودة تربة ونشاط زراعي وإنتاج غذائي وموقع جغرافي وقيمتان صناعية وتجارية، يركّز على موقع بغداد “المتوسط بين دجلة والفرات، في البقعة التي تكاد أن تنظّم النهرين في سرّة واحدة”. تدفعه هذه الحقيقة الجغرافية إلى استخلاص علاقة خفية بين (الوسطية) و (التدوير)، “ففي الدوائر ـ عادة ـ يكون الوسط أكثر دقة، ونظامية، وسهولة، ووضوحاً من المثلثات والمربعات، والأشكال الهندسية الأخرى، فكان توسط بغداد متصلاً ببنائها بصورة مدينة مدورة. إن التوسط ـ بصورة عامة – حمل معه الدلالة المكانية (الجغرافية) والدلالات الأخرى المتمثلة في (الخلقة) و(الخلق)، وما يعنيه ذلك من طباع واستعدادات سياسية، وفكرية، وفنية. وكيفما يفسر العلماء صلة المكان الجغرافي بالطبائع البشرية والقدرات الإنسانية، فإن من الثابت أن تلك الصلة قائمة وذات حضور مادي ملموس”. وعن هذه الوسطية الجغرافية التي تمتع بها العراق ككل، فقد أوتي أهلها من الإفادة ما ينقله عنهم الخطيب البغدادي، إذ قال: “وأوتي للعراق الإفادة من وسطية مكانه الجغرافي، فقالوا: «لذلك اعتلت ألوان أهله وامتدت أجسامهم، وسلموا من شقرة الروم والصقالبة، ومن سواد الحبش وسائر أجناس السودان ومن غلظة الترك، ومن جفاء أهل الجبال وخراسان، ومن دمامة أهل الصين، ومن جانسهم وشاكل خلقهم، فسلموا من ذلك كله واجتمعت في أهل هذا القسم من الأرض محاسن جميع أهل الأقطار بلطف من العزيز القهار، وكما اعتدلوا في الخلق كذلك لطفوا في الفطنة والتمسك بالعلم والأدب ومحاسن الأمور، وهم أهل العراق ومن جاورهم وشاكلهم”. وعلى الرغم من تحفّظ الكاتب تغليب المكانة الجغرافية على ما سواها من عوامل كما جاءت في نص البغدادي، وما يلحقها من تصنيفات للشعوب تتفاضل بينها، ما يتعارض مع المنظور الإنساني والمبادئ الإسلامية، فإنه يعتقد بأن النص العام “يقدم رؤية نافعة في بيان العلاقة بين التوسط المكاني المدعوم بعوامل الرقي والازدهار، واعتدال المناخ، وحسن العقل، وطيب المزايا والشمائل الإنسانية”، ما جعل بغداد تحظى بنصيب الأسد من مزايا التوسط الجغرافي كمدينة تتوسط أرض العراق. “فبغداد مركز الوسط من العراق، والعراق مركز الوسط من الأمة (بالمعنى الإسلامي المعروف عنها)، والأمة هي مركز العالم. ووفقاً لهذا الفهم والقياس، تكون رؤية المنصور متكاملة أيديولوجياً وجغرافياً على مستوى التناظر بين الفهم اللاهوتي بمفاهيمه الإسلامية الأساسية، والفهم الجغرافي المتضمن إدراكاً حسياً بأهمية المكان (الموقع)”. بيد أن الخليفة المنصور استطاع تعزيز سلطته معتمداً على هذه المكانة الجغرافية، علاوة على تكريس قيمة العدل كمبدأ إسلامي رئيس، من خلال توظيف مفهومي الوسطية والاعتدال.
