كتاب بقلم معتقل سياسي سابق يتحدث عن بلده إيران إبان الحقبة الملكية وحكم الشاه (محمد رضا بهلوي) الذي كان يجتمع معه ناصحاً -ومنتقداً أحياناً- في أيامه الأخيرة، ثم عمّا آلت إليه الأمور بعد إعلان الجمهورية الإسلامية على يد قائدها (الإمام روح الله الخميني) ورحيل الشاه، وقد أودع المؤلف السجن ضمن من اشتبه بهم كأتباع للنظام السابق، في فترة تجاوزت الثلاثين شهرا!.
هو (إحسان نراغي – 2012:1926 Ehsan Naraghi) كاتب وعالم اجتماع إيراني. فبالإضافة إلى عمله كمستشار لدى اليونسكو، فقد تولى إدارة معهد الدراسات والبحوث الاجتماعية في طهران -والذي قام بتأسيسه- خلال الفترة الممتدة ما بين 1958 : 1969
بالإضافة إلى صفحات المقدمة والتوطئة والفهارس والملاحق، تقسّم قائمة المحتويات الكتاب إلى قسمين رئيسيين يندرج تحتهما عدد من المواضيع ذات الصلة، أعرضها جميعاً كما يلي، وقد جاءت في في ترجمة عالية الاحترافية عن نصّه الأصلي (From Palace to Prison: Inside the Iranian Revolution):
- القسم الأول: في قصور الشاه
- الحديث الأول: أحلام اليقظة
- الحديث الثاني: من برسيبوليس إلى جان بول سارتر
- الحديث الثالث: أزهار السجادة
- الحديث الرابع: لا تطلقوا النار على الشعب
- الحديث الخامس: مشاكل داخلية
- الحديث السادس: التنازل المستحيل
- الحديث السابع: ماذا يحصل في الغوادلوب
- الحديث الثامن والأخير: تأشيرة دخول إلى مصر
- القسم الثاني: في سجون الثورة
- الاعتقال الأول: شباب كما في فينسان
- الاعتقال الثاني: مفاجآت المستشفى الخاص بالسجن
- الاعتقال الثالث: رواق القلق
… وكم كانت لفتة كريمة أن يتقدم الكاتب بإهداء نضال سيرته الذاتية إلى النساء: والدته، وزوجته، وزوجات المعتقلين .. أينما كنّ!.
يشترط محمد أركون في (مقدمة الطبعة العربية) السجن كممر، والذي لا بد وأن يعبره زعماء العالم الثالث للوصول إلى القمة. فيقول موضحاً: “وكأن على العنف والقمع أن يبقيا شرطاً أولياً لاحترام حقوق الإنسان والشعوب”. وفي نفس المقدمة التي تساءل عنوانها: (هل من الممكن اليوم وجود مثقف مسلم؟)، يرى المقدم أن “على الشرعيات الفكرية أن تتقدم الشرعيات السياسية والاقتصادية وأن تؤسسها”. غير أن الحال يؤكد على عدم مساهمة الإنجازات العلمية في المجتمعات ما عدا “الهيمنة التكنولوجية والسياسية” في الدول التي تحظى بمزايا اقتصادية وسياسية وجغرافية في الأساس. يختتم أركون المقدمة بأمل أن تسهم شهادة إحسان نراغي في دفع العالم -لا سيما الإسلامي- إلى النهوض بالإنسانية و “تأسيس حضارة جديدة .. حضارة القرن الحادي والعشرين”، عن طريق نبذ العصبيات الإثنية والطائفية “المرتدة إلى مطالبات سلفية”، ونبذ الشركات المتعددة الجنسية التي تهدف في المقام الأول إلى الكسب المادي “على حساب الرقي الروحي والأخلاقي والثقافي”.
يصدر المستشار الثقافي الأمريكي في إيران شهادة في حق إحسان نراغي الذي رفض تسليم السفارة التقرير الذي كلفته به الأمم المتحدة لدراسة (مسألة هجرة الأدمغة من بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية باتجاه أوروبا والولايات المتحدة) ضمن مجموعة من الخبراء. فيقول: “بعد تجربتنا معه في موضوع هجرة الأدمغة، خيّب أملنا كثيراً لأنه يحرص بوجه خاص على تحليل المشكلة أكثر مما يحرص على حلها. كان يتلهف كثيراً لنشر كتابه بهذا الخصوص حتى بدا وكأنه يحتفظ بالمسائل المهمة من أجل أن يحدث صدى شعبياً. نراغي رجل تحلو محاورته. مظهره الفوضوي ذو الشعر المنفوش يخفي حساً خيالياً منظماً. برأيي ليس عميلاً للسافاك بل هو مستقل تماماً وغير مستعد لأن يدلي لنا بأسراره. لا يثق بنا ولا يظهر أي ولاء أو إخلاص تجاهنا رغم أنه يتحلى بثقافة عالية”.
