الكتاب
مكتباتهم
المؤلف
دار النشر
منشورات تكوين
الطبعة
(3) 2022
عدد الصفحات
166
النوع
ورقي
تاريخ القراءة
12/02/2023
التصنيف
الموضوع
المكتبة كسؤال وجودي تجيب عنه الفلسفة
درجة التقييم

مكتباتهم

كتاب فريد من نوعه بشكل عبقري يدور في فلك الكتب، وما يلفّ حوله من آداب في مهارتي القراءة والكتابة، وما يلحق بهما من فنون الاستنباط والاستقراء والنقد والتحليل. ففي هذا الكتاب، يستعرض المؤلف باقة من حصيلة اطلاعاته على أعمال عدد من الكتّاب العالميين، بما فيها سيرهم وأفكارهم وفلسفاتهم وتوجّهاتهم ومكتباتهم والمقولات المأثورة عنهم، وما استلهمه في المقابل من عبر وحكم وخواطر ورؤى وتأملات وإسقاطات، شكّلت في مجملها جانب مما هو عليه اليوم من ثقافة عريضة. وكنوع من العرفان، توّج المؤلف كل مقالة في كتابه بعنوان يحمل اسم الكاتب مسبوق بكلمة (مكتبة)، كناية عن تفرّد كل واحد منهم في خلق مدرسته المستقلة، أدباً وعلماً .. منها على سبيل المثال: مكتبة ابن بطوطة، مكتبة التوحيدي، مكتبة المأمون، مكتبة الجاحظ، مكتبة هاوكينغ، مكتبة شوبنهاور، مكتبة بنيامين، مكتبة أفلاطون.

وعن المؤلف نفسه، فهو مترجم مغربي تعلّم الفلسفة أكاديمياً وكتب فيها أدبياً وترجم أعمال الآخرين التي تناولتها. وبالمثل، لم تخلُ لغة الكاتب من عبقرية، لا بما طرح وحسب من مفاهيم فلسفية، بل في الأسلوب الأدبي الذي اعتمده بما يتميز من مفردات ذكية واستعارات بلاغية وتراكيب لغوية، فضلاً عمّا يمكن استشفافه من موسوعية ثقافته واطلاعه المتعمّق وقدرته بإمعان على القراءة بين السطور، ومن ثم إسباغ النقد والتحليل واستنباط الأفكار والمعاني .. لذا أجدني أقول: قد يضيف المؤلف إلى قائمة المقالات السابقة المعنية بمكتبات أصحابها .. (مكتبة محمد آيت حنّا).

اجتهد المؤلف في مشاهداته عبر فلك الكتب وعن بُعد، من خلال منظار فلسفي ثاقب! فهو -على سبيل المثال- لم يرصد تلك الفراغات السارحة بين الكتب على أرففه وحسب، بل وقد افترض -على حساب نظرية الاحتمالات- أنها فرص منظورة لملئها بكل ما هو جديد وخلّاق! بمعنى آخر، هي فضاء لاحتمالات لا تعد ولا تحصى من الكتب والأفكار والآراء والابتكارات، التي لها أن تملء تلك الفراغات. ومن منظور آخر يختلف عن سابقه، إنها فراغات تستوجب ما يملئها من محسوسات، كتمثال أو مفكّ أو ساعة قديمة .. وهو لا يزال في فضاء تلك الفراغات، يرى المؤلف أن بين كل نص ونص فراغ لنص آخر له أن يظهر بينهما، وعلى الرغم من أن الاقتباس يقتل النص الجديد في تصوّره، إلا أن أي نص جديد يعتبره نص حي إذا سرى في عروق نص آخر، أما النص الذي لم ينشره مؤلفه، فيُفقد القارئ فرصته في امتلاك النص ومن ثم قراءته ونقده وتأويله وحتى الاعتراض عليه، غير أن استيعاب أي نص بأصالته لا يتم عن طريق قراءته حرفياً، بل عن طريق قراءته قراءة ناقصة ملتوية. وكما في فكرة التناسخ، فإن الكتب لديها أسلاف، تتجلى قيمتها في بعضها البعض، وكما أن الحبر الواحد يخط كتاب واحد فقط، كذلك لا يُكتب كتابين من فكرة واحدة .. وكما في نظرية المُثل عند أفلاطون، فإن المكتبة هي الأصل في عالم المثل بينما الكتب في العالم الحسي ليست سوى النسخ .. وإذا كان من الكتب ما تتلبّسه لعنة ما، فيتعلق به القارئ بشكل مرضي، أو يعتبره كافياً فيستغني به عمّا سواه، أو لا يتمكّن من إنهاؤه في الأساس .. فإن اللاقراءة كفن للقراءة، أو كفكرة العدم واستحالة بعث الموتى!

