كتاب فكري يحضّ فيه مؤلفه وبشكل عام على إعمال العقول والقلوب حول كل موروث ديني حمل بالتواتر صفة القداسة، إذ ليس كل ما تم اعتناقه كـ (سنة صحيحة) هو بالضرورة كذلك!. بعبارة أخرى، إنه بمثابة مبحث موضوعي حول صحة ما ورد عن النبي الأكرم قولاً وفعلاً، من خلال تسليط الضوء على الأثر الديني الذي اكتسب مع أصحابه قدسية توازي قدسية القرآن الكريم. وبشكل أكثر تحديداً، يتعرض المؤلف للإشكاليات الواردة في صحيح البخاري، وهو الكتاب الذي يجمع عليه علماء أهل السنة والجماعة -لا سيما التيار السلفي الجامي- بأنه (أصح) الكتب بعد القرآن الكريم، فيعرض عدد من التناقضات التي يزخر بها هذا (الصحيح) في حد ذاته من جهة، وبينه وبين القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه من جهة أخرى، والعلم والمنطق والذوق العام من جهات أُخر، مستخدماً المنطق، والتحليل، والمقارنة، والنقد.
لقد سلك المؤلف بهذا طريقاً ملغّماً، من جانب ما تثيره الشبهات -لا سيما الدينية- من ردود أفعال عنيفة تصل إلى حد التكفير أو إباحة الدم، ومن جانب منزلة صحيح البخاري عند أتباعه التي تكاد تأخذ قدسية الوحي المنزّل المنزّه!. رغم هذا، فإن المؤلف يبرأ بكتابه عن أي شبهة تجنّي على شخص الإمام البخاري أو على حسن مقاصده في اجتهاده، بل أن غايته هي التأكيد على بشرية الصحيح الذي يتعرض بطبيعة الحال للنقد والرفض والمراجعة كأي كتاب، وتمزيق النسيج المقدّس الذي أحاط به منذ أكثر من ألف عام، وهو ليس بوحي على الإطلاق!. من ناحية أخرى، يتجرأ المؤلف في التصريح بأنه في الوقت الذي يعتقد فيه أغلبية المسلمين باجتهاد الإمام البخاري الذي لن يحرم أجره عند الله، فإن المؤلف يرى أنه أول من عمل على الخلط بين الوحي القرآني والقول البشري، والذي أدى إلى خلق حالة من التخبط يعاني منها المسلمين حتى يومنا الحاضر في كافة مجالات حياتهم.
يعرض فهرس الكتاب ثمان فصول شائكة، قد استحق بها أربع نجمات برّاقة من رصيد أنجمي الخماسي، أعرضها كما يلي:
- زبدة الكتاب في بدايته
- البخاري والقرآن الكريم
- البخاري والرسول الكريم
- البخاري والديانات الأخرى
- البخاري والحكم والصحابة
- البخاري والمرأة
- البخاري ومجموعة متناقضات
- بين الماضي والحاضر
وأعرض بدوري مقتطفات مما علق في ذهني بعد القراءة المتعمقة، مع الاقتباس في نص ملتهب كلهيب المتعصبين في ردود أفعالهم (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، كما يلي:
ملاحظة: ترد بعض التعليقات في نص أزرق .. لا تعبّر سوى عن رأيي الشخصي.
- يروي البخاري عن أبي هريرة في حديث صحيح، بأن مصراعي باب الجنة كما بين مكة وحمير، وهي بالقياس مسافة أصغر بكثير من شجرة -يصفها في صحيحه أيضاً- موجودة في الجنة “يسير المرء في ظلها مائة عام لا يقطعها”. وفي هذا تناقض صريح لما بين يديه من أحاديث!.
- يرى النبي الأكرم -في الصحيح- نخامة عالقة في جدار المسجد، فيتناول حصاة يحكّها، ويوصي بعدم التنخم في المسجد قِبَل الوجه أو يميناً، ويجيز البصق يساراً أو تحت القدم اليسرى. فيتساءل المؤلف: “هل يُقبل ذلك في مساجدنا اليوم؟ وماذا سنفعل بالسجاد والجدران الرخامية المذهبة في بيوت الله اليوم؟ أنبصق ونتف عليها ثم نقوم بتنظيفها بالوسائل الحديثة المتوفرة، أو بالحصاة لتطبيق سنة النبي في ذلك”؟.
- يأتي ثمانية رجال من عكل إلى المدينة المنورة ليعلنوا إسلامهم، ثم يشاء الله أن يمرضوا فيرسل معهم النبي راعياً إلى خارج المدينة، حتى إذا شفوا جميعاً قتلوه وسلبوا إبله. فيأمر النبي الصحابة بإلقاء القبض عليهم، فيحضرونهم أجمعين، ليقطع أيديهم وأرجلهم ويفقأ أعينهم ويتركهم في الشمس حتى يموتوا!. وبينما أتساءل ما إذا كان البخاري يروي عن أبي داعش البغدادي، يتساءل المؤلف بدوره قائلاً: “وإذا كان البعض يرى أن الرسول لم يكتف بتطبيق حد القتل فيهم (النفس بالنفس) بل طبّق حد الحرابة (بقطع الأيدي والأرجل من خلاف) فهل يعني أن سمل أعينهم ونبذهم أحياء ليموتوا متأثرين بجراحهم تحت الشمس هي سنة نبوية نقتدي بها”؟.
- وعن آداب الطعام في باب الأطعمة، يوصي النبي المسلم: “إذا أكل أحدكم فلا يمسح يده حتى يلعقها أو يُلعقُها”. وأترك للمؤلف التعقيب على حديث البزازة، إذ يقول: “هي ظاهرة تنافي الذوق السليم وتجانب الطب الوقائي. وهنا نسأل: هل هناك من يرضى بلعق إصبع صديقه أو أخيه بعد الطعام ليطبّق السنة النبوية؟”.
- أما عن وضع المرأة المسلمة الممتهن إنسانياً أولاً وآخراً في الصحيح، فيقول المؤلف في الصميم: “إن دعاة المسلمين على اختلاف مستوياتهم قد نجحوا بزرع عقدة النقص والدونية في المرأة المسلمة لدرجة أنها أصبحت تدخل في بنيتها الجينية، وأقنعوها بأن تلك العقدة المرضية هي ميزة تتمتع بها الأنثى المسلمة دون غيرها من نساء الأرض. وجعلوا المرأة المسلمة منظّرة في الاحتقار الذاتي والدونية بملء إرادتها وكامل وعيها وتصميمها، حتى أنك تجد المعلمة والمهندسة والطبيبة وعالمة الذرة تقرّ بأن الرجل أفضل منها وأن له القوامة عليها وإن كان يفتقر إلى الحد الأدنى من العلم والثقافة”. وأكتفي بعرض نموذجين مما عرض المؤلف، كما يلي:
- تنحدر أخلاق الملائكة في الصحيح مقارنة بالإنسان المؤمن الذي نفى عنه النبي الأكرم صفتي اللعن والطعن، وذلك حين تصب جام لعناتها على الزوجة التي لم تستجب لزوجها في الفراش، كعون فوري للزوج الضحية! وكأن المرأة وعاء جنسي صرف لا بشر ذو إحساس ومزاج ومتاعب، وقد غفل الصحيح عن حكم الزوج المتمنّع عن زوجته في الفراش!. هل ستنبري الملائكة اللاعنة في عون المرأة؟ أم ستطلق الزوجة اللعنات وحيدة كأعزل بلا مدد؟ “أم أن أنوثتها وعفتها وكمالها وأخلاقها وحيائها ستمنعها من ذلك لتجنب زوجها لعنات الملائكة التي ما عرفناها إلا مسبحة ذاكرة لاسم الله، ولاعنة على لسان أبي هريرة”؟.
- كحقيقة علمية، (يخنز اللحم بسبب بنو إسرائيل، وتخون الزوجة بسبب حواء)، بشهادة أبو هريرة في باب الأنبياء من الصحيح المزعوم، حيث يورد: “لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها”. هنا، يتوجه المؤلف للمرأة المسلمة مستفسراً: “من هي الخائنة للزوج تحديداً؟ من هي خائنة بيت الزوجية؟ أليست الزانية؟ فما رأيك سيدتي المرأة؟ وما هو مبرر صلاتك وصيامك وحجابك ما دمت خائنة لزوجك دوماً”؟. أتمنى على ناقصة من ناقصات العقل والدين -المتشنجات دوماً- تبرير زناها المثبت في الصحيح، خلاف تبرير كفرانها العشير وشرف وصمها بأكثر أهل النار!.
- وبلا تعليق، يتحيّر المؤلف من إيراد حديث في كتاب النكاح / باب العزل يقول على لسان الصحابة: “كنا نعزل والقرآن ينزل”.
- وعن أبي هريرة شخصياً الذي تشوب سيرته الشبهات، يورد المؤلف في بعض شانه الآتي: “التقى أبو هريرة بالرسول لفترة لم تزد على السنة وتسعة أشهر بأية حال من الأحوال، ومع ذلك فقد كان أكثر الصحابة رواية عن الرسول، مما جعل الصحابة وعلى رأسهم السيدة عائشة يتهمونه وينكرون عليه ذلك. وهكذا فقد كان أبو هريرة أول راوية اتُهم في الإسلام”. وقد عزله عمر بن الخطاب بعد توليته ولاية البحرين وذلك لعشرين ألفاً من مال المسلمين امتلكها زاعماً بقوله: “كنت أتجر”، فيرد عليه الخليفة غاضباً: “عدو الله والإسلام، عدو الله وكتابه، سرقت مال الله. حين استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين. ما رجعت بك أميمة إلا لرعية الحُمر. وأميمة أم أبي هريرة”. ومما يثير الانتباه، إطناب الفقهاء بنزاهة (علم رجال الحديث) أو (علم الجرح والتعديل)، وهو العلم الذي يبحث في سيرة رواة الحديث من حيث اتصافهم بشروط يُعتمد عليها في قبول رواياتهم من عدمها، بحيث يؤدي ثبوت أي إخلال في ذمة أحدهم إلى نسف الحديث المروي برمّته، مع وجود رواة آخرين ثقات للحديث نفسه!. عليه، يُوجه سؤال لأولي الألباب: هل ما أتى به أبو هريرة -وهو بطل كتب الصحاح وراويها الأبرز- من فعل يخل بالأمانة ونزاهة الذمة، يُسقط معه بالتالي كتب الصحاح برمتها، تفعيلاً للشرط المذكور؟
…………….. هل أكتفي؟ إن الكتاب على قدر كبير من العلم والفكر والاجتهاد وإثارة للجدل!
كما يظهر جلياً، إن هذا الاجتهاد يعتبر بمثابة جرس تنبيهي، يشحذ الذهن في النظر حول المصداقية المطلقة الممنوحة مع مرتبة الشرف لبعض الموروثات الدينية والتي تتعارض مع القرآن الكريم، والمحجة البيضاء، والعقل المتدبر، والفطرة السوية، والذوق السليم. أيضاً، يحث على البحث والتحري الصادق والحيادي، بعيداً عن تتبع السلف شبراً بشبر وذراعاً بذراع … إلى جحر الضب! فليست أقوالهم منطوقة عن الهوى، ولا هم بالأنبياء المعصومين.
ومن المفارقات أن يحمل صحيح مسلم -وهو المصنف مع صحيح البخاري بأصح كتب الصحاح- حديث يقول: (عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال: «لا تكتبوا عني، ومَن كتب عني غيرَ القرآن فَلْيَمْحُه، وحدِّثوا عنِّي ولا حَرَج، ومَن كذب عليَّ -قال همام: أحسِبه قال: مُتعمِّدًا- فَلْيَتَبوَّأ مَقْعَدَه مِن النار»). وهل مثل هذا التحذير الصريح بحاجة إلى إطناب تأويل وجعجعة فقهاء؟
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، يطرح أحدهم كتاباً بعنوان ذو سجع على غرار كتب التابعين، وهو: (جناية أوزون: عندما يتحدث الجنون) تطول وتمتد صفحاته كرد على الكتاب بين أيدينا (جناية البخاري: انقاذ الدين من إمام المحدثين) الذي لا تتجاوز صفحاته المائة ونصف. ولقد اطلعّت عليه بنسخته الإلكترونية، ووجدت القذف والسباب وفحش الخصام يحتل نصيب الأسد من صفحات الكتاب! لا عجب، إن هذا هو ديدن أهل التكفير!. أما عن الخلط المشار إليه بين الوحي الإلهي والحديث البشري، فقد سمعت عدد من أتباع الصحيح من يرتّله ترتيل القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم، وينشر مقاطعه .. والله المستعان.
أخيراً، لقد أطربني إهداء المؤلف الذي وجه كتابه فيه إلى كل من يقدّر العقل ويحتكم به، وإلى كل من أضاء ظلام التبعية بشعلة الإبداع، ووهن القياس بشعلة الفكر، وإلى كل محب للبشرية باختلاف الأعراق والأديان. لقد استرجعت معه رأي فيلسوف العقلانية ابن رشد -الذي لاقى نصيبه من الوصم بالزندقة- حول جدلية العقل والنقل إذا تعارضا، إذ يقول بتقديم العقل وتأويل النص. وقد جاء ضمن مأثور أقواله: “إن الله لا يمكن أن يعطينا عقولاً ويعطينا شرائعاً مخالفة لها”.
اللهم “وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ”.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (12) كما دوّنت ضمن قائمة من كتب قرأتهم في عام 2017، غير أن ذاكرتي لا تسعفني، ولا حتى مفكرتي القديمة بما تحويه من ملاحظات، ولا مسودات التدوين في حينها، من تعيين إجمالي عدد الكتب التي قرأتها في هذا العام بالتحديد! ملاحظة: أجد بخط يدي على هامش مفكرة العام عبارة: (33 كتاب) .. لا أعتقد أنها ملاحظة دقيقة. وعن اقتنائه، فقد وصل إلى مكتبتي من إحدى المكتبات العربية في لندن، حيث الكتب العربية المحظورة في العالم العربي .. والمغضوب عليها.
لكنني لا زلت أذكر تماماً الأعوام الثلاث التي قضيتها في تحصيل دراساتي العليا في المملكة المتحدة، والأعوام التي تلتها وأنا منهمكة بجد في عملي المهني الذي لا يمتّ بصلة لهواية القراءة لا من قريب ولا من بعيد .. الدراسة التي استحوذت على حياتي حينها، والعمل الذي كان يستنفد القدر الأكبر من وقتي وطاقتي، بحيث لا يتبقى للقراءة في نهاية اليوم سوى القليل من الوقت والتركيز .. ولله الحمد دائماً وأبداً.
تسلسل الكتاب على المدونة: 36
التعليقات