ومع الاقتباسات الواردة آنفاً، ومن الكتاب الذي حظي بثلاثة نجمات من رصيد أنجمي الخماسي، أعرض ما علق في ذهني أثناء القراءة، وفي اقتباس بنص ثوري -في هذه المرة- يعكس لوناً من مادته (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، كما يلي:
القسم الأول: في قصور الشاه
- يمازح نراغي الشاه في (الحديث الأول) عن محاصرته من الخلف والأمام! فوراءه الإمام علي بن أبي طالب “كنموذج للحاكم العادل”، وأمامه الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر. يقابل الشاه هذا المزاح بسؤال يحتار فيه قائلاً: “إن ما لا أفهمه هو السبب الذي يدفع الشباب إلى اعتناق هذه الأفكار الدينية والتقليدية التي لم تُثر حتى الآن إلا اهتمام الأشخاص المسنين”. ثم يعّقب قائلاً في كلمة حق يؤكد فيها أنه لا يحمل أي مآخذ على الدين، فهو في أصله متديناً جداً، غير أن رجال الدين: “قد مزجوا الدين دائماً بالخرافات وبجهل الجماهير الأمية. لقد حاولوا تحريض الجماهير المتزّمتة ليصلوا إلى غايات سياسية وأرادوا دائماً أن يتدخلوا في كل شيء باسم الدين ليرسخوا هيمنتهم ويعيدوا البلاد إلى ركب التخلف”. إن هؤلاء في نظره لا يهمهم البلد ولا تطوره في شيء. ثم يستطرد ليشير أنهم يشتركون مع الشيوعيين في محاربة النظام الحاكم “وتدمير كل المكتسبات الوطنية وخصوصاً منجزات البلاد الاقتصادية”، غير أنه ليس على يقين من منهم يحرّض الآخر!.
- يجرّهم الحوار إلى سؤال يطرحه الشاه ما إذا كان الخميني قد تحوّل إلى قائد سياسي بعد أن كان دينياً “يدفع برجال الدين الشبّان والمتزمتين إلى إعلان العصيان ضد الغرب والحضارة المعاصرة”؟. ويؤكد أن الخميني لا يريد سوى أن يعود بالبلاد إلى الخلف بمئات السنين، ويزعزع أركانها باسم الدين!. يجيبه نراغي بثقة قائلاً: “الشيعة دين سياسي مئة في المئة، ورجال الدين الشيعة يعتقدون بحقهم في التدخل في شئون الدولة”.
- يغلظ نراغي على الشاه في رأيه عن عزل مصدّق (رئيس الوزراء السابق)، الذي وقف في وجهه وعارضه، كما حارب الإنجليز الذين تنفذوا في إيران، بينما يرى نراغي أن مصدّق لم يمثّل سوى “الكرامة الوطنية”، والتي ليست بالضرورة أن تتمثل في تشييد المصانع وبناء السدود، بل في خلق وطن حر. يضرب له في هذا مثلاً بغاندي ونهرو وديجول “الذين عرفوا أن يحققوا في فترة مصيرية من تاريخ بلادهم حلماً وطنياً كبيراً: طرد البريطانيين من الهند أو طرد الألمان من فرنسا”. ثم يضيف أنه نشأ منذ صغره على تحرّكات أولئك الإنجليز الذين عرقلوا مسيرة تطور إيران كما كان يقول الكبار، غير أن مصدّق استطاع “أن يحقق الحلم الكبير الذي يقضي بطرد الإنجليز من بلادنا وبالتخلص من نفوذهم”. ثم يكمل في قول صادم للشاه: “هذا هو السبب في شعبيته”.
- بالإضافة إلى علاقة الشاه الوثيقة مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تمسّ مشاعر الإيرانيين دينياً وقومياً، لخصّ نراغي للشاه ثلاثة عوامل أساسية لتنامي عدد خصومه، أولها: التفاوت المعيشي بين أفراد الشعب. ثانيها: الامتيازات الاستثنائية لحاشيته لا سيما من أفراد عائلته. وثالثها: بطش جهاز المخابرات (السافاك) بأدنى تعبير عن الاحتجاج. ثم يستخلص قائلاً: “نتج عن كل هذا سيل عارم أخذت تغذّيه الجداول الصغيرة المتعاطفة مع المعارضة، ليصبّ هذا كله أخيراً في محيط من القهر”.
- في (الحديث الثاني) يتعجب الشاه من اهتمام الفيلسوف الفرنسي (جان بول سارتر) بشأن الأوضاع في إيران وقضايا سجون التعذيب، والذي يعتقد أنه فعل ذلك تحت تأثير المحرضين!. غير أن نراغي الذي التقى بسارتر مع سيمون دي بوفوار ضمن من التقاهم في دعوة نظمها اليونسكو، قد حمّله رسالة للشاه عن تعجبه من اهتمام “فيلسوف كبير مثل سارتر” مفادها: “إن الاهتمام بقضايا السجناء الذين يُعذبون يجب أن يشكل الاهتمام الأولي للفيلسوف”.
- يعيب نراغي البذخ منقطع النظير في الاحتفال الذي أقيم عام 1971 في ذكرى مرور ألفين وخمسمائة عام على تأسيس مملكتهم الوطنية، والتي أعلن فيها قورش الكبير (المتوفى عام 528 قبل الميلاد) بأول ميثاق لحقوق الإنسان عرفته البشرية “بينما الشعب غارق في البؤس”. لم يكن هذا الاحتفال يوافق أماني الإيرانيين بأي شكل من الأشكال، بل اعتبروه “تجسيداً لجنون العظمة ولنزوات رجل لم يكن يهتم حقاً بتاريخ بلاده”. ويسترسل قائلاً: “الله وحده يعرف أية أموال طائلة هدرت وأية اتفاقيات مثيرة للدهشة عقدت مع المهندسين وفناني الديكور والنجارين والصائغين والمرممين الذين كانوا فرنسيين في معظمهم! إن هذه المبالغة في الترويج الإعلامي وفي التبذير سببت صدمة عميقة للشعب الإيراني وأعطت الفرصة لآية الله الخميني لكي يتحدى من منفاه في العراق سلطة الشاه. هناك من مسكنه الأكثر من متواضع الكائن في النجف اتهم الخميني الشاه بأنه مجنون بالعظمة وطاغية غاشم”. لم يظهر الشاه في هذا الاحتفال كحاكم معاصر، بل كمتعجرف ومحتقر ومتعال، غير أن الشعب لم يكن يعرف عنه خجله الذي كان يداريه بالمظهر الجاف البارد، فهو حقيقة “في العمق، لم تكن تنقصه لا الطيبة ولا الدفء الإنساني”. لقد كان الشاه -بالإضافة إلى هذا- يتعاطى الأدوية منذ صغره ضد الحمى وآلام المعدة، وقد أصيب في عامه الأخير بالسرطان. تجدر الإشارة هنا أن زوجة الشاه (الشاهبانو فرح بهلوي) قد أبدت اعتراضاً شديداً وانتقاداً حاداً على إقامة مثل تلك الاحتفالات الباهظة، الأمر الذي حرى بوزير البلاط علّام تقديم استقالته، والتي رفضها الشاه “وجرت الاحتفالات حسب البرنامج المقرر”. تشير هذه الوقائع إلى موقفها نحو زوجها “تمليه عليها آراء المثقفين واحترامها القيم التقليدية والدينية التي كانت الشاهبانو متشبثة بها”. لقد كان الشاه يكبر فرح بثمانية عشر عاماً، وقد عاشت لسنوات طويلة كظل له، لكنها “على الصعيد الإنساني كانت تبث النضارة والحماس”. تظهر فرح من خلال العديد من المواقف مختلفة عن أفراد عائلة بهلوي، فبالإضافة إلى اهتمامها بالفنانين والمبدعين “كانت أيضاً حساسة تجاه عذابات المواطنين والمظالم التي كانوا ضحاياها. كانت متى اقتنعت بصحة العمل تتخطى إرضاء السلطة”.