في المجمل، إن السياحة في المكتبة واكتشاف ما هو فوق رفوفها والتجول بين أرتال الإصدارات في مختلف صنوف المعرفة المتكئة على جدرانها، لهي المتعة التي لا تُضاهى .. وإن المكتبة ليست مجرد جدران تحتضن كتباً تُجمع بترتيب وتُنتظم في صفوف، ثم تُنتقى وتُقرأ وُتعاد، وقد تُباع أو تُعار أو تُهدى أو تُتلف، إنما هي كيان قائم بذاته بذوقها الذي لا يشبه مثيلاتها، الكيان الذي يجعل من كل قارئ جزءاً لا يتجزأ منها .. وإن للمكتبة حياة خاصة، وإنها لحياة بأكملها.

ومن الكتاب -الذي يحث كل من قرر أن ينتهج القراءة كمنهج حياة أن يفخر بقراره- أدوّن ما علق في خاطري بعد القراءة، وباقتباس في نص ثري (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، وقد حصد الكتاب من رصيد أنجمي الخماسي أربعاً:

  • مع ولوج حرم المكتبة، يصبح كل تخطيط مسبق عرضة للإلغاء، ذلك أن المكتبة لا تبدو لعاشقها سوى كحلم يأخذ به مأخذاً .. المكتبة التي يحدّها اللامحدود ويحوطها اللامتناهي! يقول المؤلف في (مكتبة ابن سينا) بعد أن يضرب مثلاً في عالم المكتبة السلطانية المأخوذة من رواية (اسمي أحمر) للروائي التركي أورهان باموك: نعيش كلنا نحن القرّاء وبنا عطش لزيارة مكتبات لم يلجها غيرنا، ربما فعل الدخول وحده دون تصفح أي كتاب له لذة فائقة، أن تحصي عدد المكتبات التي زرتها لا يقل متعة عن إحصاء عدد الكتب التي قرأتها، شأننا شأن المتصوّفة الذين يحلمون بزيارة مكتبة جبل قاف، ذاك الجبل المحايث لعالمنا، المخالط له والمنفصل عنه في الآن نفسه“.
  • ومع الفراغ الذي لم يعتبره المؤلف (أقنوم) قائم بذاته -وهو يفصل بين كتاب وآخر- بل واعتبر تدبيره “أعقد وأصعب من تدبير الامتلاء”، يرى المكتبة وهي تستنجد لملئه وستر عورتها بالمقابل، فما الفراغ سوى “عورة المكتبة”. لا يستلزم ذلك الستر الاستعانة بكتاب جديد، فقد تفي الزوائد والملاحق بالغرض علاوة على ما تضفيه من قيمة جمالية على المكتبة ككل. يقول المؤلف في (مكتبة دريدا): ملاحق المكتبة، الزوائد على الكتب، لا تدخل في تضاد مع الكتب، وإنّما هي تكمّلها، وتمنحها بلاغة خاصة. أكتب هذا وأنا أتأمل تمثال الدرويش الموضوع بين مجلدات المثنوي لجلال الدين الرومي، والذي يبهج زواري أكثر من منظر المجلدات، حتى أنّ بعضهم يطلب مني إعارته المجلّدات ومعها التمثال الذي لم يعد بالإمكان فصله عنها”.
  • وفي (مكتبة سارتر) يأسف المؤلف لحال القارئ الذي يخرج في العادة عن السياق الاجتماعي، كما هو الحال في النغمة النشاز، فالانعزال لممارسة فعل القراءة، والانصهار التدريجي في سحرها والانفصال عن المحيط العام لا سيما العائلي والاجتماعي، يجعل من القارئ كالغريب بين ذويه، فضلاً عن التقريع والتوبيخ. تقول الكاتبة المجرية أغوتا كريستوف: “باستثناء فخر جدي بي، لم تحمل لي القراءة إلا اللوم والاحتقار: «إنها لا تفعل شيئاً! تقرأ طيلة الوقت .. لا تحسن شيئاً آخر .. إنها أكثر المشاغل خمولاً .. إنه الكسل» وخاصة: «إنها تقرأ عوض أن ….! عوض ماذا؟ ثمة العديد من الأشياء الأكثر أهمية، أليس كذلك؟»”.

