كتاب يزخر بلآلئ الحكمة .. لا يثمنّها من استهجن الألماس لعلّة الفحم في جوهره!.
ليست العبرة في إفراغ المركب وحسب، بل فيما سيمتلئ ويغرق به بعد الخواء .. وليس اللقاء مع اللاشيء شطحة متصوف يتكثّف في الضباب، بل يقود إلى كشف كل سر يحوط بالحياة، مما تُبصره العين وأخفى! لن يتطلب ذلك بذل جهد أو مال أو سبر مغاليق فلسفة ما، بل الإنصات خلال الصمت، والتبصر حال اغماض العينين.
هكذا تبدو قطعة الحديث، وكأنها أحجية من أحاجي القُصّاص، أو ضرب من جنون مس صاحبها فأخذ يمتح من كتب الأساطير. لكن، ليس أوشو ممن يهرف بما لا يعرف، بل ها هو قد أباح لنفسه غفوة من سكرته الربانية، ليحدّث المريدين سواء والواقفين له بالمرصاد، عن نعيم اعتمر روحه بعد أن أفرغ مركبه من كل حمل مادي، وضوضاء فكري.
لا يخفى أنه كتاب يستعصي فهمه على من لا دراية له بعلم التصوف، أو من لم يسبق له ممارسة أدنى درجات اليوجا أو التأمل، غير أن من اقتحم البعد الموازي الذي يرتع فيه المتصوفون أو كيفما حاول على شطآنه، يجد أن تلك الطلاسم هي (الحياة)، في عمقها وفطرتها، أو (النعيم) في مرادف آخر لدى متصوفة الإسلام حين قالوا: “لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السرور والنعيم إذاً لجالدونا عليه بالسيوف”.
إنه إذاً المعلم أوشو .. أو تشاندرا موهان جاين (1931 : 1990) الذي تذكر شبكة المعلومات أنه ولد في الهند البريطانية، ودرس الفلسفة ودرّسها في الجامعات المحلية، ومن ثم تدرج في العلوم الصوفية ليُصبح (غورو) أو معلم روحاني فاقت شهرته حدود وطنه، ليصل إلى العالمية ويُلقب بـ (زوربا البوذي)، إشارة إلى توجهاته الانفتاحية رغم دعوته الروحية! ففيما يتعلق بنظرته إلى العلاقة الحميمية التي تبدو إباحية، ما أكسبه شهرة (معلم الجنس بلا منازع) كما تداولته الصحف العالمية، فإنه يجعلها بمثابة طاقة خلّاقة لا تقلّ أهمية عن الممارسات الروحية في تكامل بناء الإنسان، جسدياً ونفسياً وروحانياً. وبينما تختاره صحيفة (صنداي ميد داي) الهندية كواحد من عشرة روّاد شكّلوا مصير الهند، إلى جانب بوذا ونهرو وغاندي، تختاره صحيفة (الصنداي تايمز) البريطانية كواحد من ألف شخصية عالمية صنعت القرن العشرين، وهو الذي يصفه الكاتب الأمريكي (توم روبنز) بأنه “الرجل الأكثر خطورة منذ يسوع المسيح”. أما عن اسم شهرته الذي اختاره له مريدوه، فهو مشتق من اليابانية، وذو مقطعين، إذ يعني (أو) التوقير أو الامتنان، و (شو) الوعي الواسع أو الوجود الماطر .. بحيث يصبح معنى الاسم ككل (المحيط العظيم). والطريف أن الاسم يُقرأ كما هو من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين، في إشارة إلى المعراج الروحي الذي واصل المعلم الارتقاء فيه، وعمل على توحيد الأقطاب والسمو فوق الثنائيات، في الكون المحيط.
يعرض فهرس الكتاب أحد عشر فصلاً بالإضافة إلى المقدمة، تظهر عناوينها في هيئة كلمات مفتاحية، يليها سطر من الألغاز، هي:
- الحلاوة المالحة
- إنسان الداو
- البومة والعنقاء
- الاعتذار
- ثلاثة في الصباح
- الحاجة للانتصار
- الأصدقاء الثلاثة
- دون فائدة
- الأهداف والوسائل
- الكمال
- جنازة تشجوان تسزي
أما عن ترجمة الكتاب من لغته الأصلية (The Empty Boat: Encounters with Nothingness – By: Osho) فقد جاءت عبقرية في ترجمة النص بمعناه الروحي لا الحْرفي ما يدلّ على تمكّن لغوي وإدراك تام لمادته، وهي من الحرفية ما تجعل من هذه المادة تبدو مؤّلفة لا مترجمة .. الحرفية التي قلّما تحظى بها الإصدارات المترجمة في المكتبة العربية رغم ما يعجّ فيها من تنافس لا يسعى سوى للتكسّب المادي على حساب القيمة الفكرية. وفي كلمة شكر، فقد عني بترجمته الكاتب السوري د. محمد ياسر حسكي، والذي تذكر شبكة المعلومات عنه إضافة إلى حصوله على درجة الدكتوراه في الهندسة، تخرجه في كلية الطاقة من جامعة إركوتسك التقنية، وتمرّسه كعضو في الأكاديمية الدولية في الهند والأكاديمية الروسية في علم السوجوك (SUJOK) الذي يعني باليد والقدم كفرع يُدرج تحت الطب البديل. وبينما يؤسس المترجم مدرسة الريكي: طاقة النور، يعرّف بنفسه كإنسان ناشر للوعي والجمال. له العديد من الترجمات لأعمال عالمية أو التي شارك في ترجمتها، منها: القفزة / أنا والرومي / عين الأنا / معنى السعادة / حديث السكون / الدماغ الخارق / اشف جسدك / الذات الشافية / الموروثات الخارقة / بيولوجيا الاعتقاد / قوة الدماغ / روح القيادة / الباب الثالث / عملية الحضور / آمن واستقبل / كتاب البهجة / ميتا إنسان / رغبات محققة / الطريق إلى الحب / لا تستطيع إفساد يومي / الطاقة المدهشة للمشاعر / السعادة هي السبيل / الاتحاد مع الحياة / أنت ما تفكّر فيه / أموت كي أكون أنا / أستطيع أن أرى بوضوح الآن / الذات المرتبطة مع الذهن والجسد / ماذا لو كانت هذه هي الجنة / من الجنس إلى أعلى مراحل الوعي.
إن الكتاب الروحاني -رغم ما سبق- متشعب وشائك وجدلي، كما سيبدو من خلال الأسطر القادمة وما سأدوّن فيها من حِمْل المركب، وقد حُق له أن يحظى برصيد أنجمي الخماسي كاملاً:
أولاً: في رؤوس أقلام:
- يهدف أوشو أن يجعلك (لا أحد) ثم تختفي! يبرر هذا الهدف في نيل السعادة الروحية وتذوق النشوة الحقيقية، فأنت من غير هوية (اللا أحد) تنفق عمرك سدى.
- الإنسان الكامل يشبه المركب الفارغ، لا هدف له ولا طموح، لا يوجهه أحد ولا هو يتجه إلى وجهة محددة.
- اللاشك هو أول خطوة نحو زعزعة الثقة بالتفكير تقود إلى الولوج في دنيا التأمل، غير أن من يعترض على فلسفة الحكيم يشك فيه ولا يشك في نفسه، ولو فعل وشكّ، فلن يكون موجوداً.
- يجمع البخيل الشقاء بنفس الشعار التي يجمع فيه المال، فما بالإمكان فعله غداً لم لا أفعله الآن؟ أمّا متعة اليوم فلا بأس من تأجيلها إلى الغد.
- يعمل التفكير بطريقة مشاكسة .. هو ينتظر السعادة فإذا حلّت أدار لها ظهره! هكذا فعل البشر عندما قدم (المسيح الموعود) ومع كل مسيح عبر التاريخ.
- ليس الموت نهاية الحياة وإنما هو إكمالاً لها، وهذا إدراك عميق لمعنى الحياة الذي يوصلها الموت إلى قممها العُليا حيث منبع الروح .. إنه مجرد الوصول إلى البيت.
- القبول والرفض وجهان لعملة واحدة لدى الأنا المزيفة، فهي تتفاعل مع كلا الموقفين، لكنها تتأذى كثيراً مع اللامبالاة، فهي لا تستطيع التواجد فيها، بل لا يمكنها العيش.
- السلطة لا تُفسد بل تسمح للفساد أن يُعلن عن نفسه! كان ذاك السياسي فاسداً ولكن لم يجد لفساده مخرجا، حتى تمكّن من السلطة فتقيأ كل فساده. النور يكشف القبح فلا داعي للومه، إنما كان القبيح يقف في الظلام قبل ذلك.
- يرتبط الشك بالتأمل في علاقة طردية، فحينما يبدأ الدماغ بالشك -ليس فيما حوله فحسب بل في نفسه أيضاً- تبدأ ثقته بقدراته كمعول للتفكير تتزعزع، بحيث تُصبح هوة التأمل الحل الذي لا بد منه.
- من غير الممكن اتباع الحكيم، فهو كالطير في السماء لا يترك أثراً ولا يرغب في أن يترك أثراً ليتبعه الناس، فحين يتبعه الناس ينقلب الأمر بمرور الوقت إلى تقليد أعمى. يؤمن الحكيم في أن تكون يوماً ما أنت نفسك، وألا تقلد أحدا.
- الأنا المزيفة تقبع في الداخل وقد تتوارى خلف الأنا الحقيقية! لذا يشبهّها بوذا بقشرة البصل التي يحتاج المرء إلى تقشيرها من خلال التأمل حتى لا يتبقى منها شيء. هذا العدم هو الأنا الحقيقية، وهكذا يُصبح المركب فارغاً، وحين يكون كذلك، يكون تواجد المرء في المركب حقيقياً للمرة الأولى.
- المتدين الحقيقي متفوق بطبيعته، كما الشجرة، كما الصخرة، وكل ما في الوجود تابع لله، فكيف يكون التابع ناقصاً؟ إن نور الله يملأ الوجود ويملئ الطير والشجر والحجر ويملئ الإنسان، والله هو الموجود الأعلى الأوحد، فلا يُقارن به أحد.
- بعد أن ترمي كل الرغبات، وتتنازل عن كل طموح، وتزيل الضباب عن عينيك، وتهدأ داخلياً، (كن هنا)! دع التفكير، ودع اللحظة تكون هنا، ثم كن أنت بداخلها .. حينها ستنهمر عليك الحياة ويتوقف الوقت وتصبح اللحظة أبدية. إنك الآن بالداخل، في اندماج مع الكامل، وقد فهمت حقيقة من أنت.
- القديس في حقيقته امبراطور يحكم مملكته القائمة في داخله، غير إن هذا الادعاء من شأنه أن يربك الأباطرة المزيفين! لذا جاءت محاولات صلب عيسى لما شوهد يردد بأنه الملك، ولم يكن يعني سوى مُلك آخر لا يمت للعالم المادي بصلة، وقد أساءوا فهمه.
- تلقّى الرسالة لكن لا تتعلق بالوسيلة الناقلة! يعمل ناقل المعرفة كوسيلة لنقلها فحسب، فاحمل المعرفة واشكر من حملها لك ثم انسه. كان محمد يؤكد لقومه طوال حياته أنه رسول الله أتى برسالة من عنده ليتبعوها ويتوجهوا بها إليه، وكان يقول: “لا تعبدوني”.
ثانياً: من جميل الحكمة:
- التدين الحقيقي لا يمكن تصنّعه، ولا يمكن للصلاة أن تكون حقيقية إذا تكّلفها المتدين. هكذا كان ينصح أحد القديسين مؤكداً على عدم التظاهر والتقليد، موصياً بالتخلص من الكتب المقدسة. لهذا، حرص هذا القديس على ألا يبقي كتاباً واحداً في بيته قبل موته فأحرقها جميعاً خشية أن يترك أثر يتبعه فيه الناس وقد قضى، فيضيع بهذا جوهر أعمالهم.
- التفكير يستقي من الماضي ليحلم بالمستقبل وكلاهما ميتان، ولا يستطيع أن يعيش الحاضر الحي. الأنا المزيفة هي تراكمات الماضي الذي يمكنه أن يستشرف المستقبل لكن لا يجرؤ على مواجهة الحاضر، لذا يطاله البؤس، وما لم يفرّغ الإنسان نفسه من ماضيه فلن يعيش حاضره، ومن لا يعش حاضره لا يستشعر السعادة التي تنساب في كل لحظة من لحظات الحياة.
- القائد ذو الأنا المزيفة يقوم بإفراغ اضطرابه فيمن يقودهم، فيشعر بالارتياح، غير أن أولئك يصابون بعدوى الاضطراب ويقومون بدورهم بنقلها للآخرين. لذا يحذّرك أوشو: إن كنت مضطرباً فلا تنصح أحداً فنصيحتك ستكون السم القاتل، ولا تقبل بنصيحة مضطرب الذي يحلو له توزيعها بسخاء -إن كنت تملك قطرة من وعي- فالاضطراب لا يوّلد سوى الاضطراب.
- ينتج الانفصام عن الاعتقاد بشيء ما الذي ينتج بدوره النزاع! يختلف معتقد الهندوسي عن معتقد المسلم وما يتبعهما من إيديولوجيات وتفسيرات حمقاء يتحاربان لأجلها، وقد يبحث البعض عن الحقيقة فيجده في معتقده ويرى أن ما دونه باطل .. غير أن كل تلك الفلسفات هي في الحقيقة باطلة، ولولاها ما انقسم الناس.
- لا يقارن المتدين في تدينه بأحد، وإلا أصبح كمن يمارس السياسة! عليه، باتت كل الأديان مسيّسة، فما الإسلام والمسيحية والهندوسية اليوم سوى جماعات منظمة تمارس السياسة باسم الدين! يشرْع المتعبّد في صلاته في الوقت الذي يقارنها بمن يتعبّد إلى جانبه، أهو خير منه أم العكس؟ حينها يُصبح المعبد كالبرلمان ويصبح المصلين كالساسة.
- وحدهم الأصدقاء قادرون على التحاور، أما الفلاسفة فيحضون إما بتلاميذ أو بأعداء، يقنعونهم أو يخالفونهم! الصداقة عبارة عن التقاء مركبين فارغين، لا يخوضان النقاش بنتائج مسبقة أو لغرض مخالفة الرأي، بل يُقبلون على بعضهما بانفتاح وبروح من البراءة، طلباً للمعرفة، وذلك على العكس من الفلسفة الماكرة القائمة على زيف التفكير. يقول أوشو هذا في حق الفلسفة رغم دراسته وتدريسه لها في بواكير حياته.
- التفكير نوعان: ذكري وأنثوي! ففي حين يرغب أصحاب النزعة الذكورية -من كلا الجنسين- أن يكونوا مسيطرين، يفضّل أصحاب النزعة الأنثوية -من كلا الجنسين- أن يكونوا مُسيطر عليهم. كلاهما يقتات على حياته من الآخر، فلا السيد يعيش من غير عبده ولا العبد يعيش من غير سيده، وذلك وجه للأنا المزيفة التي تموت إذا توقفت في المنتصف، فلا هي تسيطر ولا تخضع لسيطرة!.
- العالم مجنون وكذلك الإنسانية! إن تسعين بالمئة من صناعات العالم غير ضرورية، وخمسين بالمئة من الجهد الإنساني مكرّس للّحاق بسعار المادة، في حين تموت الإنسانية على الطرف الآخر جوعاً. لقد بذل الإنسان أموالاً طائلة للارتحال نحو القمر وشن الحروب وصنع الألبسة وإنتاج المساحيق وتصميم المباني …، وكأن كل هذا الهراء أكثر أهمية من توفير الغذاء، ولو وفّره لكان أكثر حكمة وإنسانية.
- إن الذي اعتاد أن يدين نفسه فلن يجد من لا يدينه وما لا يدينه، وهو في حقيقته لا يستطيع أن يحب أو أن يصلي، ومن غير الممكن أن يكوم مؤمناً بالله خالصاً، إذ لا يمكن لهذا النمط أن يلج المحراب الإلهي! إذا اعتاد المرء ألا يدين أحد وأن يرقص منتشياً غير آبه بما قد يكون، تفقد الأمور السيطرة عليه كما فقدها على غيره، ويقترب من عالمه الداخلي حيث الباب الموصل إلى المعبد ومن ثم إلى كل شيء.
- في الوقت كل شيء معرّض للتغيير، أما في الأبدية فلا. لذا، ينتمي العلم إلى الوقت وكذلك التاريخ، وينتمي الدين وكذلك الأسطورة إلى الخلود! عجلة التاريخ تتوالى على الإنسان فيبدأ صغيراً ليصبح شاباً ثم يهرم ويموت، أما في أعماقه .. في منطقة الجنوب، تكمن الأبدية. تقبع الهند في الجنوب من داخل المرء، فلا تحدّها حدود دلهي ولا جغرافية التاريخ، ولا أنظمة السياسية، إنما هي متواجدة في خريطة العالم الداخلي.
- تقبع العنقاء المخفية إلى جانب البومة المنفعلة بداخل كل فرد منا! فبينما تصرّ الأخيرة بصوتها الناعق على تغذية الشهوات وإشباع الرغبات، تهمس العنقاء في هدوء بأن (هذا ليس لك). هذه البومة ليست سوى الأنا المزيفة، وُلدت في الطين ويعود انتمائها إلى الأرض، أما العنقاء فهي الروح التي أتت من جانب البحر، لا تقف إلا على الأشجار المقدسة، ولا يرويها سوى الينابيع العذبة.
- يطغى أحد المتناقضين فيتولّد عند الآخر شعور الاضطهاد والرغبة في الانتقام! هكذا فعل الرجل بالمرأة حين بنى المجتمع الذكوري البشع وعمد إلى تهميش المرأة حد الحجر عليها بين أقبية المنزل، لا ترى أناساً ولا شوارع ولا سماء، حتى توقفت عندها الحياة واضطرب توازن المجتمع. يستمر الرجال في طغيانهم ليحتكروا عالم السياسة والعلوم والأعمال، غير أن المرأة تستمر في انتقامها من الجنس المذكر متمثلاً في زوجها، في صراع لا يحيد.
- بينما يعتقد الغرب بوجود حياة واحدة يسعى من خلالها إلى إشباع رغباته المادية ما أمكن، يطمح الشرق للوصول إلى الحياة الروحية الخالدة والتي تستغرق رحلة طويلة تمتد إلى ملايين السنين من خلال ما يسمى بالتناسخ! لذا تجد الغربي يلهث في سباق مع الوقت لإنجاز كل ما يمكنه إنجازه فهذه هي فرصته الوحيدة، أما الشرقي فيسير في تؤدة مؤمناً أنه سيولد من جديد مراراً وتكراراً، وأن التحول الروحي لا يمكن أن يتم في وقت قصير، فلم العجلة؟
- أنشأ العقل اليوناني العلم وأنشأ العقل الهندي الأسطورة، ومن خلالهما يتم النظر إلى العالم! فبينما أهدى اليونان المنطق والرياضيات وفلسفة سقراط في الشك والتحليل، أهدت الهند الدين متمثلاً في الشعر والقصة والحب. وعلى الرغم من أن القصص في مجملها أساطير، إلا أنها أكثر واقعية من أي حقيقة، فهي المفتاح للنواة الداخلية والطريق نحو الجوهر. يهتم العلم بالأحداث وبالعلوم الموضوعية، بينما لا تعيرها القصص اهتماماً، لذا لا تملك الهند تاريخاً بل روايات.
- تكتفي الأشجار في حياتها بالجذور، إذ أن الأزهار مجرد ضرب من الترف لا ضرورة له. غير أن الأشجار تبدأ في تقديم الأزهار عندما تملك الكثير من العطاء ويصبح أمر مشاركتها مع الغير حاجة ملحّة! يشترك الإنسان مع الشجرة في الجذور والعطاء، فتتمثل له الحياة كالعيد ويشرع بالرقص معها، بيد أن المجتمع لا يسمح بهكذا احتفال ويراقب فائض الطاقة بوجل! حين يمتلئ الإنسان ويفيض من أطرافه يعكس مستوى سعادته، أما المجتمع فيريده جائعاً على الدوام بحيث يسهل السيطرة عليه.
- يخلق التوتر الذي خلقناه بأيدينا الحاجة إلى التأمل! الحياة في الغرب أكثر توتراً عنها في الشرق، فمع تسارع رتم الحياة الغربية وكثرة المخاوف وارتفاع معدلات الانتحار، تصبح تقنية التأمل مثيرة للاهتمام، بعكس الشرق الذي يهنأ أهله عادة بالاسترخاء وتنخفض لديهم نسب العنف والعدوانية. قد لا يكون التأمل بحد ذاته جذاباً إلا أن حدة التوتر تجعله كذلك. لكن الفخ يكمن بينهما .. فبعد الراحة التي تعقب التوتر، تظهر حاجة لدى المتأمل لعمل شيء ما يقود إلى الحركة والتوتر، حيث سئم رتابة التأمل، وهكذا دواليك.
- في حين أن التفكير بطبيعته منقسم، والرغبات بدورها تقسّم المرء وتدفعه نحو المستقبل صوب الأحلام، فإن التأمل يعيده إلى الوقت الحاضر! للمرء ألا يسمح لعمية الجذب هذه أن تتم، بل عليه مقاومتها والعودة للحاضر والبقاء واعياً في ذاته، حيث الحياة الحقيقية وهو بكامل قوته حد الانتشاء. كيف لخائر القوى أن يرقص والرقص طاقة لا نهائية؟ كيف للميت أن يصلي وهو قد شبع موتاً؟ عندما يستمتع المرء بالحياة كاملة يشعّ بالشكر ويملأ قلبه الامتنان، وهذه النعمة حقيقة، هي لب الصلاة.
- تعلو قيم الفردية والاستقلالية في الغرب وتغيب كلياً عند الشرق. يغزو الغربي ذو المنطق والمعرفة الطبيعة ويدخل معها في صراع لكشف أسرارها، بينما يقدم الشرقي لها الحب، فتفتح له أبواب أسرارها ولا يحتاج بدوره لغزوها! عليه، يجزم أوشو أن المسيح أتى من الشرق، إذ لم يفهمه الغرب وفهمه الشرق الذي اعتاد على أشباهه، أمثال بوذا وتسزي، وقد كان يكرر أن: “الأخيرون سيكونون الأوائل في مملكة الله”، ويعني في قوله الناس الأكثر رحمة وتواضع .. ذوي المراكب الفارغة.
- يسير الشيخ محمد إلى صلاة الفجر، يرافقه تلميذه الذي يصلي الفجر في المسجد للمرة الأولى. يفرغا من صلاتهما ويخرجان ليلمحا البيوت التي يغط فيها أهلها بالنوم، فيسأل التلميذ شيخه عن ماذا سيحل بأولئك النائمين المذنبين، فما هم سوى كسالى؟! يتوقف الشيخ ليأمر تلميذه بالعودة إلى بيته لينام، فلا يعود أولئك النائمين مذنبين في نظره، وقد كان للأمس فقط نائماً مثلهم!. وعن تلك الصلاة، فهي لم تنفعه سوى في إدانة الآخرين، أما هو فسيعود للمسجد مجدداً بعد أن أضاع حديثه صلاته، طالباً منه ألا يأتي لملاقاته مرة أخرى.
- يخصص أوشو فصل عن (إنسان الداو) ويمتد ذكره طوال الفصول الأخرى، فمن هو هذا (الداو)؟ هو الإنسان المثالي، الإنسان المتدين بحق، يتصرف بتلقائية ويعمل الخير ولا يطمح بأن يُعرف به، وقد استطاع الوصول إلى عمقه الداخلي. ليس هو بالفاعل، ويستغني عن كل شيء بإمكانه أن يحدث من دونه، لذا فإن صدر عنه فعل ما فهو حتماً ضروري. تراه يقبع في بيته ينعم بالهدوء والراحة واللاعمل، ولا بأس عنده من أن يتفرّد في جلسة مع نفسه، في حين لا يطيق الآخرون ذلك وقد يُصابون بالجنون، لذا هم يهرعون للاختلاط بالغير مهما كان!.
- يحلّ الغنى الداخلي عندما لا يدرك المرء ثروته الداخلية، فهو لا يعلم أنه لطيف، ولا يعلم أنه الحب بذاته، وحين يصل إلى هذا المدى لا يكون بحاجة لعرض ثروته على الناس! بهذا الغنى يقارن أوشو بين هنري فورد وابنه، ففي حين يصل الأب إلى إنجلترا ويطلب أرخص فنادقها للإقامة، يطلب الابن أغلاها. يبرر الأب هذه المفارقة -وقد ارتدى معطفاً أقدم منه- بأن ابنه لا خبرة له في الحياة ويخشى حديث الناس فهو لذا يلجأ للتباهي، أما عنه فهو منسجم مع نفسه أينما حلّ، وسواء كان في معطف والده أو في فندق رخيص فهو هنري فورد، ولا تهم الأمور الأخرى.
- يؤكد الحكماء أنه عندما يكون المرء تلقائياً وعفوياً فهو أشبه بمن يدخل في صلاة علوية، لا يضيع معها الطريق إلى الله بل توصله تلك الصلاة حتماً إليه! لا يتحدث أولئك الحكماء عن الله كثيراً في حين يكثرون الحديث عن الكمال الداخلي، فعندما يتحدّ المرء في داخله يصل إلى مرحلة النورانية، وعندما تذوب أجزائه في الواحد تصبح حياته عبارة عن صلاة دائمة، فيصبح الحديث عن هذه النورانية غير ذي نفع، ولا تعود هناك حاجة للحديث عن تلك الصلاة.
- نصبر، ومع مفاهيم ذلك الصبر يُنهكنا الشقاء! يعلن أوشو كما أعلن سارتر من قبل أن (الآخر هو الجحيم)، حين يرتبط أحد ما بآخر في علاقة تحطّ من شأنه وتُحيطه بالمشاكل والبؤس! لا تعدو حياة الزوجين من هذا النمط ورقة قران، فهما لم يحرصا على أن يكونا واحداً رغم أنهما فيزيائياً اثنان، ولم يذوقا روعة الحياة المشتركة، ولم يعرفا قطعاً معنى أن (نعيش سوية). الزواج ثورة عظيمة تعيد تشكيل الحياة، والزوجان هما من يقرران الاحتفال سوياً بُعيد الحياة الزوجية، إذ ليس باستطاعة القديس أن يقدم لهما هذه الهدية.
- يولد المرء فرداً واحداً كاملاً، غير أن المجتمع يُصيبه بداء الفصام! يشعر المجتمع بالراحة عندما يرى الفرد فيه وقد انقسم على نفسه ودخل معها في صراع، مبعثراً طاقته في معركة داخلية. لن تملؤه الطاقة إذاً ولن يكون خطراً على المجتمع، بيد أنه يخشاه عندما يمتلك فائض طاقة، وهذا الفائض يقود إلى التمرد والعصيان والثورة كالنهر تماماً عند الفيضان. لا يعترف هذا الفيضان بالشاطئ، فتراه يعدو نحو البحر ليكون بحراً بلا حدود. وهكذا تتحرك الطاقة الفائضة باستمرار نحو الله الذي فقدناه في عالمنا، لا بسبب العلماء أو الملاحدة، بل بسبب المؤمنين أنفسهم .. أولئك المدعين الذين يحرصون على تقسيم المرء ليبقى نهراً يتصارع مع نفسه ويستنزف طاقته، ولا يعود قادراً في التوجه نحو البحر.
- العثور على توأم الروح في هذه الحياة نجاح نادر الحدوث، حيث يتعايش معظم الناس مع بعضهم البعض فقط لعدم القدرة على العيش بمفردهم! في هذه السلبية يأتي رد العريس الذي كان يستعد لعرسه -وقد عُرف عنه رفضه لفكرة الزواج- ففصل الشتاء على الأبواب، والزوجة هي وسيلة التدفئة الأقل تكلفة! تتصدر المصلحة الاقتصادية عقود الزواج في الوقت الحالي، كما أن الزوجة تحظى بالعديد من المزايا، فهي خادمة وطاهية وربة منزل ومربية أطفال، في وضع أشبه بالعبودية! لا يتورع القديسين عن التأكيد على بؤس الحياة الأسرية، وإن الحل يكمن في زهد الحياة، غير أن أوشو يؤكد أن العيب ليس في الحياة الأسرية بل في عدم القدرة على العيش سوية في أسرة. الزواج هو رباط رباني والحب هو باب الربانية الأكبر، ولكن أولئك الأزواج قد يقطعون الثمانين والتسعين عام يبحرون مع التيار ومعولين على الأقدار في حل أمورهم، ولم يعملوا على التجذر في الحياة. تُهدى الحياة عند الولادة لكن المتعة والتجربة والحكمة أمور لا تتأتى إلا بالتعلم .. وهنا يتجلى معنى التأمل.
- حب التملك يأتي بدافع من الأنا المزيفة، وكلما عظمت الأملاك تضخمت الأنا وتقلص المركب، وهذا يفسر الحياة المضطربة التي يعيشها الحكام والسياسيين .. حين تتضخم الأنا جرّاء الهوس بالسلطة والثروة والشهرة لا تعود مراكب هؤلاء تسعهم، ويصبح الغرق التهديد الأكبر لهم. حينها يتوحش شعور الخوف دافعاً إياهم نحو المزيد من إحكام السيطرة وامتلاك المزيد، استجداءً للأمن. يضرب أوشو مثلاً عن دور القيادة في غفلة القائد عن اضطرابه الداخلي، فهذا طبيب برنارد شو الخاص يأتي على عجل لمعاينة قلبه الذي كان على وشك التوقف، فيصل وإذا به تنتابه نوبة قلبية تجعل من برنارد يقفز من سريره ليجلب له الماء والأسبرين. بعد ساعة وحين عاد الطبيب إلى وعيه يهم بالانصراف مطالباً برنارد بأجره، فيعاتبه الأخير بأنه هو من يجب أن يدفع له فقد أنقذه، وهو حتى لم يسأله عن مرضه! فيكون هذا بالذات العلاج الذي قدمه له طبيبه -كما أفحمه- وهو لذا ينتظر أجره عليه.
- لن يستطيع الحكيم أن يغير العالم المجنون ولا أولئك الحمقى من حوله حتى يتقمص الحماقة، وقد بدى لهم في حكمته أنه هو الأحمق! حين يبدو الحكيم مجنوناً ويسمح للأحمق أن يسخر منه، لا يعود هذا الأخير غاضباً ولا يشعر بالغيرة تجاهه، بل تكون فرصة الحكيم سانحة لاستمالته ونصحه والتأثير فيه! هنا تكمن حكمة الحكيم وحيلة إعادة العقل للأحمق، وهذا ما انتهجه عدد من الحكماء العظام حين علموا أن حياتهم القائمة على الحكمة تُربك من حولهم ولا يُجدي التعامل الحكيم معهم نفعاً، بل قد تأتي بعواقب وخيمة! فهذا سقراط الحكيم قد قُتل بالسم وذهب ضحية العقل اليوناني الأكثر نضجاً في ذاك الزمان. لقد نأى بنفسه أن يضعها في موضع يبدو فيه كالأحمق، وحاصر أهل أثينا بأسئلته، ولم يكفه بل ضيّق عليهم بتعمقّه في ردودهم تحليلاً وتصحيحاً، الأمر الذي أثار استياءهم، وجاء قرار تصفيته الحل الحكيم لديهم. لقد أثبت لهم أنهم مجرد زمرة من الحمقى وقد ظهر لهم في مظهر من الكبر والغطرسة، فأغضبهم وانتقموا منه، ولو التقى حينذاك بأحد حكماء الصين لعلم بالسر، وكفّ عن إثبات تفوقه عليهم، ولكانت مجاراتهم الطريق الأكثر أماناً وحكمة!.
ثالثاً: من القول ما يُربك:
ملاحظة: ترد بعض التعليقات في نص أزرق .. لا تعبّر سوى عن رأيي الشخصي ولا تمتّ لمحتوى الكتاب بصلة.
- عندما لا يحتاجك أحد فمن تكون إذاً؟ لذا يحتاج بعضنا للعبيد، ويتوق بعضنا الآخر للعبودية! تتذمر الأم التي تعتني بطفلها المشلول حيث تذهب حياتها سدى، فما أن يموت حتى تستشعر خواء حياتها فعلياً، ولقد كانت سعيدة -رغم كل شيء- تتغذى بشعور الأهمية واحتياج طفلها لها.