- لا يتوقع كريم سنجابي (وزير الخارجية آنذاك) أن تختلف شخصية الخميني عن (الآيات) الآخرين في الاكتفاء “بالتعبير عن بعض الأولويات الدينية والسياسية العامة تاركاً للشخصيات العلمانية حرية التصرف بها” غير أنه تفاجئ “برجل رابط الجأش مصمم على إطاحة النظام الملكي وحازم جداً بخصوص النظام الذي يريد تأسيسه دون أن يعلن ذلك صراحة”.
- يواجه نراغي الشاه حين أكدّ له جاداً احترامه للدستور واتخاذه مرجعاً دائم له، فيقول: “إن الذين يتكلمون عن احترام الدستور لا يعنون بذلك احتراماً شكلياً أو التفوه بكلمات بسيطة! هل احترم استقلال السلطة القضائية مثلاً؟” ثم يواجهه بسؤال آخر عن تلك اللجان التي تم تشكيلها للتحقيق في مخالفات تتعلق بالتعبير عن الرأي: “هل هي شرعية”؟. وعند محاولة الشاه التأكيد وبشهامة حُسن معاملة سجينين تحديداً كان قد أوصى بهما، يواجهه نراغي مرة أخرى بقوله “إن المسئولين عن النظام ليسوا مهتمين لمعرفة ما يجول في رؤوس الناس، بل يعتبرون أن الاخضاع وحده يضمن أمن النظام”.
- يتم احتجاز عباس هويدا (رئيس الوزراء) في تهمة فساد مع من تم اتهامهم، وذلك بعد ثلاثة عشر عاماً من الخدمة المخلصة في محاربة الفساد، لا سيما المرسوم الذي عمل عليه لمنع أفراد العائلة الحاكمة من التعامل مباشرة مع الشركات المتعاقدة مع الحكومة. وعلى الرغم من أن الشاه كان يعلم جيداً أن هويدا على قدر عال من النزاهة بحيث لا يمكن أن تُنسب إليه “تهمة الابتزاز أو القمع”، إلا أن الشعب الثائر والمطالب بالمحاسبة، دفع الشاه أن “يستعمل هويدا كبش محرقة لامتصاص نقمة الجماهير”.
- يُطلع نراغي الشاه على نشرة تصدر في المنفى ضد ثروة الشاه وعائلته المتمثّلة من خلال أكثر من مئتي شركة تتبع (مؤسسة بهلوي)! يترفّع الشاه عن مس النشرة في حين يؤكد أنه قد منح كل ثروته “إلى مؤسسة بهلوي. وهذه المؤسسة تهتم بالأعمال الخيرية والنشاطات الثقافية” ويعقّب: “لا أفهم لم هذه الانتقادات”. غير ن نراغي يؤكد له من ناحيته أن المؤسسة -وبصرف النظر عن النية التي صاحبت تأسيسها- قد تحولت تدريجياً إلى “شركة تجارية خاصة”. ويعقّب بدوره: “لم يعد هذا خافياً على أحد”. يبرر الشاه تجارته الخاصة هذه بعدم وجود أي جهة استثمارية في القطاع الخاص بادرت في الوقت الذي اضطلعت فيه المؤسسة القيام بأعمالها، كالصناعة الفندقية. يقبل نراغي بهذا التبرير لفترة تعود إلى ثلاثين أو أربعين عاماً، إذ أن عائدات النفط قادرة الآن على تولي هذه المهام. ويقول موضحاً: “إذا أخذنا في عين الاعتبار الاحترام الذي يجب أن توحيه الملكية للشعب الإيراني، لا يعود مفهوماً لماذا تريد أن تكون أنت شخصياً نموذجاً للاستثمارات الاقتصادية؟! مسئولية منصبك الرفيع جداً ترتب عليك التزاماً أخلاقياً كبيراً. هذا الالتزام الأخلاقي يضعفه مثل هذه الأعمال، وأفضل برهان على ذلك هو أن رجال الأعمال الذين يدينون لك بازدهار أشغالهم يعتبرونك الآن منافساً لهم”، فضلاً عما يستتبع ذلك من أقاويل مبالغ بها واشاعات مغرضة!. يتطرق نراغي بعدها إلى بعض القضايا التي تكسّب بها أفراد عائلته بضعة ملايين -لا سيما شقيقته أشرف- من خلال عقود لمشاريع تم التحايل فيها ظلماً على حساب المشترين. ثم يوجه للشاه قولاً موجعاً: “ها قد رأيت يا صاحب الجلالة نوع الأعمال التي تقوم بها العائلة المالكة والعار الذي تلحقه بالملكية وبالنظام على حد سواء”.
- كانت أشرف ذات سطوة وشخصية ساحرة، ليس على أخاها الشاه فحسب، بل على رؤساء الحكومة الذين كان الشاه يستعين بها لتسوية بعض الأمور معهم، وقد كانت تلجأ عادة إلى المكر والدسيسة في ذلك. كان الشاه يتمنى ما لشقيقته من مزايا، وكان يدرك مدى هيمنتها عليه من الناحية النفسية الأمر الذي كان يجنّبه مواجهتها في كثير من الأحيان، وقد استعان ذات مرة بمدير بنكه (شانغ رام) لإعلامها بالكف عن التدخل في شئون البلاد المالية. يصارح رام نراغي بهذا وهما في السجن متسائلاً: “كيف يمكنك التصور أن أذهب إلى الأميرة وأقول لها هذه الأشياء فيما أخوها المعظم والجبار لا يجرؤ على أن يقولها بنفسه”؟.
- يعرض نراغي على الشاه في (الحديث الثالث) وضع شركة الاتصالات المضطرب والذي قد يعزل إيران عن العالم الخارجي، فهي قد عهدت -ضمن اتفاقية- إلى شركة أمريكية بإدارتها، والتي أدخلت لإيران أكثر من 250 خبير أمريكي يتقاضى الواحد منهم ما يقارب المائتين ألف دولار سنوياً. يؤكد الإيرانيون المتخصصون في الشركة “أولاً أن عدد الخبراء الأمريكيين يتجاوز بكثير الحاجات التقنية الإيرانية. وثانياً أن غالبية الأمريكيين لا يملكون الكفاءات التي يدعونها، وأن هؤلاء الخبراء المشكوك بجدارتهم يحتلون مراكز هامة يفترض بها أن تعود للإيرانيين. الأميركيون في الواقع يديرون شبكة الاتصالات بشكل كامل، وأبناء البلاد لا يعترضون فقط على الفوارق الفاضحة بين أجورهم وأجور الأمريكيين، بل يبدو أيضاً اعتراضات سياسية على وجودهم”.
- يتناهى إلى الشاه (في الحديث الرابع) من شرفة قصره هتافات الشعب بـ “الموت للشاه”، فيسأل نراغي كعالم اجتماع في نبرة تعكس حزنه العميق عن موقف شعبه ويأسه مما آل إليه مصيره، قائلاً: “ماذا فعلت لهم”؟. يجيبه نراغي بأن هذا طبيعة المجتمع الهرمي الذي يحكمهم “حيث كل شيء يؤول إلى قمة الهرم”. ويستطرد: “أولئك الذين كانوا يرددون بأن على الملك أن يتربع على العرش دون أن يحكم كانوا يستشعرون أننا ذاهبون إلى أزمة مستفحلة. وها هي الأزمة قائمة فعلاً الآن”.
- بينما يبرر نراغي للشاه النظام الذي يحكم بالرجال الوطنيين السياسيين الحريصين على احترام الدستور وعلى سلامة الملك من خلال حياديته، يعتبر الشاه هذا النظام منتج غربي!. يضرب نراغي للشاه بلعبة الشطرنج مثلاً يؤكد فيه أن هذه الفكرة هي “محض شرقية” فيقول: “إن الهدف الأخير لهذه اللعبة هو حماية الملك، وأن خطة اللاعبين تقوم على استعمال قطعتهم وعلى التضحية بها عند الحاجة شرط أن يبقى الملك سليماً معافى. لكن مجال تحرك هذه القطع أوسع بكثير من مجال الملك الذي يقتصر تحركه على خانة واحدة. المفهوم الذي نكونه عن الملك في الشرق يقوم على اعتباره خارج النزاع ومحصّناً إزاء محاولات التحكم به”.
- يسأل الشاه نراغي عن “إزالة التماهي” الذي نادى به في لقاء له مع إحدى الجرائد الفرنسية كحل للخروج من الأزمة الحالية. يجيب نراغي الشاه -الذي سعى إلى طبع كل شيء في إيران بطابعه الشخصي- بأن الإزالة لا تقتصر فقط على “جميع القرارات الاقتصادية والسياسية والعسكرية” من يد الشاه، والشروع في توزيع المسئوليات، بل “يقترح أنصار الملكية المستنيرون أن يُزال اسم جلالتك عن الساحات والجادات وكل السدود والمدارس”. يذكر نراغي تأييد الشاهبانو له حين طرح هذه المسألة عليها قبل ثلاث سنوات حيث قالت: “لماذا يراد إعطاء اسم ابنتنا لسدّ يفترض به أن يحمل اسم منطقته؟ بهذه الطريقة لا يمكنني أن أتعرف على جغرافية إيران”. ثم يكمل في قول جريء: “أعرف أن هناك أناساً يتمنون عليك منذ زمن طويل أن تقرر بنفسك سحب كل تماثيلك التي يقال إنها مصنوعة بذوق سيء. العسكريون لا يجرؤون على قول ذلك لك، لكنهم مرغمون على حماية هذه التماثيل المعرضة لتعديات المتظاهرين ليلاً نهاراً”.
- نظراً لطموح الشاه العسكري في جعل جيش إيران ثالث أقوى جيش في العالم، خصصت الميزانية الإيرانية الحربية زيادة ضخمة لعقد عدد من الصفقات تصب في صالح الشركات الأمريكية لصناعة الأسلحة ذات التقنية المعقدة. احتاج الأمر بالضرورة مساعدة متخصصين أمريكيين لهذه التقنية التي كان الجيش الإيراني ومصانعه يخلو منها. “وهكذا كان يوجد في إيران منتصف سنة 1978 أكثر من خمسة وأربعين ألف أميركي يعمل ثمانون بالمئة منهم في الجيش”.
- يوضح نراغي للشاه في (الحديث الخامس) نجاح الخميني في جعل غالبية سكان طهران “يدرجون مكتسباتهم الاجتماعية وتقاليدهم الدينية في إطار الحياة السياسية” وقد ظهروا كصنّاع لهذا “الزواج بين السياسة والدين”. غير أن مثل تلك الجمعيات الدينية قد ظهرت في جميع المدن الإيرانية تعمل على “تنظيم المآتم والأعياد الدينية في المساجد والأماكن العامة كما في البيوت” كنشاط رئيسي، وقد استقطبت فئة الشباب الذين استخدمهم رجال الدين الشيعي فيما بعد كوقود للثورة أو “أداة جاهزة خلال فترة مخاض الثورة”، والتي “أدت دوراً رئيسياً في تأطير الجماهير”. لقد كانت الفئة التي غفل عنها السافاك حين ظنّ أن العدو الشيوعي هو العدو الأوحد.
- يتلكأ الإنجليز في توفير السلاح غير المتوفر لدي الأمريكان الذين تعاقد معهم الشاه في اتفاقيات تسليح، فيسخر الشاه على الطرف الآخر من الإنجليز الذين لا تتأخر قناتهم الشهيرة (بي بي سي) في بث “معلومات عن الوضع في إيران تشكل في الواقع إرشادات للمعارضين” لا سيما باللغة الفارسية وقد حصدت نسبة منقطعة النظير من المستمعين، لكنهم لا يسلمّونه الرصاص الذي طلبه، مبرراً مماطلتهم “ربما لأنهم يفضلون أن يسقط القتلى كل يوم في إيران وأن تتمكن الـ (بي بي سي) من إيجاد مواضيع خارقة لنشراتها المثيرة”.
- ينتهي حديث ما قبل الأخير (الحديث السابع) بتعبير الشاه الساخط على طاقم مستشفى الأمراض القلبية الذي يحمل اسم والدته التي شيّدته بثروتها الخاصة، المطالب بتغيير اسمه إلى (علي شريعتي)، وقد تجمهر معتصماً في باحة المستشفى. يضرب على صدره بقوة صائحاً: “مستشفى أمي! المستشفى الذي بنته أمي! قل لي كيف تفسر ذلك”؟. يأخذ نراغي بتحليل السخط العام وعزوه إلى الإحباط من مشاهدة ختم الشاه وعائلته في كل مكان، وعلى الرغم من أن الشعب يحظى بمستشفى حديث، إلا أنه يفتقر إلى الامتلاك! ببساطة إن الشعب يريد أن يكون موجوداً “إنها مطالبة باستعادة الهوية”. ثم يحاول إقناعه بأن والدته ما كانت لتعترض على مطالبة الشعب تغيير اسم مستشفى قد بنته لأجله. يسجل نراغي انطباعه فيما بعد قائلاً: “هذا التغيير المفاجئ لاسم المستشفى (الأمومي) سبب جرحاً عميقاً للشاه. وحين كنت أقول له أشياء تهدئ من روعه قليلاً كنت أتحقق تماماً من أن الانفصال بينه وبين الشعب قد تم إلى الأبد. فانتفاضة موظفي المستشفى الذين انتقتهم ووظفتهم أمانة سر والدة الملك لا يمكن أن تنسب لأي حزب سياسي أو لأية مؤامرة عالمية. كان هذا يعني ببساطة أن السوسة قد بلغت لب الثمرة وأن البلاد بأكملها تدير ظهرها للعائلة المالكة، وأن الصلات أصبحت مقطوعة بشكل لا رجوع عنه”.
- وفي (الحديث الثامن والأخير)، وبعيداً عن النهاية البائسة لملك فارسي نبيل سليل آل بهلوي، يختصر نراغي سبب هذا المآل مستقطعاً رأي مارفن زونينس في كتاب له، يقول فيه: “إن تدخل الولايات المتحدة في الحياة الإيرانية تجلى في المراحل المختلفة لنظام الشاه وفي ثورة الشعب الإيراني الذي كان ينبذ بشكل قاطع هذا النظام. الولايات المتحدة تتحمل مسئولية كل ما جرى في إيران لأنها كانت على صلة حميمة بعائلة بهلوي. لو أنها تصرفت بشكل مختلف عند كل مرحلة من مراحل حكم الشاه لكان مصير هذا الأخير مختلفاً. لقد أسهمت الولايات المتحدة بشكل حاسم ربما في جعل الشاه الرجل المستبد الذي صار إليه. شجعت الولايات المتحدة أحلامه بالعظمة وصنعت القوة الاقتصادية والعسكرية لنظامه. هذا ما فعلته أيضاً على الصعيد النفسي حين سمحت للشاه باستخدام أميركا ورؤسائها وكأنهم ممتلكاته الخاصة. كما شجعته على استخدامهم حين أراد أن يعطي البريق لسلطته والمثالية والطابع التوحيدي الذي كان بحاجة ماسة إليه من أجل الحفاظ على دوره كملك”.
القسم الثاني: في سجون الثورة
- يستشف نراغي في (الاعتقال الأول) مدى سطحية القضاة المكلّفين بالاستجواب، حين أمضى خمسة عشر ساعة في محضر استجواب لقنّهم فيه أبجدية السياسة، أظهروا فيه “جهلاً شبه مطلق بكل المشاكل الوطنية والعالمية”. ثم ما لبثوا أن تخلوا “شيئاً فشيئاً عن عجرفتهم الأولية”. فيقول: “أشعروني في النهاية أنهم يعتبرون أجوبتي قاعدة لاكتسابهم تربية سياسية”.
