هنا حديث يطول ويطول عن (الصمت) الذي يبدو أن الصبر قد فاض بصمته فانهمر بلا حدود!
يبدو أن الأمر كذلك، فقد ضاق (الطبيب والفيلسوف الألماني ماكس بيكارد 1888 : 1965) ذرعاً بالعواصف الفكرية التي تعتمل في عقل إنسان الثورة الصناعية، والذي ترجمه بثرثرة لا تتوقف أفقدته الهدوء النفسي والسلام الروحي والخلوة مع الإله، كنتيجة حتمية! غير أن الفلسفة التي تعاطى بها الفيلسوف قد غاصت في قاع محيط الصمت وغرقت فيه .. وفضلاً عن إبهام المعنى والتكرار، فقد تم نقل فلسفته من لغتها الأصلية إلى لغة أجنبية أخرى ومن ثم إلى اللغة العربية، الأمر الذي زاد في تعقيدها، مع الأخذ بعين الاعتبار صعوبة الفلسفة عموماً كعلم يأخذ بجوهر الأمور لا بظواهرها وحسب! لا يمنع هذا القول من أن فلسفته جاءت بمقتطفات حكيمة تخدم الإنسان والحياة والتاريخ والأشياء واللغة والمعرفة وقيم الأمل والحب والإيمان ……!
يؤكد المترجم في مقدمة الكتاب التي جاءت بعنوان (جوهر الصمت هو مصالحة التناقضات)، بأن القضايا الحساسة التي تبناها الفيلسوف هي أصل تميّز فكره وأعماله! وهو إذ يكاد يجزم بأن هذا العمل المترجم عن الفيلسوف هو الأول ضمن المكتبة العربية، يوضح طرفي المعادلة الشاقة في حياة الإنسان الحديث “مسئولية محتومة وإمكانية أن يختار”، والتي سعى الفيلسوف جاهداً في حياته المقاربة بينهما، إذ ما الشقاء المتتالي الذي لحق به سوى “نتيجة منطقية لانعدام التوازن بين الطرفين”. فمع غياب الانسجام بين تحديات العالم الخارجي وبين عالمه الداخلي المتطلع للسلام، لا سيما في خضم الحروب المشتعلة وصعود الأنظمة الديكتاتورية وتكالب الخراب والدمار على حضارة شيدها وورثها وعاش في كنفها، يتزعزع ذلك المستوى من التوازن اللازم بين الخارج والداخل لديه، ويتسبب خراب المدن بالتالي خراب الروح وإصابة جوهر الإنسان في مقتل!.
ومن الكتاب الذي جاء في ترجمة احترافية عن (The World of Silence – By: Max Picard)، لكنه لم ينل سوى واحدة من رصيد أنجمي الخماسي، حيث توقفت قبل بلوغ الصفحة المائة منه .. أقتطف شذرات حكيمة، وباقتباس في نص هادئ (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
- يتحدث الفيلسوف عن انفصال ليس كغيره .. انفصال بين الإنسان وإلهه، وهو “الهروب من الله” الذي اختاره الإنسان بإرادته، فتسبب له بتلك الحالة من التشرذم النفسي والضياع واللاطمأنينة وافتقاد السلام الروحي. ينقل المترجم هذا الانفصال من (الانفصام بين البشر والله أو الهروب من الله) قائلاً عنه: “في عالم الإيمان هناك رابط حميمي بين الصمت والإيمان. فمجال الصمت ومجال الإيمان ينتميان إلى بعضهما. الصمت هو الأساس الطبيعي، الذي يقوم عليه الإيمان فوق الطبيعي، إلا أن هذه الحميمية تفقد طبيعتها في عالم الهروب من الله، ويخيّم بدلاً من ذلك الصخب والصراخ والتشرذم أيضاً”.
- واستكمالاً لهذه المعاني الروحانية، يجد الفيلسوف الحقيقة في الصمت كما يجدها في اللغة .. وبينما تكون الحقيقة “حيادية وهاجعة” في الصمت، فهي تظهر “يقظة جداً” في اللغة. بيد أن الحقيقة تتلبس الموضوعية ضمن منطق اللغة، لذا يحظى الإنسان عبر هذه اللغة بمكانة مرموقة، إذ هي تعبّر بشكل أتم من الإنسان ذاته .. غير أن عدم قدرته أحياناً التعبير عن كامل الحقيقة بالكلمات -كطبيعة متأصلة في تكوينه- يُصيبه بالأسى “وينتشر الحزن من كلمة إلى الصمت الذي ينغمر فيه للراحة والنسيان”. ثم يضرب الفيلسوف مثلاً قائلاً في (الصمت واللغة والحقيقة): “كان المسيح وحده قادراً على ملء الكلام بالحقيقة حتى الطفح. ولهذا السبب لا تكون كلماته كئيبة: ففيه فضاء اللغة ليس مملوءاً إلا بالحقيقة .. ليس هناك مكان متروك للأسى أو للكآبة”.
- إن الصمت يلد الكلام لا محالة .. كما لو أن الصمت البليغ يوشك على الانفجار إذا هو “لم يكن قادراً على التدفق في كلام” .. وكما لو أن الصمت يأتي بمثابة مبرر للكلام الذي ينبثق عنه. وكما أن في كل صمت كلمة منطوقة ما تدل على سلطة الصمت الخلّاق للكلمة، فإن في كل كلمة شيء صامت يُستدل به على أصالة الكلام. وللتوضيح في هذا المعنى، يقول الفيلسوف في (الصمت كأصل للكلام): “ليس قبل أن يتحدث الإنسان إلى آخر، حتى عرف أن الكلام لم يعد ينتمي إلى الصمت بل إلى الإنسان. إنه يتعلّمه من خلال (قول) الـ أنت لشخص آخر، لأن الكلمة تنتمي في البداية من خلال الـ أنت إلى الإنسان، ولم تعد (تنتمي) إلى الصمت. عندما يتحدث شخصان إلى بعضهما، فإن شخصاً ثالثاً يكون على الدوام، حاضراً: الصمت يصغي. ذلك هو ما يمنح اتساعاً للمحادثة: عندما لا تتحرّك الكلمات داخل الحيز الضيق المشغول من قبل شخصين متحدّثين فحسب، بل تأتي من البعيد، من المكان حيثما يصغي الصمت. ذلك يمنح الكلمات كمالاً جديداً. لكن ليس ذلك فقط: الكلمات تكون منطوقة كأنها كانت من الصمت، من ذلك الشخص الثالث، ويستقبل المستمع أكثر مما يستطيع المتحدث وحده قادراً على تقديمه. الصمت هو المتحدّث الثالث في مثل هذه المحادثة. يكون ختام المحاورات الأفلاطونية دائماً كما لو كان الصمت ذاته يتحدث. يبدو أن الأشخاص الذين كانوا يتحدثون صاروا مستمعين إلى الصمت”.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (41) ضمن قائمة لا تنتهي من الكتب التي خصصتها لعام 2024، والذي أرجو أن يكون استثنائياً بحق في جودة الكتب التي سأحظى بقراءتها خلاله، وهو في الترتيب (11) ضمن قراءات شهر ابريل الذي قرأت فيه (13) كتاب. وعن اقتنائه، فقد حصلت عليه من معرض للكتاب بإحدى المدن العربية عام 2020 ضمن (90) كتاب، كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض.
وعلى رف (المنطق والفلسفة) في مكتبتي، عدد يتجاوز (110) من الإصدارات، آخذ في الزيادة .. أذكر منها: (هكذا تكلم زرادشت) – تأليف: فريدريك نيتشه / (ابن رشد والرشدية) – تأليف: إرنست رينان / (التأملات في الفلسفة الأولى) – تأليف: ديكارت / (نقد العقل الكلبي) – تأليف: بيتر سلوتردايك / (أنثوية العلم: العلم من منظور الفلسفة النسوية) – تأليف: ليندا جين شيفرد / (على مرتفعات اليأس) – تأليف: إميل سيوران / (المذاهب الوجودية من كيركجورد الي جان بول سارتر) – تأليف: ريجيس جوليفيه / (إرادة الاعتقاد) – تأليف: وليم جيمس / (المرض طريق الموات: عرض مسيحي نفسي للتنوير والبناء) – تأليف: سورين كيركجارد / (رسائل من المنفى) – تأليف: لوكيوس سينيكا / (التفكير الناقد: طرح الأسئلة المناسبة) – تأليف: نبيل براون / (تاريخ الشك) – تأليف: جينيفر مايكل / (الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة) – تأليف: أبو الوليد محمد بن رشد / (دلالة الحائرين) – تأليف: موسى بن ميمون القرطبي الأندلسي / (التأملات) – تأليف: ماركوس أوريليوس / (الميتافيزيقا: ما وراء الطبيعة) – تأليف: أرسطوطاليس / (المعجزة السبينوزية: فلسفة لإنارة حياتنا) – تأليف: فريدريك لونوار / (تحليل العقل) – تأليف: برتراند راسل / (عزاءات الفلسفة: كيف تساعدنا الفلسفة في الحياة) – تأليف: آلان دو بوتون / (All About Greek Philosophy) – تأليف: Don Domonkos
من فعاليات الشهر: يقابله في العام الهجري 1445 ما تبقى من شهر رمضان المبارك وعيد الفطر في العاشر منه .. وفي هذا الشهر عادة انقطع عن القراءة، غير أنني تمكّنت في هذا العام من استقطاع وقتاً يسيراً للقراءة، وكان مثمراً.
تسلسل الكتاب على المدونة: 491
التعليقات