كتاب عادي من وجهة نظر كاتبه، لكنه قطعاً ليس كذلك لدى قارئه، أو على الأقل القارئ الشغوف باللغة العربية وما يدور وما لا يدور في فلكها! ما برح الكاتب -الذي استهوته اللغة وأطربه معابثتها- مسرفاً في الكتابة، ثائراً في الرأي والتعبير، مستفيضاً في كلمات تترى لم تسعها أعمدة الصحف ووسعها حاسوبه، حتى حان أمد سكبها على ورق فاض بدوره فتوزع على كتابين، جاء أحدهما بعنوان (هكذا أكتب) عني باللغة والإعلام والتعليم، وجاء الآخر بعنوان (هكذا أفكر) زاد عن سابقه بآراء وأفكار في مجالات أُخر.
فمن هو؟ إنه ذلك الإعلامي الذي تسع طلته الشاشة ومخارج أحرفه الأسماع وموسوعيته العَجب والإعجاب! إنه ببساطة (عارف حجاوي 1956) كاتب ومدرب وإعلامي من فلسطين، تنقّل في مهنته بين هيئة الإذاعة البريطانية وقناة الجزيرة الإخبارية ومحطة التلفزيون العربي، كما عمل كمدّرب دورات إعلامية، إضافة إلى إصداراته التي تختص باللغة والشعر والنحو، وغيرها من إصدارات أدبية وروائية وفكرية.
تمتد مقالات الكتاب على ثلاث صفحات صنّفها الإعلامي في حديث ذي ثلاث شعب، تبدو كالآتي .. وقد استنفد بها الكتاب رصيد أنجمي الخماسي كاملاً:
- عن الإعلام
- عن التعليم
- عن اللغة
ففي حديثه عن (الإعلام)، تنطح بقرة عمياء -أو تكاد- زميله البدوي الذي اجتمع ضمن وفد صحفي لسماع كلمة وزير إعلام بلد ما عقد معاهدة مع إسرائيل، وقد سمح للبقرة بنطحه حين لم يفهم كلمة مما قال الوزير، والذي ألبس كلمته بتبجح محاسن المعاهدة وتأكيدات الحق الفلسطيني معاً! وعن الجزيرة التي تميزت في رأيه بالجرأة والتوازن والصدق والسعة، فقد تصالح مع انتمائها المزدوج عربياً وإسلامياً، الانتماء الذي يفتح بالضرورة بابه مشرعاً لاحتواء صاحب الدين وصاحب القومية سوية، كالكردي الذي في أصله عربي وإسلامي، والمسيحي العربي ذو الثقافة الإسلامية، ومن سبقهم بمئات السنين من “يهود وصابئة ومسيحيون عرب كثر”. وقد عدّ نقاط قوة الجزيرة في “مقام احتفال”، متمثلة في: “الخبر الصحيح والسريع والاهتمام بالإنسان”.
أما في حديثه عن (التعليم)، فيحاول العثور في بلد عربي على معلم أسطوري، عاشق للعلم، محب للأطفال، يقرأ ويكتب ويرسم، ويتفنن في إيصال المعلومة! بيد أنه لا يعد العثور على هذا المعلم مستحيلاً طالما أن بلده ينعم بالحرية ونصب عينيه “النهوض بجيل المستقبل”. إذاً “الحرية شرط” في نظره .. وفي نظره “الحرية تعني أن المواطن يشمخ ويحس بأنه مهم”. من ناحية أخرى، وهو إذ يؤمن بالشغف المعرفي كمحرك حقيقي للتعلم، إذ حيث لا يخبو الشغف لا ينتهي العلم، فهو يحث المجتمع العربي الأخذ بكلمة الإمام علي (كرم الله وجهه): “قيمة كل امرئ ما يحسنه”، الكلمة التي يستعيد بها ذكرى والده الذي عمل خياطاً ماهراً لكنه لم يورّث صنعته لأبنائه، حيث آمن “أن أهم شيء في الدنيا الشهادة الجامعية”، وفيها صدق.
وفي خاتمة حديثه الذي جاء عن (اللغة)، يثير الإعلامي رأياً لم يزل يثير حوله النقد لاذعاً، ألا وهو التخفف من حمل النحو وتحويل الجهد نحو المفردات وإثراء اللغة “بكل ما يجعلها أقدر على التعبير”. فاللغة العربية بما تفيض من حيوية، فهي -في رأيه- مصدر خوف للناطقين غير المختصين بها، ما يحجب خيراً كثيراً من علومهم إذا ما أجبروا على التعبير بها، أو إيثار السلامة والتحدث بالعامية. فيؤكد قائلاً: “بزوال الإعراب من لغتنا سيكتب الكاتبون أفكارهم بلا قيود، وسيتحدث المتحدثون بالفصحى بانطلاق”. وبين العالم الأكبر والوجدان، تظهر اللغة الأم كأساس في استعذاب الشعر، وتذوق الطرفة، والضحك معها والبكاء، وعبادة الخالق ومناجاته، وصب حجر الأساس في صرح الإنسان اللغوي والعلمي والمعرفي .. إنها لغة الغريزة ولغة القراءة الممزوجة بالفهم والمتعة، في حين تأتي فضيلة اللغة الثانية المكتسبة في فتح أبواب العالم الرحب على مصاريعها، وقد خصّ الإعلامي (اللغة الإنجليزية) في هذه الأفضلية دوناً عن غيرها، كلغة عالمية أولى.
ومن الثلاثة، أدوّن ما راق لي وأقتبس ((مع كامل الاحترام لحقوق النشر)) إضافة إلى ما سبق من اقتباسات:
- يتطرق الإعلامي في حديثه (عن الإعلام) إلى الصحافة، فيقول في مقالة (إعلان مريض لشعوب مريضة): “الصحافة الورقية ليست وسيلة توعية. إن ماتت غداً فلن نذرف عليها دمعة. وفيها علة أخرى غير علة النقل الببغائي عن الوكالات، وعلة نشر المقالات السطحية: هي علة الثرثرة والعدول عما هو لباب إلى ما هو قشور. بعض صحف العالم حلقت في سماء الحرية، وبعضها سقط في مستنقع التفاهة، وصحفنا في بلاد العرب إذا خرجت من عباءة السلطان أحست البرد فتقفعت أصابعها، فالتمست فُرجة في هذه العباءة كي تدخل من جديد وتستدفئ“.
- ويتطرق الإعلامي في حديثه (عن التعليم) إلى “الوحي” في إشارة إلى الرغبة الحقيقية في التعليم، فيقول في مقالة (تعيش الكرتونة): “بداية التعلم نحت في الصخر؛ يفرح المرء بالقليل الذي تعلمه، ويظن أنه أتقن العلم كله، ثم يتعلم أكثر فيعرف مقدار جهله بتلك المهارة، ثم أكثر، فيدرك أنه جويهل صغير. وما زال يتعلم ويزداد إدراكا لجهله. فالتعلم خير طريقة لتعرف مقدار جهلك“.
- ويتطرق الإعلامي في حديثه (عن اللغة) إلى “التأثيل” أو فحص أصول الكلمات، فيقول في مقالة (قصة ذبابتين): “وهذه اللغات الثلاث، العربية والسريانية والعبرية، نشأت معاً، ولا يدري أحد أيها سبق. ولكن العربية تطورت وألبست كلماتها معاني جديدة وظلت حية لم تمت يوماً. فأما السريانية والعبرية فقد استراحتا قروناً، ومن هنا حفظتا لنا المعاني الأصلية في كثير من الكلمات”. ثم يؤكد عقبها: “التأثيل علم ممتع وسترى فيه الأعاجيب. لكنه علم عميق“.
ختاماً، رغم “جنون الفكرة” و “شيطان العبث” و “شبق الحرف” الذي حمل الإعلامي على تطويع اللغة العربية بين يديه، تقديراً وافتناناً واعتزازاً، لا يجرمنه على تمجيدها الاعتباط أو الحب أو الحمية، إنما كما يؤكد في مقدمة كتابه: “أحب اللغة العربية وأعتز بكتابها العظيم (القرآن)، ولكنني لا أنسى أن للآخرين لغاتهم وكتبهم المقدسة”.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (112) ضمن قائمة لا تنتهي من الكتب التي خصصتها لعام 2024، وهو في الترتيب (12) ضمن ما قرأت في أكتوبر! أما عن اقتنائه، فقد حصلت عليه من مكتبة ألف فبراير الماضي ضمن (10) كتب!
على الهامش: يزخر الكتاب بالعديد من الكتب التي أشار إليها الإعلامي في معرض حديثه المستفيض .. وقد لقت نظري عدد منها سأحرص على اقتنائها قريباً.
ومن فعاليات الشهر: لا شيء سوى مواصلة النهار بالليل في القراءة وحدها .. وكأنه حلم تحقق!
ومن الكتب التي قرأتها في هذا الشهر: إيروتيكا الشعر الصيني / تأملات في شقاء العرب / الحب هو الحقيقة الوحيدة / التدرب على السبيل: نحو حياة ذات معنى / المختطفات: شهادات من فتيات بوكو حرام
وعلى رف (الأدب) في مكتبتي، عدد كبير من الإصدارات، العربي والعالمي، يعود بعضها لمكتبة العائلة العريقة التي انضمت إلى مكتبتي .. ومنها ما نشرت على مدونتي!
تسلسل الكتاب على المدونة: 562
التعليقات