في متجر السحر: رحلة طبيب جراح لفهم ألغاز الدماغ وأسرار القلب

كتاب ساحر بكل ما لمعنى السحر من تأثير خفي طاغٍ لا زائف ولا خادع، بل حقيقي يتوغل في أغوار النفس الإنسانية يشاركه فيه العقل والقلب معاً، لينعكس في الظاهر على أقوال الإنسان وأفعاله بشكل جلي ملموس!.

لم يكن (د. جيمس دوتي 1955) مجرد إنسان كغيره عانى ثم تغلّب على معاناته، بل تعرض سيرته قصة كفاح غير عادية وتجارب روحية كان مصدرها الإلهام الذي آمن به ووجد لكل معنى مرتبط به أثراً واقعياً أثرى حياته، فقرر تعليمه كما تعلّمه! كان فتى معدماً لأب مدمن وأم مكتئبة، عندما قادته دراجته البرتقالية يوماً -وهو ابن اثنا عشرة عاماً- إلى متجر لبيع المستلزمات المنزلية بغرض شراء بعض ألعاب الخفة التي كان مأخوذاً بها .. وهناك تقابله (روث)، السيدة الحصيفة التي اختارته عن حكمة، ودعته لتعلّم ما هو أكثر سحراً عبر تقنية عبقرية يتفاعل فيها العقل والقلب معاً، وبها تتحقق المعجزات وينال ما يشاء. وعندما شرع بتطبيق تلك التقنية الفريدة من نوعها كما وصفتها له (روث) وإن لم يكن ملمّاً بالتمام بكنه تلك التقنية، واستمر عليها، وعثر ثم نهض وصمم مرات ومرات .. توالت نجاحاته حتى أصبح جراحاً ناجحاً، وحقق ثروة هائلة. لم يتيقّن (د. دوتي) من جوهر تلك التقنية إلا بعد أن تعرّض لحادث سير مروّع كاد أن يودي بحياته، وبعد أن خسر كامل ثروته حتى عاد إلى نقطة الصفر .. فهو إذ لم يُحسن استخدام ذلك المال، فهو لم يكن يرغب به في الأساس، وقد أبعده عن شغفه الأصلي (الطب) حين أصابه الخيلاء. لذا، وعندما وافته الفرصة لاسترجاع ثروته ومقامه كمليونير من جديد، رفضها .. وتذكّر والده الذي لم يكن وفياً لوعوده، فوفّى هو بوعده المالي للمؤسسة الخيرية التي ارتبط بها، ووفّى لـ (روث) بعد موتها وبعد مرور الأعوام، حين طلبت منه أن يختار أحدهم ويعلّمه كما فعلت هي .. فأجزل بوفائه لها، ووضع كتاباً كاملاً ضمّنه عصارة تجربته يمنحه للجميع لا لفرد واحد، وقد بدء بدفعة الطلاب الذين التحقوا مؤخراً بكلية الطب! إذاً، إنه ليس العقل وحده الذي يأخذ بالمعقول، ولا القلب وحده الذي يتقبّل اللامعقول، إنما هما معاً عندما يتفقان .. فيأتيان بأعمال السحر.

تعرض السيرة -التي بدت من خوارق اللامعقول- في ثلاثة أجزاء، رحلة الطبيب الذي تمكّن من فك شيء من ألغاز العقل وكشف بعض من أسرار القلب، كما يلي:

• الجزء الأول (في متجر السحر)
  • الفصل الأول: سحر حقيقي
  • الفصل الثاني: جسد في فترة راحة
  • الفصل الثالث: التفكير بالتفكير
  • الفصل الرابع: الآلام الحية
  • الفصل الخامس: ثلاث أمنيات
• الجزء الثاني (أسرار الدماغ)
  • الفصل السادس: درّب نفسك
  • الفصل السابع: غير مقبول
  • الفصل الثامن: ليست جراحة في الدماغ
  • الفصل التاسع: سلطان العدم
• الجزء الثالث (أسرار القلب)
  • الفصل العاشر: الاستسلام
  • الفصل الحادي عشر: أبجدية القلب
  • الفصل الثاني عشر: تجلي الرحمة
  • الفصل الثالث عشر: الطريق إلى النور

ومن السيرة التي جاءت في ترجمة متقنة جداً من نسختها الأصلية (Into the Magic Shop: A Neurosurgeon’s Quest to Discover the Mysteries of the Brain and the Secrets of the Heart – By: James R. Doty) والتي تُرجمت إلى أكثر من اثنين وعشرين لغة عالمية، أقتطف ما علق في روحي منها بعد القراءة، وباقتباس في نص شفاف (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، وقد استنفدت رصيد أنجمي الخماسي كاملاً:

• عن نقطة التحول التي يرسم القدر بعدها الطريق حتى نهايته .. يقول د. دوتي في (سحر حقيقي) بعد أن سألته روث بتحدٍ عن جاهزيته لتعلم السحر الحقيقي: “وبهذا السؤال البسيط، تحوّل مسار حياتي كلياً مهما كان ما يخبئه لي القدر من قبل”.
• وفي (جسد في فترة راحة)، ومع أوائل لقاءه بروث التي كانت ترتدي حينها سترة بأرق درجات اللون الأزرق الأشبه بسماء مدينته في الصباح الباكر، يسرد د. دوتي بعض خواطره قائلاً: “في تلك السنوات، كان أول شيء أقوم به عندما أنهض صباحاً هو النظر من النافذة، ولسبب مجهول بالنسبة إلي، كانت تلك السماء تشعرني بالأمل”.
• وعن (الآلام الحية) وأول تجربة له في مضمار الجراحة العصبية الذي لم يكن متاحاً إلا في أواخر القرن العشرين، يروي كيف ساعدته روث على تشكيل خطوط ارتباط عصبية جديدة في دماغه، وعلى استقرار حالته العاطفية بمعدل ضربات قلب وضغط دم معتدل، من خلال ما يعرف طبياً اليوم بعمليات العصب الودي. فيقول: “تمكنت روث بحدسها وحده من تحويلي إلى شخص أكثر تركيزاً وانتباهاً .. أكثر هدوءاً، وتمكنت من رفع مستوى جهازي المناعي وخفض مستوى التوتر الذي كان يستحوذ علي. وفي النهاية، تمكنت من خفض مستوى ضغط الدم في جسدي، وفعلت كل هذا لإيمانهــا بما كانت تعلّمه لي دون أن تعرف أي شيء عن علم النفس الحقيقي الماثل خلف سحرها ذاك“.
• يشارك في صغره تطوعاً أفراد الشرطة في تغليف سلال الهدايا التي سيتم توزيعها على العائلات الفقيرة في عيد الميلاد .. السلال التي وصل من بينها واحدة لمنزلهم ضمن من عدّهم أفراد الشرطة فقراء. يقول د. دوتي عن إحساس الرعب الذي تملّكه حينها وما تعلّمه لاحقاً من ذلك الموقف في (درب نفسك): “من النادر أن يتواجد المرء في موقع المحسن الكريم وفي موقع المحسّن إليه في الوقت ذاته. عرفت في تلك المناسبة بالذات بهجة العطاء وفرحة التلقّي في الآن ذاته، وقد كان مزيجاً قوياً لكنني لم أكن أعرف آنذاك كم كان يمكن لتلك الحادثة أن تفيدني في حياتي فيما بعد”.
• يختم في (الطريق إلى النور) بخواطر قبل أن يُلقي كلمته في الخطاب المعتاد لـ (حفل الرداء الأبيض) المرتبط ببدء الدروس الأولى في كلية الطب، وقد أصابته سيرورة حياته التي استعرضها في تلك اللحظة بالدهشة .. إذ يقول: “من السهل أن ينظر المرء لماضيه ويربط بين محطات حياته، لكنه لا يعتقد أبدا بأن هذه المحطات والمواقف ستتراكب فيما بينها فيما بعد لتشكّل الصورة البديعة التي ستؤول إليها عندما يخوض غمار الحيــاة بعشوائيتها وعبثيتها. لم أنتظر نجاحاتي ولا عثراتي في الحياة، لكنها جميعاً جعلت مني زوجاً وأباً وطبيباً وشخصاً أفضل”.

ختاماً أقول: إنها سيرة ملحمية مؤثرة، تثير مشيج من المشاعر الإنسانية وقد كان صاحبها لا يؤمن بعقيدة يعتنقها، بل إن الحب والعطف والرحمة والإنسانية هو ما آمن به ومارسه كدين .. ولأمثاله ترفع الإنسانية القبعة.

= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =

من الذاكرة: جاء تسلسل السيرة (7) في قائمة طويلة من كتب فكرية خصصتها لعام 2023 والذي أرجو أن يكون استثنائياً في جودة الكتب التي سأحظى بقراءتها خلاله .. وهي رابع ما قرأت في شهر مارس، وقد حصلت عليها من متجر جملون الإلكتروني للكتب العربية في يوليو من عام 2020، ضمن (50) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة.

خاطرة: لست ممن يؤمن بالصدف! لقد وقع هذا الكتاب في يدي عندما كنت في أمسّ الحاجة إلى دفقة حياة جديدة! قصدت مكتبتي التي تصطف الكتب فوق أرففها العريضة كالجنود المجنّدة، والتقطته تحديداً دوناً عن غيره! كان غلافه ساحراً .. سحر كل ما كان قد اعتمل في قلبي من تصوّرات ميتافيزيقية سابقة لا تمتّ للواقع بصلة .. وكأن (روث) لا تزال تنادي أشباهها ممن تتوسم بهم النهوض .. كتاب رأيته يشبهني في عدد من جوانبه .. أسال الدمع الحبيس، وعالج متلازمة القلب المنكسر، وأوقد شمعة في ليل النفس المظلمة!

من فعاليات الشهر: لا شيء مميز سوى مصارعة الوقت لاستكمال أعمال فائتة من العام الماضي .. وقد أجلّت عمل الأمس إلى اليوم وإلى الغد وإلى ما بعد الغد .. وقد صادف العشر الأواخر منه استهلال رمضان المبارك لعام 1444 هجري، وهو الشهر الذي أتوقف فيه عن القراءة، لاغتنام الخير المشمول به!

تسلسل السيرة على المدونة: 407