- يعاين نراغي في (الاعتقال الثاني) نماذج لأفراد تتباين ذاتياً لا عن الآخرين فحسب، فيطفق في تحليلها من وجهة نظره كعالم اجتماع. فهذا سعيد الشاب الثائر المناهض للشاه، فقد أخته محبوبة غدراً على يد السافاك واعتقل إثر اشتراكه في ثورة مع المجاهدين. وفي قالب مركّب، يجده نراغي منهمكاً في قراءة أقوال الإمام علي التي تنقله إلى بُعد آخر، لينصرف إلى رياضة الكاراتيه حتى “يكون مستعداً لمحاربة العدو”. يتسائل نراغي: “من كان ذلك العدو غير المرئي؟ لا شك أنه يقصد في الحقيقة كل هؤلاء الذين لا يشاركونه آرائه وأفكاره المنظمة التي ينتمي إليها. كنت أرى ذلك الولد المسكين متنازعاً بين روحانية فكر ديني يشكل بالنسبة له هدفاً، وبين جاذبية الأساليب العنيفة التي كان يريد أن يحقق من خلالها هذا الهدف”. على الرغم من المحاولة الحرجة لنراغي في السفر إلى أوروبا ونشر كتاباً عن الشاه وما كان سيستتبع من مردود قوي، مثّل السجن فرصة أخرى له في الالتقاء بأناس كُثر قاموا بأعمال مهمة في ظل نظام الشاه المخلوع. فعلى الرغم من تحفّظ البعض بدايةً، إلا أن التغيرات السياسية أطلقت ألسنتهم معه كشخص لا يرونه عدواً بل “سميراً بالأحرى”.
- وعن رجال الطبقة الراقية المودعين سجون الثورة، فقد اكتشفوا “أن زوجاتهم يؤدين دوراً إيجابياً لمصلحتهم في نظام ذكوري”. ففي حين لم تعترف محاكم الثورة بمرافعات المحامين، ترافعن الزوجات عند القضاة الذين وجدوهن أبعد ما يكنّ عن الشبهات، كما عرفن “كيف يكلمن رجال الدين بلغة قريبة منهم”، هذا على الرغم من معيشتهن في مجتمع علماني يُفترض فيه الابتعاد عن الجذور الدينية، غير أن تلك الزوجات “قد حافظن حتى في المجتمع الراقي على صلاتهن اليومية بالتقاليد، فيما عاش أزواجهن على الطريقة الغربية تماماً ضمن اكتفاء تكنوقراطي ذاتي وكوسموبوليتي”.
- ومن صور البذخ الفاحش الذي انغمس فيه الشاه وعائلته، حضوره حفل زفاف ابن مدير الخطوط الجوية الإيرانية والذي أقيم على متن طائرة بوينغ من طهران إلى لوس أنجلوس “تغص بالمدعوين”. لقد كان من موجبات النبل الملكي أن يتكفل الشاه بالعشاء وأوانيه الفاخرة من “أحد المطاعم الباريسية الأكثر فخامة”، فضلاً عن الزينة وأزهار التوليب المحجوزة من هولندا. في هذا “يقول الخبراء أنه لا وجود لجالية أجنبية هاجرت إلى الولايات المتحدة محملة بالثروات مثل الجالية الإيرانية”. والسؤال: “ألم يعط الشاه وعائلته منذ رجوعهم إلى إيران سنة 1953 المثل باقتنائهم مساكن فخمة في الغرب حيث كانوا يمضون فترة طويلة من كل سنة”؟. لقد كانت ثروة الشاه التي بلغت ستة مليارات فرنك آنذاك سبباً في اقتحام الطلبة سفارة الولايات المتحدة في إيران. لم يكن الشاه يملك نصيب الأسد من هذه الثروة، بل تقدمته شقيقته أشرف وابنها شهرام، تليها شقيقته الصغرى فاطمة وزوجها قائد القوات الجوية.
- مع استفحال داء جنون العظمة، أصبح الشاه لا يعتدّ حتى بتقارير جهاز مخابراته إذا لم توافق هوى عظمته! يضرب نراغي مثلاً في تقرير خطير حمله السافاك إلى الشاه ضده حين كان مديراً لمعهد الدراسات والبحوث الاجتماعية، فقد قلّب نظره نحو زاوية أخرى يعيب فيها على المعهد تركيزه على مشاريعه الضعيفة دون الكبرى منها!. يحلل نراغي هذا الانحراف قائلاً: “إن منطق هذه الحالة النفسية يفسر على الشكل التالي: حين يصبح الرئيس عاجزاً عن السماح بأية معارضة مفتوحة في الصحف أو في البرلمان، ينتهي به الأمر حتماً للوقوع في جنون العظمة بحيث لا يعود يحتمل الانتقادات حتى ولو كانت طفيفة أو منقولة بشكل سري من قبل أجهزة استخباراته بالذات”.
- ينادي نراغي بـ “إزالة المطلقية عن يقينية أجهزة الاستخبارات مهما تكن الأنظمة التي تعمل في كنفها وبوجه خاص الأنظمة السلطوية، حيث لا يمكن لأحد أن يفلت من شباك الرقابة الذاتية”، وذلك حين عجز جهازي الاستخبارات الإنجليزي والأمريكي في “استباق عدد من الأحداث المصيرية”، رغم شهرتهما التاريخية في معرفة خفايا الأمور، لا سيما في فترتي الخمسينات والستينات.