وعني، فقد استرجعت أثناء قراءة الكتاب مقولة تُنسب إلى الكاتب الفرنسي الأشهر في عصر النهضة (ميشيل دي مونتين)، تحاكي الخط الفلسفي الذي انتهجه المؤلف، وقد قال في حق الكتاب: “عندما اقرأ كتاباً سواء كان راقياً أم سخيفاً، يبدو لي أنه على قيد الحياة يتحدث معي”. أما فيما يُنقل عن الرئيس الأمريكي ابراهام لنكولن، فقد قرأت تعريفه للصديق المفضل الذي جاء في قوله: “صديقي المفضل هو الشخص الذي يقدم لي كتاباً لم أقرؤه بعد” .. وبما أنني اعتبر الكتاب صديقي الأبدي المخلص، فقد كان هذا الكتاب سخيّاً في ترشيح عدد من أقرانه، والتي قد أسعى لاقتناء بعضها .. أذكر منها: ثم لم يبق منهم أحد – لمؤلفته: أجاثا كريستي / (الرمل) و (المخلوقات الوهمية) – لمؤلفهما: خورخي لويس بورخيس/ (ألوان أخرى) و (الحياة الجديدة) – لمؤلفهما: أورهان باموك / الكون في قشرة جوز – لمؤلفه: ستيفن هوكينج / اسم الوردة – لمؤلفه: أمبرتو إيكو / ما الذي يفكّر فيه الرجل غير الجنس؟ – لمؤلفه: شيد سيموف / موبي ديك – لمؤلفه: هيرمان ملفيل / العجوز والبحر – لمؤلفه: إرنست همنجواي / الطبل الصفيح – لمؤلفه: غونتر غراس / بلا عائلة – لمؤلفه: إكتور مالو / المعانقات – لمؤلفه: إدواردو غاليانو / كأنها رواية – لمؤلفه: دانيال بيناك / المقابسات – لمؤلفه: أبو حيان التوحيدي / حين تركنا الجسر – لمؤلفه: عبدالرحمن منيف / حصان نيتشه – لمؤلفه: عبد الفتاح كيليطو / المكتبة – لمؤلفه: أحمد بوزفور / إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس – لمؤلفه: محمد الأتليدي

ختاماً .. عادة ما أجد الحديث عن الكتب لطيف تمتزج به المعلومة والتشويق وانتعاش المزاج، غير أن هذا الكتاب قد قرأته بتعمّق يدفعني فيه روح الاستكشاف .. تماماً كما أفعل مع قراءة أي كتاب فلسفي والذي عادة ما يستنزف طاقتي الذهنية.

 

تم نشر مقالة عن الكتاب في جريدة الشرق

 

= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =

نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (43) في قائمة من (50) كتاب خصصتها لعام 2023 والذي رجوت مع بدايته أن يكون استثنائياً في جودة الكتب التي سأحظى بقراءتها فيه، وهو ثاني ما قرأت خلال شهر ديسمبر ضمن تسعة كتب .. وقد حصلت عليه في نفس العام من معرض للكتاب بإحدى المدن العربية ضمن (400) كتاب كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض.

وعلى رف (المكتبات) في مكتبتي تصطف إصدارات أخرى كثيرة، أذكر منها: (أنثى الكتب) تأليف (شهرزاد) / (الحقيقة والكتابة) تأليف (بثينة العيسى) / (اقرأ أي شيء) تأليف (أنيس منصور) / (كيمياء القراءة) تأليف (عبد المجيد تمراز) / (غربة الكاتب العربي) تأليف (حليم بركات) / (في صحبة الكتب) تأليف (علي حسين / (النوم إلى جوار الكتب) تأليف (لؤي حمزة) / (أيها القارئ: عد إلى وطنك) تأليف (ماريان وولف) / (مكتبة شكسبير الباريسية) تأليف (سيلفيا بيتش) / (لماذا نكتب؟ عشرون من الكتاب الناجحين يجيبون على أسئلة الكتابة) تأليف (ميريديث ماران) / (زيارة لمكتبات العالم: أشهر مكتبات بيع الكتب) تأليف (خورخي كاريون) / (القراءة والقارئ: صورة في البلاغة الأدبية) تأليف (فيليب دايفيس) / (متعة القراءة) تأليف (دانيال بناك) / (يوميات القراءة: تأملات قارئ شغوف) تأليف (ألبرتو مانغويل)

من فعاليات الشهر: تتصادم الأولويات لدي عادة في آخر شهر من كل عام! فهناك دائماً ما هو ضروري لإنجازه قبل بدء العام الجديد .. الضروري الذي يعيق الضروري الدائم لدي .. (القراءة).

وفي هذا الشهر، استلمت شحنة كتب جديدة تجاوزت حمولتها المائة وعشرين كتاب .. حمّلتها أمنياتي لقراءة أكثر غنى في العام الجديد.

تسلسل الكتاب على المدونة: 443

تاريخ النشر: ديسمبر 20, 2023

عدد القراءات:438 قراءة

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *