كتاب يخرج منه مؤلفه مسلّماً بأن مهمة إصلاح وتقويم وتهذيب أخلاق البشر لم تعد مجدية عن طريق خطب الإرشاد والوعظ والنصح كما كان سائداً في السابق، إنما هي مهمة تؤتي أكلها بإصلاح وتعديل وتحسين الظروف الاجتماعية، والتي تأتي الأخلاق كثمرة جهودها.
يضع الكتاب عالم الاجتماع الرائد في العالم العربي المعاصر، د. علي حسين الوردي (1913 : 1995). وُلد د. الوردي في مدينة الكاظمية إحدى ضواحي بغداد لأسرة عمل أسلافها في مهنة تقطير ماء الورد، أخذت عنها لقبها، بالإضافة إلى مكانتها العلمية البارزة، حيث ابتُعث ابنها لتحصيل تعليمه الجامعي في الجامعة الأمريكية في بيروت بعد تفوقه في الدراسة الثانوية، فاستكمله مع مرتبة الشرف، وما لبث أن ابتُعث إلى جامعة تكساس في أميركا لينال منها درجتي الماجستير في (سوسيولوجيا الإسلام) والدكتوراة في (نظرية المعرفة عند ابن خلدون)، ليعود بعدهما إلى أرض الوطن ويكرّس جلّ حياته في التدريس والتأليف. له العديد من المؤلفات العلمية والفكرية والتاريخية التي تصبّ في مجاله.
يقارن الباحث بين أخلاق البداوة وأخلاق الحضارة، وكيف أن الفرد البدوي يحمل عادة الحسن والسيء من الأخلاق كلاهما معاً على حد سواء، غير أن الاحتكاك بالمدنية ومخالطة أبنائها وسطوة الإقطاعية، جعلته يأتي على الحسن من أخلاقه ويبقي على السيئ منها .. فهل كان للظروف الاجتماعية دوراً فاعلاً في هذا الانتكاس الأخلاقي؟! لقد كان البدوي -الذي يشكّل أصله أصل غالبية العرب- يمتلئ فخراً لأن يكون غالباً لا مغلوباً، ناهباً لا منهوباً، فاعلاً لا مفعول به .. لا سيما من طرف نسائه! لقد كان في الماضي يقسم بالله تعالى وبأنبيائه صادقاً، أما اليوم فالقسم لديه ليس سوى ذريعة للتملّص من سلطة الحكومة، أو سطوة القوي عليه، وقد أصبح ضعيفاً!.
يعرض د. الوردي تحليله الموضوعي لهكذا تحوّل جذري في منظومة العربي الأخلاقية، من خلال عدة جوانب، تظهر في فهرس الكتاب كما يلي:
- الضائع من الموارد الخلقية
- شخصية المجتمع البدوي
- مقاييس الحضارة
- غلطة بعض المستشرقين
- عندما يتحضر البدوي
- أخلاق العشائر العراقية
- أثر الإقطاع في الأخلاق
- أثر المرابين في الأخلاق
- دافع الربح والأخلاق
- الضائع من أخلاق المدن
- الأخلاق في وضعها الأخير
- ملاحظات ختامية
ومنها، أكتفي بتدوين ما ورد عن (شخصية المجتمع البدوي)، وباقتباس في نص أصيل (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، وقد استقطع الكتاب ثلاث نجمات من رصيد انجمي الخماسي، كما يلي:
يقيس البدو “الرجولة الكاملة بقياس الغلبة والاستحواذ”، فإذا أرادوا مدح رجل قالوا “«سبع» يأخذ حقه بذراعه ولا يقدر أحد عليه”، كما تعزّز أمثالهم الدارجة مثل هذه القيم، فيقولون “الحق بالسيف والعاجز يريد شهود” ويقولون “الحلال ما حلّ باليد”. وهم يعتبرون أنه من العار أن يوصف الرجل بـ “صانع أو حائك، فذلك يعني في نظرهم أنه ضعيف يحصل على قوته بعرق جبينه كالنساء، ولا يحصل عليه بحد السيف. ومن هنا أطلقوا على العمل اليدوي اسم «المهنة»، والمهنة مشتقة من المهانة كما لا يخفى”. أما الحضري العريق فلديه مقاييس أخرى للحضارة، فهو إذ نشأ على فضائل الأخلاق منذ صغره “لا يستسيغ هذه القيم البدوية”، والفرد إنما هو بقدر براعته في مهنته وما يجنيه منها، أما البدو فليسوا سوى “مجرمين سلابين لا يؤمن جانبهم”. يغفل هذا الإنسان المتحضّر المتنعّم في حضارته أن أولئك البدو ينظرون إليه بنفس نظرة الاحتقار التي يصوّبها ناحيتهم “فهو في نظرهم جبان ذليل لا كرامة له ولا حق له في الحياة”. إن أولئك البدو في حقيقة أمرهم، لا تنقصهم العبادات ولا يشوب إيمانهم بالله شائبة، غير أنهم “يتخيلون الله مثلهم يحترم الرجل الشجاع القادر على النهب. ومما يدل على ذلك أنهم يتصدقون على أرواح أمواتهم من المال الذي ينهبونه في غاراتهم المجيدة. وهم يعدّون «غارة الضحى» أجل الغارات وأقربها إلى الله، لأنها تجري في وضح النهار وتدل على جرأة القائم بها وبسالته”.
يلتمس د. الوردي العذر للبدو على تلك المنظومة الأخلاقية، إنما هم أبناء بيئتهم التي تكيفوا معها، ويعتقد بأن المفكرين الذين استنبطوا من عقولهم المجردة قواعد للأخلاق وحاولوا إلزام الناس بها، إنما كانوا خاطئين، إذ “إن الإنسان لا يفهم المثل العليا التي جاء بها الفلاسفة الحالمون، إنّما هو يجري في سلوكه على نمط ما يحترمه المجتمع عليه، ولو احترم المجتمع فرداً، لصار جميع الناس يحاولون أن يكونوا قروداً والعياذ بالله”.
وأثناء عرض مادة الكتاب، يتعرّض د. الوردي إلى بعض الكتب التي يستشهد بها لتعزيز بحثه، وقد أثار انتباهي منها اثنان أسعى لاقتنائهما، هما: كتاب/ التحدي والاستجابة في الشرق الأوسط – لمؤلفه: المستر كوك، كتاب/ العراق الحديث: تحليل لأحوال العراق ومشاكله السياسية و الاقتصادية و الصحية و الاجتماعية و التربوية – لمؤلفه: متى عقراوي
إضافة إلى (الأخلاق: الضائع من الموارد الخلقية)، تصطف هذه المجموعة من إصدارات المؤلف فوق أرفف مكتبتي الغرّاء، منها ما قرأت ومنها على قائمة الانتظار: وعاظ السلاطين، مهزلة العقل البشري، هكذا قتلوا قرة العين، في الطبيعة البشرية، أسطورة الأدب الرفيع، شخصية الفرد العراقي، قصة الأشراف وابن سعود، الأحلام بين العلم والعقيدة، دراسة في سوسيولوجيا الإسلام، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، خوارق اللاشعور أو أسرار الشخصية الناجحة، منطق ابن خلدون: في ضوء حضارته وشخصيته.
ختاماً، لا يسري هذا البحث القصير على المجتمع العراقي فحسب، والذي اختصّه المؤلف كنموذج لمادة الكتاب عمّا ضاع من موارد أخلاقية، بل يشمل كل قُطر عربي .. وكما قال أمير شعرائها: كُلُّنا في الهَمِّ شَرقُ.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (26) في قائمة ضمت (57) كتاب قرأتهم عام 2021 تتضمن أربعة كتب لم أتم قراءتها وثلاثة كتب أعدت قراءتهم من جديد، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان أكثر بكثير، لكن لم تسمح ظروف الحياة لمجابهته! وهو آخر كتاب اقرأه في شهر أكتوبر من بين تسعة كتب .. وقد حصلت عليه من متجر جملون الإلكتروني للكتب العربية في ديسمبر عام 2020، ضمن (55) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة.
ومن فعاليات الشهر: لا شيء مميز فيه، غير أن حماس القراءة أخذ يعلو شيئاً فشيئاً مع تسارع العد التنازلي لنهاية العام، وكتعويض عمّا فرطت من كتب أعددت لقراءتها فيما مضى من الشهور!.
تسلسل الكتاب على المدونة: 304
التعليقات