كتاب قصير في سرده عميق في مضمونه، يترجم الكثير مما تحمله مقولة (كما تكونوا يولّى عليكم) من مسئولية الإنسان في صنع أقداره! إنها حقيقة موجعة صادمة لا مفر من نكرانها، فمن سوى البشر يصنع الطغاة ومن ثم يستمرئ العبودية، حتى يُخيّل لبعضهم أنها (شرف) يُراق على جوانبها الدم؟ إن الحرية حق والعبودية اختيار، وبينهما تتجلى معادن البشر .. إما في ثورة كرامة أو في خنوع مستلذ.
يكتب (إتيان دو لا بويسي 1530 : 1563) مقالته في (العبودية الطوعية) وهو لا يزال طالباً جامعياً في الثامنة عشر من عمره، في الوقت الذي كان فيه مُحبطاً مما تسببت به الحرب الأهلية من أهوال، والتي كانت تدور رحاها بين البروتستانت والكاثوليك في فرنسا، حتى جاءت هذه المقالة كأهم أعماله على الإطلاق. ومع هذا، فقد كان كاتباً وشاعراً وقاضياً وفيلسوفاً ومفوّضاً دبلوماسياً في بلده، ينتسب إلى عائلة لها باع في القضاء. شرع في دراسة الحقوق في جامعة أورليان الفرنسية بعد أن أكمل دراسته في كلية الإنسانيات، ليتولى منصب (مستشار) في برلمان بوردو وهو في الثالثة والعشرين من عمره، أي قبل بلوغه السن القانوني لتولي هكذا منصب مرموق. ومما يجدر به الذكر أن هذه المقالة لم تُنشر إلا بعد وفاته وهو ابن اثنان وثلاثون لمرض ألمّ به، وقد اطلّع عليها من قبل صهره وصديقه الكاتب البارز (ميشيل دي مونتين) الذي تولّى نشرها فيما بعد في إحدى كتبه.
يشنّ بويسييه في هذه المقالة (Discours de la servitude volontaire – By: Étienne de La Boétie) هجوماً ضارياً على الأنظمة الديكتاتورية مؤكداً أن الشعوب وحدها هي من أعطت الطغاة السلطة المطلقة على طبق من ذهب، حين فضّلت الرقّ على الحرية والانصياع على الرفض .. في علاقة طردية بين الطاعة والطغيان! غير أنه يؤكد رغم ذلك أن هذا الامتياز الممنوح من قِبل الشعوب يسهل سحبه دون الحاجة للجوء إلى القوة والثورة.
تستقطع المقالة -التي عني بترجمتها من لغتها الأصلية الكاتب والمترجم اللبناني صالح الأشمر- نجمتين من رصيد أنجمي الخماسي، والتي أعرض مما جال في ذهني بعد قراءتها ما يلي، وباقتباس في نص ثائر (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
- يصرّ الثائر بويسييه على قول الحقيقة، وهو يواجه الشعوب المتسائلة في خضوع عمّا إذا كانت (الحرية أمر طبيعي)، إذ هو يرى أنه تساؤل لا طائل منه، وأنه لا يوجد امرئ يخضع للعبودية وهو في منأى عن الأذى، فليس في العالم بأسره ما هو أشدّ ظلماً من عداء المنطق والفطرة والطبيعة .. ويؤكد بأن الحرية أمر طبيعي تماماً لا يولد معها الإنسان فحسب، بل بشغف الدفاع عنها كذلك!
- ويستمر ليتتبع جذور هذه “الإرادة العنيدة في الإقبال على الخدمة”، والتي يظهر معها بوضوح أن عدم اكتراث الشعب لقيمة الحرية بات أمراً طبيعياً، وأن عدم شعوره بألم العبودية هو دليل على أن مرضه بات قاتله لا محالة، “حتى الطغاة أنفسهم يعجبون من قدرة الناس على احتمال رجل يسيء إليهم، وهم يحرصون على أن يضعوا الدين أمامهم ليحتموا به، ولو استطاعوا لاقتبسوا شيئاً من الألوهية لإسناد حياتهم الشريرة“. لذا، يرى بويسييه أن الشعب لو عاش وفق ما أنعمت عليه الطبيعة من حقوق وبموجب الدروس التي تمنحه إياها، لظهر مطيعاً لأهله وخاضعاً لعقله، لا لأحد سواهما .. فطاعة الوالدين أمر فطري ترشده الطبيعة، أما العقل فهو بذرة طبيعية -بصرف النظر ما إذا كان يولد بولادة الإنسان أم لا كما يناقش الفلاسفة- فإن تم رعايتها بالفضائل والنصائح والأعراف الحسنة لأزهرت، في حين أنها تذبل وتموت إذ لا طاقة لها على الصمود أمام الرذائل.
- وهو إذ يضرب مثلاً في أباطرة الرومان الذين حين نجى القليل منهم بمساعدة حرّاسهم ضد أخطار واجهوها، فإن الكثير منهم قد قُتل على أيدي المسلّحين من أولئك الحراس. فيكذّب ذلك الظن ويقول: “إن من يظن أن الرماح والحرّاس ومواقع الرصد هي التي تحمي الطغاة، يرتكب خطأ فادحاً في رأيي! فالطغاة يستخدمون هذه الأدوات، في اعتقادي، من أجل المظاهر وكفزّاعة، وليس بناءً على ثقتهم فيها. وذلك أن مهمة حملة الأقواس هي أن يمنعوا من دخول القصر ذوي الملابس الرثّة الذين لا حول لهم ولا طول، وليس أولئك الذين يستطيعون أن يشنّوا الغارة”. رغم ذلك فهو يؤكد بأن من يحمي الطاغية ويثبّت أركان سطوته ليس “فرق الخيالة ولا كتائب المشاة ولا الأسلحة”، إنما هم في الحقيقة قلة من الرجال لا يتجاوز عددهم الستة “يبقون البلاد مستعبدة له” يدنيّهم لجانبه أو يتقرّبون إليه من تلقاء أنفسهم رغبة ورهبة، فتصغى لهم آذانه “وليكونوا شركاء في فظائعه، ونداماه في لذته، وقوّاديه في شهوته، ويقاسمونه غنائم نهبه” .. وهؤلاء الحفنة هم من يتولون تدريب الطاغية على أن يكون شريراً تجاه شعبه، لا باستغلال شرّه وحده، بل مضافاً إليه شرورهم أجمعين. ومن أجل ضمان استتباب الطغيان، يتم تعيين ستمائة تحت إمرة هؤلاء الستة يصنعون بهم ما يصنعون بالطاغية من تأصيل للشر في نفوسهم بأساس متين، يتكفلّون بدورهم بعد ذلك بتعيين ستة آلاف على المقاطعات والمصالح والمرافق العامة، فيكون لهم شرعاً حق التصرّف بالمال العام، والذين بهم يستمر الطاغية وزمرته في جشعهم وفي قسوتهم يعمهون، ويستمرون في ممارسة المظالم وهم بمأمن من أي عقاب أو قانون.
- وللمفاضلة بين سمو الحرية وحضيض العبودية، يعقد بويسييه مقارنة لاذعة بين أهل البندقية وبين ما أسماهم برعايا “السلطان الأعظم .. سلطان الإمبراطورية العثمانية“. ففي حين ينشأ هؤلاء على رفض كل مباهج الحياة مقابل ذرة من حرية قد يفقدونها بحيث يصبح أقصى طموحهم هو التنافس على أعلى مستوى للحرية فيما بينهم، يولد أولئك لخدمة السلطان وحده لا شريك له وبذل النفس رخيصة في سبيل ديمومة سلطانه!. فيفترض لو أن رجلاً من هؤلاء زار أولئك “أيظن ذلك الرجل أن أهل البندقية ورعايا السلطان خُلقوا من طينة واحدة؟ أم يُخال على الأرجح أنه خرج من مدينة يسكنها البشر ودخل زريبة للبهائم؟” .. ولم يعلم بويسييه وقد عاب زريبة حصرية للبهائم عاينها وهو يعيش في القرن السادس عشر، أن الزريبة قد اتسعت والزرائب عمّت أرجاء وطن شاسع يُطلق على كائناته اسم (عرب) .. وهم في القرن الواحد والعشرين!.
- وإن بويسييه قال بـ (الأمس) قولاً لا يزال (اليوم) يردد صداه، وكأنه يصف الحال أو يتنبأ. يقول: “وكما يذهب إليه الأطباء من أن جسم الإنسان إذا شكا منه عضو فإن سائر الأعضاء تتأثر به وتنجذب إليه، كذلك ما إن يعلن ملك أنه أصبح طاغية حتى يلتف حوله ويعضده حثالة المملكة – ولا أعني رهطاً من صغار اللصوص الذين لا يرجى منهم خير ولا شر، بل أولئك الذين يتملكهم طموح جامح وجشع شديد- لكي ينالوا نصيباً من الغنيمة وليصبحوا طغاة صغاراً في ظل الطاغية الكبير”.
في قول أخير .. إن العبودية المختارة هي قبول غير المقبول، وأنه لا وجود للاستبداد دون الخضوع .. وإن الحل ممكن وهو في طوع الشعوب ورهن اختيارها!
إنه نصّ تحريضي بامتياز .. ماثل وحي ومستمر .. ومن أجمل النصوص التي مجّدت قيمة الحرية.
تم نشر المراجعة على صحيفة المشرق العراقية في 14 ديسمبر 2022 – صفحة (10)
تم نشر المرجعة على ضفة ثالثة في العربي الجديد في 26 نوفمبر 2023
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (45) ضمن قائمة من (52) كتاب قرأتهم في عام 2018 تتضمن كتابين لم أتم قراءتهما، وهو أول كتاب اقرأه في شهر ديسمبر من بين ثمانية كتب .. وقد حصلت عليه من معرض للكتاب في إحدى المدن العربية في نفس العام .. ضمن (140) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض.
ومن فعاليات الشهر: لا شيء محدد غير الحماس الذي أختم به كل عام لاستقبال عام جديد بمجموعة كتب جديدة وخبرات معرفية أعمق وأشمل.
تسلسل الكتاب على المدونة: 117
التعليقات