الكتاب
عفة القلب: مريم العذراء
المؤلف
الكتاب باللغة الأصلية
İffete Kalp - By: Nuriye Çeleğen
المترجم/المحقق
محمد عبدالقادر عبدللي
دار النشر
دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع
الطبعة
(1) 2022
عدد الصفحات
230
النوع
ورقي
تاريخ القراءة
12/09/2023
التصنيف
الموضوع
العذراء والمسيح في تجليات صوفية
درجة التقييم

عفة القلب: مريم العذراء

وكأن هالة البتول أحاطت بالمكان والزمان عبر أسرار مُنحت لقلب فلم يُسرّها!

ليس القلب هو القلب قبل هذه اللطائف المروية وبعدها.. وإن من الفتوحات الربانية لا تحظى بها إلا المرأة حين يتكشّف لقلبها بعض أنوار الغيب، فتحدّث عن المرأة في أجلّ ما يحمل كل تعبير من معاني العفة والطُهر والزهد والانقطاع عما سوى الله.

تستلهم الروائية من قصة السيدة مريم ابنة عمران -أم المسيح عليهما السلام- ما لم يخطر على قلب بشر، في تصوير الجمال والجلال وفناء القلب حيّاً في ملكوت الله، وهي تستشعر ما كان يخطر على الفؤاد من لطائف، وكيف كان سحرها يعمل عمله على الجوارح، والألم الذي تكبّده كل من اختُص بتلك النفحات الإلهية.. اصفياء الله وخلصائه، وهم في مواجهة قومهم الذين لا يعلمون.. وكل ذلك في لغة عذبة قلّما يستنطقها لسان بشر، ما لم يترقَ في نور المسالك الربانية، كما فعلت الروائية وكما حباها الله من بركة فتحه ولدن علمه.

وعن الكاتبة شفيفة القلب، فهي روائية تركية، درست اللغة التركية وآدابها في جامعة مرمرة، وحصلت على ماجستير الأدب التركي الإسلامي في كلية الشريعة من نفس الجامعة، وعملت كمعلمة للأدب. أصدرت عدد من الروايات التي تمتح من النفحات الصوفية ما يأسر القلب ويأخذ باللب .. وإن في بيانها لسحرا.

وعن مريم أم المسيح، ولقبها المصون بـ (العذراء)، فهي تحظى في التراث الديني (الإسلامي والمسيحي) عند العرب بمرادف آخر في فضيلة العفة، وهو (البتول). ففي اللغة، هي المرأة العذراء المنقطعة عن الزواج، المتعففة لله، وقد جاءت في حق السيد مريم لأفضليتها على نساء زمانها وعلى نساء العالمين، في العفاف وفي الحسب وفي الدين وفي الانقطاع عن الدنيا تبتّلاً لله وحده.. وقد جاءت على صيغة (فعول) للمبالغة.

تصف (عفة القلب) ثلاثة كلمات رفيعة .. تنطق الأولى أم مريم، وتنطق الثانية خالتها، وتنطق الثالثة مريم كمسك ختامها .. ويتدفق عن كل كلمة سيل من درر، أحرى بالسحر أن ينحني لها. وهي فيما يلي:

الفصل الأول: كلام حنة

﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾

وفي دررها: السراج / الأم / نذر القلب / جوهر الأمل / الفراق / در اليتيم / فتاة / على نية الذكر

الفصل الثاني: كلام إيشاع

﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾

وفي دررها: اللطيمة / قدر القلم / الانفصال

الفصل الثالث: كلام مريم

﴿ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾

وفي دررها: نباتاً إلهياً / إشراقة / ظالم / المحراب / مقام الصدق / المحدثة / عظام هشة / ستارة / عفة القلب / محصنة الفرج / الزهرة التي في النار / بشرى / نفخ جوهر الكون / حمل إلهي / النميمة / ابن العم / أخوة فلب يوسف / شب (ليلة) يلدا / الليل / الفرار / ميلاد / التمر / نجم المسيح / أربعون / الإمساك عن الكلام / هجر القدس / الذكر الجهري / أيام مصر / الحج / حصور شابين / الخلوة والزهد / السموات تتحدث / حيلة الشفاء / المسافر / طبق من فضة / قائد الفدائيين / الطعام / معجزة العفة / فتاة صغيرة / التراب ينبعث / الافتراء والخنازير / كان الوقت مساء / شابان من الخوف والرجاء / أنا أم يا رب / القدس باب العرش / تركة الملائكة / ذروة الزهد / دموع أم / يا أيها الناس / دموع البشرى

