بمراوغة وسحر وشعوذة .. بل وبمجون شبِق ومبعثرات من سخرية، تروي الأساطير اليونانية -وكأنها تحاكي الوعي الجمعي للبشرية- قصة الخلق التي تقاسمتها آلهة لم تكن بالضرورة على وفاق فيما بينها، تحمل من مشيج النوايا والطبائع والغرائز والانفعالات ما لا يختلف عمّا خلقوا من خلق .. وهي أساطير تحاول تفسير الواقع المعاش من خلال أبعاد كونية سحيقة، لا محدودة ولا زمنية ولا واقعية!
ومع المعلومة التي تفيد بأن هذا الكتاب الأول ضمن ثلاثية، فإن المؤلف الإنجليزي -وهو كاتب وروائي وممثل ومخرج وليس بمؤرخ- قد أعاد رواية الميثولوجيا الإغريقية بعد قراءاته التي بدأها بكتاب (حكايات من اليونان) ووقع في حبه من أول نظرة حين وقع في يديه الصغيرتين، وقد كان طفلاً مأخوذاً بثقافات الشعوب وحكاياتها وأساطيرها .. حيث يأتي هنا لينقل ما قرأ من حكايات بدقة، لكن بذكاء، يربط الأسطورة بالواقع والرمز بالحقيقة، وبتصرف، يظهر في حوارات الأبطال .. من آلهة تموت وتحيا وربّات ذات خصوبة، وسماوات تسرح فيها أرواح وشياطين، وكواكب سيّارة وأرض غاضبة، وجبال وأنهار وحجارة، وبراكين وزلازل وعواصف رعدية، وعماليق ذوي بأس، ووحوش وبشر ودواب ومخلوقات أخرى ….، لا ينقطع بهم حبل الإثارة الموصول بالدهشة والغرائبية والغموض والبهجة التي تجري نحو المزيد .. أو كما يقول المؤلف وهو يضمّها لعنصر المتعة: “والمتعة هي الغاية والنتيجة من الانغماس الكامل في عالم الأساطير الإغريقية”.
أما عن مترجم الكتاب (Mythos: The Greek Myths Retold – By: Stephen Fry)، فقد أبدع وهو يضع ترجمة خلابة بل وعبقرية لا تقل عن عبقرية المؤلف، وهو الذي تذكر عنه شبكة المعلومات أنه روائي ومترجم مصري، يطلّ من خلال الشاشات لعرض موادّه الأدبية، ويحرص على أن يختصر اسمه الأوسط بحيث لا يُكتب اسمه كاملاً إلا بـ (محمد أ. جمال)، وذلك لتمييزه عن ملايين يحملون اسمه الأول والأخير معاً .. ومن الطريف أن تحمل مكتبتي سيرة ذاتية لطبيب إيطالي بعنوان (دموع الملح) من ترجمته لم تفرق في الإبداعية، وكتاب (البطل بألف وجه) لم اقرؤه بعد!
ومن الأساطير التي أنجبتها بإعجاز أرض اليونان الخصبة، وعجّت بها صفحة المحتويات في أول الكتاب، وتمثّلت في لوحات فنية ختمته بإبداع، والتي تعددت أبطالها، وتلاحقت أحداثها .. أنتقي نتفاً مما راق لي، وباقتباس في نص ساحر (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، وقد أحرز الكتاب ثلاثاً من رصيد أنجمي الخماسي:
- في (النظام الثاني)، يلتقي (أورانوس) السماء بأمه (جايا) الأرض .. فتنجب له من التوائم ثلاث .. عمالقة، في رأس كل واحد منهم عين واحدة، وقد أصابوا كل من رآهم برعب شديد! كان الأول (برونتس) وهو الرعد، والثاني (ستيروبيس) وهو البرق، أما الثالث (أرجيس) فكان السطوع! ثم تحدث طفرة لهؤلاء المواليد الجدد اعتبرها الوالدان بأنها لن تتكرر، إذ أصبح لكل واحد منهم خمسين رأساً ومائة يد .. يقول المؤلف: “أحبتهم جايا واشمئز منهم أورانوس! ربما كان أكثر ما روّعه فكرة أنه هو رب السماء يمكن أن تولد منه أشياء بهذه القباحة. لكن أعتقد أن كراهيته كانت كأغلب الكراهية .. متجذرة في الخوف”.
- أما (كرونوس) أصغر أبناء (جايا) الذي تجنّده للانتقام من ابنها -والذي هو زوجها أورانوس- فيقول عنهما المؤلف في (الولد الكريتي): “ربما صدرت عن كرونوس زمجرة رضا، لكن موروس، تجسيد القدر والهلاك، ابتسم مثلما يفعل دائماً عندما يستعرض الأقوياء ثقتهم بأنفسهم”.
- و (أثينا) التي جسدت أعظم صفات الدولة المدنية، ومهرت في الأعمال الحربية والحنكة السياسية، وورثت عن أمها (ميتس) الحكمة والبصيرة، وأخذت من (أفروديت) نصيباً في الجمال والحب، وتنافست مع (بوسايدون) على الرعاية الحصرية لمدينة (كيكروبيا)، فيقول عنها المؤلف في (أثينا): “أما هدية أثينا البسيطة فكانت أول شجرة زيتون. سكان كيكروبيا اكتشفوا بحكمتهم المنافع المتعددة للشجرة، ثماراً وخشباً وزيتاً، فاختاروا أثينا ربتهم الحاكمة والراعية، وغيروا اسم مدينتهم إلى أثينا تشريفاً لها”.
- وماذا عن الألعاب الأوليمبية؟! يتساءل المؤلف في (مايا مايا) ثم يجيب: “كم عدد الأوليمبيين الموجودين الآن؟ دعنا نعد الرؤوس بسرعة: على العرش يجلس زيوس، بجواره تجلس هيرا، حولهم يتناثر هستيا وبوسايدون (الذي يحب العودة إلى الأرض من حين لآخر ليراقب زيوس)، ديميتر وأفرودايتي وهيفايستوس وآريس وأثينا وأرتيميس وأبولو .. أي أحد عشر أوليمبياً”.
- وعلى ذكر أبوللو، الذي وُلد أشقراً لجدته (فيبي) اللامعة، بجمال ذهبي مشع، والذي أُطلق عليه لقب (فيبوس) أي (الساطع)، فقد كان كذلك “رب الأرقام والمنطق والتناغم والموسيقى” .. هكذا يقول المؤلف في (نصف الشقيق).
- أما في (الرب الثاني عشر)، والمعني به (هرمس) اللمّاح عقلاً ونزعة وبداهة واستجابة، فيقول عنه المؤلف: “دهاء هرمس وخداعه في سرقة ماشية أبولو، جعلاه الخيار الطبيعي لدور رب اللصوص والأوغاد والكذابين والنصابين والمقامرين والباعة الجوالين والحكائين والممازحين والرياضيين. نصيبه في الكذب والمزاح ورواية القصص جعلوا له سهماً في الأدب والشعر والخطابة والفطنة أيضاً. مهارته وبصيرته سمحتا له بالهيمنة كذلك على مجالات العلم والطب، وصار ربّ التجارة والمقايضة، وربّ الرعاة (بالطبع) والسفر والطرق”.
- ثم ماذا عن خلق الإنسان؟ فبينما يظهر (بروميثيوس) كابن من (التيتان) للزوجين (إيابتوس) و (كلايميني)، قوياً ووسيماً ووفياً وكتوماً ومتواضعاً و “ألطف صاحب يحظى به أحد”، فقد صاحبه إله الصواعق (زيوس) واستمتع كلاهما بصحبة الآخر. وبما أن كبير الآلهة قد أراد أن يصمم بنفسه “حيوانه الأليف الخاص” بحيث يكون “أذكى وأكثر ولاءً ولطفاً من حيوانات الآخرين”، فإن المؤلف يقول في (العجن والخبيز): “لا يتفق التاريخ على المكان الذي وجد فيه بروميثيوس وزيوس أفضل طين لتحقيق خطتهم! تدعي المصادر المبكرة، مثل الجغرافي باوسانياس في القرن الثاني الميلادي، أنهم جاءوا به من بانوبيوس في فوكيس. بعض الباحثين اللاحقين يقولون إن الصديقان ارتحلا عبر آسيا الصغرى وصولاً للأراضي الخصبة الممتدة بين نهري دجلة والفرات. في حين يرجح أحدث الباحثين أن البحث أخذهم جنوباً عبر البحر والنيل وخط الاستواء، حتى وصلوا شرق إفريقيا. أيا كان ما كان، فقد وجدوا في النهاية ما أعلن بروميثيوس أنها البقعة المثالية: نهر موحل تمتلئ ضفافه بالنوع المناسب من الطين والمعادن التي يحتاجها لأجل التناسق والملمس وقوة التحمل واللون”.
- وفي الحديث عن الجنس البشري، والتكاثر الطبيعي بين الذكور والإناث، وتناثرهم حول العالم بين الأمم، مؤسسين لحضارة إنسانية لا مثيل لها، فقد شيّدوا المدن والمراكب والقصور والأكواخ والمزارع والمتاجر، وخاضوا حروباً طويلة ونعموا بالدفء والسلام، وأنجبوا الحرفيين والأدباء والشعراء والملوك والعبيد، وأبرموا المعاهدات فيما بينهم، وقدموا النذور والقرابين، وأخلصوا كثيراً في عباداتهم. ثم اختارت كل مدينة لها ربّاً من بين الأرباب أو (الخالدون)، الذين لم يتحرّجوا بدورهم من التنزّل على هيئة بشر أو حيوانات، يكافئون من يتزلّف لهم ويعاقبون من يغضبهم! لكن، هنالك شر وقع على البشرية كأكبر ما كان من المصائب، وذلك منذ اللحظة التي فُتحت فيها جرة بندورا .. حيث أصبح محتم على كل إنسان أن يواجه الموت .. مفاجئاً أو بطيئاً أو عنيفاً، أو بفعل القتل أو المرض أو بأمر إلهي لا رجعة فيه! يقول المؤلف في (الموت): “هكذا أصبح الموت ثابتاً في الحياة البشرية، وهكذا يظل إلى يومنا هذا. لكن من المهم استيعاب أن العصر الفضي كان مختلفا كثيراً عن عالمنا .. الآلهة وأنصاف الآلهة والخالدون من كل نوع كانوا لا يزالون يتجولون بين الناس، التواصل الشخصي والاجتماعي، وحتى الجنسي، مع الآلهة كان أمراً معتاداً بالنسبة لرجال ونساء العصر الفضي مثلما نعتاد نحن على التعامل مع الآلات ومساعدي الذكاء الاصطناعي اليوم، بل اسمح لي أن أقول إن التواصل مع الآلهة كان أمتع بكثير”.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (84) ضمن قائمة لا تنتهي من الكتب التي خصصتها لعام 2024، والذي أرجو أن يكون استثنائياً في جودة الكتب التي سأحظى بقراءتها خلاله، وهو الرابع ضمن قراءات شهر أغسطس .. وقد حصلت عليه من معرض للكتاب في إحدى المدن العربية العام الماضي ضمن (400) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض. في الحقيقة، جاء كترشيح قوي من البائع في دار النشر، والذي أهدانيه مشكوراً.
ومن فعاليات الشهر: لا شيء سوى مواصلة النهار بالليل في القراءة وحدها .. وكأنه حلم تحقق!
ومن الكتب التي قرأتها في هذا الشهر: أسلافنا العرب: ما تدين به اللغة الفرنسية لهم / قضية فلسطين: أسئلة الحقيقة والعدالة / الطوفان: الحرب على فلسطين في غزة / بيت لحم والمسيح في كاريكاتير ناجي العلي
وعلى رف (الثقافة والحضارة) في مكتبتي عدد يقارب (80) كتاب، بعضها قديم .. أذكر منها: (أعظم الأخطاء في التاريخ) – تأليف: أوديت نحاس / (فضائح القرن العشرين) – تأليف: رياض العبدالله / (لغة آدم: عطاء أبدي لبني آدم) – تأليف: محمد رشيد / (كلمات من الحضارة) – تأليف: د. منصور عيد / (أشهر المحاكمات في التاريخ) – تأليف: قدري قلعجي / (الأمثال الشعبية الشامية) – تأليف: نزار الأسود / (الأمثال الشعبية المصرية) – تأليف: سامية عطا الله / (أوروبا: إلى أين؟) – تأليف: يوسف فرنسيس / (حضارة بابل وآشور) – تأليف: غوستاف لوبون / (مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة) – تأليف: جورج طرابيشي / (غذاء للقبطي: دروس من المطبخ القبطي) – تأليف: شارل عقل / (الانسداد التاريخي: لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي؟) – تأليف: هاشم صالح / (فرانك لويد رايت: جني بغداد) – تأليف: موفق جواد الطائي / (المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة) – تأليف: ماهر الشريف / (دم فاسد: أسرار وأكاذيب شركة ناشئة في وادي السيليكون) – تأليف: جون كاريرو / (مذكرات بيت بغدادي: عندما تروي البيوت حكاياتها) – تأليف: تمارا شاكر / (أسطورة التكوين: الثقافة الإسرائيلية الملفقة) – تأليف: أنطوان شلحت / (خرافة التقدم والتخلف: العرب والحضارة الغربية في مستهل القرن الواحد والعشرين) – تأليف: جلال أمين / (ثروة الأمم) – تأليف: آدم سميث / (حضارة الموجة الثالثة) – تأليف: إلفن توفلر
تسلسل الكتاب على المدونة: 534
التعليقات