بينما يأتي عنوان الكتاب مثير للفضول .. لا يُرضي محتواه ذلك الفضول على نفس القدر! غير أن أهميته تكمن في عراقته على ما يبدو، إذ تم استخراجه من “مخطوطة مودعة في مخزونات المكتبة الوطنية في باريس” كما تشرح الفقرة التسويقية على ظهر الكتاب، وبحيث تم العمل على ترجمته فيما بعد إلى لغات مختلفة!. وهو كتاب قد تم خطّه عام 1061هـ/1651م، وبقي مجهول عند قوم العرب بينما ذاع صيته عند الفرنجة، حتى عام 1976 م حين جاء القرار بنشره.
تعرض صفحة المحتويات عشرة أبواب أسردها تالياً، لم يحظ بها الكتاب سوى باثنتين من رصيد أنجمي الخماسي! فبينما تنطوي الأبواب الخمس الأولى على شيء من الحكمة والطرفة، إلا أن فصل (الرتابة) يبدأ مع الباب السادس. فعلى سبيل المثال، تأتي حيل (الملوك والسلاطين والعباد والقضاة والفقهاء) خواء من أي بصيص لحنكة أو دعابة، بل إنها لا تعدو عن كونها مجرد سرد لحوادث هامشية، قد تكون جرت أو لم تجر في أزمنة سابقة، وقد لا يستحق بعضها مجرد الذكر.
- في فضل العقل وما قيل فيه
- في الحث على الحيل واستعمالها
- في حكم الله ولطفه وحسن تدبيره بعباده
- في حيل الملائكة والجن
- في حيل الأنبياء عليهم السلام
- في حيل الخلفة والملوك والسلاطين
- في حيل الوزراء والعمّال والمتصرفين
- في حيل القضاة والعدول والوكلاء
- في حيل الفقهاء
- في حيل العبّاد والمتزهدين
لا يخلو الكتاب من فائدة في العموم، ففي الأسطر القليلة، أسرد شذرات مما علق في ذهني بعد القراءة، وأستعين ببعض الاقتباسات نصاً في لون عريق (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:
- راق لي الحديث عن العقل وفضله في الباب الأول على لسان عدد من الحكماء! ففي حين يعتقد أحدهم بتوءمة العقل والحياء، يرى سقراط أن العقل يضيء الليل بينما يُظلم النهار مع الجهل. أما سوماخش فقد أصاب حين استعان بعلم الاقتصاد ورأى كل شيء يبخس ثمنه إذا كثر، ما عدا العقل. ويؤكد أردشير هذا المعنى حين اعتقد أن الحرمان من العقل هو حرمان من كل شيء. غير أن هرمس لم يخطأ عندما ميّز الرجل بعقله لا بوضعه، وبحكمته لا بمظهره. يجزل أحدهم فيقول: “إن للعقل مفاصل كمفاصل الجسد، فرأسه وعينه البراءة من الحسد، وأذنه التفهم، ولسانه الصدق، وقلبه صحة النية، ويده الرحمة، وقدمه السلامة، وسلطانه العدل، ومركبه وسلاحه لين الكلام، وسيفه الرضى، وفرسه المصالحة، وسهمه التحية، ورمحه التوقي، وجعبته المداراة، ودرعه مشاهدة الحكماء، وماله الأدب، وحربه المكايد، وذخيرته اجتناب الذنوب، وزاده المعروف، ودليله الإسلام”.
- وفي حين لا يزال الحديث عن العقل، يورد الكتاب “عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: هبط جبرائيل على آدم فقال: يا آدم إني أمرت أن أخيرك واحدة من ثلاث فاخترها ودع إثنين. فقال له آدم: يا جبرائيل وما الثلاث؟ فقال: العقل والحياء والدين. فقال آدم: إني قد اخترت العقل. فقال جبرائيل للحياء والدين: انصرفا ودعاه. فقالا: يا جبرائيل، إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان. قال: فشأنكما وعرج”.
- يقول الكتاب عن نجاة السيد المسيح من مكر اليهود حين مكر الله بهم: “والمكر ألطف التدبير (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ). قال الفراء: المكر من المخلوقين الخب والخديعة والحيلة، وهو من الله تعالى استدراجهم”.