يجمع الكتاب من رصيد أنجمي الخماسي ثلاثاً، والذي تعرض صفحة المحتويات فيه قائمة من أسماء أولئك المتصوفة الذين تناولهم المؤلف في كتابه .. حباً أو ربما استشعاراً للرابطة الخفية بينه وبينهم. والقائمة هي كما يلي:
- فهرس: بغداد «بلدة طيبة ورب غفور»
- أبو هاشم الزاهد (أول من لقب بالصوفي)
- معروف الكرخي
- بشر الحافي
- منصور بن عمار
- الحارث بن أسد المحاسبي
- سري السقطي
- أبو سعيد الخراز
- أبو الحسين النوري
- الجنيد
- الحسين بن منصور الحلاج
- أبو بكر الشبلي
وفي الأسطر القادمة، أدوّن ما علق في ذهني بعد القراءة عن كل متصوّف من أولئك الأعلام الأحد عشر، وباقتباس في نص روحاني (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، إضافة إلى ما سبق من اقتباسات، كما يلي:
هو من قدماء الزهّاد في بغداد، ويُعد أول من لُقّب بالصوفي، وقد حرص على أن يوافق علمه سلوكه فاستبرأ لنفسه من الرياء، وتعلّق بالآخرة وهو يغالب النفس عن شرور الدنيا، وقد كان يعتقد أن تهذيب النفس لا يتأتى إلا من خلال تخليصها من الكبر. ومن أقواله: “إن الله تعالى وسم الدنيا بالوحشة، ليكون أنس المريدين به دونها، وليقبل المطيعون إليه بالإعراض عنها، فأهل المعرفة بالله فيها مستوحشون، وإلى الآخرة مشتاقون”.
هو معروف بن فيروز، وكنيته (أبو محفوظ) نشأ نصرانياً، وكان يتلّقى القراءة والكتابة في الكتّاب، حتى إذا قال المعلم: “أب وابن”، قال هو: “أحد أحد”، حتى ضربه يوماً ضرباً مبرّحاً هرب على إثره حتى عاد بعد حين وقد أسلم، وكان سبباً في هداية أهله. يقول الكاتب: “عُرف معروف الكرخي العابد، بشدة ذوبانه في تأدية فروض الصلاة، فهو في الطاعات يستغني عن حضوره الجسدي التقليدي، فيقع له التأثر تحت وطأة صيحة الإيمان العميق الذي يجعله مصروفاً إلى منادمة ربه، والتوجه إليه بالشهادة والدعاء”. وقد كان من جملة أدعيته: “اللهم اجعلنا ممن يؤمن بلقائك، ويرضى بقضائك، ويقنع بعطائك، ويخشاك حق خشيتك”.
هو بشر بن الحارث بن عبدالرحمن بن عطاء، ويُكنّى بـ (أبو نصر)، وُلد في مدينة مرو وسكن بغداد حتى مماته. كان “عيّاراً صاحب عصبة” -وفي اللغة: العَيَّارُ من الرجال: الذي يُخَلِّي نفسَهُ وهَواها لا يردعُها ولا يزجُرُها- وقد كان سبب توبته رؤيا بشارة في رفعة شأنه رآها في ليلة كان قد رفع في نهارها عن الأرض قرطاساً مكتوب فيه البسملة، فدفع درهمين لا يملك سواهما إلى عطّار فمسح القرطاس. وعن شهرته بـ (الحافي) فقد روي أنه قصد اسكافياً لإصلاح شسع أحد نعليه، فبادره هذا بقوله: “ما أكثر كلفتكم على الناس”، وقد قصد المتصوفين ومدى فقرهم، فقرر حينها ألا يرتدي نعلاً طيلة حياته، حتى يقال إنها اسودت من أثر التراب. يذكر الكاتب ما جاء في حقه، إذ: “اشتهر الحافي بالمعاكسة، فكان إذا حلت به رغبة الكلام صمت، وإذا حلت به رغبة الصمت تكلم، على طريق تخفيف السيطرة الذاتية التي تمكنه من تطبيق برنامجه الانضباطي المرير. قال: «إذا أعجبك الكلام فاصمت، وإذا أعجبك الصمت فتكلم»، وكان يدعو إلى اتباع التمارين الأولى في تحقيق الثقة بالذات لامتطاء صهوتها بإرادة الطاعة الله، ورفض كل شكل من أشكال المعصية، وفي مقدمة هذه التمارين عدم الاستسلام لانطباع الناس. فمعاكسة هذا الانطباع، مثل معاكسة رغبات الذات ليس دليلاً على المروق، بل دليل على الإيمان بالإرادة الحرة، ذلك الإيمان الذي لا يحتاج تزكية من أحد”.
وهو من اهل مرو، وكان يُكنّى بـ (أبو السري)، وقد عّرف عنه قدرته الفائقة على إلقاء خطب المواعظ البليغة، ما يرقق القلوب ويحرّك الهمم. كان محور تصوّفه يدور حول القلب، فالقلب لا ينال الحقائق الروحانية إلا إذا تمرّس على العلم والممارسة الروحانيين، وإلا فإنه عرضة للفساد والشطّ عن طبيعته. فكان يقول: “قلوب العباد كلها روحانية، فإذا دخلها الشك والخبث امتنعت روحها”.
إنه المشاهد المراقبي والمساعد المصاحبي. ولد في مدينة البصرة لعائلة عربية أصيلة مثقفة، لأب قدري وأم معادية للقدرية، ما ساهم في نشأته على روح الحوار والنقاش وخصوبة الفكر، وعلى الاستقلالية والثقة بالنفس في إبداء الرأي وعدم المبالاة في الاختلاف مع أي كان. وكما أن الكشف والحدس والفراسة تُحال عادة إلى حركة القلوب، أو “المعرفة القلبية” كما عند الصوفية، فقد رأى الحارث أن “العمل بحركات القلوب في مطالعات الغيوب، أشرف من العمل بحركات الجوارح”. ينقل الكاتب ما جاء في حلية الأولياء عن بعض نفحاته، إذ “سئل الحارث بن أسد، بم تحاسب النفس؟ قال: بقيام العقل على حراسة جناية النفس، فيتفقد زيادتها من نقصانها، فقيل له: ومم تتولد المحاسبة؟ قال: من مخاوف النقص وشين البخس والرغبة في زيادة الأرباح، والمحاسبة تورث الزيادة في البصيرة، والكيس في الفطنة والسرعة إلى إثبات الحجة واتساع المعرفة، وكل ذلك على قدر لزوم القلب للتفتيش”.
هو أبو الحسن السري بن المغلّس السقطي، وقد كان إمام البغداديين في زمانه، وهو من أقطاب الصوفية الذي ينتمي إليه الكثير من المشايخ، وقد سلك طريق الصوفية عندما ارتضى لنفسه أن يعمل حانوتاً، بعد أن تفشّى في السوق الغش والظلم والرشا، فاشمأزت نفسه من مجاورة أهل السوق ومن معهم من طبقات الأمراء والأغنياء. أما عن الواقعية التي اصطبغت بها أفكاره الإصلاحية، فقد شذّ بها عن النمط الصوفي المعتاد من المتصوفة الهاربين هرباً مجتثاً من الواقع بقساوة بالغة. “فالسري السقطي يلائم بين طريقته الصوفية وأفكاره الإصلاحية وآرائه الواقعية ملاءمة شديدة تقربه من صورة الزهاد المسلمين في أوائل العصر الإسلامي الأول. إن قوله: «كل الدنيا فضول إلا خمس خصال: خبز يشبعه، وماء يرويه، وثوب يستره، وبيت يكنه، وعلم يستعمله»، هو تشخيص صائب للحاجات المادية والروحية والعقلية الأساسية للمجتمع وللفرد معاً، وهي تشكل جماع اهتمامات المصلحين في كل العصور، وهي ـأصلاًـ جملة مطالب الناس في جميع الأزمان”.
هو أحمد بن عيسى، من أهل بغداد، وقد كان أحد أئمة القوم الأجلاء. كان يعتقد بأن المعرفة الربانية هي إما معرفة موهبة من لدن الله إلى عبده، أو هي معرفة سببية تتحصّل ببذل العبد الجهد في سبيله. له رأي في معرفة النفس التي تقود إلى معرفة الرب، إذ قال: “إن النفس تختبر بالمحنة والبلوى فتكشف عن جوهر حقيقتها، لذلك فإن ادعاءات الإنسان ليست هي البرهان على حقيقته، بل البرهان، هو ما تكشف عنه المحن والمصاعب، حيث يواصل الواجد الحقيقي مسيرته نحو الله، في حين تتساقط أقنعة الزيف. قال الخراز: «العافية سترت البر والفاجر، فإذا جاءت البلوى يتبين عندها الرجال». وشبه الخراز النفس بالماء الواقف الطاهر، وما تحته، قائلاً: «مثل النفس مثل ماء واقف طاهر صاف، فإن حركته ظهر ما تحته من الحمأة، وكذلك النفس تظهر عند المحن والفاقة والمخالفة، ومن لم يعرف ما في نفسه، كيف يعرف ربه»؟”.
هو أحمد بن محمد، يعود أصله إلى خراسان، لكنه ولد ونشأ في البصرة، ولُقّب بـ (ابن البغوي)، وقد كان من أجلّ شيوخ القوم وأحسنهم طريقة وألطفهم كلاماً، رغم ما تعرّض له في محنة اتهامه بالزندقة. كان يرى العزة في زمانه شيئان: العالم وهو يعمل بعلمه، والعارف وهو ينطق بالحق. أما أرباب القلوب حين تتسنى لهم معاينة عظمة الله من خلال عظيم خلقه -وهي حالة تُدعى وحدة الشهود- فإن المتصوف منهم يكون بلغ المقام الأعلى، مقام أهل الحق، فيصبح منقطعاً لله عن خلقه. فيقول: “إن أرباب القلوب، ومن كان قلبه حاضراً بين يدي الله، ويكون دائم الذكر الله، فيرى الأشياء كلها بالله ولله ومن الله وإلى الله، ولا يكون ذلك الحال إلا لعبد مجموع على الله! لا تنصرف منه جارحة إلى سوى الله، فعند ذلك تقع له حقائق الفهم عن الله في جميع ما يسمع وجميع ما يرى من الأشياء”.
هو الجنيد بن محمد، يرجع أصله إلى نهاوند، لكنه ولد ونشأ في بغداد، وقد كان شيخ طريقة التصوف فيها وأبرز أعلام الأولياء في زمانه، وكان زاهداً عابداً حكيماً مطلّعاً عالماً، ولُقب بـ (بهلوان العارفين). لقد كان يرى في سورة يوسف منهجاً تأديبياً للنفس من حيث قصورها وميلها للوقوع في زلات الهوى، فلا بد لها من العون الإلهي. يقول فيه الكاتب: “وكانت قصة يوسف ويعقوب تثير كوامن أفكاره، مستخلصاً منها الحكمة والموعظة، فهي تتحول في نظره العلمي، إلى رمز بليغ، فلطالما شبه نفسه بيعقوب، وشبه نفسه بيوسف، كناية عن الفقدان والخسران، وعدم اليأس من رحمة الله. ويمكن لنا أن نستنتج من التشبيه البديع هذا، أن تطابق النفس والإنسان والجسد يحتاج إلى فترة طويلة، وعناء شديد، ومحن قاسية، ودراما كبيرة حتى يتحقق، مثلما تحقق لقاء يعقوب بابنه يوسف. ففي الطريق، طريق حياة المرء، ثمة أخطاء وأخطاء، وثمة أمل وآمال. كان الجنيد يقول: «كان يعارضني في بعض أوقاتي أن أجعل نفسي كيوسف وأكون أنا كيعقوب، فأحزن على نفسي لما فقدت منها كما حزن يعقوب على فقده، فمكثت أعمل مدة فيما أجده على حسب ذلك»”.
هو أبو مغيث، الأشهر زهداً، الملقّب بـ (الحلاج)، وقد تضاربت الأقوال في سبب تلقيبه به، فمنهم من يورد خبر حلجه لقطن حلاج في حانوته، لما استعمله الحلاج لقضاء شغل له على أن يحلج له قطنه في غيابه، فلما عاد صاحب الحانوت وجد قطنه محلوجاً بأكمله. منهم من يعزوه إلى تكلمه بأسرار الناس وبما في قلوبهم، فسمي بـ (حلاج الأسرار). وقد امتاز منهج الحلاج في الجمع بين الفقه والسياسة خلافاً لما كان عليه الفقهاء والقضاة في زمانه من الفصل بينهما، وقد قال بالحق والعدل والمساواة والحب والأنس، حيث بدت دعوته كحركة إصلاح سياسي واجتماعي لم يشهدها زمانه من قبل. وقد أدى هذا الاحتكاك في الفقه والسلطة -كما اعتنق- إلى نشوب صراعات جمّة بينه وبين بلاط الدولة العباسية، أودع بها السجن عن تُهم تمثلت في شكل صراع سياسي وهرطقة دينية، أدت إلى إصدار حكماً بقتله، حيث اقتيد على رؤوس الأشهاد نحو الصلب وهو يمشي باسماً متبختراً، فقُطعت أوصاله قطعة قطعة وقد انتشى في شعر جادت به روحه، انتهت بحزّ رأسه. يقول الكاتب فيه “لقد عاش الحب الإلهي، ولم يكتف بمجرد المعرفة، تجسيداً لقوله: «لا سبيل إلى معرفة الله بالعلم، بل إن الحب هو الطريق إليها، إذ ليست المعرفة الفكرية للقضاء الإلهي هي التي تقربنا من الله، بل هو خضوع القلب للأمر الإلهي في كل لحظة”. ومما جادت قريحته في العشق الإلهي:
“مكانك من قلبي هو القلب كله فليس لخلق في مكانك موضع
وحطتك روحي بين جلدي واعظمي فكيف تراني إن فقدتك أصنع”.
هو أبو بكر دلف بن جحدر، وبينما يعود نسبه إلى خراسان، فهو بغدادي المولد والنشأة. كان والياً على دماوند الفارسية، فترك الولاية وطلب من أهلها أن يجعلوه منهم في حلّ، بعد أن صحب الجنيد، شيخ الصوفية، مع غيره من الصلحاء في عصره. لقد أمعن الشبلي في الزهد الذي تجرّد فيه من كل متع الدنيا، وجعل أساس التصوف هو محبة الله والشوق إلى لقائه. ويقول الكاتب فيه: “ركز الشبلي في تعريفه للتصوف على الأخلاقيات والأحوال النفسية والقلبية، مما يدلل على الأهمية الكبيرة للمفاهيم والمبادئ الأخلاقية في مذهب الصوفي، وهي مفاهيم مجسدة في تطبيقات الشبلي، التي آلت به من (الغنى) إلى (الفقر). وينقل بعض أقواله في التصوف، إذ “هو ترويح القلوب، وتجليل الخواطر بأردية الوفاء، والتخلق بالسخاء والبشر في اللقاء”. كذلك “هو الجلوس مع الله بلا هم” أيضاً “التصوف هو العصمة عن رؤية الكون وذلك باستغراق التأمل في الله“.
يرحل أولئك المتصوفة الزهّاد فيكتب عنهم من ارتبط بالأرض كما ارتبطوا هم من قبل، وارتبط بهم وجدانياً وكأنهم الأشباه في أرواحهم والجنود المجنّدة .. فجادت أنفسهم جميعاً من نفحات الوجد وأسرار العشق ومكنونات الروح، في نصوص تارة وفي رموز تارات أُخر .. لتبقى سرمدية العطاء، متجددة المعنى، حية نابضة فيمن التمس من بعدهم الطريق ليكونوا من بعدهم الأبدال.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (44) في قائمة ضمت (57) كتاب قرأتهم عام 2021 تتضمن 4 كتب لم أتم قراءتها و 3 كتب أعدت قراءتها، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان أكثر بكثير، غير أن ظروف الحياة حالت دون تحقيقه! وهو رابع كتاب اقرأه في شهر ديسمبر من بين سبعة عشرة كتاب .. وقد حصلت عليه من معرض للكتاب بإحدى المدن العربية منذ أعوام مضت.
ومن فعاليات الشهر: لقد جاء حماس القراءة في هذا الشهر مضاعفاً، وذلك للإجازة الطويلة التي بدأتها في خواتيمه، وللترقّب في حضور معرض للكتاب الذي سيُعقد الشهر القادم من العام الجديد بإحدى المدن العربية.
تسلسل الكتاب على المدونة: 320
التعليقات