- الشاه كحاكم أوتوقراطي يملك كفرد زمام الحكم، كان يفضّل التقارير المكتوبة على الحوارات المباشرة مع الأفراد “مهما تكن كفاءتهم ومهما يكن إخلاصهم”، لا لشيء، بل لسهولة ركن التقارير في درج مقفول مع وقف التنفيذ، عن التورط الذي قد يقع فيه خلال حوار مع شاهد ما. لذا كان رئيس الاستخبارات حسن بكروان يقول: “إن الشاه كان يفضل الخدم والمنفذين على المستشارين”.
- يسهم السافاك من حيث لا يدري بتقديم وثائق تبرئة نراغي من التهم المنسوبة إليه أمام المحكمة الثورية، وذلك من خلال أجهزة التصنت التي سجلت حواره مع رئيس الوزراء السابق (علي أميني) ووزير الخارجية السابق (عبدالله انتظام) بطلب من الشاه، والذي كان يثق برأيهما رغم فقدهما للحظوة لديه. يتطرق نراغي في حديثه معهما إلى ثروة الشاه منتقداً بوضوح أرائه السياسية، بل إنه لم يكن يتردد في إبداء “الملاحظات الساخرة عن الطريقة التي يشبك بها رجليه أو يفكهما حين يريد التهرب من الحقيقة”. يتفاجئ القاضي الإسلامي من أن الشاه -مع هذا التسريب- لم يقم بإنزال العقوبة على نراغي، الأمر الذي يبرره نراغي بأن تطور الأحداث أجبرت الشاه على التعامل مع أناس حياديين، كما أن حواراته مع السياسيين الأسبقين لم تكن تختلف عن فحوى حواره مع الشاه شخصياً -رغم أنه راعى الأصول في حضرته- فضلاً عن قدرة الشاه الهائلة في التحفظ على مشاعره.
- بالاستمرار حتى (الاعتقال الثالث)، وبين حوارات نراغي ورفاقه السجناء الدينية-السياسية التي يتخذ المجاهدون فيها الإسلام قاعدة أخروية والماركسية منهجاً دنيوياً، وبين المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادها في طيش عدد من الضباط ضد حكم الخميني انتهت بإعدامهم، وبين هجوم العراق على إيران وتقدم إيران في العراق حتى يُفقد الأمل في السلام وتستمر الحرب ثمان سنوات، وبين وجبة الإفطار المكونة من الخبز والجبن والبلح ووجبة الغداء المكونة من الأرز مع دجاجة تقسم على ستين سجيناً، وبين براعته في الطبخ، والبصل الذي كان يهربّه مسئول الأطباق من المطبخ ليطهو لهم “مآكل طيبة”، وبين البطانيات والوسائد وأزمة النوم في معتقل ستة لستة أمتار، وبين الحارس الأمي الذي كان يوزع اللطمات على المساجين، وبين الواعظين الذين كانوا ينتظمون في زيارتهم بهدف هدايتهم و “فلسفة الشمس” ومفهوم العدالة التي نصح بها نراغي بتوجيهها للقضاة بدل وعظهم، وبين “جني التقنية” أو السجين المهندس الذي برع في إصلاح كل ما وقع تحت يديه في السجن حتى نال احترام الحراس، وبين أطباء الأمراض النسائية والمحاكم الثورية التي أرادت تحريم عمليات الإجهاض، وبين آلاف المعتقلين من الصبايا والفتيان الذين أحيوا ذكرى استشهاد السيد الحسين يقرعون صدورهم مرددين لازمة “حسين حسين”، وبين رشقات الرشاشات التي كان تقضي على ثمانين محكوماً بالإعدام كل ليلة، وبين اعتراف القاضي الأخير بذنبه تجاهه وطلبه المغفرة وقد استمر بحبسه ظلماً، ثم خروجه واستقبال سائقه له بالزهور ومن قبله سعي الناس البسيطة لنصرته…..، يستمر نراغي في سرد تفاصيلها كما عاشها ورفاق السجن.
- في ختام تجربته الشجاعة، يترك نراغي للتاريخ حكمته الأخيرة قائلاً: “المنقذ الوحيد لإيران هو الرجوع إلى الدستور الذي بالرغم من مرور سبعين سنة من الانتهاكات المتلاحقة يبقى الوسيلة الوحيدة للتوازن والتفاهم بين الإيرانيين. دستورنا يعبّر عن قيم تمسك بها الشعب الإيراني طيلة تاريخه تمسكاً كبيراً: الأخلاق والأخوة والعدالة والتضامن. الدستور مفسراً في كل أبعاده، يرسم حدود حكم الملكية ويعطي الزعماء الدينيين ضمانة عدم تناقض القوانين مع الإسلام، ويسمح بقيام التشكيلات السياسية ويعطي الإيرانيين الحق بأن يشتركوا في تقرير حياة البلاد، ويطبق ذلك بشكل فعلي”.
وكعادتي في البحث عن فائدة أخرى مرجوة غير مادة الكتاب الذي أقرأ، وجدت بين أسطره من الحكمة ما تلخص دروساً مستفادة، أنسجها نصاً في لون ملكي كما يلي:
- “حين لا يكون الناس ذوي نية حسنة، لا يمكن فعل أي شيء”. وكأنه قول مأثور جاء على لسان الشاه في استيائه عن العدد المبالغ فيه للسجناء السياسيين الإيرانيين كما أوردت جريدة لوموند الفرنسية، رغم رفعه الأمر للسفير الذي وعد بالتدخل ولم يفِ!
- يسرد الكاتب خواطره حيال استخفاف الشاه بالرئيس الجديد كارتر والذي عُرف بسياسته المدافعة عن حقوق الإنسان .. الشاه الذي استصغر فكرة الثورة وظنّ مخطئاً أن الحرية مجرد لعبة! يقول عن الشاه وكأنه يتحدث عن كل الطغاة: “إن الحرية بين يدي قائد سياسي عرف دوماً باحتقاره للحرية هي قنبلة توشك أن تنفجر في وجهه في أية لحظة”.
- وبين مطرقة الاستبداد السياسي وسندان الإرهاب الديني، تموت الشعوب العربية-الإسلامية بين خيارين أحلاهما مر. يستشرف الشاه المستقبل وقد استبدل الشعب قمع النظام بقمع الدين متسائلاً: “هل فكروا في المستقبل؟ ألديهم الضمانة على أن حرياتهم سوف تصان في حال تغير الزعيم؟ ماذا يريدون أن يضعوا مكان الدستور؟ هل يدركون أنه لن يبقى لهم سوى الجري وراء رجال الدين ولن يكون لديهم دور يؤدوه؟ هل تعرف ماذا يريد رجال الدين؟ هل تعرف إلى أين يذهبون بالبلاد؟”.
- يوّلد الكبت الانفجار لا محالة، والقمع يخلق بدوره التمرد “إذا كان باستطاعة نظام سلطوي أن يخلق مناخاً مجدياً في الظاهر بفضل سياسته القمعية، إلا أن التيارات الفكرية الأكثر راديكالية تنبثق ما أن تظهر إمكانية التعبير عن الرأي، لأن الجهل السياسي يدفع الشباب حتماً إلى اتخاذ مواقف متطرفة”.
- في الثقافة الفارسية، يتم الاستعانة بديوان شاعر إيران الكبير (حافظ الشيرازي) للوقوف على حكمته في أمر ما قد يواجه أحدهم، وذلك بعد أن يغمض عيناه ويفتحهما عشوائياً على أي صفحة. يلخّص نراغي الحكمة الأخيرة للشاه قبل رحيله إلى مصر في قول وجيز قائلاً: “في مواجهة المحنة، من الحكمة أن تلزم مسافة من الأمور. فبعد تلاشي الضجيج واضطرابات هذا العالم، لن يبقى منا في النهاية إلا الخير الذي فعلناه في هذه الدنيا”. ملاحظة: تحمل صفحة الكتاب الأولى المقطع الآتي للشاعر: “مكتوب على زرقة السماء بأحرف من ذهب: على هذه البسيطة لا يبقى من الناس إلا مآثرها”.
- في الأدب الفارسي، تتصدر كلمة (شاه) كل أمر يستوجب التضخيم، كالأشهى أو الأفضل أو الأجمل أو الأكبر. لذا، تأتي أعظم ملحمة شعرية فيه باسم (الشاهنامة) أو (كتاب الشاهات) لمؤلفه أبو قاسم الفردوسي.
- يجمع السجناء المال، ويفرحون أخيراً بوصول (الموسوعة التاريخية الكبيرة للمؤرخ الأمريكي ويل ديورانت) المؤلفة من عشرين مجلداً ينكبون عليها. يصف نراغي تأثير شهادات الماضي عليهم كسجناء: “جعلتنا هذه الاقتحامات للزمن نخرج من عزلتنا المحيطة لتسرد لنا النضال الأبدي الذي قام به الناس ضد الاضطهاد والظلم والذي بالرغم من المحن التي مرّ بها انتهى دائماً على النصر”.
- في النهاية، لا يصح إلا الصحيح! يعطي نراغي مثلاً حياً لهذا المعنى فيقول: “ما يزال شائعاً أن يطلب المسئولون حين يكون عليهم اتخاذ قرار مهم على الصعيد الاقتصادي أو التكنولوجي أو الثقافي أو الدبلوماسي، آراء الكادرات الكفؤة من دون الاهتمام بولائها الأيديولوجي. هذا الميل أخذ يتأكد بوضوح أكثر فأكثر مع الوقت”.
- وعن التسليم، وفي لغة استسلام مطمئنة لكل ما قد يأتي به القدر، يقول متصوفة الفرس: “الحياة أمانة يعهد لك بها. لا يحق لك عندما تسترد منك أن تحتج لأنها في الحقيقة ليست ملكك”.
- أما التعريف الخاص بالشجاعة، فيمسّ جانباً شخصياً لدي .. “الشجاعة هي عند الموظف مزية إنسانية ينبغي على رؤسائه دائماً الإمعان في تقويتها في أعماقه والإعلاء من شأنها. وينبغي على الموظف بدوره أن يقدر من خلال إعطاء القدوة على تطويرها عند معاونيه بالذات. لكن هذا غير ممكن الحصول في ظل نظام الحكم الفردي”.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (3) في قائمة ضمت (57) كتاب قرأتهم عام 2021 تتضمن 4 كتب لم أتم قراءتها و 3 كتب أعدت قراءتها، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان أكثر بكثير، لكن حالت ظروف الحياة دون تحقيقه .. وهو ثاني كتاب اقرؤه ضمن ثلاثة في شهر مايو والذي حصلت عليه من متجر جملون الإلكتروني للكتب في ديسمبر من عام 2020، ضمن (85) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة.
وعن عام 2021، فيُعتبر امتداد لعام 2020 الذي اجتاحه وباء عالمي ألزم الخلق البيوت في حجر صحي لا يبدو له أمد حتى اللحظة! لا عجب إذاً أن أطلب الكتاب (أون-لاين) كعوض عن معرض الكتاب الموقوف مؤقتاً. أما عن رف (أدب السجون) الذي اخترت من فوقه هذا الكتاب، فلا يزال المفضل لدي رغم قساوة مواده والذي تتراكم فوقه الكتب .. وعن قريب أعود إليه مع كتاب قاس آخر!.
من فعاليات الشهر: صادف شهر رمضان المبارك الذي أتوقف فيه عادة عن القراءة، إضافة إلى ما سبقه من أشهر استغرقت خلالها في عمل مكثف، وأرجئت القراءة لذلك.
تسلسل الكتاب على المدونة: 286
التعليقات