أما عن لغة الكتاب كفائدة مميزة له وقد جاءت بالعربية الفصحى التي تحدّث بها الأولين، فقد حملت بعض المفردات التي قد تستعصي على فهم القارئ العربي المعاصر لعصر العولمة وقد شاب لغته ما شابها، الأمر الذي قد يضطره إلى تكرار قراءة حيلة ما بغية استيعابها، وقد لا يتم له ذلك!. أذكر منها ما يلي وقد استعنت بمعاجم اللغة في فهم معانيها:
-
- (السِّمَاكُ) وتعني: كلُّ ما سُمِكَ، حائطًا كان أَو سقفًا
- (الظِّئْرُ) وتعني: المُرْضِعَةُ لغير ولدها
- (الوَشَق) وهو حيوان لاحم مفترس من فصيلة السنوريات
- (أبو خلد) وهو كنية بحر القلزم على لسان موسى عليه السلام الذي انشق له وأهلك فرعون وجنده
كقارئة شبه نهمة، أعتبر توصية كتاب ما بكتاب آخر من الفوائد المرجوة للقراءة، وقد جاء بين ثنايا هذا الكتاب الإشارة إلى كتاب (فضل العرب على العجم – لابن قتيبة الدينوري)، وقد حملت شبكة المعلومات اسماً آخر له، وهو (فضل العرب والتنبيه على علومها)، يأتي في جزئين منافحاً عن الهوية العربية إثر الانفتاح الحضاري الذي شهدته الدولة العباسية! لا بد من مطالعته.
من مآخذ الكتاب الأخرى بالإضافة إلى رتابة المحتوى، افتقاره إلى المرجع الذي استُل منه روايات الحيل، لا سيما وقد احتوى على بعض الإسرائيليات، وعلى روايات لا يقبلها العقل -بغض النظر عن الرأي الشرعي المتعلق بها- فهو قد جاء ليلقّن الحكمة والحنكة والتبصر في التعاطي مع أحداث الحياة.
لا أعلم مدى دقة وصف هذا الكتاب بأنه “مكيافيللي عربي”، وأنه قد سبق نظيره (الأمير) الإيطالي بقرن من الزمان، فلا هو قد علّم فنون الإمارة والحكم -كما زعم- من خلال قصصه المتفرقة ابتداءً من الملائكة والجن والأنبياء وانتهاءً بالسلاطين والزهّاد، ولا تطرق إلى التلقين المبطن للديكتاتورية كنظام حكم! فكيف أصبح مكيافيللي سابق لأوانه وزمانه؟
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (29) كما دوّنت ضمن قائمة من كتب قرأتهم في عام 2017، وهو ثالث كتاب اقرأه في شهر نوفمبر من بين ستة كتب. غير أن ذاكرتي لا تسعفني، ولا حتى مفكرتي القديمة بما تحويه من ملاحظات، ولا مسودات التدوين في حينها، من تعيين إجمالي عدد الكتب التي قرأتها في هذا العام بالتحديد! ملاحظة: أجد بخط يدي على هامش مفكرة العام عبارة: (33 كتاب) .. لا أعتقد أنها ملاحظة دقيقة.
لكنني لا زلت أذكر تماماً الأعوام الثلاث التي قضيتها في تحصيل دراساتي العليا في المملكة المتحدة، والأعوام التي تلتها وأنا منهمكة بجد في عملي المهني الذي لا يمتّ بصلة لهواية القراءة لا من قريب ولا من بعيد .. الدراسة التي استحوذت على حياتي حينها، والعمل الذي كان يستنفد القدر الأكبر من وقتي وطاقتي، بحيث لا يتبقى للقراءة في نهاية اليوم سوى القليل من الوقت والتركيز .. ولله الحمد دائماً وأبداً. والمفارقة أنني أسترجع وأنا أطوي هذه المراجعة القصيرة للكتاب أجواء الدراسة الثقيلة التي أحاطت بي وأنا في مدينة لندن، حيث جاء قراري فجأة بالتسوق بين أروقة مكتباتها، استجابة لحنين ما جاء ملّحاً.
من فعاليات الشهر: لم يكن هناك أي منها، لكنني قضيت في الشهر السابق له إجازة في تركيا لمدة عشرة أيام، وعشرة أيام أخرى في إيطاليا في الشهر التالي له.
تسلسل الكتاب على المدونة: 41
التعليقات