لقد كان لافتاً أن يأتي عنوان الرواية باللغة التركية (İffete Kalp – By: Nuriye Çeleğen) مرادفاً للغة العربية. وعن الترجمة الأخاذة، فقد عني بها المترجم السوري (محمد عبدالقادر عبدللي 1957 : 2017)، والذي عُرف كذلك ككاتب وفنان وباحث في الشأن التركي، كما عمل كأستاذ للغة العربية في جامعة أنقرة بعد حصوله على درجة الماجستير منها، وقد درس فيها ابتداءً اللغة التركية. لقد تفرّد المترجم بترجمة أعمال أعلام الأدب التركي إلى العربية، مثل أورهان باموق وعزيز نسين وناظم حكمت وإليف شفق، حيث أثرى المكتبة العربية بما يقارب خمس وخمسين كتاب مترجماً في إبداعاتهم الأدبية. بالإضافة إلى مقالاته النقدية في الفنون التشكيلية والأمور الثقافية والأدب الساخر، وترجمته للكثير من المقالات والقصائد والأعمال السينمائية والدرامية.

ومن جميل النص والتعبير والخاطرة المتدفقة بلا نفاد، أقتطف مما علق في روحي بعد القراءة، وباقتباس في نص عذب (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) .. وقد حصدت الرواية رصيد أنجمي الخماسي كاملاً ولم تُبقِ:

  • في (الأم) .. تصف حنّا امرأة عمران الأمومة التي تجثم على صدر كل امرأة حين تفقدها “القهر في داخلي بئر عميقة، والأمومة سبيكة حديدية تُطبق على صدري” .. ويصوّر لها الشوق، طفلاً ينمو في داخلها “في عاطفتي ثمة طفل يتدحرج، كلما قال أمي تشوّقت أكثر إلى الطفل الذي في داخلي، وإلى الأمومة في أنثاي” .. وهو يبكي وتلمس يداه الصغيرتان قلبها “ثمة طفل يبكي داخلي. تحك يده الناعمتان قلبي. اتضح أن كل أنثى تولد أماً”. وكما تأتي العزائم على قدر أهل العزم، فلم ترغب حنّا بطفل سوى لنذره لله “يا عمران الله هو مُعيني. لا أريد طفلاً يساعدني، بل أريده لأقدمه هبة لربي. إن أنجبت ولداً فسوف أمنحه لبيت المقدس. سوف أقدمه أضحية لربي. نظر إلي عمران، ونظرت أنا إلى القدر. تصطف الكلمات قبل خروجها لدى أولئك الذين يدركون سر التوكل”.
  • وفي (نذر القلب) .. تجد حنّا نفسها وزوجها كبيران وقد أصبحت حامل “الحامل تعني المحاطة بالخصوصية. الحامل تعني المحمّلة باسم الله الحي .. تعني حاملة سر إلهي” .. وعندما كانت حنّا تقضي وقتها في قراءة التوراة والزبور في بيت المقدس وفي معبد جدها سليمان، فكّرت في اسم الطفل الذي تحمله “كان يجب أن يحمل اسمه معنى العبادة. وقع اسمه في قلبي قبل ذاته. حملت هذا الاسم داخلي لسنوات. هديتي التي سوف أقدمها إليه .. ينبوع عاطفتي .. وردتي المحتشمة .. قلبي المنذور .. زهرتي في الآخرة .. كثير العبادة .. مريم”. لم يسلم الزوجان من الأقاويل، عن عمريهما وعن الأمر الغريب الذي يحوط بالحمل نفسه “وهل هذا ممكن؟ إنه سيدنا المسيح الذي سوف يأتي قريباً .. نعم هو! ممن يمكن أن يكون غير حنّة وعمران؟ سوف يولد المسيح من امرأة عذراء”.
  • وفي (جوهر الأمل) .. لا تتسع نفس حنّا لسرّها، فتبوح لعمران نذر طفلهما لبيت المقدس .. فيتصرف عمران باعتدال أمام انفعالها “يُعظّم الرجل إذا ما لبس قفطان الجمال فوق قميص الجلال، وابتلع غضبه بصبر، وعامل المرأة بعطف. في ذلك الوقت فقط تحترم المرأة رجلها”.
  • وفي (الفراق) .. تسترجع حنّا قرية الناصرة عند احتضار عمران، وقرارهما بالرحيل إلى القدس على رؤيا رأى فيه نفسه يخدم في معبد سليمان ويحرق الأبخرة .. وفي الصباح، يخلع عمران سترة الموت ويرتدي قميص الخلود “اقتحمت رياح الفراق قلبي. سقط في التراب مثل ورقة الخريف. لم يستطع رؤية طفله. لم نتمكن معاً من حمل طفلنا الذي تضرّعنا لأجله سوية”.
  • وفي (در اليتيم) .. تهرع القابلات السبع مع إيشاع نحو حنّا، يبدون لها وهن يتلين الأدعية وكأنهن يحملن مفاتيح السموات السبع، وكأن السموات السبع والأراضي السبع فُتحت أمامها، ثم يُشرق البيت بإشراقة مختلفة “جاء المسافر من عالم الأرواح عن طريق جسر الصراط المسمى أماً”. تسبّح حنّا بـ (يا خلاق يا حي يا محيي يا رحيم يا ودود) “الولادة فرصة ممنوحة للأم لإدراك يقينها بالله. كان ذلك الوقت هو وقت إدراك تجلّي أسماء الله في الأنثى. كان طفلي يُرسل من عالم آخر. شعرت بنفسي كالبرزخ .. تعلّقت بالمُرسِل”. كانت حنّا تسبح الله تسعة أشهر ليُبعد الشيطان، فلا ينبغي له رؤية هذه اللحظة الروحانية “وأدركت تسبيحاتي اليقين”. يقول ﷺ: “ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخاً من مس الشيطان، غير مريم وابنها”.
  • وفي (فتاة) .. تنتظر حنّا صوت بكاء طفلها، وحين لا تسمعه يسكت لسانها مثل طفلها. وحين تنادي إحدى القابلات “لتلتمع عيناك يا حنّة” تتلاشى رجفاتها فطفلها حيّ .. لكنه لم يبكِ. “فهمت أن طفلي لن يبكي من أجل الدنيا، وأن الدنيا لن تبكيه” فابتهجت .. لكنها تعود لترتجف حزناً بتأثير صدمة المولود (الأنثى)! “الأنثى ليست مثل الذكر، فلم يكن مسموحاً نذر الفتيات لبيت المقدس، لكنني منحته اسماً ذكورياً، ونذرته لربي. كان معنى اسمه (عابد الله إلى الأبد)”. تتمسّك بالاسم الذكوري رغم محاولات القابلات ثنيها وتغييره لاسم أنثوي “إنه مريم”.
  • وفي (على نية الذكر) .. ترضع حنّا مريم الصامتة الهادئة باسم الله الرازق، وتمرّ الأيام ولا تتراجع حنّا عن نذرها، فتمشي نحو بيت المقدس وتنادي على أختها إيشاع وزوجها زكريا. يتبادل الجميع النظرات بصمت! كان زكريا في حالة تفكّر وكانت حنّا في حالة دعاء .. “تجمعت الكائنات. سافر زكريا عبر الزمن وخرج من مكانه، ثم بعد عودته إلينا مرة أخرى قال: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) .. لقد تم قبول مريم”. حتى يحين أوان تسليم أهم أمانة كانت طفلتي في حضن النبي زكريا. سلمتها إلى نبي سائر على طريق الرب، ووهبتها لشريعته. لم تعد قدماي بقادرتين على ملامسة الأرض، وجسدي على حمل رأسي، كما لم تعد هذه الدنيا الضيقة تتسع لروحي. لم يعد تسبيحي وشكري يتحملان اليقين الموجود هنا. كان انفعال الوصال يبشرني بنهاية الفراق. سلَّمتُ الأمانة الأهم. وقد أتى دور أمانة الروح. أدركت أن ملاك الموت قد مس روحي. شكرت ربي. كنت نفساء. كان ربي سيمنحني الشهادة. كان جسدي بين ذراعي إيشاع، في حين كانت روحي تحلق إلى ربي”.
  • وفي (اللطيمة) .. تواسي إيشاع نفسها وقد غدت مريم يتيمة الأبوين “إنه قدر العظماء. ليس الأب والأم من يربي العظماء، إنما الله” .. فيقرأ زكريا ما في نفسها عن مريم التي أصبحت عندها بلا أم وبلا مأوى وبلا حياة “يا إيشاع، لا تفكري هكذا! لقد تخلصّت مريم من كل أنواع الفناء ما أن ولدت، وتمسّكت بالحياة. الله من سيربيها، في حين سنكون نحن فقط رعاة لها في الظاهر”.
  • وفي (قدر القلم) .. يشرق الصباح ويذهب زكريا إلى بيت المقدس ويجتمع مع كبرائه الذين تجهّزوا بأقلامهم للذهاب صوب نهر الأردن لإجراء القرعة حول وصايتهم على مريم، فقد دنا وقت مجيئ المسيح الذي سيملك اليهود والذي سيولد من أم عذراء كأعظم معجزه له كنبي عظيم. تُلقى الأقلام التسعة والعشرون في النهر، فتغيض إلا قلم زكريا “كانت الأقلام ممنوعة على الإناث في القدس. كانت قراءة ما كتبته الأقلام ممنوعة عليهن هي الأخرى. أصبحت مريم الفتاة التي اختيرت بالقلم. أصبح القلم من نصيبها. غدا القلم قدرها. وجب عليها أن تتعلم”. ثم يُكتب خطاب الوصايا على الورقة دون قلم .. لقد كتبه الرب دون الحاجة إلى محبرة أو قلم. فيتوقف الصراع بين المتبارين إلى صراع داخل أنفسهم، بينما يبرر الآخرون تذمرهم “نحن أيضاً أردنا أن ننعم بروحانية مريم ونتشرف بأن نكون رعاة خادمة الرب المباركة هذه. قال أحد كبار بيت المقدس: هذا صحيح! من منا لا يريد مريم ابنة كبيرنا الغالي عمران حفيدة النبيين سليمان وداود؟”.
  • وفي (الانفصال) .. يخلق الله الزمن ممتلئاً بأقدار الفراق! يأتي اليوم الموعود فيطلب زكريا من إيشاع تجهيز مريم. تنظر خالتها في عينيها الزيتونيتين وتجدها جاهزة .. وقد كانت جاهزة من قبل أن تولد “كانت تبدو بثوبها الطويل وغطاء رأسها كملاك. سقط نور متوهج على وجهها الأبيض. أمسكتها من يديها .. زكريا في المقدمة وتبعناه أنا ومريم .. مشينا”.. كانتا تسيران خلف نبي وكان الله يبارك سيرهم، وكانت مريم ستعيش للمرة الأولى شيئاً مختلفاً كان بيت المقدس مكاناً يتعبد فيه أربعمئة طفل ذكر، ويكتبون التوراة فيه. لم تقبل أي طفلة أنثى من قبل قط. أصبحت مريم الأولى. قال زكريا: حسناً. تركتُ يدي مريم. لم تكن مريم تبدو طفلة، بل إنساناً ناضجاً متوازناً. اصطحبها زكريا إلى غرفة فارغة من غرف بيت المقدس. ستبقى مريم هنا، ولن يتمكن أي شخص غير زكريا من الدخول إليها. دخلت مريم في خلوتها، وانزاحت إلى عزلتها، وهي لا تزال في السادسة من عمرها“.
  • وفي (إشراقة) .. يُصبح بيت المقدس لدى مريم كحضن أمها، وتملأ قلبها طمأنينة حلوة، وحماس كبير لأن تكون مع الله أبداً “العبادة تعني: (يا الله أنا أحبك) تعني أن أخبره بحبي إياه، ففي أي حال يعبد العبد خالقه بقدر حبه إياه “. ولم تنهكها العزلة “لقد فهمت! إن الملائكة أصدقائي. لهذا السبب لم أشعر بالملل أو الوحدة”.
  • وفي (ظالم) .. تصيح الملكة زوجة الملك الظالم هيرودس في قلبها، بينما يصيح القوم عند باب المعبد وهم ينتظرون رؤيتها “أمسكي بأيدينا يا مريم”.
  • وفي (المحراب) .. كل مخلوقات الله عباد له في تعاقب الليل والنهار، فعندما تنسحب الشمس، يترك العابدين نهاراً مكانهم للعابدين ليلاً “الكائنات تمثّل التسبيح السري والجهري. الكائنات العابدة نهاراً هم الزاهدون بالذكر الجهري، والعابدون ليلاً هم الزاهدون بالذكر السري”. أما القدس، فتختلف “حينما يقفل الليل بابه على النهار، تغدو القدس باباً مفتوحاً على العرش”.
  • وفي (مقام الصدق) .. يكون أول باب للقلب على العابد فتحه هو التوحيد، يليه التسليم، ثم التفويض، ثم الصبر، ثم الرضا، ثم المعرفة، ثم المحبة، وثامنهم الصدق .. عندها، يتشكّل الأدب لدى الإنسان “الأدب هو خُلق القلب. فالأخلاق الظاهرية موجهة نحو الناس، أما الأخلاق الباطنية وهي أخلاق القلب فموجهة نحو الله. إذا لم يتمسّك القلب بسر الأدب والأخلاق، فلن يظهر جوهره! لهذا، فإن أدب القلب وعفّته أساسيان في ذكر مريم” .. ومريم العابدة حين يحلّ عليها المساء بأسراره الروحية، ويقفل عليها النبي العظيم زكريا الأبواب السبعة واحداً واحداً، تنعكس أسرارها في داخلها بشكل مختلف “للجنة ثمانية أبواب. حينما يستخدم الإنسان أعضاءه الثمانية في الخير، يصبح مؤهلاً لدخولها. سبعة من هذه الأعضاء الثمانية مادية، وواحد منها روحي. حينما تضيء الأعضاء المادية السبعة يضيء العضو الثامن. تندمج الأعضاء السبعة هذه في السجدة، وفي ذلك الوقت تماماً يلتقي العضو الثامن السبعة الأخرى ويصبح سلطاناً عليها. لهذا السبب، أمرني ربي أن أسجد كثيراً. هذه الأعضاء السبعة هي: اليدان القدمان الركبتان والجبهة. حينما تلتقي هذه الأعضاء في السجدة يستيقظ العضو الثامن، وهو القلب، بالخشوع والتذلل، ويصل إلى الذات الإلهية. كأن كل باب عضو مني. كنت أغلقها عن الدنيا واحداً تلو الآخر. كنت أقطع اتصالها بالدنيا كل مساء”.
  • وفي (عفة القلب) .. فإن القلب غير محلل لغير الله، وأي شيء يدخل القلب سوى الله يزيل عفته! تشرح مريم لخالتها هذا المعنى يا خالتي تتشكّل عفة القلب عندما تصل عفة بقية المشاعر إلى نقطة الكمال. القلب هو ملك الله. حين رمي غير المحارم منه تكتمل عفة القلب. حينما يبلغ القلب العفة يسير نحو الله. إذا واجهت القلوب صعوبة في الذهاب إلى الله، فاعلمي أن ثمة مشكلة في العفة“.
  • وفي (الزهرة التي في النار) .. تستمع خالة مريم لها وقد جعلت من قلبها قصراً لأسماء الله، فتبتهل الخالة أنت زهرة إلهية. كبّرك الله كزهرة. سوف تحيط رائحة روحانيتك بالنساء حتى يوم القيامة. أنت زهرة عفة النساء. أنت تاج حياء النساء. أنت زهرة الآخرة المتفتحة في تراب الدنيا. أنت زهرة الأدب التي فاحت رائحتها على كل الأزهار. أنت الزهرة التي تحبها الملائكة. أنت أجمل الزهرات وأحصنها. أنت زهرة الأسماء. أنت زهرة الأنوثة التي كبرها الرب. أنت زهرة القلب. أنت عفة القلب”.
  • وفي (حمل إلهي) آمنت مريم بأنفاس ذلك الكائن الذي ظهر لها وانتظرت أثره كان الله يخلق بالكلام وحده. وأي شيء لم يكن قادراً عليه؟ يخلق ما إن يقول «إنها كلمتي». إذا أراد فإنه يجعل من كل شيء حياً، ويجعل كل شيء يتكلم. أليس كل شيء في الجنة وجهنم حيّاً؟ سوف تتحدث الجنة بمحبة مع أولئك الذين دخلوها، في حين ستغضب جهنم وتتذمر من ساكنيها. ربي ليس في حاجة إلى أي سبب ليعطي الروح لأحد. لم يكن لأبينا آدم أم ولا أب. طفلي سيكون مثل آدم .. انتظرت”.
  • وفي (أخوة قلب يوسف) .. يفعل الحسد أفاعيله في النفوس، فبما أن النبي المسيح سيولد من أم عذراء، فلمَ مريم بالتحديد، وفي القدس الكثير من العذارى ومن نسل داوود وسليمان؟ “الإنسان الذي يتحرك بموازاة الشيطان يجد نقطة اعتراض في كل خط مستقيم”.
  • وفي (ميلاد) .. تذكر مريم النبي إبراهيم حين بشّره الله بطفل وهو وزوجه كبيران في السن .. وقد كانت تأكل من الرطب، طعام الجنة “الحقيقة أن الجنة هي الإحساس بالله، والمكان الذي يوجد الإنسان فيه هو جنة بقدر إحساسه بالله”.
  • وفي (الإمساك عن الكلام) .. تمسك مريم عن الكلام امتثالاً لأمر ربها، أمام سوء ظن القوم وتذكيرها -في خبث- بوالديها وأهلها الرحماء “لن يُسمع كلام الرب إذا ما تكلم الإنسان. اللسان مرتبط بالنفس والسكوت بالقلب. كان من الواجب هجر كلام اللسان ليُسمع كلام القلب”.
  • وفي (أيام مصر) .. تهجر مريم وابنها القدس ويقطنان غرفة صغيرة في إحدى القرى الريفية التي يعمل أهلها في المزارع كنت أغزل خيوط الصوف. كان هذا العمل هو مصير النساء الفلسطينيات. الخيط هو نقاء القلب. يشير في عالم المعاني إلى الحيلة. أظهرت هذه الخيوط أن النساء الفلسطينيات يواجهن بصبر خيوط الخداع التي حيكت على رؤوسهن لقرون. هن أيضاً كن يحتملن كل خيوط حيل الشيطان بالتشبث بحبل الصبر“.
  • وفي (حصور شابين) .. يحمل عيسى التواضع كصفة أسمى، لانتفاء الطرف الأبوي فيه، بينما يكتسي يحيى بالوقار وكأنه ورثه عن والديه الوقورين كان عيسى متواضعاً جداً، قريباً من الرب بقدر بعده عن التكبر. كان التواضع هو الصفة الأسمى في عيسى. كان سره في أمه. المرأة متواضعة، ولا سيما إذا كانت أماً، فإنّها تذلّ قلبها لأجل طفلها. تكبر المرأة عندما تصبح أماً، ويكتمل كمالها. تحرر عيسى من التكبر لعدم وجود الجانب الأبوي فيه. إنه انعكاس تام للجمال، لعدم اصطدامه بجانب الجلال في الذكر. كان عيسى قريباً إلى الروح. كان الشعور الأول الذي يشعر به الإنسان عندما ينظر إليه، هو الأمل. كان يحيى عكس عيسى تماماً، فهو يوحي بالخوف. تستيقظ القلوب من الخوف وترتجف من الرهبة. بدا يحيى كما لو أنَّه ثمرة جلال أبيه وأمه المسنين“.
  • وفي (السموات تتحدث) .. يُرسل الله عيسى نبياً لبني إسرائيل. هكذا ينبئه جبرائيل .. معلّم كل نبي “(علمني جبريل الحكمة والتوراة والإنجيل) .. وفي لحظة واحدة، علمه جبرائيل علوماً قد يستغرق تعلمها عصوراً. الطريقة التي يعلم بها هي الوحي. بما أن تعليم الوحي كان من كائن بلا زمان، فقد كان جبريل يعلّم من دون الاستغراق في الوقت“.
  • وفي (حيلة الشيطان) .. يطول شعر عيسى حتى يبلغ كتفيه، ويصطبغ وجهه بلون انقطاع الصلة مع النفس، وتغمر ملامحه عَظَمَة مختلفة، ثم ينظر إلى أمه نظرة احترام، كنظرة لمعلمه لا كنظرة لأمه وحسب، ويحمل على عاتقه مهمة حياة الآخرين. فينزل من فوق الجبل بهذا الحمل في أثناء نزوله من الجبل، أحاط به الجوع بسبب التنسك الذي استمر أربعين يوماً. نظر حوله محتاجاً إلى الطعام. تعلقت نظراته بالحجارة. أتت كلمات يحيى إلى باله: إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم – إنجيل متى”.
  • وفي (التراب ينبعث) .. أينما ذهب عيسى التف حوله الناس يستمعون إليه، فمنهم من طلب المعجزات ومنهم من عارض قوله ومنهم من ادعى نقضه لشريعة موسى لقد سمعتم ما يُقال عن أن العين بالعين والسن بالسن. أقول لكم: لا تقاوموا السوء. إذا صفعكم أحدهم على خدكم الأيمن فأديروا له خدكم الأيسر أيضاً. من عاداكم وأراد قميصكم فأعطوه رداءكم أيضاً”.
  • وفي (الافتراء والخنازير) .. يقذف اليهود والكتبة والفريسيون عيسى وأمه، فيتألم قلب النبي العظيم ويملأه القهر .. ولعفة أمه، تمتد يداه إلى السماء “يا إلهي أنت ربي .. لقد خلقتني من أثرك المسمى (روحاً) بكلمة (كن) منك. أنا لم آت إليهم كنبي من تلقاء نفسي. يا إلهي إلعن من يشتمني ويشتم أمي وأبعدهم عن رحمتك”.
  • وفي (شابان من الخوف والرجاء) .. يتأتى الخوف من التقوى، وليس الرجاء سوى العمل الصالح .. ويسوي عيسى الأرض للنبي الذي بشّر به “أضاء يحيى وعيسى هذه المرحلة المعقدة بالخوف والرجاء، وأحاطاها بالجلال والجمال. كأنهما فتحة أرضية لنبي المستقبل المحاط بالجلال والجمال”. وفي يوم الحشر، ينتظر الموت على الصراط أمر الرب، كما ينتظره الناس والنبيون .. الموت الذي لم ينجُ منه أحد ذُبح يحيى على أيدي اليهود مثل الكبش. بدا الأمر كما لو أن الله يختبر أسرة زكريا هذا الاختبار القاسي بجعلهم يقتلون الموت بأيديهم، فيمنحهم إيَّاه. هكذا يكافئ الله أباً قُطَّع مثل شجرة، وابناً ذبح مثل كبش. معنى يحيى (المحيي): سيقتل الموت ويخلد أهل الجنة والنار“.
  • وفي (أنا أم يا ربي) .. يشي يهوذا بمكان عيسى لليهود، فيحول الظلام بينه وبينهم، ويقع عليه شبه عيسى، فيصلبه اليهود رغم صرخاته .. وأما عيسى فيرتقي به إلى السماء أربع من الملائكة العظام “يا أمي الحبيبة. لقد رأيت، أنا لم أصلب، بل صُلب مكاني الخائن يهوذا ومات. احذروا الشيطان لأنه سيفعل أي شيء مزيّناً الدنيا لخداعنا. أشهدكم على ما رأيتموه وسمعتموه”.
  • وفي (بركة الملائكة) .. تسترجع مريم ما كان بين عيسى وحواريه عندما كانوا يتبادلون أطراف الحديث، فيسألونه عن ثمة أمه ستأتي بعدهم! فيبشرّهم بأحمد “لقد انتهت النبوة في بني إسرائيل، بعد ذلك سوف يأتي خاتم الأنبياء، العربي الأمي أحمد. هو ابن إبراهيم عليه السلام، من نسل إسماعيل” وتشهد مريم “عيساي هو بشرى آخر الأنبياء”.
  • وفي (كلام البشرى) .. تترقّب مريم قدوم من بشّر به ابنها “الوقت مساء، عمري يذوب في مسائه. أملي في بشرى عيساي. سيأتي ما بشّر به. لن تنصلح القدس أو يشرق حظها قبل وقوع أنفاسه عليها”. إنه المساء، وكل الكائنات إلى السجود “وفي السجود الكون اجتمع” إنه المساء .. وقت خلق عيسى، وموت الروح الخائنة، وتحليق النور إلى السماء .. إنه المساء ومريم تنتظر سطوع نور المستقبل “إنه قادم .. الوقت مساء .. بشرى عيساي في أذني: لأذهب أنا وليأت هو .. فارقليط قادم، أحيد قادم”. 

أحيد: اسمه ﷺ في التوراة / فارقليط: المعين، الشفيع، المساعد .. في اليونانية، وتشير إليه ﷺ

ومسك الختام، ما ورد من تعظيم في مقام السيدة مريم، في الذكر الحكيم: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾

 

تم نشر المراجعة على ضفة ثالثة في جريدة العربي الجديد

 

= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =

نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (50) في قائمة من (50) كتاب خصصتها لعام 2023 والذي رجوت مع بدايته أن يكون استثنائياً في جودة الكتب التي سأحظى بقراءتها فيه .. وهو الكتاب الأخير الذي قرأت خلال شهر ديسمبر ضمن تسعة كتب، وقد حصلت عليه في نفس العام من معرض للكتاب بإحدى المدن العربية ضمن (400) كتاب كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض … وقد قصدت أن أختم قراءاتي للعام بمسك!

لقد قرأت للمؤلفة من قبل رواية (عشق السكون: كل امرأة هاجر)، وهي تحكي قصة السيدة هاجر والنبي الأواه إبراهيم عليه السلام، بلغة بالغة الروحانية وبالكثير من نفحات الصوفية.

خاطرة: ومن اللطائف التي أدركتها وأنا في حضرة تلك النفحات، احتواء القرآن الكريم لسورة مريم في قلبه، حيث يُفتتح الجزء السادس عشر بها بين ثلاثين جزء .. وكأن السيدة العذراء حظيت بإحاطة ربانية أخرى وسط كلامه عز وجل.

وعلى رف (الرواية العالمية) في مكتبتي تصطف إصدارات أخرى، أذكر منها: من إسبانيا (نهر الخراما) تأليف (رفائيل سانتشث فيرلوسيو) / من اسكتلندا (الدكتور جيكل والسيد هايد) تأليف (روبرت لويس ستيفنسون) / من الأرجنتين (كل الناس كاذبون) تأليف (ألبرتو مانغويل) / من البرازيل (الخيميائى) تأليف (باولو كويلو) / من البرتغال (الإنجيل برواية يسوع المسيح) تأليف (جوزيه ساراماجو) / من السويد (الصبية: جنس ثالث) تأليف (جسيكا سشيفارو) / من الصين (الضفادع) تأليف (مويان) / من ألمانيا (آلام فرتر) تأليف (جوته) / من المكسيك (الحب في زمن الكوليرا) تأليف (غابرييل غارسيا ماركيز) / من النرويج (عالم صوفي: أو موجز تاريخ الفلسفة) تأليف (جوستاين غاردر) / من الهند (المليونير المتشرد) تأليف (فيكاس سواراب) / من اليابان (كافكا على الشاطئ) تأليف (هاروكي موراكامي) / من اليونان (زوربا اليوناني) تأليف (نيكوس كازانتزاكيس) / من أمريكا (لمن يقرع الجرس) تأليف (أرنست همنغواي) / من إنجلترا (هاملت) تأليف (وليم شكسبير) / من أوكرانيا (فتيان الزنك) تأليف (سفیتلانا ألیكسییفیتش) / من إيران (نساء بلا رجال) تأليف (شهرنوش بارسيبور) / من ايرلندا (في انتظار جودو) تأليف (صامويل بيكت) / من إيطاليا (صديقتي المذهلة) تأليف (إيلينا فيرّانتي) / من بلجيكا (جريمة في الريفيرا) تأليف (جورج سيمنون) / من تركيا (شرف) تأليف (أليف شافاك) / من روسيا (حلم رجل مضحك) تأليف (فيودور دوستويفسكي) / من رومانيا (المياه كلها بلون الغرق) تأليف (إميل سيوران) / من سويسرا (قطار الليل إلى لشبونة) تأليف (باسكال ميرسيه) / من فرنسا (علاقات خطرة) تأليف (كودير لوس دي لاكلو) / من كوريا (النباتية) تأليف (هان كانغ) / من مقدونيا (أخت فرويد) تأليف (چوسيه سميلڤسكي) / من يوغسلافيا (جسر على نهر درينا) تأليف (إيفو آندريتش)

من فعاليات الشهر: تتصادم الأولويات لدي عادة في آخر شهر من كل عام! فهناك دائماً ما هو ضروري لإنجازه قبل بدء العام الجديد .. الضروري الذي يعيق الضروري الدائم لدي .. (القراءة).

وفي هذا الشهر، استلمت شحنة كتب جديدة تجاوزت حمولتها المائة وعشرين كتاب .. حمّلتها أمنياتي لقراءة أكثر غنى في العام الجديد.

تسلسل الكتاب على المدونة: 450

تاريخ النشر: ديسمبر 22, 2023

عدد القراءات:645 قراءة

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *