رغم الخطوط الحمراء والشمع الأحمر الدبق فوق التابوهات، أبت الكاتبة الأكثر جرأة والأصعب جدلاً إلا أن تبحر في اللجج بطاقة السهل الممتنع ضد تيار الهوى في محيط إقطاعي أبوي، يموج في غياهب غلو وتطرف وتكفير، بين أعراف وشرائع وقوانين .. لا أصل لها!.
إنها إذاً جمانة حداد .. تلك التي تطلّ إعلامياً كنار فوق علم! إنها كاتبة وشاعرة وصحفية ومترجمة ومحاضرة وإعلامية وحقوقية بارزة .. جميلة المخبر كما المنظر .. تتقن اللغات وتحاور الأدباء وتبارز الساسة وتستفز الدُعاة وتناضل من أجل كلمة الحق، وتلقى ما تلقاه من هجوم ضد دعاوى نسوية وإباحية وإلحادية كذلك!. لقلمها انسيابية رغم قساوته تجعل من قراءة اعترافاتها الغاضبة كمن يخوض الحمم بقدمين لاهثتين في غبطة وثورة معاً .. وقد يتوقف اللهث فيما بعد، لكن لا ينطفأ الغضب بعد أن أشعلته جمانة.
يعرض فهرس الكتاب -الذي يحمل سيرة ذاتية لنسوية غاضبة تُرجمت إلى اثني عشر لغة- سبع اعترافات نارية، تسبقها مقدمة وملاحظة وكلمة، ويتبعها إقرار بجريمة قتل الروائية العربية الأبرز، تُختم بالشكر .. أعرضها كما يلي:
- امرأة عربية تقرأ الماركي دو ساد
- امرأة عربية لا تنتمي إلى أي مكان
- امرأة عربية تكتب شعراً إيروتيكياً
- امرأة عربية تؤسس مجلة عن الجسد
- امرأة عربية تعيد تعريف أنوثتها
- امرأة عربية لا تخاف استفزاز الله
- امرأة عربية تعيش وتقول لا
ومن طاقة الغضب التي ضخّتها الكاتبة في كتابها -وقد استنفد رصيد أنجمي الخماسي ولم يبق- أفرد الأسطر القادمة لإفراغ شحنتها، وفي اقتباس بنص ثائر (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:
ملاحظة: ترد بعض التعليقات في نص أزرق .. لا تعبّر سوى عن رأيي الشخصي.
قبل البدء .. وجب التنويه!
لا تحب الكاتبة شهرزاد .. فقتلتها، إذ ما برحت “تحتفي ثقافتنا بشهرزاد كامرأة كانت على قدر كبير من العلم والذكاء والحنكة والخيال، الأمر الذي مكنها من إنقاذ روحها من الموت المحدق بها، من خلال «رشوة» الذكر .. الملك شهريار بمتاهة قصصها الساحرة”. في موضوعية -وبعيداً عن أي شبهة غيرة أو افتراء- اتفق والكاتبة بأن شهرزاد لا بد تمتعت بذكاء دعاها لاستخدام أداة وحيدة أتيحت لها آنذاك لإنقاذ رقبتها من حبل مسرور السيّاف، وهي (المسايرة)! غير أن الأداة العقيمة تلك لا ينبغي أن تُتوّج كنموذج نسائي أمثل في “سايرن الرجل .. امنحنه ما تملكن وما يشتهي، وسوف يدعكن وشأنكن”.
ولنبدأ الحكاية!
- تُعدّد الكاتبة في المقدمة (الثورة التي نحتاج .. الثورة التي نستحق) ركائز الجدار العربي الذي رغم تأسيسه الهش، اللامرئي واللاملموس، فوق “معتقدات ونبوءات وآيات ووصايا مقدّسة” له متانة الحديد والأسمنت بحيث لا يقبل الشك والنقض! هي على التوالي: أولاً: (الدين)، وهو أصل العقدة وقد أسمته الكاتبة بـ (البعبع) .. ثانياً: (الأنظمة المجتمعية البطريركية. سياسة المكيالين والتمييز ضد النساء. العنف العبثي الإجرامي الممنهج نحو المرأة. سلبية المرأة وانعدام الوعي. الأنظمة السياسية. الثقافة النائمة الجاهلة. الفلسفة الاقتصادية الطبقية في توزيع الثروة). لا تتسع المسافات والكاتبة في طريقها تواجه حجراً فوق حجر، فتعدد في نبرة تتحدى رغم الإحباط قائلة: “أتريدون بعد؟” أحجاراً أكثر وأكثر: حجر الظلم .. حجر الجهل .. حجر الطاقات العاطلة .. حجر عدم تحمل المسئولية .. حجر النفاق .. حجر الوعود الكاذبة .. حجر الضمائر الميتة .. حجر الخوف .. حجر تكميم الأفواه .. حجر الانتهازية .. حجر الاستهلاكية .. حجر رفض الآخر .. وغيرها المزيد من أحجار!.
- تستمر الكاتبة في المقدمة لتفتح النار على الأديان التوحيدية وما جاءت به من نصوص تنافسية لا يمسّها طائل في إذلال المرأة بقدسية!. تستبق الكاتبة ردود الفعل وترد متهكمة على من يعتبر تلك النصوص سالفة الزمان والمكان لا تعكس سوى الظرف الاجتماعي الذي أحاطت به: “سأقول: فليكن. سأسلم كمحامية جيدة للشيطان بصحة هذا الادعاء، وأتجاوز «خطأ التصنيع» الأصلي”. ثم تلقي سؤالاً لأولي الألباب عن استمرارية تلك الكتب حتى وقتنا الحالي في تشكيل دساتيرنا الفكرية والأدبية والاجتماعية والقيمية والأخلاقية وسائر مناحي حياتنا؟ إن هذه النصوص لا تقبل المساس، ولم تسفر عن أي محاولة لإصلاح داخلي يحسّن من وضع المرأة لا سيما الديني، ويعيد كرامتها ويثبّت موقعها المساوي للرجل .. قولاً وعملاً.
- لا تزال الكاتبة في المقدمة مع مقارنة الأديان التي تتفق أجمعين وموقفها العدائي ضد المرأة يعززها تاريخها الأنثروبولوجي، تستشهد في هذا بمقولة المؤرخة (آن موريل) التي تعتبر أن “هذه الأديان ولدت في حوض المتوسط، وهو مكان جغرافي واجتماعي حيث المعايير الذكورية راسخة، وحيث النظام البطريركي يحكم على النساء بموقع دوني”. تنفي الكاتبة -من غير قصد الدفاع- إدانة الإسلام وحده في هذا العداء الذي يتقصّده الغرب عادة بأصبع اتهام، إذ يشكر رجال اليهودية الله في صلواتهم على نعمة خلقهم ذكوراً لا إناثا. ثم لا تنسى أن تذكّر الغرب المسيحي بما حملت رسائل مار بولس من مصادرة حق النساء بالتحدث في الأماكن العامة أو في الاجتماعات والمحافل الرسمية “وأنه بين الرسل الاثني عشر، لم يختر المسيح أي امرأة”. تستمر في كيل المزيد من الاستفزاز الذي تستهول معه خبر اعتزام خمسين كاهناً ينتسبون إلى الكنيسة الأنغليكانية تحولّهم إلى نظيرتها الكاثوليكية إثر إعلان الأولى اعتزامها إقرار مرسوماً يسمح بمنح النساء مرتبة الأساقفة، الأمر الذي أثار عاصفة من التراشق نقداً وجدلاً بين الكنيستين!. يأتي الفاتيكان بجلاله ليزيد من بلّة الطين وقد وصف هذا الاعتزام بـ (الجريمة) التي لا تختلف عما يُقترف من جرائم اعتداءات جنسية ضد الأطفال. ثم تستتبع التهويل بسؤال استنكاري يعني بنات جنسها اللاتي قد تقرأ إحداهن هذا الكلام “ولا يقشعر بدنها غضباً”؟ وأنا غضبت -كما أغضب عادة على هكذا هراء مقدّس- واسترجعت تواً ملامح زميلة الدراسة اليابانية ونحن على مدرج الجامعة في إنجلترا حين أتحفتها بـ (طراطيش) حول الإذلال الديني-المجتمعي المعني! لقد كانت كالدمية قبل أن يحتقن وجهها دماً وينسحب منها كل لفظ سوى واحد من عيار (F) جودّته بالمَدّة على طريقة النحو العربي!
- وكنتيجة حتمية لكل امرأة حرّة، غيورة على إنسانيتها في المقام الأول، تعلن الكاتبة رفضها عضوية الكنيسة الكاثوليكية “ما دام من المحرم على المرأة أن تكون رأس الكنيسة الكاثوليكية”، واستمرار فضحها للبرقع الإسلامي “كأداة قمع وإلغاء مهينة لكينونة المرأة” طالما لا يرتديه الرجال المسلمين! لا تكتفي، بل تصدح في فخر معرّفة عن هويتها: “مليون مرة كافرة، ولا مرة مهانة في أنوثتي وكرامتي الإنسانية”. عن نفسي، لا أستغرب نتيجة حتمية كهذه قدر استغرابي لمن لم يصلها بعد، رغم زخم الامتهان الإنساني باسم الدين بكرة وعشيا .. يشهد على ذلك موجة الإلحاد التي تعصف بمؤمني شبه جزيرة العرب .. إنها مسألة وقت لا أكثر لمرحلة أكثر كارثية!. ثم لا تلوي تتوعد أولئك الذين يعتقدون بإصابتها بلوثة غربية، إذ أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ينص على (عالميته)، وتطالبهم بالتالي الرجوع إلى نص الإعلان. ولا تهدأ حتى تسدّ كل منفذ لأي ذريعة تتلبس بالمقدّس لاسيما من قبل نسوياته، فتقول وهي لا تخفي إحباطها من الحقوقيات النسويات، المسلمات والمسيحيات على حد سواء، ممن يثرن مفاهيم «النسوية الإسلامية» و «النسوية المسيحية»، بأن هذا النوع من التسويات غير مجد طالما أن الفساد يأتي من عمق الثمرة، وإن مجرد الاطلاع على نصوصها يكفي لتأكيد هذا القول، ولا تستثني أحد! عليه، يُصبح البديل لا محالة الاعتراف بعدم إمكانية التناغم بين التشريع الديني وحقوق المرأة، مهما قيل.
- تنتقد الكاتبة إلى جانب هذين الصنفين من النسوية، “النسوية الراديكالية” التي سادت في سبعينيات القرن الماضي، وهي نسوية لا تضادّ الرجل كما يبدو فحسب، بل إنها “خصوصاً ضد ذاتها”. تعتقد أن هكذا طريقان أفقيان إنما يسيران كندّان متضادان لا يؤّمل معهما مفرق طريق يلتقيان عنده، وهما يجرفان معهما ما كان يمكن أن يتحقق من آمال ومشاريع وطاقات وخبرات بين الرجل والمرأة لو التقيا، بل إن الأمر قد لا ينتهي إلا بجملة مآسي من جنون وفصام وحماقة وحقد ويأس وخيبة ومرارة وألم، رغم أن “نقاط تلاقيهما تفوق بأشواط نقاط اختلافهما، لا بل إن الاختلافات بين الأفراد هي أكثر حدة من أبناء الجنسين”. لذا، تنسب الكاتبة نفسها إلى جيل “ما بعد نسوية”. وهي فلسفة وجودية لا تشاؤمية تتطلب موقفاً صارماً يقلب الطاولة “طاولة الرجل هنا والمرأة هناك .. على من حولها” وأي جهد آخر إنما هو ضرب من المداهنات الاجتماعية يعتبر مكمّلا لثقافة العماء والمراوغة والتخابث فيما يتعلق تحديداً بصميم العلاقة بين الرجل والمرأة. كم أجد هذا التوجه عقلانياً حكيماً لا سيما حين رأيت صاحبته يوماً تنادي به على الشاشة مخاطبة الرجل كنسوية: كما لا أقبل بأن أكون “وراءك”، لا أسعى لأن أكون “أمامك” .. بل طبيعياً “حدك”.
- مثلما يُخيّب هذا التوجه المتربصين بالكاتبة الليبرالية، تُفصح بدورها عن رأي لا يقل حكمة وتعقّل يضاعف كيل خيبتهم .. رأي يرفض كل أشكال تشييء المرأة كجسد يستحق السجن الأسود عند قوم والإباحة عند قوم آخرون!. تقول: “هنا البرقع وإخوته وأخواته، وهناك لحم على هوى المزاد”، أما الحديث عن كرامة إنسانية تشمل الجنسين وقوتهما معاً فلا مكان له! يتطابق هذا وموقف د. نوال السعداوي في تغطية وتعرية المرأة .. إذ هما لديها وجهان لعملة الجسد!.
- تعيب الكاتبة -وهي لا تزال في المقدمة- الموقف العربي الذي يعيب غيره وهو المعيب، في تطرقها للمظاهرة الضخمة التي شنّها حشود الإيطاليين من نساء ورجال معاً عام 2011 في العاصمة روما، ضد رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق (سيلفيو برلسكوني) وفضائحه المبتذلة المتكررة! فما بال العرب؟ أو كما حددت “نحن اللبنانيين الذين ما زلنا نربط مفهوم الشرف بعود الكبريت الموجود بين فخذي امرأة (على رغم ادعائنا العكس)؟ نحن الغرقى في قرف الذكورية واللااكتراث والتهويل والمزايدات والانقسامات”. وأقول: بل أنه من دواعي الخزي الذي تشهده البشرية في ألفيتها الثالثة على أمة العرب جمعاء، المجادلة عن قطرة دم تختنق بين فخذين أنثويين، يهرق الذكور على جوانبهما شلالات دم باعتبارها الحبر المقدس الذي يكتب شرف العيلة ويرفع شوارب القبضايات!. وأتساءل بدوري: كم قبضاي من هؤلاء سيبقى على قيد الحياة لو طُبق فحص العذرية ذكورياً؟ أكاد أحصيهم على أصابع يداي العشر وبضع من قدماي!.
- لا تصبّ الكاتبة جام غضبها على الرجل الشرقي فحسب، فللمرأة نصيب الأسد مما تلقى .. إذ لم يتمادى الرجل سوى لعلمه المسبق بإمكانية الكيل بمكيالين في “شرق السلطة الرجالية والرضوخ النسائي”. تؤكد الكاتبة قولها من خلال التجارب الجنسية التي يعتبرها الرجل “دليل فحولة” وهو يقوم بتجميعها كخبرة تراكمية، ووصمة العهر التي تصيب المرأة لو تصرفت هي بجسدها أو بـ “هديته” حسب تعبيرها! إن الرجل ليتمادى وقد علم أن الشرائع ازدواجية .. فما هو حرام عليها حلال زلال عليه، وقد علم أن المرأة مهما أوتيت من علم ونالت من شهادات فهي “نكرة إلى أن تتزوج وتنجب”، وإن أكاذيب المجتمع الشرقي مجتمعة أرحم بكثير “من صفة عانس” تلحق بها. تضرب الكاتبة مثلاً في الناشطة السعودية (منال الشريف) التي تجرأت على قيادة سيارتها ضمن حملة (سأقود سيارتي بنفسي) حين تداولنها السعوديات عام 2011، وقد اقترفت بهذا -لديهم- جريمة شنعاء نكراء يندى لها الجبين عاراً! وفي الوقت الذي دارى فيه الوالد عاره باعتذار قدمه رسمياً إنابة عن ابنته المنحرفة، تهافتت الذكوريات في كيل سيل من تنديدات ضد فعلها المشين، متذرعات بوجود أولويات يتطلبها المجتمع من إصلاح اجتماعي واقتصادي وثقافي أهم من ترف قيادة السيارة. تقول الكاتبة: هكذا “علقت الناشطات الشاطرات، وأضفن أن أي امرأة تغرر بها الليبيرالية وتقوم بأفعال مماثلة تستحق أن يبصق على وجهها وأن تتعرض للجلد”. لا تفوّت الكاتبة فرصة التهكم -وحُق لها- قائلة: “فمرحبا «ناشطات» ونيال المرأة وكرامتها بنساء كهؤلاء النساء”. وكأنني أرى كل واحدة منهن تتغلف بالسواد من قمة رأسها حتى أخمص قدميها، وتعلّق وساماً فوق صدرها يقول: (ضلع أعوج .. وأفتخر) .. فلا عجب! لا تختلف تلك الأضلاع عن صويحباتهن المصريات المثقفات -ومرحباً مثقفات- اللاتي أطللن على الشاشات يؤكدن عدم خلق المرأة للمشاركة السياسية أصلاً، وثورة الرئيس اليمني الهالك على ثورة شعبه المطالبة بالمدنية، ضد (جريمة الاختلاط) التي اقترفنها اليمنيات حين نزلن الميدان والتحمن باليمنيين، يعتصمن ويطالبن وينددن!.
- في نهاية المقدمة التي تتفاءل معها الكاتبة بالربيع العربي وتداعي أنظمته السلطوية، تطلق تساؤلات تبدأها بـ “متى تنتقل المرأة في العالم العربي من لازمة (أعطوني حقوقي) إلى صرخة (سآخذ بيدي حقوقي)”؟ ومتى تعي أن حقها فرض وليس مندوب؟ وأنها ليست بوعاء للزواج والإنجاب أو خادمة ذكور العائلة تسمع وتطيع؟ وأن الحديث عن الحريات دون حريتها، والديمقراطية دون مساواتها، والتغيير دون وضعها، ليس إلا هراء؟ وأن عليها الخروج من شرنقتها بأظافر حادة تشق طريقها بنفسها؟ وأن عليها استخدام عقلها وصوتها لا أذنيها فقط؟ وألا تساهم في تثبيت أسس المجتمع البطريركي باستسلامها واستحسانها؟ وألا تتكاثر وقريناتها كعدوات أنفسهن؟ وألا يصبح شغلها الشاغل خاتم وفستان وفارس يأتي فوق فرس أبيض رغم علمها وعملها؟ وتستمر تتساءل عن “قنبلة المرأة العربية” متى تنفجر؟ تعني القنبلة التي تحوي غضبها على ما تم فرضه عليها فرضاً يلزمها بالتسليم، والتي تفجّر معها ما أخفت من قدرات وطموح وحرية ومكانة وكرامة وحقوق؟ “أعني قنبلة إيمانها هي بنفسها خصوصاً”؟ وعن الحل تقول: “الحل هو الهدم ثم الهدم ثم الهدم .. فالبناء من جديد .. رجالاً ونساء معاً واليد في اليد. هذه هي الثورة التي نحتاج .. هذه هي الثورة التي نستحق”. وما هذا الكتاب سوى صرخة غضب من صرخاته!.
- تنتقل الكاتبة إلى (كي نبدأ) لتتوجه إلى القارئ العربي والغربي سوية، وتسرد قصصاً من قصصها تحدّد فيها ملامح (كيف يكون المرء عربياً)، معتمدة أسلوب النقد الذاتي الذي يبدأ بقول الحق على نفسه أولاً .. لا فضحاً بقدر وضع النقاط فوق الحروف. أولاً: عارض الفصام! أن يعيش في ازدواجية يُبطن بدواخله خلاف ما يقول ويفعل. يأتي هذا ارضاءً لثقافة “وهم الأكاذيب المطمئن” التي تسود المجتمع العربي مطالبة بكبت الحقيقة حفاظاً على البكارة العربية سليمة. ثانياً: عارض القطيع! أن يعيش مجرد رقم ضمن قطيع يتبع زعيماً أو شعاراً أو قضية بعماء. ثالثاً: عارض المآزق! وما أكثرها من مآزق: فقر، بطالة، مرض، تعصب ديني، تمييز عرقي، فساد سياسي، عنف ضد النساء، انعدام الهدف، فقد الهوية، عداء الغرب، سرقة المال العام، القضية الفلسطينية والشرق الأوسط … الخ!.
- وفي معرض هذا الحديث، تتطرق الكاتبة إلى مصاصي الطاقة أو كما أسمتهم بـ (الظلاميين) الذين يقتاتون كـ (الطفيليات) على كل شيء حي في نسيج المجتمع العربي! إنهم كذلك في نفوسهم وقلوبهم وعقولهم، “من شيمهم تشويه كل شيء حرّ وخلاق وجميل وخارج على سرب التفاهة والنفاق والازدواجية، لمصادرته وإلغائه”. لا يقفون عند هذا الحد فحسب، بل يتصدون لكل من استطاع أن ينمّي حريته ويتلألأ في جمال خلقه، بحملات مغرضة لتشويهه وتحطيمه .. هكذا غلاً وحقداً وحسداً من عند أنفسهم. تنال تلك الطفيليات أكثر ما تنال من المرأة العربية الناجحة، لا سيما من خلال قذف غشاء الشرف المهترئ .. قذف يضمن فكّ شرف الجدود معه!.
- لا يبذل الغرب في عمومه جهداً لاكتشاف النسيج الفسيفسائي المعقّد الذي يشكّل في مجمله ثقافة عربية يكسوها من خليجها إلى محيطها، وما الاجتهادات الفردية من طرفه سوى استثناء يشذّ عن القاعدة، فضلاً عن تعاطي إعلامه صورة نمطية عن إرهاب إسلامي-عربي لا يحيد، بالإضافة إلى تداول أخبار تُغذي تلك النمطية رغم سطحيتها، كقصة القاصر اليمنية نجود التي تزوجت قسراً بأمر ذويها، والصحفية السودانية لبنى التي واجهت عقوبة الجلد في سروال جينز ارتدته في حفل ثم ألفّت به كتاباً بالفرنسية! تبدو الكاتبة مستسلمة أمام هكذا معضلة تواجهها بين حين وحين، إذ تجد نفسها في مرات كثيرة تواجه جمهوراً فاغراً فاه حول امرأة عربية ترتدي القصير بدل الحجاب في ألفية الكون الثالثة، فتقول: “وكم من مرة وجدتُ نفسي أنفي أن يكون للصحراء أي تأثير في شعري، لأن لبنان بكل بساطة بلد غير صحراوي”. كذلك، تنأى الكاتبة بنفسها عن اتقان الرقص الشرقي كمهارة يعتقد بها الغرب -وراثياً- عند أي أنثى شرقية! استرجع في هذا طفلة زميلتي الأسيوية حين شاهدتني أرتدي الـ (سبور)، ثم (وشوشت) لأمّها ما إذا كنت عربية حقاً كما أخبرتها سابقاً .. وتلك الأوروبية التي استنكرت عدم ارتدائي (اليشمك) وقد غطت بكفيّها وجهها معبّرة عن غطاء الوجه الذي يُفترض أن أضعه كوني عربية، فضلاً عن بنطال الجينز الذي كنت أظهر به حينها .. وسؤال معلمتي الأسترالية حين شاهدتني أثناء دراستي في إنجلترا وأنا اعتمر قبعة وأرتدي الجوارب الحمراء أسفل ميني جيب، ما إذا كنت ارتديهم في بيئتي التي من المفترض أن تكون صحراوية .. لا جغرافياً فقط بل ثقافياً!.
- تأسف الكاتبة في (امرأة عربية تقرأ الماركي دو ساد) لشحّ المكتبة العربية المعاصرة من إصدارات إيروتيكية، رغم تراثها الثقافي الذي يزخر بما لا توازيها الإصدارات الغربية مجتمعة حتى اليوم. تعرض في هذا مقتطفاً لما جاء في كتاب الشيخ النفزاوي الأشهر (الروض العاطر في نزهة الخاطر) وقد وضعه في القرن الخامس عشر الميلادي. ثم تتساءل عن التقهقر الذي أردى بالثقافة العربية من حرية وعفوية في تناول المسائل الجنسية إلى هكذا كبت مأزوم؟ وهو سؤال ضمن جملة أسئلة تستحوذ عليه وتؤرقها. عن نفسي، حاولت قراءة الكتاب المذكور لكن لم أستطع لجرأته!
- تفضح الكاتبة في (امرأة عربية تكتب شعراً إيروتيكياً) الازدواجية الشرقية التي تطول حتى الأدب، لا من خلال مقص الرقيب فحسب، بل من أولئك المنتسبين له المتشدقين بفضيلته في الوقت الذي يحرّمون فيه على الأدباء حرية التعبير. تتمادى تلك الازدواجية لتفرض على الأديبات من القيود ما لا تفرضه على نظرائهن من الأدباء! “ففي عالمنا العربي العزيز، يؤذن للرجال بالتحدث عن أعضائهم التناسلية بمقدار أكبر من الحرية (ناهيك باستعمالهم لها بمقدار أكبر من الحرية كذلك). كما يؤذن لهم كعلاوة مجانية بالتحدث عن أعضاء النساء التناسلية أيضاً”، وتقارنهم بالنساء اللواتي يكنّ عادة في محل (مفعول به) يباركن ما يتلقين من نصوص ذكورية، وكأنهن ما خلقن للتعبير عن أنفسهن بل ليتم التعبير عنهن! تذكر في هذا الحال قول الفيلسوف الفرنسي (ميشال أونفري) في كتابه (قوة الوجود): «عندما يمنحنا الأدب بطلة نظيرة لكازانوفا، وعندما يضفي هذا الاسم صفة إيجابية على الشخص الذي يحمله، عندها فقط يمكننا التحدث عن مساواة حقيقية بين المرأة والرجل”. وأضيف: ومن رجال الدين من يُسهب في الحديث عن حيض المرأة ونفاسها بحيث يُخيل للسامع أن (فضيلة الشيخ) بجلاله يحيض! وعن الخوض في الجنس، والحلال والحرام فيه بين الرجل والمرأة، استرجع الإشاعات الصفيقة التي طالت حياة د. نوال السعداوي قبل وفاتها بأعوام، والتي جاء في نصّها: “ماتت التي ألّفت كتاب المرأة والجنس” .. ولا أعلم مكمن الخلل؟ أفي كتاب عن الثقافة الجنسية؟ أم عن كتاب في ثقافة المرأة الجنسية؟ أم عن كتاب في ثقافة المرأة الجنسية بخط امرأة؟ أم عن كتاب في ثقافة المرأة الجنسية بخط امرأة لا رجل؟.. وإن في عالمنا العربي العزيز يُسمح للرجل بالحديث عن عضوه وعضوها (على غرار: بدي دوا إلها وبدي دوا إلي)، بل إن هذا ما قد تستحسنه بعض النساء الذكوريات بغض النظر عن حديثه علمياً كان أم إباحياً، أمّا أن تتجرأ امرأة في مس عضوها ولو طبياً-تشريحياً-تثقيفياً كما فعلت د. السعداوي فعار وشنار!. ومن العوَر أن تهرع تلك الذكوريات إلى طبيب يفحصهن “×××” مع وجود طبيبة، بحجة أنه (يفهم) في “×××” فهماً (أعمق)!. ولإضافة مزيد من الملح على جروح أولئك، أزيد كتاباً! فقد ألفت د. السعداوي كتاباً توأماً بعنوان (الرجل والجنس).
- تكمل الكاتبة كلامها في الشعر الذي ما هو سوى لغز .. إلهام .. فيض .. نشوى .. غموض .. طاقة .. خلق .. نجوى .. صقل .. كون .. خيال .. كلما تساءل الرفاق عن سر امتهانها الشعر لا الروايات! إنه الفضاء الذي لا يحدّه ممنوع أو مسموح .. إنه الفضاء الذي لا تكون فيه الشاعرة سوى هي. يأتي تعبير الكاتبة الشاعرة أكثر بلاغة وهي تقول: “لأن «الشعر دليل على أن الحياة ليست كافية» كما قال فرناندو بيسوا ذات مرة” .. إن الشعر يمثل له لحمه ودمه كما أراد لهما أن يكونا من غير غطاء .. كالقصة المتّقدة التي تحلّ على روحه المتعطشة عندما تأتي بلا مقدمات! ومع ذكر شاعر البرتغال الأول، استحضر أجواء سهرة (فادو) الشاعرية التي حضرتها في مدينة لشبونة والتي وإن لم أفهم تراتيلها حرفياً، إلا أنها لامست النوستالجيا العميقة بداخلي .. بأصوات البرتغاليات الصادحة وبوهيمية طلتّهن .. إن الشعر لغة عالمية!.
- تنفي الكاتبة في (امرأة عربية تؤسس مجلة عن الجسد) شبهة الإباحية التي طالت مجلتها رغم أنها “لا تتنصل من وصمة البورنوغرافيا بسبب الطهرية والتزمت”، مع أن تعاطي البورنوغرافيا في الثقافة العربية سائدة وإن أتت بصورة مقننة، “ففي لبنان وبلدان عربية أخرى ما يكفي من البورنوغرافيا السياسية والاجتماعية والإعلامية والفنية والثقافية والعقلية والفكرية والأخلاقية”. وأقول: كذلك (الدينية)! فمن الفقهاء -ولا أعمم- من يتجرأ بالصوت والصورة تصوير غانيات ناهدات موعودات في جنة موعودة، لا تقل إحداهن سخونة عن المقعد الذي يقبع فوقه ومن أمامه المريدين يهيّجهم .. وكل هذا باسم الدين والدين منه براء!. كم يحلو لي تسمية هؤلاء الفقهاء بـ (عبّاد فرج المرأة).
- وفي إطار حديثها عن مجلتها (جسد) التي حوربت بها على أصعدة كُثر، تستمر الكاتبة في لطم الازدواجية العربية التي تطول أجهزة الرقابة فيها أروقة الثقافة ما طال طائل الثالوث المقدس: الدين-السلطة-الجنس، وقد تغافل أصحابها بأن العصر الرقمي بات كتعويذة (شبيك لبيك)، لا يُعجزه وصل ما قطعته الرقابة!. لا غرو، فهذه المؤسسات الراعية للحداثة -كما تتظاهر- ليست سوى أداة لتنفيذ الأجندات الحكومية في الإبقاء على عصور الظلام مخيّمة فوق رؤوس الشعوب، تضمن بها رجعيتها ومن ثم ولائها المطلق. غير أن نعيق تلك الأجهزة ضد الغرب الذي ما برح شاهداً على جرائمها ونتائجها لهو الأكثر رجعية! تقول الكاتبة: “الرقابة! ذلك الملاك الأسود الشهير الذي يحوم فوق مثلث برمودا العربي في بلداننا، وأعني مثلث الجنس، الدين والسلطة”. إن هذا المقص الشرير له من الحماقة ما يجعله يغفل بأن (كل ممنوع مرغوب)، وأن المنع ما هو إلا إعلان ترويجي يضمن إقبال أكبر ونجاح أعرض، وأن نقرة خفيفة على أزرار التكنولوجيا الآنية تتكفل بتوفير كم من المعلومات مما خفي ومما أعلن، وكأن الرقابة في هذا أصبحت “عدوة نفسها الأولى”؟! لا تطمح الرقابة في هذا الحفاظ على الأخلاقيات الثقافية في إطار من حداثة وشفافية -كما تدّعي- بقدر الحفاظ على قيم الجهل والتخلف والمرض والكذب مستشرية في المجتمع .. إن الهدف هو الإبقاء على أزمة العقل العربي قائمة، وإبقاء الوعي الجمعي في ضحالة وتغييب عمّا يجري حوله، كالنعامة التي تدفن رأسها في التراب توهم نفسها باستتباب الأمن رغم الشر المحدق بها، لاسيما أصابع الاتهامات الغربية وسوء فهمه الذي يتم التصدي له بما يغذّيه ويجعل من تلك الأصابع تتطاول أكثر فأكثر. لا تبالغ الكاتبة حين قالت: “يفترض في الرقابة أن تكون ماكرة وذكية وهي في عالمنا العربي غبية بامتياز”. وفي الحديث عن الرقابة المثقوبة، وعن تجربتي في معرض للكتاب بإحدى المدن العربية، فوجئت بمنع رواية (قواعد العشق الأربعون) بحجة الفكر الصوفي الذي تقوم عليه .. ثم بمنع كتاب (الجنس في العالم العربي) وهو تأريخياً لا إباحياً، لإشكالية (العربي) فيه .. ولو كان (الغربي) لأُجيز حسب رأي صاحب دار النشر! المفارقة أنني حصلت عليه لاحقاً عن طريق البريد الحكومي التابع لنفس المدينة .. أما كتاب (من الجنس إلى أعلى مراحل العقل) فقد تم منعه كما يبدو لـ (الكلمة الفجّة) رغم أنني حصلت على كتب لنفس المعلم -ومن نفس المنفذ العربي- يحمل عنوانها ومضمونها الكلمة ذاتها! ترحل ذاكرتي الآن إلى ماض ليس ببعيد حينما كنت على مشارف العشرين أتجول يوماً في مكتبة المدينة كعادتي، حتى حُبست الأنفاس باقتحام رجل عاقد الحاجبين مفتول الشاربين يحمل شوال ويتوجه مباشرة نحو رف بعينه وكأنه يتقصّده، وشرع بتعبئة جميع النسخ المعروضة لكتاب ما فوقه في ذلك الشوال! في فضول سألته: لمَ؟ فأجاب باقتضاب: “هنالك أناس لا تحترم نفسها”. وبعد رحيله، تمتم لي عامل المكتبة بأنه رقيب ينفذ الأوامر، رغم أن الكتاب المعروض قد تم ترخيصه رسمياً، فلم الخلط؟ ولمَ قطع الأرزاق؟
- إخصاء الجسد يتبعه إخصاء الفكر والروح! هل العفة تقتضي فرض المحرمات وتغليظ التابوهات، أم أن العفة تقتضي اروائها لتُزهر؟ تسترسل الكاتبة في حديثها عن مقص الرقيب الذي لا يطول العلم والأدب والفكر فحسب، بل يتعداه لما يشكل للإنسان إنسانيته. تقول الكاتبة على لسان هيلين سيكسوس: “إذا طال مقص الرقابة الجسد، فسيطال في الوقت نفسه النّفس والكلمة. يجب أن يلقى جسدك من يصغي إليه”، وتطرح سؤالاً حول مدى تمكننا نحن العرب من النجاة من هيلمان الإغراءات التي تكسو العالم بأسره بينما لا رقيب لنا يحمينا! “أنى لنا أن نكون القديسين والأنبياء الذين من المقدر لنا أن نكونهم بدون عين شقيق أكبر تسهر علينا”؟ وكأن الكائنات العربية تحيا من غير أحاسيس ومشاعر حميمية، وتكبر أجسادها دون أعضائها الجنسية .. كائنات أثيرية لا تحدّها شهوات ولا ترديها خطايا! وعن التشبيه بالأنبياء، تعرض الأديان الابراهيمية تعدد الزيجات لأنبيائها النبلاء، ولم تعرض الغريزة كإثم، ولم توصي لا بالتبتّل ولا بالإخصاء كحل، بل نادت بإشباع الغريزة .. للرجال والنساء .. من غير ضرر ولا ضرار.
- تستنكر الكاتبة التطرف الذي لحق ببعض النسويات ضد الرجل، بحيث هللت إحدى زميلات المهنة العربيات على خبر تمكّن فريق علماء أمريكي من استخلاص مني كمني الرجل من نخاع عظمي لإحدى النساء، بحيث أصبح التلقيح الذاتي بالإمكان سواء من المرأة لنفسها أو لإمرأة أخرى، “وأن تكفي نفسها بنفسها وأن تُنجب بلا «جميل» الرجل”، كما جاء في كتاب (هل الرجال ضروريون؟) للصحفية الأمريكية (مورين دود) .. وكأن جلّ ما تحتاجه المرأة من الرجل (نطفة مخصّبة)! لا تختلف تلك النسويات عن الذكوريين في اعتبار المرأة وعاء جنسي تفريخي لا غير -فضلاً عن اعتبار الرجل أداة تخصيب- وإن بررن تطرفهن هذا فلا يتجاوز حد توبيخ الرجل وتحميله مصائب أقدارهن! تكيل الكاتبة بدورها العيار وقد استفزها رد الفعل العقيم لدى معظم نساء العرب في الاكتفاء بالشكوى دون أي محاولة جادة في إيجاد الحلول أو البحث عن نقطة ضوء تضفي شيء من الحياة في حياتهن، إذ “عندما تتوافر الإرادة تتوفر الوسيلة”، وليست تلك مقولة مزخرفة كما تنفي الكاتبة، إنما تعني الكثير لو طُبقت .. فإن شئن سيشاء القدر حتماً، غير أن ندب الحظ ولطم الخد أيسر عند إحداهن .. ولا عزاء!. تقول المناضلة الجزائرية جميلة بو حيرد: “يجب أن نكون حازمين في اتخاذ خياراتنا وتحديد رغباتنا كي نكون موجودين. الحلول الوسطى تؤدي إلى الدمار الذاتي”. أو “كن أو لا تكن” كما قال منذ أكثر من أربعة قرون الأديب الإنجليزي ويليام شكسبير. إن حق المرأة السوية مساندة الأنوثة العاقلة الحرة ضد الهجومية الرعناء .. وحقها ألا تعتبر أي علاقة بالرجل هي حرباً بالضرورة معه ولا لطفها استسلاماً .. وحقها المساواة به لا بطموح السيطرة عليه .. وحقها الفخر بإنجازاتها الفردية لا شرطاً بالجماعية .. تماماً كما هو حقها “في أن تفرح بباقة ورد حتى وإن كانت تقود الجرافات وتغير زيت المحركات وتدفع فاتورة المطعم أحياناً”.
- تستهل الكاتبة حديثها (المرعب) في (امرأة عربية لا تخاف استفزاز الله) بمقولة (وجيهة الحويدر) إحدى الحقوقيات السعوديات التي تعلن بأنها ستكف عن المطالبة بحقوق السعوديات حين ترى السعوديين يُسحبون إلى مراكز الشرطة بتهمة قيادة السيارات، وحين يُجبر الرجل منهم على الاتشاح بالسواد بينما ترتدي المرأة من تلكن الملابس البيضاء، “وحين يقال له إن له مكانين في هذه الدنيا: البيت والقبر”. أما نظيرتها المصرية في الحقوق (هدى شعراوي) فمن قبل قالت: “عندما يقترح الدين نظيراً أنثوياً لله، سأكنّ احتراماً أكبر له حينذاك”. تواجه الكاتبة كما تواجه معظم العربيات -في العالم العربي المتعدد الأطياف- مقارنة تتعلق بمدى مساحة الحرية الممنوحة للمسيحية عن أختها المسلمة .. سواء في ارتداء الملابس أو إقامة العلاقات أو عادة السهر أو فرص العمل وغيرها. لا تتفق الكاتبة وهذا الرأي وهي القادمة من مرجعية كاثوليكية، حيث تسأل عن حقيقة الفرق -إن وجد- بين وضع المرأتين: المسلمة والمسيحية! وتجيب بعدم وجودها حقيقة إذا تم الأخذ ببواطن الأمور، فما الفرق في الظاهر سوى وضوح ازدواجية المعايير والأحكام الظالمة المفروضة على الأولى بشكل أكبر عن الثانية.
- وفي معرض حديثها الآنف، تنقل في عن فيلسوف التشاؤم (فريدريك نيتشه) قوله “هل الإنسان أحد أخطاء الله الفادحة؟ أم أن الله أحد أخطاء الإنسان الفادحة”. ومن قبل، عميد كاتدرائية دبلن (جوناثان سويفت) الذي كان يقول: “لدينا ما يكفي من الدين لنكره، لكن ليس لدينا ما يكفي منه لنحب بعضنا بعضاً”. تتشابك الحياة لتتعقد أكثر وأكثر، وتحيل الأسئلة الوجودية حائرة بلا جواب مادام الأزل!. تواجه الكاتبة والدها المحبّ حين عاتبها في تربيته -لاسيما الدينية- وقد صارت إلى ما صارت إليه من إلحاد، بإن مكمن الخطأ تحديداً كان فيما ظنّه صواب، وتوضح بأنها ليست سوى ابنة “نتاج لتلك التربية الدينية الصارمة” .. تلك التربية التي لا بد وأن تنتهي لنوعين من البشر لا ثالث لهما: نوع (مثقل بالتعقيدات) ونوع (مدمن للانتهاكات)، وتصنّف نفسها ضمن هذا النوع .. ولا مجال لإنتاج (نوع سوي) ضمن هذه المعادلة .. إنه (التطرف) بكلمة أخرى!. كمؤمنة خالصة .. أعتقد بالحب الإلهي مقابل لا محدودية إجرام البشر الذي لا يتورع من تحريف كل ما هو إلهي إلى هوى بشري يوافق الرغائب!. إن الله ليس سوى (حب محض) لكن (القديسين) هم أرباب التشويه والتحريف، ولا يحمل إثم البشر سواهم!
إن ذلك الغضب يقابله جمال تعكسه الكاتبة ضمن ما حّملت كتابها أطرافاً أخرى من سيرتها الذاتية. أعرض وأقتبس حريرياً في هذه المرة، كما يلي:
- تنفر الكاتبة من مسيرات الشعارات وحملات الكفاح الجماعية التي يذوب فيها الفرد ذوباناً يمحيه، وإن كانت “تهدف إلى خدمة قضايا نبيلة”، إنما تعتز بالفردية التي لا تنكر احتياجات الآخر وتحترم وجوده في حد ذاته. إنما الاختلاف ضمن الجماعة لهو مصدر غنى وقوة وتجدد .. لو كانوا يعلمون!.
- تعترف الكاتبة بقساوة النقد الذاتي الذي توجهه إلى وطنها قبل تصديره عربياً، إذ ما لم يبدأ التغيير من الداخل فلا نفع به مع الخارج، فضلاً عما تحمله معاني الوطنية من ولاء أعمى يُفترض فيه الصواب دائماً. تقول: “إنني مقتنعة بأن الوطنية تعبير عن إحساس رومنطيقي خالص، تالياً هي غير مقبولة بالنسبة إليّ”. إن من شأن تلك الوطنية تعمية البصيرة وخداع الذات الأمر الذي قد ينتهي بمستقبل خواء، ما لم يتم البدء من الداخل وتوجيه النقد ذاتياً.
- مهما أوتي المرء من جلد فقد يجد دمعته أقرب عند أتفه سبب .. وليست الغربة في البعد عن الوطن، بل في الوطن الذي لا يبدو له غداً! تعبّر الكاتبة في الوطن الضائع عن رهابها الذي لا يفزع من ظلام أو صرصار أو مرتفع “رهابي .. صدق أو لا تصدق .. هو صوت: صوت صفير القذائف المرعب” .. تلك القذائف التي يقشعر لها البدن ويخفق القلب .. وتنطلق معها الكاتبة لتتبع مصدرها ومآلها .. هل سيكون فوق رأسها أم رأس من تحب؟ إن تلك القذائف لا ترمز لشيء سوى الموت! ولكن رب ضارة نافعة، وكما تقول الحكمة: (السم الذي لا يقتلني يزيدني قوة)، تقول الكاتبة بشيمة المحارب الذي لا يُقهر: “نحن ندين للحروب التي تمر علينا لكونها أحالت العديد منا نحن الناجين، محاربين أقوياء” لهم شهية نهمة نحو كل ما في الحياة من سعادة ومعرفة ورغبة محتدمة نحو التطور والإنجاز. وفي ختام حديثها عن (امرأة عربية لا تنتمي إلى أي مكان)، يجدر بالكاتبة أن تقول كما قال نزار قباني عن (بيروت ست الدنيا) بأن (الثورة تولد من رحم الأحزان)، مؤكدة: “إن نجاة امرئ من الحرب خير تمرين” وكأنها من أعظم دروس الحياة للحياة فيها، فلا تثمر سنوات الجد والمثابرة والإصرار سوى عزائم أقوى وإرادات أصلب ترفع الجبال الراسيات من قواعدها إن شاءت!
- ليست المرأة العربية المستقلّة عنقاء أسطورية، ولا خرافة لم يمتح بها خيال شهرزاد في لياليها، بل هي من لحم ودم تحيا جنباً إلى جنب نظيراتها التي لا تفرق عنهن سوى في الاعتزاز بكينونتها. تنقل الكاتبة قول الأديبة الإنجليزية (فيرجينيا وولف) في هذا الصدد إذ كانت تقول: “في التاريخ .. المجهول كان غالباً امرأة”. وتوضح من ثم رأيها الذي يعتقد بتطابق هذه المقولة مع المرأة العربية، رغم إيمانها في الوقت ذاته بأن المرأة العربية لا هي (مجهولة) ولا هي (خرافة) ولا هي مجرد (أخرى)، إنما الحرة بفكرها والمستقلة بعلمها ومالها والثائرة على الموروث والمتصالحة مع ذاتها .. وهي موجودة كذلك إلى جانب نظيرتها السلبية، بل وربما بحضور أكبر مما قد يتصوره البعض.
- يكاد النقّاد العرب يقومون بحكر (الجرأة) أنثوياً كمفردة مشينة توصم بها النساء الكاتبات دون غيرهن ما إذا كتبن إيروتيكياً، في حين يصبح الرجّال الكتّاب (طبيعياً) يكتبون .. فهم يستكشفون أدبياً كل جماليات الحياة!. ثم تطرح الكاتبة سؤالها: “ماذا يعني أن تكوني امرأة تكتب في بلد عربي؟ والأفدح: ماذا يعني أن تكوني امرأة تكتب بلا مساومات في بلد عربي؟”. تجيب في أسى بأن هذا الأمر يتطلب من المرأة فرض رقابة ذاتية أشد وأقسى مما تفرضه الرقابة الرسمية، تحيط بما تخطط وتبحث وتحسب وتقيس وتجازف وتساير وتجامل! وفي حين أرادت ضرب كل هذا بعرض الحائط والمجازفة في الحديث بلا مساومات أسرية أو دينية أو عرفية أو رقابية “فيعني أن تكوني فوق كل ما سبق وقحة و «قدرية» وشجاعة”. ورغم أنني (مدّونة) فقط، فقد جاءت الكلمات المفتاحية (بكارة، فرج، زوجات، تعدد، عورة، امرأة، خمر، حكم، حديث …الخ) التي تناثرت في مدونتي عن كتب دوّنت رأيي فيها، كـ (طُعم) اشتمّه ذو لحية كما يشتّم الذباب الحلوى المكشوفة، فجاء محاولاً ضخ ما ظن باستطاعته ضخه من هراء -حسبه مقدّساً- ضد ما أوردت من رأي .. وعلى طريقة مقص الرقابة، جززت لحيته مطروداً من مدونتي مبصوق عليه! ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فإن الكاتبة وهي تعنوّن أحد فصول سيرتها الذاتية بـ (امرأة عربية تقرأ الماركي دو ساد)، تدفعني لكتابة فصل ما في سيرتي يحمل عنوان (امرأة عربية تقرأ نوال السعداوي)!. وأما تهمة القراءة للسعداوي .. فهي حكاية أخرى!. ملاحظة: لا أستبعد قريباً عنواناً آخر بـ (امرأة عربية تقرأ جمانة حداد).
- لا تمنع روح الثقة والثبات والعزيمة من شعور التثبيط والمرارة والقهر الذي يعتمل في نفس كل امرأة حرة شاء قدرها أن ترعى في بيئة ميؤوس من إصلاحها، ليس فحسب، بل وإن تجور تلك البيئة بقوانينها الفاسدة عليها، الأمر الذي يجعلها تعاني الأمرين من أجل نيل حق مكفول لها إنسانياً. تفضح الكاتبة ازدواجية أخلاقية لأمة عربية تهجس بالجنس في الوقت الذي لا تجرؤ بالحديث عنه “أمة عربية سكيزوفرينية واحدة متحدة في غالبيتها الكاسحة حول دساتير الجهل والفصام والتخلف والخبث والتكاذب وفنون الاختباء خلف الإصبع الوسطى”. تتحدث الكاتبة هكذا في لوعة إثر ما واجهت من ردة فعل قاسية مع تأسيس مجلتها (جسد)، فتعقّب معبّرة عن شعور الخجل الذي اعتمل بها بالإضافة إلى غضبها .. الخجل من ثقافة بالية طاغية وأنظمة سياسية تنعق من عصر الظلام، وما ينبغي عليها من خضوع لهكذا وضع مزر يقيّد الروح الحرة بما أوتيت من علم وقيّم وكرامة.
- تستمر الكاتبة كـ (امرأة عربية تعيد تعريف أنوثتها) في فضح عور الثقافة العربية التي تنظر فقط إلى مؤهلات المرأة الفسيولوجية، فإن تنامى مؤهلها العقلي والفكري والروحي فلا بد وأن يكون على حساب أنوثتها! أما من وسطية بين هذين التطرفين؟ إن الأنثى السوية هي تلك التي تبتهج بالتبضع في أسواق الموضة الباريسية ابتهاج حصولها على كتاب جديد في الأدب أو الفلسفة!. تبدع الكاتبة في توأم الجمال هذا وتقول: “قوت للقالب وقوت للقلب”.
- غير أن المرأة العربية في ثورة نضالها تتناسى جانبها الأنثوي، إما سهواً أو عمداً .. إما حماس يذهلها عن أنوثتها، أو تحدي تتسامى به أمام الرجل عن طبيعتها! وكلاهما خطأ تًسهب الكاتبة في التعرض لهما متوجهة بحديثها إلى الحقوقيات العربيات والغربيات على حد سواء، فتقول في نبرة لا تخلو من عصبية: “لماذا أقول ما أقول، وماذا يعني أن تكون المرأة امرأة”؟ إن تلك النسويات يتخلين عن جوهرهن الأنثوي الجميل وهن في خضم كفاحهن ومسيرتهن النضالية، وكأنه شرط للحصول على شيء أهم .. ألا وهو (المساواة) من وجهة نظرهن! وعن خطئ فادح آخر تأتي به التيارات النسوية، وهو تصوير الرجل كشيطان أو عدو أكبر للمرأة -في أحسن حالاته- تغلظ الكاتبة عليهن بقولها: “تباً للهاث وراء مساواة مفخخة كهذه إذا كانت تستلزم التخلي عن «سر» المرأة وجوهرها”. إن اختصار المرأة في جسد -يُمجّد تارة بالتغطية وتارة بالإثارة- لهو أبشع صور الامتهان لإنسانيتها. تستمر في كلام فلسفي لا يعبّر سوى عن (أنا) صادقة بعد أن تجيب من جديد على سؤالها: “أن تكون المرأة امرأة لا يعني تحويل جسدها إلى سلعة بخسة أو لحم رخيص”، إن كل هذا من شأنه أن يطمس كيان المرأة الحقيقي الذي لا لأحد الحق في تشكيله سواها، بغض النظر عن أي قوى أخرى تحت أي شعار أو مسمى.
- وفي خضم الحديث عن الأديان والتحريف، والأعراف والتكبيل، والقوانين والإجحاف، لا تكلّ الكاتبة ولا تملّ في شحذ همة المرأة العربية للنهوض الذي تأخر، فلا تُعطى الحقوق إلا بالمطالب. ترفع من همم النساء لتعلن أنه قد حان الوقت لتحدي كل الأنماط التي عليهن في العرف أو الدين أو السياسة، وأن هذا التحدي وحده هو ما يخلق نموذجاً للمرأة العربية الذي يفرّق بينها وبين غيرها من غير النموذجيات. يأتي شعر الفلسطينية (فدوى طوقان) أثيرياً ليحيي أرواح نساء موات لا زلن على قيد الحياة .. فهل من مجيب؟ “حجبّي نور حريتي .. وسدي علي رحاب الفضاء .. ولكن قلبي هذا المغرّد .. لن تطفئي فيه روح الغناء”. يُرجع الصدى صوتاً وجودياً للفيلسوفة سيمون دي بوفوار ليصفع تلك النائحات على أقدار سلّمن لها، يقول: “ليست المرأة ضحية قدر غامض، ويجب ألا نفترض في أي حال من الأحوال أن مبيضها يحتّم عليها أن تعيش ذليلة أو خاضعة إلى الأبد”. وأجدد بدوري صداها الذي يقرّ بأن المرأة ليست ضحية مبيضها ونهديها وشعرها وسحرها ونحرها وأعضاء أخرى .. غير إن المجتمع أرادها كذلك، حين قالت في كتابها الشهير (الجنس الآخر) “أن المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح امرأة”.
- لا تُطق الكاتبة الدمى “ولم تنجح دمية واحدة لا باربي ولا أخواتها في إغرائي” لرفضها فكرة المرأة السطحية المسطّحة! وعني: لا أعرف تحديداً لمَ؟ ربما لأنني وجدتها جامدة لا تتفاعل .. لا تنخدع الكاتبة بترّهات كتاب (الرجال من المريخ والنساء من الزهرة) وقد قرأته في عشرينياتها الطرية “من دون أن تفارق ابتسامة تهكمية وجهي” وعني: فقد مسحت بوصفاته العجيبة وكليشيهاته الرخيصة سطح مدونتي حين دوّنت مراجعة له تحت تصنيف (جندرية وجنسانية) .. لا تتمنى الكاتبة أن تكون رجلا “لا أتمنى أن يكون لي قضيب ولا أحلم يوماً بأن أكون رجلاً” في مقابل اطرائها قوة شخصيتها المتوازنة قلباً وعقلاً! وعني: أحب شخصيتي القوية التي تهزّ أشباه الرجال في الوقت الذي أعتزّ فيه بأنوثتي التي لم أتمنى دونها يوماً أن أكون رجلا .. لا تدعم الكاتبة لا رويال الفرنسية ولا كلينتون الأمريكية حين ترشحتا لسدة الحكم، لا لشيء سوى لعدم أهليتهما في نظرها “فهل ينبغي لي ان أدعمهما معنوياً لا لشيء سوى لأننا نحن الثلاث نرتدي حمالات صدر قبل الخروج من المنزل كل صباح؟” وعني: لم أصفق بالمثل لـ (حيا الله) امرأة لمجرد الانتصار لبنات جنسي رغم حرصي التركيز على كل فضيلة تتحلى بها لتزكيتها.
- يدين الكثير لأحد ما في رسم خط سير حياته! كان الروائي الأرستقراطي الفرنسي (الماركيز دي ساد) -والذي اشُتقت (السادية) من اسمه- عرّاب الطفلة التي أصبحت فيما بعد الكاتبة الغاضبة القاتلة. لقد كان (الماركيز) يشعل الفتيل في رأس الكاتبة الطفلة لمزيد من هلوسة وانتهاكات، وقد تخيلته يوماً يضع رأسها الصغير بين يديه ويقول ناظراً في عينيها: “خيالك مملكتك. كل شيء مسموح في الرأس. كل شيء ممكن في الكتابة. شرعي النوافذ ولا تخشي أن تنتهكي وتهلوسي”.
- وفي معرض حديثها عن الروائي السادي، تتطرق الكاتبة إلى جانب من طفولتها المتعطّشة لقراءة كل ما كان مصنفاً فوق رف (+18) في مكتبة والدها .. الرف الذي كان بعيداً عن متناول يدها الطرية قصداً. وقد تواطئ هدوئها المحنّك وبراءة ملامحها في حبكة الستر الذي نسجته حول فضولها اللابريء واللامتناسب وسنّها! تستشهد بتحذير (هيلين إكسلي) القائل: “في مقدور الكتب أن تكون خطيرة جداً. لذا يجب تذييل أفضلها بتحذير: هذا الكتاب كفيل بتغيير حياتك”. ثم تعترف بأن تقاسيم وجهها البريء قد كان غطاءً محكماً لشياطين رأسها، وتعتقد بأن تلك الهالة لا تزال ترافقها وقد أصبحت امرأة .. الهالة التي يقلل بها ضعاف النفوس من شأنها، والذي ينقلب ضدهم بمجرد مواجهتها.
- أتفق مع الكاتبة بالتمام وهي توصي المرأة العربية -تحديداً- بتبني القراءة كمشروع أول في بناء الذات .. أياً كان المنهل، فالخير أو الشر المستخلص من أي قراءة إنما يصبّ في جملة الإفادة المرجوة، وطالما أن العقل بلغ من الوعي درجة القدرة على التمييز بينهما. تقول في هذا قولاً حماسياً عن الكتب .. ولكل النساء اللاتي يحبّذن رأيها: “أجيبهن: الكتب“.
- تستمر الكاتبة تتحدث في لغة صوفية وهي (امرأة عربية تعيش وتقول لا)، فتسمح لكل تغيير أن يحلّ، ولكل جديد أن يأخذ دوره، وللنقد أن يستعّر ذاتياً قبل الغير! فهل الثبات دليل الحق دائماً؟ وهل الماء الراكد إنما يأسن لا محالة وإن كان عذباً؟ توصي الكاتبة “إذا أن نعيش يعني أن نتقبل ما نحن عليه، لكنه يعني أيضاً القدرة على تقبل التغيير أيضاً”.
ومع نهاية الحكاية!
أفخر -كما الكاتبة- بأنني قتلت ما استطعت حتى الآن قتله من وعظ قدسي وعرف مجتمعي يطمس البصيرة ويمسخ الكرامة!.. “قتلت شهرزاد بيد مختلف الزعماء والممثلين الدينيين الذين جعلوني أدرك حجم الهوة بين الالتزام الواعي والالتزام الأعمى لمبدأ ما .. أي مبدأ”.
بعد هذا! لم يكن مبالغاً (الطاهر بن جلون) -وقد قرأت له رعباً في أدب السجون العربي- أن يقول في حق الكاتبة قوله: “جمانة حداد جريئة وحقيقية: هي تكشف النقاب عن خبث المجتمع العربي وتخدش جميع الذين يخافون الرغبة. هي شاعرة حقيقية، أي إنها غير مهذّبة”.
وكما أردد دائماً: “أي كتاب لا يوّلد كتاب فهو مبتور”. لم يخيّب هذا الكتاب ظني فعرض من بين صفحاته مجموعة جيدة، أعرضها بدوري: تأملات في شقاء العرب – المؤلف: سمير قصير / قوة الوجود – المؤلف: ميشال أونفري / أوهام ضائعة – المؤلف: بلزاك / جوستين (مصائب الفضيلة) – المؤلف: الماركيز دي ساد / لوليتا – المؤلف: فلاديمير نابوكوف / سكسوس (ثلاثية الصليب الوردي) – المؤلف: هنري ميللر / خطاب العاشق – المؤلف: رولان بارت
إلى جانب الكتاب الساخن الذي حصلت عليه وقت إصداره من متاجر لندن -والذي لا أستبعد منعه حينها في شرقنا الأوسط مصداقاً لما عبرّت عنه الكاتبة في نقدها للمدن العربية حيث الرقابة المزدوجة المعايير، و “حيث في وسع الرقابة أن تعتدي بمقصها على الأفلام في غمضة عين، إذا ما تناولت مثلث برمودا الشهير: الدين والسلطة والجنس” .. تصطف كتب أخرى للكاتبة فوق أرفف مكتبتي الجوداء، هي: الجنس الثالث / سوبرمان عربي / بنت الخياطة. لا يمنع هذا من سعيي للحصول على إصداراتها الأخرى .. وأرجو ذلك قريباً.
ختاماً ..
و (كي أبدأ ثانية) وأجيب قبل الكاتبة عن (هل أنا حقاً امرأة عربية؟):
لن تتقدم هذه الأمة طالما بات السجن المؤبد قدر حوائها المحتوم في ظلمات ثلاث عقلية ونفسية وجسدية ..
ولن تتقدم مادام ركام الأولين يُنفض عنه غبار القبور ما استجد جديد فوق ساحة الحياة، في عملية نبش دوغمائي أخرق يتحرى ما كان في غابر الزمان ليتم إسقاطه -عمياناً- على الواقع .. شرعاً وعرفاً وقضاءً!.
وتعيد الكاتبة وتكرر:
“لا تفتقر النساء العربيات كلهن إلى العزيمة وقوة الشخصية”.
وتطري منهن الكثير الكثير .. أمثال: (مي زيادة) في النصوص الأدبية، و (هدى بركات) في أدب الرواية، و (منى حاطوم) في الأعمال الفنية، و (نازك الملائكة) في الشعر العربي، و (نضال الأشقر) في فن المسرحية، و (ليلى المراكشي) في الإخراج السينمائي ..
ولنا أن نضيف: (جمانة حداد) في النضال من أجل كرامة الإنسان.
مع جزيل الامتنان والتقدير
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (18) كما دوّنت ضمن قائمة من كتب قرأتهم في عام 2017، غير أن ذاكرتي لا تسعفني، ولا حتى مفكرتي القديمة بما تحويه من ملاحظات، ولا مسودات التدوين في حينها، من تعيين إجمالي عدد الكتب التي قرأتها في هذا العام بالتحديد! ملاحظة: أجد بخط يدي على هامش مفكرة العام عبارة: (33 كتاب) .. لا أعتقد أنها ملاحظة دقيقة.
لكنني لا زلت أذكر تماماً الأعوام الثلاث التي قضيتها في تحصيل دراساتي العليا في المملكة المتحدة، والأعوام التي تلتها وأنا منهمكة بجد في عملي المهني الذي لا يمتّ بصلة لهواية القراءة لا من قريب ولا من بعيد .. الدراسة التي استحوذت على حياتي حينها، والعمل الذي كان يستنفد القدر الأكبر من وقتي وطاقتي، بحيث لا يتبقى للقراءة في نهاية اليوم سوى القليل من الوقت والتركيز .. ولله الحمد دائماً وأبداً.
تسلسل الكتاب على المدونة: 71
التعليقات