وأعقّب: بينما يحمل المثل المضروب معنى واقعي بشكل ما، تبقى الأمومة بعطائها وشجونها اللامحدودين في غير محل للعلاقات الإنسانية المشوّهة.
- عندما يصطدم بك أحدهم ويغضب منك تعتقد على الفور أنه المخطئ، غير أن الحكمة تجزم أن ما من أحد مسؤول هنا سواك! ليس الأمر في أنك أتيت بما يُغضب، بل إن مجرد وجودك هو الأمر المثير للغضب.
وأعقّب: استحضر هنا دعاء أحد الصالحين في الأثر: “اللهم اجعلني مغموراً عند أهل الأرض، مشهوراً عند أهل السماء”. لكن، وعلى الرغم من عمق المعنى الصوفي المتمثل في حكمة السير في الحياة كعابر سبيل وعبور نهرها بانسيابية، بحيث لا يبدو المرء للعيان وإن كان صالحاً، إلا إن ذلك ليس عملياً ولا بشرياً. فما بال الأنبياء إذاً وقد خلّد تاريخهم التاريخ الإنساني؟
- الإنسان الكامل لا يصنع شيئاً بينما الإنسان غير الكامل هو الذي يُنتج! ذلك لأن غير الكامل يدفعه نقصه لأن يرسم أو يعزف، أما الكامل فيُلقي بآلته ولا يرسم أبداً. ماذا قدّم بوذا؟ أشعار، لوحات، منحوتات، سيمفونيات؟ لا شيء، وقد بدى عديم النفع. يحتاج الإنسان الناقص أن يبدع شيئاً ما حتى يكتمل جماله، فإذا امتلئ، لم يأت بشيء.
وأعقّب: لن يزال يحتاج للإنتاج وإن اكتمل واكتفى، على الأقل ببصيص من نوره على العميان! وإلا ما نفع كماله؟ رغم المعنى المركّب، فإن القول لا يخلو من منطقية، وقد وقعت عيناي منذ فترة على صورة كلاب تتسابق وأسد يبرك خلفهم شامخاً لا يأبه!. لم يحتج الهزبر الضيغم إلى إثبات ذاته، إذ (تبقى الأسود أسود والكلاب كلاب).
- عندما يكون الإنسان كاملاً يثير حفيظة الآخرين، إذ لا يتمكنون من إيجاد نقيصة يعيبونها فيه، لذا ينصح أوشو بالمحافظة على صفتين أو ثلاث من الصفات السلبية. ويضرب مثلاً في الزوج الذي ستهجره زوجته ساخطة بعد أيام من زواجهما إذا لم يصدر عنه أي سوء، فينصحه بأن يتعمّد التصرف بشكل غير صحيح بين حين وآخر، حتى يُشعرها بأنها الأحسن منه، وبالتالي تكون هي الأسعد.
وأعقّب: وأين يوجد هذا السوبرمان؟ أفقس من بيضة ديناصور أم تنزّل من السماء؟ وهل تبدو المرأة حمقاء إلى هذا الحد في أعين ابن آدم وقد أخذ في نفسه مقلباً؟ طيب معليش!. هل من مانع شرعي على المرأة المثالية إذا أخذت بـ (حق الاستهبال) وعاملت زوجها (على قد عقله) بالمثل؟ أخشى ما أخشاه أن تتضخم أناه والمقلب الذي يرتع فيه، فيستبدلها بأخرى من ذوات الكمال عقلاً وديناً حسب مقاساته.
- عندما يخلو العالم من المتناقضات يختل التوازن، إذ لا تقوم الحياة سوى على التبادل القطبي بين تلك المتناقضات كما في (ين-يانغ) أو المذكر والمؤنث. ويستعظم أوشو حياة من الذكور فقط أو الإناث فقط .. إذ لأنهين حياتهن منتحرات أجمعين، وقد فقدن المغناطيس!
وأعقّب: وماذا ستكون ردة فعل الذكور حين يستيقظون من النوم يوماً ما (وما يلقوش مغناطيس)؟ هل سيستعيدون أمجاد قوم لوط، أم سيكون الانتحار لهم أكثر شرفاً؟ … “وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ” … لا للمزايدات!.
- عندما يموت المرء لن يبكيه أحد حقاً فالكل زائف، لكن سيحل محل الكل كل الكائنات، وستجتمع الأرض والسماء ليُشكلا تابوتاً، تحيط به الكواكب والنجوم كالأحجار الكريمة! ثم يضرب أوشو بالمرأة مثلاً آخر، إذ تقطع تلك الزوجة المكلومة وعداً أمام زوجها المحتضر -حسب رغبته- بألا تخونه بعده أبداً، وقد حذّرها بأن عاقبة خيانتها ستكون في تقلّبه ألماً وسط تابوته في السموات. يموت الزوج، ويتقلّب عشر سنوات، حتى تهرع إليه زوجته الخائنة -وقد ماتت- باحثة عنه في كل صفاقة عند القديس.
وأعقّب: ولا أعلم كم من التقلّبات والشقلبات والإنحناءات والانثناءات والالتواءات والانكفاءات والقرفصاوات التي ستحيا عليها ابنة حواء وتموت، في حياة آدمها ومماته، هنا وهناك؟ .. لله دركنّ من صابرات!.
- وفي ملاحظة على الهامش، يستشهد أوشو بعدد من الحكماء الأوائل على طول الكتاب في طرح آرائه المختلفة، أمثال محمد، عيسى، أوغستين، بوذا، كونفوشيوس، لاو تسزي، تشجوان تسزي، ديوجين، كريشنا، ماهاكا شيبا، مهافيرا، رامابال شيم …، غير أن الملا نصر الدين كان سيد الموقف بلا منازع! يظهر الملا نصر الدين في رحلته الجوية الأولى مرتبكاً يتصنّع الشجاعة .. ثم يعدل عن بيع بيته الواسع الأركان وسط حديقة وارفة الظلال بعد أن جذبه إعلان البيع وراق له بيته من جديد .. ثم يترأس حلقة من المريدين يستمعون لقصص لا تخلو من سخف ومبالغات .. ثم سخريته من الشاب المثقف الذي استقلّ قاربه ولم ينفعه علمه حين أصبح على مشارف الغرق بعد أن انقلب القارب بهما .. وها هو يقدّم نصحه للشاب اليائس البائس بأن يخبز الخبز ويبيع الأكفان وقد راوده الانتحار بعد أن أصبح عاجزاً عن إعالة أسرته .. ثم يُعيّن قاضياً فيؤكد للمدعي والمدعى عليه وكاتب المحكمة بأن كل منهم على حق حين استمع لإفادتهم .. ثم تعيينه حكيماً لإحدى الممالك لتواضعه الذي تخلى عنه بعد توليه المنصب .. ثم رفضه أمر مدير السيرك تعاطي كأس من الخمر لأجل البحث عن أسد هارب وذلك كي يغدو شجاعاً لكنه قبِل أن يكون جباناً .. ثم قصة إغلاق حانة الخمر عليه واستنجاده بصاحبه الساقي هاتفياً في الثالثة ليلاً .. ثم تسبّبه في كسور لابنه كدرس لعدم الثقة بأحد .. ثم ها هو ينصح ابنه وهما في الحانة بالتوقف عن شرب الخمر في الوقت المناسب وكان يحتسي كأساً أوصله للثمالة .. ويستمر ليُعطيه دروساً في استمالة الفتاة وفنون الغزل .. ثم لا يجيب على سؤاله في كيفية التعرّف على أمه ويكتفي بإخباره انه أقلع بسببها عن التصفير .. ثم تهديده لزوجته لثقل مزاحها وقد فرّت من الثور الهائج وتركته ينطّحه وكانت قبل ذلك قد سحبته مخموراً من حانة .. ويستمر في الشكوى من زوجته وقد أقلع عن عاداته السيئة بعد إلحاحها لكنها لا تزال غير راضية فهي لم تعد تجد ما تتشاجر من أجله .. ثم يدخل إحدى المقاهي متوعّداً من رمى زوجته بالقبح وإذا به يشكره على الشجاعة التي لم يمتلك مثلها .. ثم يوبخ زوجته بعد مشاهدة فيلماً رومانسياً في السينما بعد زواج دام عشرين عاماً لم تذق فيها الحب كما شاهدته .. ويعود يوماً لمنزله ليجد زوجته في أحضان صديقه الحميم فيتفاهم معه لحل الموضوع بلعب الورق والمراهنة على النقود بدلاً من زوجته .. ثم يواسيه الطبيب من غير حيلة وهو لا يجد بد من تحمّل زوجته بضع ساعات قبيل رحيلها عن الحياة وقد تحمّل الحياة معها لسنوات طويلة .. ثم في قصة تالية تكمل زوجته شرب الشاي بكل راحة وقد وافاها نبأ موته مع الوعد بالصياح بعد إكماله.
وأعقّب: ولا أعلم لم يبدو أوشو متحاملاً على هذا الملا وقد جعل منه مضرب مثل في الهزل؟ ازداد حيرة عند اسمه، وقد بدى ممثلاً لملّة ما وعرق بعينه! أفترض في أوشو حسن النية!
رابعاً: من ظاهر القول وباطنه:
- لتجنب الغضب وما يتبعه من مشاكل، توصي الأديان الإنسان بـ (كن جيداً)، بينما يتعدى الداو ليوصي بـ (لا تكن)! هذا لأنه يعتقد أن الإنسان وإن كان قديساً سيغضب طالما أنه موجود، بل وقد يكون غضبه أشد من غيره، انعكاساً لذاته الأنانية وإن لم يبدُ كذلك ظاهراً. الإنسان السيء يحمله شعوره بالذنب إلى الانزواء فمركبه ممتلئ، أما الإنسان الجيد فأناه هي التي تملأ المركب. يُفسر هذا الشعور الثقيل عند ملاقاة أحد هؤلاء (الأجواد)، ما يجعل من محاولات تفاديه الحل المريح.
- يشير المحلل النفسي النمساوي فيلهلم رايش بإصبع الاتهام إلى الأمهات، حين سُئل عن أكثر الأشياء ازعاجاً للأطفال وأصل تعاستهم ومشاكلهم! بينما يعلم أن الأمهات سيعترضن على مثل هذا القول إذ أنهن مستعدات للموت من أجل أطفالهن، يقول مقتنعاً بأنهن أصل المشكلة من غير وعي مسبق! إنهن يعطين من دواخلهن، وحين يكون الداخل مشوه فسيتشوه الأطفال حتماً، وإن كان عطائهن ممزوج بالحب.
- يختلف السكارى بخمر الحانات عن السكارى بالخمر الإلهي! وفي حين أن العالم يحتاج للسكر، يلجأ ذوي الأنا الزائفة للماريجوانا إذ لا سبيل سواها للهروب من أنانيتهم، ويلجأ المتدينين للصلاة حيث تغادرهم الأنا بعد تذوق الخمر الإلهي إلى الأبد. لذا لا يبرح المتصوفة بالتحدث عن العشق الإلهي، في رمزيات زخرت بها أشعار عمر الخيام بين نساء وعناق وكؤوس، والتي تم ترجمتها حرفياً متسببة في تشويه المعنى الصوفي بشكل بشع.
- الإنسان النافع -رغم كونه نافعاً- لن يجلب سوى المصائب والمصاعب! لا يُترك وشأنه، بل يسعى الجميع نحو استغلاله واستعباده وإجباره على الاستمرار في عمله النافع طالما يعود عليهم بالنفع، فيكون كمن عاش للغير. أما الإنسان غير النافع فلن يؤبه به، ولن يقلق على غيابه أحد، بل إن وجوده وعدمه سيان، ويكون ممن عوفي ونعم بالسلامة! حينها تصبح حياته أشبه بعزلة راهب كرّس طاقته ليقظته الداخلية.
- بينما يعلن الفيلسوف الألماني نيتشه قبل مئة عام عن موت الإله، وعن تلذذ الإنسان بطيب العيش بعدئذ، يقدم أوشو اعتراضه ويرى أن موت الإنسان متبوع بموت الإله. ثم يستطرد في رأيه عن النافع واللانافع، حيث يرى إن العمل -وإن كان ثقيلاً- فإنه يصبح مصدراً للمتعة في وجود الإله! لذا، يرى أنه من البؤس أن تُهدم المعابد لُتبنى على أنقاضها المدارس والمشافي والأسواق، بل يجب أن تكون بجانبها في قلب المدينة.
- صوت الإنسان الداخلي يعمل ليجعله يربح ويفرح ويعشق وينعم بلحظات نورانية حين يتأمل، غير أن عملية التفكير تبدأ باتخاذ القرارات لتُعلن: كان ذاك بفضلي .. حينها تبدو كل الانتصارات هزائم والنجاحات ليست سوى إخفاقات! في الوقت الذي يشعر فيه المرء بالمتعة تلقائياً، يقتحم التفكير بأعمال التخطيط والتحكم والمراقبة من أجل الحصول على وقت متعة أطول في المرات القادمة، فتضيع اللحظة وقد لا تتكرر. يكمن الحل في اللاتفكير والحيادية وعدم إظهار الاهتمام، الأمر الذي يقود المرء إلى التصرف بطبيعته، ومن ثم بلوغ الراحة والرضا.
- يحرص الأبوان على اصطحاب طفلهما إلى المعبد بغية تغلغل الدين في أعماق قلبه، فيعتاد ارتياده حتى الكبر. يأتي هذا الحرص من حرص الأديان على ضرورة غرسها في الصغر، وإلا استعصى الأمر فيما بعد. يتنبأ أوشو بتوقف البشرية عن تلقين البوذية والمسيحية والإسلام -والتي يعتبرها من أعظم الذنوب- وينادي باستبدال تلك الترهات بالصلاة والتأمل، وحب الحياة والرقص معها، والسعي فيها نحو السعادة. حينها سيُهدي الإله البشرية البركة والرحمة بعيداً عن خراب المعابد والكنائس والمساجد، ورطانة العقائد والنظريات والفلسفات. ويقول: “الحياة هي احتفال ونشوة عظمى مستمرة”.
- لم يكن عيسى رجل دين قطعاً ولم يتعلّم اللاهوتية، بل كان رجلاً تلقائياً أمضى بعده الناس ألفي عام وهم يتدارسون اللاهوت، لكنهم لم يقدروا على إنتاج رجل مثله! لا تنتج المصانع رجل مثل عيسى ولا تخرّج الكليات اللاهوتية سوى رجال الدين الأموات. لذا لا غرابة في أن يصل الدين إلى هذا المستوى من الخواء. فالدين نوعان: يصدر الأول عن العقل ويُعرف باللاهوت وهو دين ميت، ويصدر الآخر عن الحكمة ويمتلئ بالأسرار وهو أبعد ما يكون عن العلم النظري. تتشعب الأديان، فتأتي المسيحية بلاهوت يختلف عن لاهوت الإسلام الذي تختلف عنه الهندوسية في لاهوت خاص بها، غير أن الدين الحق هو الذي ينبع من جوهر الحكمة، فلا مجال للاختلاف.
خامساً: من الحكمة ما يتفق وفلسفتي:
- يملك الحكيم القوة لكنه لا يستخدمها، فقد أفرغ أناه من الزيف وملئها بالطاقة. لا ينتمي لأحد ولا يتجه نحو أحد، وإن حصل وشُفي أحدهم في حضرته، فلا ينسب الشفاء لنفسه وإلا يكون قد أصابه المرض.
- إنه يسير بمفرده غير معتمداً على أحد، لا يخضع للعبودية وليس هو بالتابع ولا بالضعيف، لذا فهو يظهر في العالم دون أن يكون جزءاً منه. يقبع العالم خارجه، وإن وُجد فبداخله، لكنه لا يُغويه ولا يُفسده.
- لا يطمح في التأثير على الآخرين ولا يقع تحت تأثير أحد، إذ ليس من حكمة في هذا، بل يحاول البقاء في منطقة ما في الوسط. فالأنا المزيفة عند المغرور تشعر بالنشوة حين تؤثّر، والأنا المزيفة عند الخاضع لا تكون في وضع سيء حين تتأثر.
- لا يهاب الحكيم أحد ولا يتباهى، ولا يسعى لإظهار حكمته، فهو يملك كل شيء في حد ذاته، غير أنه يبدو كالأحمق أينما تم النظر إليه! على عكس أولئك الذين يسعون لإيجاد ضحاياهم الأقل معرفة، فيقتاتون عليهم بعرض حكمتهم عليهم.
- هو يتصرف بتلقائية لكنه لا يضر أحد ولا ينسب لنفسه الرحمة. يكتفي بذاته ولا يعتمد على الغير ولا يعتقد -رغم هذا- بتميزه. ليس همه جمع المال لكنه يفعل الخير، ويبقى مجهولاً وهو يفعله، فأناه الحقيقية هي (اللا أنا). إنه إنسان الداو، والإنسان العظيم هو (لا أحد).
- ينعم إنسان الداو بالتفرّد مع نفسه، فلا حاجة له للاختلاط بالغير أو التحدث معهم، ولا تصيبه الوحدة بالجنون. وعلى عكس عالم النشاط والعمل -والذي قد يكون لمجرد النشاط والعمل- تراه يُعطي أشياء حقيقة إذا عمل وانجز.
- يبدو الإنسان العاري في الشارع مختلف، حينها يظهر التمايز وتعلو الأنا المزيفة عند الآخر، فإذا تساوى الجميع اختفى التمايز واختفت الأنا المزيفة.
- أفراد كعيسى في مشيهم وفي إبصارهم يبدون كالأباطرة. وعلى الرغم من إنهم لا يسعون لارتداء التيجان، إلا إنهم يتسببون في إثارة ذعر الساسة وذوي الكبر الذين بدورهم يصنفونهم تحت (مسجل خطر).
- المقارنة تنم عن الشعور بالنقص والوضاعة، وحين يستشعر الإنسان الكامل تفرّده على الأرض، لا يُعلن عن نفسه بالأعلى أو بالأدنى، فلا أحد هنالك ليقف أمامه في موضع المقارنة .. إنه لا يقارن، إنه ببساطة موجود، إنه الفريد من نوعه.
- لست رحيماً ولا بسيطاً ولا متديناً إن تصورت أنك كذلك، وإلا ستكون قد أضعت حقيقة جوهرك، فالتصنّع أو محاولة التظاهر لا تعدو عن كونها خداع للنفس! ستكون لطيفاً وبسيطاً ومتديناً عندما تتأصّل هذه الخصال في طبيعتك ولا تعود تدركها في نفسك.
- يبدو وضع الإنسان الواعي واليقظ والمنفتح والواضح أمر مختلف! نعم إنه لا يتخفّى ويتقبّل كل شيء لكنه لا يقبل المساومة على وعيه وإن أنتهى به المطاف أن يغدو وحيداً. من الخير له أن يبقى في وحدته ممتلئاً بالحكمة والوعي واليقظة، فبها يصبح متديناً حقيقياً.
- يصيب الإنسان البؤس في حياته جرّاء نظرته الجزئية للأمور. عندما يستطيع التفكير بتجرّد والإحاطة بشمولية في أمر ما بحيث لا يتفلّت أي جزء منه، تُصبح رؤيته كاملة ويصبح جاهزاً للعمل. عندها يغيب القلق والشقاء، ولا يعود لسفاسف الأمور مكان في حياته.
- تكشف التفسيرات والإسهاب فيها زيف الكاذب، وعندما يملك الإنسان عيون مبصرة يدرك بها الحقيقة، لا يحتاج إلى تقديم تفسيرات ويصبح الصمت هو الأبلغ! فعلياً، لا تحتاج الحقيقة إلى تفسيرات لكن الإنسان يكذب كثيراً ويحتاج بطبيعة الحال إلى تبرير كذبه، لذا وُجدت الكثير من الكتب المقدسة.
- الأشباه تتعارف، والكلي المتكامل هو فقط من يستطيع التعرف على الكامل إذ أن تفكيره غير مجزئ بل عميق نحو الجوهر. هذا التأمل الحكيم يرى جميع المتناقضات من الميلاد حتى الممات بنظرة ثاقبة شاملة، ومنه يتولد العمل الذي يشمل الخير كله طالما صدر عن تفكير عميق ومتحد. لهذا يُرى الآثم نادم دائماً.
- حين لا تطرق الكلمات باب عالم الإنسان الداخلي ويعلو صوت الصمت، يتفتق الجمال في محيطه ويحل الحب ومعه الصلاة، فيتجلى الإله فيه. أما ذلك الثرثار الذي أهمّه الكلام وأضاع النور، فقد أصبح منظومة فضفاضة من نظريات وفلسفات وعلوم تبعث على السآمة، وقد بدى خاو من المحتوى والقيمة.
- المجتمع مجرد كلمة إذ لا وجود له، بينما الفرد المستقل هنا، وهو من يتحمّل مسئوليته ولا يرمي بها على المجتمع، وهكذا يقول الدين الحقيقي! على خلاف الحضارات القديمة التي حمّلت الإله المسئولية وأشارت بأصبع الاتهام نحو القدر الظالم، كما لعبت الشيوعية نفس اللعبة وأكدت مسئولية المجتمع عن كل شيء.
- الإنسان الكامل فارغ المركب، قد فرغ من البؤس والغضب والآلام والآمال! لقد رمى كل شيء حتى صار فارغاً واستعد ليمتلئ، إذ أن الفراغ هو الأكثر استعداداً للامتلاء، لكن أي امتلاء؟ الامتلاء بما هو رباني حين يدعو الإنسان الحضرة الربانية بالحلول. لهذا يحلّ الشعور بالكمال فجأة بعد الفراغ. إذاً، في سبيل الوصول إلى الكمال لابد من الفراغ.
- قد يعمّر الإنسان سبعين عاماً في الحياة لكن من غير وعي، فيكون كمن لم يكن! في تلك الحياة السطحية تتقابل الأشباه ويحدث الصدام من خلال تبادل السباب حول النقائص المشتركة، حتى يتوقف يوماً ذو الوعي ليدرك أنه مسؤول، وغير ناضج، وأنه مشارك فعّال في هذا الجهل. عندها ينزح من الأطراف إلى المركز ويصبح للمرة الأولى في مركز عالمه، فيتقبّل ما تقبله روحه ويتخلى عما سواه، ثم يصبح شعوره حقيقي غير محتاج لاتباع الزيف، فقد احتواه عالمه.
- تتولّد المهارة المطلقة من الكمال الداخلي الخالي من الانقسام والصراع والتوتر والتفكير غير الموجّه نحو هدف ما. يفشل أحد معلمي الزن في إنجاز التصميم المعماري المطلوب للسلطان، وبعد ثلاثة أشهر وحين ينفد الحبر يبعث تلميذه لشراء آخر، فيعود ليجد معلمه وقد أتم التصميم! كان السبب يكمن في التلميذ الذي كان يجلس بمحاذاة معلمه، الأمر الذي أشعره بالانفصام والانقسام وغياب المتعة في مزاولة عمله واعتباره واجباً لا بد من إنجازه، فلما رحل وغاب الرقيب حلّ الاسترخاء واستشعر الكمال، فتولّد العمل من تلقاء نفسه.
- الإخلاص ممكن والحب كذلك، غير أن بذل الجهد نحوهما يجعله إخلاص شكلي وحب غير حقيقي. إنه أشبه بالحب الذي ينادي به ديل كارنيغي في كتابه (كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر على الناس) وكأن الحب يحتاج إلى ورش تدريب، والصداقة تتطلب تعلّمها! بهذا المفهوم تصبح العلاقات قائمة على الخداع والاستغلال، ويتحول الحب -كما في أمريكا- إلى صفقة عمل، وهذا يفسر بيع ملايين النسخ من ذلك الكتاب هناك وقد احتل المرتبة الثانية في الشعبية بعد الإنجيل. تستمر هذه التقليعات حتى يصبح الأفراد غير قادرين على تكوين علاقة من غير تلقين مسبق، فتظهر الحاجة لإنشاء كليات للحب ودورات تدريبية لعقد الصداقات. إن أولئك الناس المعتدّين بعقولهم غير مؤهلين لحمل مشاعر الحب! إنهم يتحركون بخطة، ويقولون عكس ما يؤمنون به، ويتحدثون بلغة رنانة تجذب الآخرين فحسب! هكذا ينشأ الخداع ويستشري بين الناس، فقد أصبح العالم بأسره عبارة عن حشود من أعداء متربصين ببعضهم البعض. غير أنه على الطرف الآخر يتواجد أولئك الذين لا يقدرون على الخداع.
سادساً: من نفحات الحكمة، مقتطفات تزدان بحلل روحانية، أقتبس منها (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
- القليل هم من غادر عالم التفكير وأنكر الزمن فعاش اللازمن المتدفق في الحاضر! يوصم أحدهم ابتداءً بـ (المجنون) وعند التيقن من صدق دعوته -عقب رحيله- يكرّم بلقب (الفيلسوف) ثم يخلّده التاريخ الإنساني فيما بعد بـ (الأسطورة). تقول (المقدمة): “الكثير منا يعيش في عالم الزمن، في ذكريات الماضي أو أمنيات المستقبل، وقد نلمس أحيانا ذلك التدفق اللازمني الذي نسميه تدفق الحاضر: في لحظات الجمال المفاجئة أو في لحظات الخطر المباغتة أو عند لقاء من نحب أو مشاهدة الشيء غير المنتظر”. وقد كان أوشو أحدهم، فيُنسب عنه قوله: “أنا بداية لوعي ديني جديد بشكل مطلق”.
- وفي (المقدمة) يستطرد أوشو ليوضح كنه رسالته: “رسالتي ليست فلسفة معينة وإنما كيمياء معينة، علم لتحويل الإنسان إلى إنسان آخر، حيث يستطيع الإنسان الجاهز للموت أن يولد بشكل جديد لا يمكن حتى أن يتصوره في الوقت الحاضر، ولكن هذا يحتاج لشجاعة لأنها مخاطرة عظيمة ومغامرة لا يقدم عليها إلا القلائل. إن من يسمعني يقوم بالخطوة الأولى للولادة من جديد، فلذلك لا تستخدموا كلماتي كفلسفة تقوم بحمايتكم بشكل آمن أو تستعملونها للتفاخر على غيركم. كلماتي ليست قواعد معينة تعطيكم الأجوبة الجاهزة على الأسئلة الملحة التي تقلقكم. رسالتي ليست نوعا من التخاطب الكلامي المعروف، وإنما هي أخطر من ذلك بكثير فهي موت للولادة في حياة جديدة”.
- لست يا إنسان كيان بالجسد، بل تنتمي للحقيقة الكاملة! يقول أوشو في (الحلاوة المالحة): “عندما تعتقد أنك ديك فهذا جنون، وعندما تعتقد أنك (انسان-جسد) فهذا جنون أيضاً وبشكل أشد وأقوى من الاعتقاد الأول، لأنك لا تنتمي للشكل الخارجي. ليس هنالك فارق أن تكون ديكا أَو إنسانا بالشكل، الأمر دون معنى لأنك تنتمي إلى عالم الحقيقة الكاملة الواحدة حيث لا شكل ولا مادة ولا مظاهر خارجية. عندما تصر أن تكون شكلاً خارجياً فهذا سيؤدي بك إلى الجنون. أنت لا تنتمي لعالم الجسد ولا تنتمي إلى عرق معين ولا إلى مذهب معين، أنت لا تَنتمي إلى أيّ اسم. ومالم تُصبحُ بلا اسم وبلا شكل، فلن تكون صحيحاً من الناحية النفسية”.
- عندما انقطع بوذا لمدة أربعة عشر يوماً في العدم وأصبح فراغاً كلياً، غمرته السعادة وفاضت وتدفقت دون انقطاع. يستمر أوشو في (الحلاوة المالحة) ويقول على لسان بوذا: “ الحياة بؤس وعذاب، الولادة بؤس، والموت شقاء وكلّ شيء يمتلئ بالبؤس. هكذا كان لأن الأنا المزيفة كانت مازالت موجودة، ولأن مركبه لم يكن فارغا. أما الآن فالمركب فارغ فلم يعد هناك بؤس ولا حزن ولا عذاب، وأصبح الوجود كله كما لو أنه يحتفل بالعيد احتفالا لانهائيا إلى الأبد”. ثم عن الفراغ يقول على لسان الحكيم تشجوان تسزي: “الإنسان الكامل مركبه فارغ. ولكن السؤال: فارغ من ماذا؟ فارغ من الأنا المزيفة، ومن أي شخص في الداخل“.
- يختتم أوشو (الحلاوة المالحة) بالتوصية على الفراغ .. أن يكون الإنسان فراغاً، والتأمل هو السبيل. فيقول: “إن تفكيرنا صغير جداً، ونحن لا نستطيع باستعماله تقبل الأشياء الربانية. إن غرفنا صغيرة جداً بحيث لا نستطيع دعوة الربانية للحضور إلينا. يجب أن نحطم البيت بالكامل لنصبح بمساحة السماء والفضاء بل الكون كله، هذه المساحة ضرورية لقبول الربانية. يجب أن يصبح الفراغ طريقك وهدفك. ابدأ من صباح الغد بتفريغ داخلك من كل شيء: من البؤس والغضب والأنا المزيفة والغيرة والآلام والرغبات. يجب أن ترمي بكل ما تجده، وكل ما تقع عليه يداك بدون مساومة، أفرغ نفسك، وفي تلك اللحظة عندما تصبح فارغا كلياً، ستفهم فجأة أنك كامل وأنك كل شيء. لابد للوصول إلى الكمال من الفراغ“.
- يستخدم بوذا تعبير (الصحيح) في إشارة إلى المحافظة على البقاء في المنتصف، دون الميل إلى أحد الطرفين، فالانتقال من العمل إلى اللاعمل سهل، غير أن المكوث في منطقة ما في المنتصف ليس كذلك! يقول أوشو في (إنسان الداو): “عندما تَقف في المنتصف، فأنت لا تزيد من تأهبك، وفي هذا جمال بديع، لأن الإنسان الذي لا يزيد من تأهبه للتَحرك إلى مكان ما يمكن أن يكون حرا وهادئا ويمكنه أن يتمتع بالحياة ويشعر بالراحة مع نفسه، وكأنه في بيته“.
- عادة ما تكون هناك إعاقة نحو الحركة الكاملة، فالحب يرتبك لشيء من الكراهية، وخطوة القدم الأولى تُعيقها الثانية المترددة، وهكذا لا تتأتى السعادة بالكلية. فيستمر أوشو في حديثه عن (إنسان الداو) ويقول: “عندما لا يعوق حركتك كإنسان متكامل أي عائق فإن الحركة بحد ذاتها تصبح نعمة وسعادة. السعادة ليست شيئاً يأتي من الخارج وإنما هي شعور يأتيك عندما يتحرك كل كيانك الداخلي. حركة هذا الشيء الكامل هي نعمة وسعادة بحد ذاتها. السعادة ليس شيئاً يحدث معك وإنما شيء ينبع من داخلك من جراء الانسجام في وجودك الداخلي “. هذا التناقض يقسّم الذات داخلياً، وعليه: “عندما تكون منقسماً وأنت منقسم دائماً لنصف يتحرك ويحب ويقول نعم ونصف لا يتحرك ويكره ويقول لا أنت تقول شيئاً ولكنك أبداً لا تعنيه أنت مملكة مقسمة فيها حرب أهلية ونزاع دائم لأن المتناقضات ما زالت موجودة تقيم العوائق“.
- تسير الأمور في عفوية حتى تقتحمها عملية التفكير فتعرقلها! هكذا فعل الثعلب المكّار بالدودة المتصالحة مع أقدامها المائة حين سألها في حيرة كيف تتحكم بها وتتحرك؟ فيعقّب أوشو وهو لا يزال في (إنسان الداو) قائلاً: “يا لها من مسكينة الدودة ذات المئة قدم! لقد كانت سعيدة دائماً ولم يكن لديها أية مشاكل. لقد كانت تعيش وتتحرك وتحب كل شيء دون أية مشاكل لأنه لم يكن هنالك تفكير. أما الآن فقد أتى التفكير ومعه المشاكل والأسئلة والبحث. هناك العديد من الثعالب حولك وعليك أن تكون حذراً منهم وهؤلاء هم الفلاسفة ورجال الدين والمنطق وغيرهم من الأساتذة الجامعيين الذين يوجهون لك الأسئلة التي تنشئ الاضطراب والفوضى في داخلك“.
- لكن من هو (إنسان الداو)؟ هو من تكون (الأنا الحقيقية) لديه هي (اللاأنا)، لهذا يبقى مجهولاً مهما أتى من خير!. فيقول أوشو: “إنسان الداو يبقى مجهولاً، وهذا لا يعني أنه لن يعرف أي أحد أي شيء عنه ولكن الأمر يعني أن مسألة اكتشافه أو ملاحظته مسألة متعلقة بك. هو لن يقوم بأي جهد لكي يعرف ويصبح مشهوراً لأن الطموح للشهرة ينبع من الأنا المزيفة. الأنا لا تستطيع ان تتواجد في اللاشهرة عندما تكون مجهولاً عندما تكون معروفاً فالأنا موجودة وهي تتغذى عندما ينظر الناس إليك وينتبهون لك وتكون شخصاً مهماً ولك اعتبار وقيمة اجتماعية كبيرة. كيف يمكن أن تكون مهماً إذا لم يعرفك أي أحد؟ عندما يعرفك العالم بأكمله فهذا يعني أنك ذو اعتبار وقيمة. لهذا ترى الناس يتراكضون وراء الشهرة وعندما لا يحصلون عليها يقررون أن يصبحوا مشهورين بسوء السمعة. الناس مستعدون لفعل أي شيء لكيلا يكونوا مجهولين. إذا لم يحبك الناس فستقبل أن تكون مداناً لأنه ليست لديك قوة لتحتمل عدم مبالاتهم بك“.
- الإنسان العظيم لا يقبل التصنيف ولا يُستدل عليه بالمقاييس! كيف لملعقة شاي أن تقيس المحيط؟ هو ببساطة لا أحد. يختتم أوشو (إنسان الداو) بقوله: “كل آثارك تعكس ماضيك. الخطوط الموجودة على راحة يديك تعكس ماضيك. لذلك نجد أن علم التنجيم وقراءة الكف تحمل الحقيقة دائماً إذا كان الأمر يختص بالماضي، وغير صادقة إذا كان الأمر يختص بالمستقبل، وكاذبة بشكل مطلق عندما يختص الأمر بالإنسان الرباني لأنه رمى بماضيه وتحرك إلى المجهول مما يجعلك عاجزاً أن تتنبأ بمستقبله“.
- عقدة النقص تفضحها ردود الأفعال! فيقول أوشو في (البومة والعنقاء): “حينما يشعر الدماغ بعقدة النقص يحاول أن يصبح متميزاً ثم تتولد في داخله ردة الفعل العكسية والسعي للشيء المناقض تماماً عندما تشعر أنك قبيح تحاول أن تظهر بشكل جميل أما عندما تكون جميلاً فلا داعي للجهد. عندما تنظر إلى النساء القبيحات ستكون قادراً على فهم الطبيعة الداخلية للسياسي. المرأة القبيحة تحاول دائماً أن تخفي قبحها وأن تظهر بشكل رائع على الأقل الوجه حيث تملؤه بالأصباغ والحلي والزينة المخصصة للقبح. يجب أن يتغلب الإنسان على القبح بطريقة ما بحيث يستطيع أن ينشئ الشيء المعاكس لإخفاء هذا القبح والهروب منه. المرأة الجميلة بشكل حقيقي لن تقلق بشأن جمالها بل يمكن ألا تعي أنها جميلة. الحقيقة أن الجمال الذي لا نعيه شيء رائع وعندما نعيه يظهر القبح واللاجمال“.
- في (البومة والعنقاء) أيضاً، وحول نفس عقدة النقص التي يرفضها صاحبها ويلجأ لخداع نفسه والآخرين، فيختار أن يُصبح أحد اثنين لا ثالث لهما: إما مجنون أو سياسي، يقول أوشو: “الجنون طريق مختصر للشعور بالعظمة والأهمية، السياسة طريق أطول ولكن كلا الطريقين يصلان للهدف نفسه. إذا كان مقدراً أن يصبح هذا العالم طبيعياً يتمتع بالصحة فلا بد أن يعالج هذان الصنفان من الأشخاص المجانين والسياسيون فكلاهما مريض ولكن أحدهما يمشي في الطريق الدائري الطويل والثاني يمشي في الطريق المستقيم المختصر. يجب أن نتذكر جيداً أن المجنون أقل ضرراً من السياسي لأنه يعلن تفوقه وعلوه ببساطة ولا يهتم ولا يقلق بإثبات ذلك أما السياسي فجلّ عمله في إثبات ذلك، وبرهان ذلك يكلف من حوله غالياً“.
- لا يختلف الشرطي عن اللص! فبينما يخدم الثاني مصلحته يخدم الأول مصلحة حكومته، وكلاهما لص يشتركان في اللغة والتفكير والطبيعة. لذا لم تتمكن شرطة هوي تسزي -رئيس وزراء ليان- من إلقاء القبض أو حتى الاشتباه بالراهب تشجوان تسزي وقد تم اتهامه بالتخطيط لخلع هوي! يقول أوشو وهو لا يزال في (البومة والعنقاء): “تفكير الشرطي وتفكير اللص ليسا مختلفين لأن الشرطة هم لصوص في خدمة الحكومة. طريقة التفكير هي ذاتها والفرق في صاحب التفكير. اللص يخدم نفسه ومصلحته الخاصة والشرطي يخدم الحكومة ولكن كلاهما لص ولذلك تمسك الشرطة باللصوص. عندما ترسل لصاً لإيجاد راهب فلن يجده لأنه ينظر للآخرين من خلال نظارات تفكيره“. ملاحظة: وردت العبارة في النص خاطئة بـ : “عندما ترسل راهباً لإيجاد لص”، وتم تصحيحه في الاقتباس أعلاه!.
- مع الحب لا مكان للاعتذار، أما بدونه فهو واجب. عندما تطأ قدم أحدهم في السوق عليك الاعتذار، أما مع شريكك أو ابنك … هل من داع؟! يقول أوشو عن هذا المعنى العذب في (اعتذارات): “الاعتذار مطلوب من جراء عدم وجود العلاقة القريبة ولأن الآخر غريب عنك. التوضيح مطلوب لأنه ليس هنالك حب. عندما يتواجد الحب تسقط ضرورة اللجوء للتفسير لأن الآخر يفهمك حتماً. عندما يكون الحب متواجداً فليس هنالك داع للاعتذار لأن المحب يفهمك دائماً. هكذا نجد أنه ليس هنالك مبادئ أخلاقية أعلى من الحب ولا يمكن أن تكون الحب هو القانون الأعلى ولكن عندما لا يكون موجوداً فالناس بحاجة لشيء بديل للتعويض عن النقص الحاصل“.
- ويستمر أوشو في معنى أكثر عذوبة من خلال (اعتذارات)، ففي حين لا يتطلب الحب المثالي برهان، يحتاج الحب الهش اثبات أكبر. يلجأ الزوج الخائن عادة لحيلة الهدية، غير أن حدس الزوجة يقف له بالمرصاد، فإذا كان كل شيء على ما يرام فلم الهدية إذاً؟ فيقول: “الحب لا يمنع أن تهدي من تحب ولكن الحب بحد ذاته هدية كبرى، فأي شيء آخر يمكن أن يهدى أكبر من الحب؟“. لذا، لا يستوجب الإخلاص في الحب -إن كان كاملاً- تقديم الضمانات، فيعتقد أن: “اللحظة من الحب الصادق هي خلود كامل“.
- في (اعتذارات) أيضاً، لا يعلم المجنون بجنونه ولا الجاهل بجهله ولا الحالم بحلمه! يعتقد المجنون أنه الأعقل والجاهل أنه الأعلم، أما: “عندما يصبح شخص ما حكيماً فهو يصل لهذا من خلال معرفة ووعي بجهله“.
- ليس التأمل هواية العجائز حيث الطاقة قد أهدرت في سعي الشباب!. فيقول أوشو في (ثلاثة في الصباح): “التأمل يحتاج لطاقة نظيفة صافية. التأمل يحتاج لفيضان الطاقة“.
- وهو لا يزال مع (ثلاثة في الصباح)، لا يبالي الحكيم بالتراتبية! متى يكون امبراطوراً ومتى يكون فقيراً، فإن كان لا بد من الاختيار، فالفقر صباحاً والغنى مساءً، والعبرة بالخواتيم! وفي هذا يقول: “الإنسان الحكيم يختار الألم في البداية والسرور في النهاية، لأن الألم في البداية يعطيك خلفية ليأتي السرور بعدها فيكون أكثر لذة من أي وقت مضى في حين أن السرور في البداية يعطيك خلفية ناعمة يكون الألم بعدها شيئاً لا يطاق“.
- لم هذا الاستعجال المحموم في الغرب نحو تسريع عجلة الحركة اليومية؟ ألا تكفي اللحظة الراهنة كي يعيشها الإنسان؟ في (الحاجة للانتصار) يقول أوشو: “هذه اللحظة صغيرة جداً بحيث لا تستطيع مسكها، وعندما تمسكها تكون قد أصبحت ماضياً وعندما تفكر بها تكون في المستقبل. تستطيع أن تكون فيها ولكنك لا تستطيع إمساكها ولا القبض عليها. عندما تكون هذه اللحظة موجودة تستطيع أن تفعل شيئا واحدا وهو أن تحياها وهذا كل ما في الأمر. هذه اللحظة صغيرة جداً ولكنها ممتلئة بالحياة وهي تهدي هذه الحياة إليك“.
- ينصح أوشو أيضاً في (الحاجة للانتصار) بألا يقبل الإنسان أن يكون جزء من كل! لا تتواجد في حالة (أحد ما) فتكون محدوداً بما تملك، وهي حالة من الفقر مهما عظمت الأملاك! أما ترى الله لا يحتاج للتملك وهو الكامل الغني؟ وذاك يقبل أن يكون (جزء ما) حين يسعى للامتلاك؟ يكمن الحل في (اللا أحد) حيث اللامحدودية والكمال. يرادف هذا معنى (المركب الفارغ) على لسان الحكيم تشجوان تسزي: “كن مركباً فارغاً. ادخل لأعماقك وأدرك أنك لا أحد. في تلك اللحظة التي تدرك فيها أنك لا أحد تنفجر في بعد جديد لتدرك أنك بروحك كل شيء“. ثم يستطرد: “عندما تصبح مركباً فارغا فهذا يعني أن كل البحار لك، وعندها تستطيع أن تتحرك في مناطق غير موجودة على خرائط العالم ولن يكون هناك عائق أمام مركبك ولن يستطيع أحد ان يوقفك. لست بحاجة للخرائط وسيتحرك مركبك إلى اللانهاية وإلى اللاحدود، وسوف يصبح هدف رحلتك الكل الموجود في كل مكان حولك وما عليك إلا أن تتحرك للداخل“.
- يكون القيام بالعمل من أجل المتعة أكثر قيمة، حتى تتدخل الرغبة والهدف والنية فتفسدها. يقول أوشو وهو لا يزال في (الحاجة للانتصار) على لسان كريشنا: “لا تهتم بالنهاية، افعل ما عليك فعله الآن هنا واترك النتيجة للإله. لا تسأل ماذا سيحدث لأنه لا يعلم أي أحد ذلك. اهتم بالوسائل ولا تنظر الغايات. لا تجعل النتيجة محل اهتمامك“.
- تحيا الحياة في وجود المتناقضات، فمن دونها لا حياة. وبينما يرى المنطق أن النور ينفي الظلام والظلام لا يوجد مع النور، فإن الحياة تختلف معه وترى أن النور إذا حلّ فبسبب الظلام، وإنه يقبع في زاوية ما وإن كان غير مرئياً في لحظتها. يقول أوشو في (دون فائدة): “لكن النقيض في الحياة ليس نقيضاً وإنما مكمل ومن دونه لا يمكن وجود أي شيء في الحياة. مثال ذلك أن الحياة موجودة بفضل الموت ولو لم يكن الموت موجوداً لما كان هنالك أي حياة. الموت ليس النهاية وهو ليس عدواً وإنما بالعكس، بوجود الموت تصبح الحياة ممكنة، لذلك يكون الموت ليس نهاية وإنما جزء من (الآن-هنا)“.
- وفي (دون فائدة) يعيب أوشو على المفكرين الجدد نظرتهم الفارغة للحياة، فهي بلا معنى عند سارتر ومارسيل وجاسير، ويتساءل كيف فقدت الحياة معناها وهي لم تكن هكذا يوماً؟ فيستمر مستنكراً: “لم يقل بوذا مثل هذا. استطاع كريشنا أن يرقص ويغني ويمضي وقته بمتعة. كان محمد قادر على الصلاة لشكر الله على رحمته وهديته لنا بالحياة. تشجوان تسزي كان سعيدا بكل الإمكانية المتاحة، كان سعيداً بأقصى ما يمكن للإنسان ان يكون سعيداً. لم يتكلم أحد سابقاً أن الحياة لا معنى لها، فماذا حدث مع العقول الراهنة؟ لماذا فقدت الحياة معناها بالنسبة لهم؟“.
- يربط أوشو في آخر فصل (الكمال) بين الخوف والدهاء، فيقول: “المكر والدهاء يتولدان من الخوف ولذلك كلما خاف الإنسان أكثر كان الدهاء عنده أكبر. الانسان الشجاع غير ماكر لأنه يعتمد على شجاعته ولكن الشخص الجبان الذي يخاف يستطيع الاعتماد على مكره فقط. كلما كان الشخص وضيعاً وناقصاً كان ماكراً أكثر، كلما كان الإنسان أعلى كان بريئاً أكثر. المكر والدهاء هي تعويض وتزييف“.
- وهو في (الكمال)، يصبح الوجود السر الأعظم الذي لا يملك الإنسان أمامه سوى التعجب، وهو مستوى مميز للتدين، والذي من دونه لا يصل إلى الربانية، بعكس الطفل المندهش دائماً. القلب لغز الإنسان المتعجب، كذلك حبة القمح، كذلك جناح الفراشة، كذلك طفل الأنابيب! يقول أوشو: “كل هذا لغز غامض كبير. عندما تستطيع أن تواجه هذا اللغز وجهاً لوجه دون أية معرفة فستدخله، ولو كانت عندك المعارف فستصرخ: أنا أعرف هذا، سوف تقفل كل الأبواب في وجهك، ويكون الخلل ليس في السر وإنما في معارفك ونظرياتك وفلسفتك ومسيحيتك وهندوسيتك وكل هذه الأمور التي تقفل كل الأبواب“.
- يستمر أوشو في (الكمال) ليواجه المجتمع بخوفه من مرحلة التنوّر التي قد يقترب منها الإنسان فيخرج عن حدود ما رسمه له ويرفض التأقلم. بهذا، يرى المجتمع سوى مصحة للمجانين. يحّرم الدين الخمر والمخدرات، لكنه يمنح البديل، فيقول: “كن سكران ولكن بالخمرة الإلهية، وعندها أنت تملك جذوراً وأساسات ومركزاً، عندها أنت قوي“.
- يصبح التفكير عبئاً ثقيلاً فيستخدم الإنسان بدل أن يستخدمه، بل ويستعبده. وفي (الكمال) لأوشو حديث عن ثنائية الشك والقلق والإيمان والسعادة في ارتباطهما وتداخلهما، فيقول بلغة إيمانية: “لا يستطيع التفكير قبول أي شيء، فهذا شيء غير ممكن. في تلك اللحظة تولد آلاف (لماذا) التي يجب حلها والإجابة عنها. لذلك كل الأديان تصر على الإيمان. هذا هو جوهر فكرة الإيمان، لا تسمح للتفكير بأن يسأل (لماذا). الإيمان هو الاعتقاد. ليس الاعتقاد بنظرية محددة وإنما الاعتقاد بالحياة نفسها. اللا ايمان ليس اعتقاد وإنما هو الثقة دون شك. الإنسان الذي يمتلئ بالإيمان هو القادر على الثقة، ويستطيع أن يعرف ما الحياة وما الموت“.
- في خاتمة (الكمال)، لا يطلب أوشو كشف ما يتحدث به المتنوّر، بل الدخول به ببساطة، فهو لا يعرض نظريات بل حقائق! حقائق يمكن مشاهدتها إن كانت عينا الإنسان مفتوحة، ويمكن سماعها إن كانت أذناه تسمعان. فيقول: “لذلك عيسى لا يتعب من تكرار: (القادرون على السماع يسمعون، القادرون على النظر يُبصرون). لا يُطلب منك أي شيء آخر ببساطة افتح عيونك وآذانك“.
في عجالة -وعلى سبيل النقد الأدبي- فإن هذا الكتاب العميق:
- سليم اللغة، واضح المفردات، ويخلو من الألفاظ الغريبة، رغم صعوبة لغة الحكيم الصوفية.
- متقن الترجمة لغة ومعنى .. لكن، يخلو غلاف الكتاب من اسم المترجم! يا حبذا لو تم إضافته في الطبعات القادمة.
- متناغم الإيقاع في سرد التجليات والأفكار حول موضوعاته المتنوعة، وعلى طول الكتاب.
- محرك في أسلوبه الأدبي لعاطفة القارئ، ومحفز لنظرته التأملية، داخلياً في ذاته وخارجياً في الكون.
- خصب الخيال في إيراد الكثير من الكليشيهات والأمثلة والصور الحية. منها على سبيل المثال: العنقاء والبومة، الفيلسوف والمتصوف، الراهب والمومس، الوزراء والدببة، الكلب والحكيم ديوجين، الكلب شهيد ومرايا القصر، الفيلسوف الألماني والمعلم الياباني، المجنونان بسبب نفس المرأة، الفلاح والحكيم سائق عربة الخيول، داندامي الحكيم الهندي المجنون والأسكندر المقدوني تلميذ الفيلسوف أرسطو.
- معبّر في عنوانه عن محتوى الكتاب، فضلاً عن جاذبيته وغموضه وإثارته للفضول.
- بسيط في صورة غلافه، وإن كان يصور مركباً فارغاً كتعبير مباشر للعنوان! يا حبذا لو تم الاستعانة بصورة أكثر جاذبية في الطبعات القادمة.
- ترد بعض الأخطاء المطبعية، أذكر منها مدعمة برقم الصفحة ما يلي: ص11 بحمأيتكم: بحمايتكم / ص66 ذات مئة القدم: المئة قدم / ص77 إلى أعماقك قلبك: أعماق قلبك / ص84 أنت لا تستطيع تصنع: أنت لا تستطيع أن تصنع / ص95 طعا: طعاماً / ص114 و 116 طعا مماعدا: طعاماً ما عدا / ص161 شيءان: شيئان / ص161 سيساعدأنك: سيساعدانك / ص162 وانعدم الحياة: وانعدام / ص106 ترسل راهب لإيجاد لص: ترسل لص لإيجاد راهب / ص247 الكتاب المق قّدس: المقدس / ص251 المنطقية تعني أن النقيض هو في الحقيقة النقيض: عبارة (تعني أن النقيض) زائدة / ص280 الُمت تحدث: المتحدث / ص323 سرق الجمال: سرقة / الفصل الثامن: الصفحة الأولى مكررة.
يبقى سر التقاط (المركب الفارغ) من فوق أرفف مكتبتي الغرّاء والمجددة على الدوام .. في هذا الوقت بالتحديد، لغزاً آخر ..
لكن .. ليس كل سر يُكشف!
وكفى بمسك الختام: إنه كتاب يُشبهني.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (81) في قائمة احتوت على (105) كتاب قرأتهم عام 2020 تتضمن تسعة كتب لم أتم قراءتها، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان (100) كتاب فقط! وهو أول ما قرأت في شهر أكتوبر من بين أحد عشرة كتاب! وقد حصلت عليه من متجر جملون الإلكتروني للكتب في يوليو من نفس العام، ضمن (50) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة!.
وفي مكتبتي المتراصّة الأرفف بما عليها، زاوية .. تحوي من خزائن الحكمة ما جاد به الحكيم أوشو، منها ما قرأت ومنها ما ينتظر، غير أن الذي بين أيدينا ينهل حتى الثمالة من شلالاتها. والكتب هي: عن المرأة / كتاب المرأة: احتفالاً بروحية المرأة / الشجاعة / الإبداع / الحدس / الفهم / النضج: عودة الإنسان إلى ذاته / الحرية: شجاعتك أن تكون كما أنت / الحياة والأبدية / كتاب الحكمة / الرحلة الداخلية / الثورة لعبة العقائد / لغة الوجود: ما وراء الحياة والموت / العلاقة الحميمة: لغز العلاقة الحامية / سيكولوجية الاستنارة والأجساد السبعة / سر التجربة الداخلية: رؤية التانترا / التانترا: الروحانية والجنس / سر أسرار التانترا: تقنيات النور والظلام – أسمى من الأنا / سر أسرار التانترا: السمع والجنس – الاستنارة المفاجئة .. ويبدو أن العدد آخذ في ازدياد.
لقد كان 2020 عام الوباء الذي جاء من أعراضه الجانبية (ملازمة الدار وقراءة أكثر من مائة كتاب)! لم يكن عاماً عادياً وحسب .. بل كان عاماً مليئاً بالكمامات والكتب.
وفي هذا العام، دأبت على كتابة بعض من يوميات القراءة .. وعن هذا الكتاب، فقد قرأته في شهر (اكتوبر)، والذي كان من فعالياته كما دوّنت حينها:
“مفعم بأطياف الشعر .. لكن! هل عادت الحياة فعلاً؟ بين بين، فلا تزال أنفاس الحجر الصحي تعبق في الجو“.
تسلسل الكتاب على المدونة: 259
التعليقات