الكتاب
أجمع الذكريات كي أموت: 32 شاعرا برتغاليا معاصرا
المؤلف
المترجم/المحقق
اسكندر حبش
دار النشر
منشورات الجمل
الطبعة
(1) 2015
عدد الصفحات
183
النوع
ورقي
تاريخ القراءة
02/26/2019
التصنيف
الموضوع
شعر برتغالي يكتبه سويداء القلب
درجة التقييم

أجمع الذكريات كي أموت: 32 شاعرا برتغاليا معاصرا

البرتغال .. أرض الشعراء، كانت وما زالت! لم يكن الشاعر والأديب والفيلسوف فرناندو بيسوا والمصنّف عالمياً ضمن أبرز الشخصيات الأدبية في القرن العشرين، أعظم شعراء البرتغال كما قد يتراءى للناظر من الخارج، وإن كان يملك الاسم الأكثر حضوراً فوق خارطة الشعر البرتغالي، إذ أن البرتغال “بلد شعري بامتياز”، والذي تحتل الدواوين الشعرية لأي دار نشر متوسطة فيه ما يعادل النصف من إصداراتها السنوية، وهي تُطبع عادة في حوالي ثلاثة آلاف نسخة تنفذ في غضون أسابيع معدودة من طرحها في المكتبات.

يقدّم هذا الكتاب لمحة عن جيل من الشعراء البرتغاليين الذين ساهموا في وسم الحداثة الشعرية البرتغالية، جنباً إلى جنب مع شاعرها الأول بيسوا، حيث يعتقد أحد نقّادهم بأن البرتغال باتت تخوض عصراً ذهبياً وتنوعاً شعرياً مذهلاً يزخر بطليعة من الشعراء الذين فرضوا أسمائهم على الساحة الأدبية العريضة، لا سيما في ظل سيادة حرية التعبير التي لم تستطع أي قوى سياسية منعها أو إعاقتها. رغم ذلك، ثمة تساؤل عميق يطرحه النقّاد البرتغاليون حول مدى تمكّن الشعر البرتغالي من “التخلص من عقدة فرناندو بيسوا”، وهو الشاعر الكبير الذي صاغ قارة شعرية ورسم خارطته الشخصية فوقها بتميّز، جعلت الشعراء الذين جاءوا من بعده يسيرون وفق دروبها، فضلاً عن حضوره في أسماء متعددة اخترعها وكتب من خلالها، وتحت أجواء شعرية استمر تأثيرها طويلاً. إلا أن إصرار الشعراء المعاصرين في مجاوزة حدود خارطة بيسوا، أمثال جورجي دوسينا وكارلوس دو أوليفييرا وصوفيا دوميللو، ولسان حال أحدهم يقول: (لن أعيش في جلباب بيسوا)، قد ساهم في استحداث تيارات كتابية مختلفة، تتجاوز القديم دون أن تلغيه .. “وكل ذلك في مناخ برتغالي يعشق الشعر ويقرأه”.

يشير الكتاب إلى لون فلسفي خاص يصطبغ به الشعر البرتغالي، تحوم أطيافه حول (السوداد Saudade)، أو تلك الحالة الوجدانية التي تحمل من الحنين أعمقه وتستمر في لوعة حزن ممتد، ليس على ما مضى وحسب، بل على ما سيأتي أيضاً، قد تقود إلى الفرح في نهاية المطاف جرّاء التعايش والتسليم. تتقاطع الكلمة كذلك مع معنى (النوستالجيا Nostalgia) التي تصف حالة الاكتئاب المصاحبة لمريض الغربة وحنينه للمنازل، وهي لفظة أقرب لأن تكون مرادفة لكلمة (السويداء) في اللغة العربية، كتعبير (سويداء القلب) الذي يعني بدواخل القلب وعمقه ومهجته.

يعرض الكتاب مجموعة شعرية لاثنان وثلاثون شاعراً برتغالياً معاصراً، عني المترجم والصحفي والشاعر اللبناني (إسكندر حبش) باختيارهم من أجل تقديم لوحة بانورامية متكاملة -قدر المستطاع- عن الشعر البرتغالي للقارئ العربي، لا سيما في ظل افتقار المكتبة العربية للترجمات الوافية في الأدب البرتغالي ككل.

وبينما تطوف كلمات تلك القصائد حول شموع (السوداد) لتلهب الحنين وتحرق الأمل، تبدو الأشعار في مجملها وكأنها تستعصي على الإدراك المباشر لمعانيها الأكثر من خفيّة، إما لأنها تتطلب ملكة شعرية خاصة لفهم طبيعتها التي يكتنفها الغموض، والطابع التخيلي المكثّف، أو لعرضها الجانب الصوفي المميز للشعر البرتغالي، أو في الكثير من الرثاء والتهكم والسوداوية الباعثة على التساؤل. والمترجم إذ يفرد الصفحات الأولى للكتاب في الحديث حول (ما بعد بيسوا)، يستهل كمقدمة بأبيات له، تعكس عتمة الروح وتتلمّس مبعث النور، حيث قال: “متى سينتهي هذا الليل الداخلي .. متى سينتهي هذا الكون .. وأنا وروحي .. متى سأرى نهاري .. متى سأنتبه أنني استيقظت”.

على هذا، يحظى الكتاب بنجمتين فقط من رصيد أنجمي الخماسي .. وودت لو زادت، وقد طابت لي أرض البرتغال التي زرتها مراراً بعد زيارتي الأولى لها، وهي لا تزال تحمل العبق العربي-الإسلامي في تراثياتها. وباقتباس في نص شجي، أسرد في الأسطر التالية ما راق لي من أروقة الشعر (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):

  • ينظم (فيتورينو نيميزبو) قصيدته (من وقت إلى آخر)، التي حمل أحد مقاطعها عنوان الكتاب، بفلسفة وجودية تبدو تشاؤمية، عن سر الموت الذي لم يتمكن أحد من معرفة ماهيته، ولا الحياة التي رغم تكلفتها الباهظة لا يحيا هو فيها ولا يموت ولا يغدو فيها ولا يعود .. كقشة منسية يحملها عصفور جوال بين ريشه. فيقول:

“من وقت إلى آخر .. أجمع الذكريات كي أموت

لا أحب الرحيل بدون شيء

ذات يوم ستأتي الحياة إلينا .. من ثم ترحل:

الحياة .. التي ليست هذه الحرارة الهاربة فيّ

ولكن يداً ماهرة: تحملنا

والموت يعني أن نُحمل”

  • لا يختلف (ميغيل تورغا) عن سابقه في الظلامية التي عاش بها وحانت معها نهايته، فهو يأسى للهيئة التي يموت عليها عندما وصفها بـ “خراب إنساني”، حيث جسده العاجز وروحه الكسيحة، والموت يدّب في جميع حواسه وأعضائه .. وتلك الأحلام التي حلم بها، يندبها الآن وقد تلاشت بقانون القدر الذي لم يرغب لها أن تكتمل رغم نضاله. يقول في قصيدته (جنّاز لراحة نفسي) وهو يغبط النهر المتدفق بنشوة نحو البحر ليخلّد سعيه الماضي -الذي لم يذهب سدى كسعيه- في الأبدية:

“سعيد هو النهر الذاهب إلى البحر

ليرمي نفسه

وبعد ذاك، في المحيط الواسع

ليؤبد بهاء تدفقه كنهر”

  • أما وهو يتحدث إلى حبيبته في صيغة المحبوب تحت عنوان (البرتغال)، وهي إذ أعطته وجهاً أعاده إليها في شكل “أكثر واقعية”، يصارحها بأنها ستكون دائماً كما هو عليه .. ملامح من حرية “رُسمت على البحر” .. أو كما قال:

“أتأرجح وأبقى ثابتاً

أحفر .. أجدف .. أتخيل

وأكتشف قدري في الضباب

الذي أعرفه مسبقاً:

أنا مغامر الوهم العنيد

لا أستمع على منطق الزمن والقدر

باحثاً دون أن أجد مطلقاً ما أبحث عنه

منفي

على مصطبة المستقبل

أعلى مما كنت عليه في الماضي”

  • تبدو أحلام (روي سيناتي) بعيدة المنال وهو يصبو إلى محبوبته، التي إن لم يكن إلى وصلها من سبيل، فثمة ذاك النفس العليل الذي يداعبّ محيا وجهها كافياً لأن يُحيه، كالندى الذي يتدفق فوق الزهر فجراً، أو كما تمنى في قصيدته (أن أمسك بين يدي) قائلاً:

“أن أمسك بين يدي النفس الناعم الذي يلامس فمك

أن أحمله إلى شفتي من أجل قبلة شبيهة بتلك التي يعطيها بخجل

ذلك الذي ينحني ليستمع إلى تدفق الندى فوق زهور الفجر”

  • غير أن (جوزيه باتيستا) وهو يبدو على عكس سابقه -الذي كان يتفقّد محبوبته في ندى الفجر وفي أنفاس نواعم- يحظى بمعية محبوبته تحت سقف واحد، إلا أن الصمت قد أطبق على صوتها، إذ مرّ عصفور قادم من تحت المطر ذات ليلة حزينة وسكن قلبها، حتى أصبح صوتها أنيناً أشبه بمعدن ناعم، أو شفرة يحملها قلب ذاك العصفور. هل ماتت محبوبته وبقي طيفها يحدثه ولا يجيب، أم أنها تحيا معه جسداً ولا تحدّثه لخصام ما طال أمده؟ يقول في (صمت):

“ذات ليلة

وكأن العالم أصبح حزيناً جداً

مر عصفور المطر ودخل إلى قلبك

وهنا .. مثل أنين

نسمع هذا الصوت الأليم .. الذي كان صوتك

الشبيه بمعدن ناعم

شفرة في قلب العصفور

اليوم

لم يعد الهواء يحرك حتى ستائر المنزل هذا

الصمت مثل حجر ضخم موضوع على حنجرتك”

  • وفي قصيدة (منفى)، يبدو أن ذكرى الغزو الفرنسي للبرتغال في القرن التاسع عشر، تهيّج عاطفة (مانويل أليغري) الذي يصوّر أسرى من بني جلدته سارحين أمام نهر السين وهو يشق باريس إلى شطرين، حيث تأخذهم أمواجه نحو نهر التاغو الذي يشق بدوره لشبونة عاصمة وطنهم .. نحو شجر الصفصاف، نحو القرى والدمع والريح، ورائحة الخبز من على الشرفات المغطاة بملابس بيضاء تجف تحت إيقاع الموسيقى .. تحت المنازل، حيث هناك الأم والأب والجدات .. حيث هناك ثمة وطن عزيز. يقول:

“على ضفة نهر السين، كنا عشرين شخصاً أو ثلاثين

عيوننا تبحر فوق مجرى المياه

باحثة عن التاجو في مياه السين

باحثة عن الصفصاف عن ضفاف الريح

بلد الدموع، بلاد القرى

المتكورة في هضاب الغسق

باحثة عن البحر

على ضفة السين كنا عشرين شخصاً أو ثلاثين

جالسين

كان هناك شارع، منزل

سلة كرز على الطاولة

رائحة الخبز الشهية، غسيل أبيض

يجف على شرفة

كان هناك وطن

كانت هناك حائكات تحت الأرض

ينسجن الربيه في كوامبرا

أنطونيو وغيتاره

الذي اشتعل بين أصابعه

أختي التي كانت تسكن هذا الإيقاع

أمي التي كانت تطرز (وأحياناً، ربما كانت تحلم)

والدي الذي كان يرحل منتشياً

إلى بلاد الموسيقى، وجدتي

التي تثابر على تنشق الهواء، مثلي

كان هناك منزل

كان هناك وطن

على ضفة السين كنا عشرين شخصاً أو ثلاثين

الريح تغني

نغماً غريباً

وعيوننا تبحر فوق مجرى المياه”

ختاماً، أسترجع تعريف أحد أصدقائي البرتغاليين لـ (السوداد) عندما قصدته للاستيضاح بعد قراءة الكتاب، والذي لم يعتبرها كلمة في حد ذاتها أكثر من كونها تعبير يصف حالة ذهنية وروحية أصعب من أن تُسمى أو تُترجم .. اعتقد أنها كما قال!

 

تم نشر مراجعة الكتاب على ضفة ثالثة في جريدة العربي الجديد

 

= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =

من الذاكرة: جاء تسلسل الديوان (10) في قائمة ضمت (85) كتاب قرأتهم عام 2019 تتضمن أربعة كتب لم أتم قراءتها، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان (80) كتاب فقط! وهو رابع كتاب اقرأه في شهر فبراير من بين ستة كتب. وقد حصلت عليه من معرض للكتاب في إحدى المدن العربية عام 2018 ضمن (140) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض.

تسلسل الديوان على المدونة: 60

تاريخ النشر: يوليو 24, 2021

عدد القراءات:1157 قراءة

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *