ابن عربي .. إمام المحققين أو سلطان العارفين أو الشيخ الأكبر.
الأشهر من نار على علم في بحر التصوف، وحلقة الوصل بين تراث إسلامي حيّ بأتباعه، وبين فكر عالمي يتوالد مريديه بتعدد مذاهبهم ومشاربهم. يبدو ذلك جلياً وقد انكب كل حزب -بما لديه من دافع- في تمحيص فكر الإمام ما بين قراءة ودراسة وبحث ونقد … وربما ممارسة، أفضت إلى تعدد التفسيرات والتأويلات لما به (تكلم ابن عربي)!.
وها هو ذا المفكر نصر حامد أبو زيد -رحمه الله- يتناول بعض من درره محاولاً أن يُسفر عن مكنونات أسراره، والتي قد تزداد غموضاً ما ازداد التعمق في بحره، وعطشاً ما ازداد النهل منه.
لا يرتبط الكاتب أبو زيد بالإمام ابن عربي من خلال رسالته في الدكتوراة (فلسفة التأويل عند ابن عربي) فحسب، بل فيما تعرّض له من تكفير تعرّض لمثله الإمام في الماضي والحاضر، بصرف النظر عن الأقلام المدافعة أو المؤيدة!.
تعرض شبكة المعلومات سيرة د. أبو زيد في أعظم ما يكون الكفاح والنجاح! حيث ألجأته ظروف المعيشة للعمل كفني لاسلكي فور حصوله على شهادة الثانوية الصناعية، ليتخرج بامتياز بعد عدة أعوام في كلية الآداب من جامعة القاهرة ويعمل كمعيد بقسم اللغة العربية. تتوالى بعدها سلسلة من النجاحات يتقلد فيها د. أبو زيد مناصب أكثر تشريفاً ويحصل فيها على عدد من الجوائز، حتى ينتهي به المطاف للعمل كأستاذ للدراسات الإسلامية بجامعة لايدن في هولندا. كان هذا إثر صدور حكم قضائي ضده عام 1995 يقضي بالتفريق بينه وبين زوجه د. ابتهال يونس أستاذة الأدب الفرنسي، كنتيجة حتمية لاتهامه بالكفر والإلحاد من قبل التكفيريين، مستعينين بالشيطان وبإصداراته المثيرة للجدل عليه. قرر الزوجان الرحيل إلى المنفى، ليعودا بعدها إلى أرض الوطن عام 2010 إثر المرض الذي ألم بأبو زيد، والذي مات فيه .. رحمه الله!.
تعقيباً، وبحسب اطلاعي على فكر الكاتب، فإنه قطعاً لم يكن يوماً معادياً للدين الإسلامي بل ساعياً لتجديد خطابه الذي لا بد وأن يواكب ما توصلت إليه البشرية من حداثة علمية ومعرفية، تنبع من رسالته العالمية .. ولم يكن يوماً داعياً لنبذ التراث بل إلى تخليصه مما شابه من تطرّف وتعصّب وانغلاق.
يهدي الكاتب كتابه لأرواح ثلاث عاصرها تلتقي معاً في رسالتها الإنسانية: أولها (ادوارد سعيد .. الكاتب الإنسان العادل)، ثانيها (آن ماري شيمل .. الأستاذة المتعاطفة إسلامياً وغربياً)، وثالثها (محمد فتحي نجيب .. القاضي الأشبه بابن رشد).
لماذا ابن عربي الآن؟ يرى الكاتب أن المعرفة الروحية هي الإطار الجامع للفن والدين، وهذا على الصعيد العام. أما على الصعيد الإسلامي، فقد سيطر على الخطاب الديني في العقود الثلاث الأخيرة من القرن الماضي موجة لتيار سلفي وأفكار متطرفة فرضت صورة الرجل الإرهابي والمرأة المنقبة كصورة نمطية للإسلام، تدين بكراهية الغير وتعادي قيم الحرية والتقدم والحضارة. لذا، أصبحت الحاجة ملّحة لإحياء الجانب الروحي من الإسلام، وتأكيد رسالته العالمية.
لقد كان ابن عربي سبّاقاً إلى عصر التنوير من خلال المذهب الذي جمع فيه البشرية كافة -مؤمنهم وكافرهم- تحت لواء الانتماء إلى الله، وما أتى سعي أبو زيد إلا لبعث هذا الفكر التنويري في عقول وقلوب بني جلدته في زمن تمكّن فيه التكفير واستحكم واستفحل بقضّه وقضيضه!.
يؤرخ الكاتب مقدمته في الطبعة الثانية في عام 2004، ويعرض فهرس كتابه ستة فصول بالإضافة إلى صفحات الإهداء والمقدمة والتمهيد، في حين يتفرع عن كل فصل عدد من المواضيع ذات الصلة، احتل بها الكتاب أربع نجمات من رصيد أنجمي الخماسي، وهي كما يلي:
- من الجاهلية إلى ختم الولاية
- جدلية الوضوح والغموض (التجربة الصوفية بين الكشف والستر)
- قيود المكان وضغوط الزمان
- اللقاء بابن رشد
- نشأة الوجود ومراتب الموجودات
- تأويل الشريعة: جدلية الظاهر والباطن
قبل الشروع في مراجعة الكتاب، لا بد من لفت الانتباه إلى تعدد التأويلات التي تناولت فكر ابن عربي، وفي حالة الكتاب بين أيدينا، فإن التأويل المطروح يعكس بالضرورة فكر أبو زيد، كنتيجة حتمية لإشكالية تداخل الذات والموضوع، ولا يعكس بالضرورة مقاصد الإمام حرفياً.
ومن خلال هذه المراجعة، أعرض بعض ما علق في ذهني من مباحث الكتاب، مما توافق مع ما أؤمن ومما لم يتوافق، وما صادف من هوى لدي وما تناغم من قول، كما يلي:
أولاً: الشيخ الأكبر في سطور:
- من هو؟: أبو عبدالله محيي الدين محمد بن علي بن محمد بن العربي الحاتمي. وُلد في رمضان عام (560 / 1165 – 638 / 1240) في مدينة (مرسيا) بالأندلس/ أسبانيا الحالية، ورحل وأسرته إلى مدينة (أشبيلية) إثر قيام دولة الموحدين. يعود نسب أسرته إلى قبيلة (طيء) والتي يشتهر منها (حاتم الطائي) أكرم العرب، وهي من أقدم القبائل العربية التي ارتحلت من اليمن إلى شبه الجزيرة الأيبيرية مع بواكير الفتح الإسلامي.
- الجاهلية والولاية: يطلق ابن عربي على فترة ما قبل دخوله طريق الحق والعرفان بـ (الجاهلية) على غرار حال العرب قبل مجيء الإسلام، الطريق الذي اكتسب فيه العلم من الفيض الإلهي مباشرة، لا من خلال الكتب وعملية التعليم التقليدية.
- بداية الطريق: يدخل ابن عربي الطفل في غيبوبة مرضية يرى خلالها كائنات شائهة تريد إيذائه، وبرجل ضخم البنية، مهيب الطلعة، جميل الوجه والطيب، يذود عنه، ليفيق ويجد أباه يرتل فوق رأسه (سورة يس) وقد شُفي تماماً. كانت هذه الحادثة أول تجربة روحية للإمام، وقد أطلق على السورة اسم (قلب كتاب الله).
- نشأته ورحيله: ينشأ ابن عربي أندلسياً، ويعبر البحر إلى المغرب العربي مرات ومرات ليعود إلى مسقط رأسه في أشبيلية، حتى يغادرها إلى المشرق العربي بلا عودة وهو على أعتاب الأربعين، صوب مكة والقاهرة وقونية ودمشق حيث يقضى حياته ونحبه فيها. يعزو الباحثون هذا الرحيل إلى الحروب الطاحنة التي نشبت بين المسلمين والكاثوليك فوق أرض الأندلس، فضلاً عن حروب الأمراء المسلمين فيما بينهم. غير أن وفاة الفيلسوف (ابن رشد) ونقل رفاته من مراكش إلى قرطبة في جنازة على مرأى من ابن عربي تبدو وكأنها تركت أثراً. يلتقي ابن عربي الفتى بقاضي قرطبة -وقد كان صاحب أباه- فيثير إعجابه، ثم تدور الأعوام ليشنّ الخليفة المنصور حربه ضد ملوك الكاثوليك وضد الفلاسفة لصالح الفقهاء، من أجل كسب ولائهم وولاء العامة، فتبدأ محنة تتصدرها فتاوى تحريم علم الفلسفة وتنتهي بنفي الفيلسوف وحرق كتبه -وقد كان من ذي قبل مقرباً لدى الخليفة- فيما يُعرف بـ (نكبة ابن رشد). يبدو أن هذه المحنة قد فعلت أفاعيلها في قرارة نفس ابن عربي، الذي لم يتخذ قرار الرحيل من بلاد الأندلس والمغرب إلا بعد أن انقطع الخيط الذي يربطه بها بموت ابن رشد!.
- هو وابن رشد: يلتقيه أربعا: الأولى حين سمع به وبما فتح الله عليه وهو صبي، فيلقاه ويبتدره بسؤال: “نعم؟”، فيجيبه ابن عربي بـ “نعم” ليستبشر الفيلسوف، ثم يردفه بـ “لا” لينقبض!. لقد كان مغزى الفيلسوف هو في مدى توافق الكشف الإلهي بالنظر العقلي، أو بين تجربة الروح في خلوتها وتلقي الإلهام الرباني وبين تجربة العقل في إعماله منطقياً والإقرار بالبرهان .. وبتعبير أكثر وضوحاً: بين التصوف والفلسفة!. الثانية حين طلب ملاقاته وأباه ليعرض ما عنده، فينتهي بحمدالله أن اختصه برؤية من اختصهم بفتح المغاليق، كالخضر عليه السلام. والثالثة في مكان ما ضُرب بينه وبين الفيلسوف بحجاب رقيق يراه وهو لا يراه، قد شُغل بما عنده عنه. أما الأخيرة حينما كان في نعشه وابن عربي في جمع من الأندلسيين، فيعلّق أحدهم بقول يبدو فيه شامتاً عن حجم ما ترك الفيلسوف من مؤلفات إلى رفاته، تحمل كل منهما دابتين! لكن ابن عربي ينعيه وكأنه ينعي أرض الأندلس بأسرها منشداً: “هذا الإمام وهذه أعماله .. يا ليت شعري! هل أتت آماله؟”.
لم تتحقق آمال ابن رشد في موطنه حتى نُقل إلى الغرب شمال المتوسط! فيتساءل أبو زيد بدوره ما إذا تحققت آمال ابن عربي في الشرق؟
- غموض فكره: يصوغ ابن عربي مذهبه بشيء من التكلّف والغموض!. لم يكن الضنّ بالمعرفة حتى تصل إلى عقول العامة هو السبب، فلم الكتابة إذاً طالما الهدف هو الستر لا البيان؟ بل كان العنف المادي الذي قاسى منه المتصوفون الأوائل، فضلاً عن العنف المعنوي الذي ما برح يمارسه الفقهاء ضدهم، والذي لابد وأن يلحق بابن عربي شيء من غبارهم، فتؤخذ أفكاره ذريعة لزندقته والطعن في إيمانه.
- كتاب آخر: ودّ ابن عربي لو أطال الله في عمره ليضع كتاباً كبيراً في المسائل الشرعية مستوفية محلها الظاهر، ليفرغ إلى تأكيد حكمها في باطن الإنسان. يبدو أن ابن عربي قد أراد تأليف كتاباً على غرار كتاب ابن رشد (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) لكن من رؤية صوفية تبحث في الدلالات الروحية.
- كونيته: لابن عربي تأثير خلاّق في تشكيل التراث الإنساني ككل. فعلى الصعيد الإسلامي، ومن خلال تلميذه القونوي الذي كان رفيقاً حميماً للرومي وأستاذاً للشيرازي شارح فلسفة السهروردي، انتشرت تعاليمه في الشرق وامتدت لتسفر عن تأسيس أكبر طريقتين للصوفية: المولوية والشاذلية. أما على الصعيد العالمي، فيشهد لتأثيره -على سبيل المثال- دراسة المستعرب الياباني إيزوتسو في (ابن عربي والطاوية)، ودراسة المستشرق الأسباني بلاسيوس عن تأثير فكره في الفيلسوف الكتالوني ريمون لول، وفي دانتي أليجيري صاحب الكوميديا الإلهية.
ثانياً: من عميق الفكر:
- يقع في روع ابن عربي الصبي عدم إيذاء الحمر الوحشية وقد مر بقطيع منها وهو في غير حالة صيد، فيمضي دون أن تمس رمحه أسنمتها رغم الاحتمال الوارد!. يفسّر ابن عربي الإمام سريان الأمن من نفسه إلى الحيوان ليس بصفاء القلب فحسب، بل لسر (البسط والرحمة) الإلهي الذي أودعه عند خلق الموجودات. لقد تكّشفت هذه المعاني لابن عربي بعد أن انتقل من مرحلة فعل الخير بلا علم، إلى فعله بأساس من علم.
- يكشف الله من المعرفة على قدر العارف لا على قدر الحقيقة ذاتها .. المعرفة أو الإدراك أو الوعي الذي يحمي العارف من مغبة الزلل وقد خصّه الله بفيض من لدنّه، فلا يعمل أمام العامة وفقاً لما اطّلع عليه، بل ضمن حدود ما أمر الله بكشفه، وهكذا هو حال الأنبياء.
- لقد سعى موسى والخضر في شئون الغير، فخصهما الله بعطاء من عنده على قدر إخلاصهما. يروي ابن عربي عن الخضر ويعرّف به، فهو “إيليا بن ملكان بن فالخ بن غابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح“، كان يقوم على أمر جيش وقد بعثوه مرة في طلب الماء، فوجد عين الحياة فشرب منه فخُلّد منذ لحظتها، ولم يكن يعرف اختصاصه به، فأخبر الجيش، فهرعوا نحوه، فاخذ الله بأبصارهم ولم يبلغوه. أما موسى فقد سعى في أمر أهله ليحضر لهم ما يستدفئون به، فخاطبه الله من جوف النار، من حيث كانت هي عين حاجته، ومن حيث لم يكن يخطر بباله.
- يلتقي ابن عربي في فاس بالشيخ ابن طريف، فيخبره بأنه لا يلتقي إلا بالأولياء، فمن يقول عنه خيراً فهو ولي لديه، إذ لا يرى الخير في الناس إلا من به خير، ومن يقول عنه شراً فهو ولي لديه أيضاً، إذ قد يكون صاحب فراسة أو ممن اطلعهم الله على بعض من شأنه. فتراه يقول: “فلا أرى يا أخي إلا أولياء الله“.
- يقف الفلاسفة العقلانيين إلى جانب المتصوفين العارفين أمام حقيقة تفاوت البشر في مستوى الإدراك! فهذا ابن رشد يضع كتابه (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) ليقرر فيه طبقات البشر الثلاث من ناحية الخطاب القرآني المنزّل للناس كافة: (أهل الخطابة) وهم العامة، ويلائمهم من القرآن ما تنزّل بأسلوب خطابي أو مجازي. (أهل الجدل) وهم اللاهوتيون الذين يلائمهم من القرآن ما تضمن أسلوب جدلي. و(أهل البرهان) وهم الفلاسفة، ويلائمهم الأسلوب البرهاني الذي يختص بالحكماء. وفي قصة (حي بن يقظان) لابن طفيل الأندلسي، يتفوق حي (العارف) على حي (الفيلسوف)، إذ لم يكتف بالبراهين التي أسفرت عنها مشاهداته العقلية نحو إدراك الخالق، بل تحرّق إلى الاتصال مع هذا الخالق تواصلاً وجدانياً عن طريق الكشف والمشاهدة. بالعودة إلى رأي ابن رشد والاعتبار من قصة ابن طفيل، يظهر الخطاب الديني في مجمله موجّه للعوام، غير أن ما يرد في أسلوب المجاز والتشبيه والتمثيل من تنبيهات وإشارات فهو يخص الحكماء، حيث يأخذه هؤلاء على محمل التأويل بغية الاستدلال على المعنى الحقيقي من وراءه. عليه، يعتبر الفريقان أن التأويل الحقيقي محرّم على العامة ومباح للخاصة من أهل البرهان ومن أهل العرفان.
- ولابن عربي قول جريء، لا غرو في أن يلقى بعده ما لاقاه من عداء وتكفير!. فهو يعتقد أن الرياضات الروحية تفضي إلى تأسيس الشريعة على رؤية باطنية، خلافاً للفقهاء أو علماء الرسوم -كما أسماهم- وهم لم يبرحوا الوقوف على ظاهرها. وفي هذا مدعاة للتعصب الديني، حيث يعتقد أولئك باحتكارهم الحقيقة، ويقومون بالتالي تنصيب أنفسهم حرّاساً عليها، ومن ثم يبيحون لأنفسهم محاربة من خالفهم ورميهم بالكفر والمروق من الملة. لا يأتي ابن عربي بردة فعل مماثلة، غير أنه يسعى لتسمية الفروق بين الفريقين، فـ: “أهل الله تغمرهم الحيرة المعرفية والعجز عن ادعاء اليقين، إذ الحقيقة نفسها تتلون وتتشكل كما يتخذ الماء شكل الإناء الذي يوجد فيه ويتلون بلونه، رغم حقيقة أن الماء لا شكل له ولا لون“. لقد أفضى هذا الصراع لمشاهد عصيبة في التاريخ تظهر في محاكمة الحلّاج والسهروردي، وغيرها من أشكال للصراع مادياً ومعنوياً.
ثالثاً: من غموض الفكر:
- يرى ابن عربي الحق عز وجل في رؤيا مرتين، يقول له: “انصح عبادي“، فيمتثل ابن عربي ويقوم بوضع كتاب (مواقع النجوم) في أحد عشر يوماً من رمضان عام 595 وهو في مدينة (ألمريه)، يتضمنه من الأسرار والكرامات والأنوار والمنافع ما على المرء اعتمادها إذا حصل عليه. تكمن أهمية هذا الكتاب في مصدره، فهو ليس من تأليف الإمام بل هو ثمرة من ثمار لقاءه مع الله عز شأنه، حين طُلب لتبليغ رسائله للناس.
- يروي ابن عربي عن بعض من كرامات منّ الله عليه بها، والتي لا يعتبرها علماء الكلام والفقه والتفسير سوى شطحات تدعو -في أحسن مقالاتها- إلى تكفير صاحبها. فيذكر ابن عربي (رجال الغيب) حين نشر أحدهم شعراً عنه بين الناس، وكان قد اعتمل في صدره ولم يحدّث به أحدا. ويذكر (الشيخ العريني) حين لجأ إلى الخضر يشكوه -وقد كان تلميذه- لمّا اختلف معه في مسألة ومضى عنه. ويسترجع (حديث اللبنة) وقد تكررت لابن عربي رؤيا يسد فيها فراغ لبنتين في الكعبة، تعبّر عن معنى الحديث النبوي. ثم كتاب (عنقاء مُغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب)، وقد راجعه في عنوانه (رسول الإلهام من الله) عدة مرات ليقرّ في النهاية بهذا العنوان، وهو كتاب قد وضعه في شهر ربيع الأول -شهر ميلاد النبي- يتطرق إلى الجانب الروحي في الإنسان. ثم رؤيا (يحيى بن الأخفش) والنبي يقف على منبر الخطابة في دمشق من حوله الناس، حتى إذا فرغوا من عنده يوصيه بنقل رسالته لابن عربي أن: “انهض لما أمرت به“ و “امتدح الأنصار“، مع أمره لحسان بن ثابت تلقينه بيت من الشعر يوصله إليه عن طريق (حامد) في مكان يُسمى (قبر الست).
- على نهج ترتيب سور القرآن الكريم حسب النزول لا حسب التلاوة، يصوغ ابن عربي كتبه بطريقة يتنقل فيها من موضوع لآخر، لا يعزوه لاختياره، بل إلى ما يتلقّاه من رؤى وإلهامات يؤمر من الله بنشرها بين الناس كما هي. يضرب في هذا مثلاً: كتاب (الفتوحات المكية)، الذي لا يشير إلا للمكان الذي تنزّلت فيه ملائكة الإلهام عليه بالأفكار، والتي لم يكن ليده فيها شأن سوى صوغها لغوياً فحسب. كذلك الأمر في كتاب (فصوص الحكم)، الذي قدّمه له رسول الله في رؤيا رآها أواخر محرم عام 627 في دمشق، قائلاً له: “خذه واخرج به إلى الناس ينتفعون به“. فسمع وأطاع.
- يرى ابن عربي أن لكل الأنبياء جانبين: جانب كوني روحاني باعتبارهم تجليات للأمر الإلهي، وجانب تاريخي زماني باعتبارهم مبلغين لرسالة الله بلغتهم بين أقوامهم. فهنالك آدم، المتمثل كونياً في صورة الله والكون معاً، والمتمثل تاريخياً كأبو البشر. وهناك محمد، الحقيقة السارية في الوجود والمتجلية في الأنبياء أجمعين، ومحمد التاريخي المتجسد في مكة عام 570م.
- يفسر ابن عربي هزائم المسلمين وانتصار أعدائهم ماضياً وحاضراً بدرجة الحق والحرمة التي يوليها كل فريق لإلهه الذي يعتقد به. إن الله سبحانه وتعالى غير متعصب لأحد من خلقه، بل الجميع لديه مؤمن به، وينطوي تحت رحمته وعدله. فإذا اتخذ المشرك حجراً أو كوكباً إلهاً، وأخلص له، نظر الله إليه لعلمه أنه ما احترمه إلا لكونه إلهاً. فإذا التقى الفريقان في ساحة المعركة وكان المشرك أشد وفاءً وإخلاصاً وإيماناً بإلهه الذي يحارب باسمه كانت له الغلبة على الموحد الذي نال إيمانه الغفلة والتفريط، فلم تلحقه الولاية وأصابه الخذلان. إن من صدَق في احترام مقام الألوهية -وإن أخطأ في النسبة- يكون النصر الإلهي حليفه لما لمقام الألوهية من عزة. لذا، إذا أخلص الموحد في إيمانه بالله نصره على عدوه، وإذا أصابه الخلل خذله وفقد القوة التي يقف بها أمام عدوه، فهُزم.
- يدور السجال بين أسماء الله الحسنى -كـ: الخالق، المقدّر، المدبّر، المفصّل، الباري، الرازق، الشكور- حين أدركت أنها تكمن باطناً في الذات الإلهية، وأنها بهذا مجرد (ممكنات وجودية) ما لم تتحقق بالفعل، فلا بد لها من الخروج من العدم لإثبات صلاحيتها. عليه، يبدأ التحريض بينها من أجل، أولاً: إعطاء الفرصة للممكنات بالظهور، وثانياً: لإشباع حاجة الأسماء في إثبات فاعليتها من هذا الظهور. تبتدأ الأسماء في طلبها إلى الاسم (الباري) الذي يحتاج إلى القدرة، فيحيلها إلى الاسم (القادر) الذي يحتاج إلى التخصيص، فيوجهها إلى الاسم (المريد) الذي يدفع بها إلى الاسم (العالم)، الذي يطلب منها استئذان الاسم الجامع (الله). وعلى الرغم من أن هذا الاسم يمثل جمعية (الأسماء الإلهية)، إلا أنه يقع تحت حكم (الذات الإلهية) فيحتاج إلى الدخول على مدلول الذات، ليطلب الإذن بالفعل.
- على مستوى عال جداً من المعرفة اللدنية عصية على الفهم، يكشف ابن عربي عن درجات للتجليات الوجودية في النَفَس الإلهي -ويقصد على حد تعبير الكاتب: “أن الوجود قد نشأ حروفاً في النفَس الإلهي حين أرادت الذات الإلهية أن ترى نفسها في صورة غير ذاتها” – وهي مستويات أربع تتفرع عن كل منها مراتب أربع، كما يلي:
- مستوى البرزخ الأعلى أو الخيال المطلق أو برزخ البرازخ أو العماء المطلق:
-
- مرتبة الألوهة
- مرتبة العماء أو الأعيان الثابتة في العدم
- مرتبة حقيقة الحقائق الكلية
- مرتبة الحقيقة المحمدية أو الإنسان الكامل
- مستوى عالم الأمر أو العقول الكلية:
-
- مرتبة العقل الأول أو القلم الأعلى
- مرتبة النفس الكلية أو اللوح المحفوظ
- مرتبة الطبيعة الكلية أو الهباء
- مرتبة الهيولي الكل أو الجوهر الهبائي
- مستوى عالم الخلق:
-
- مرتبة الجسم الكلي أو العرش
- مرتبة الكرسي
- مرتبة الفلك الأطلس أو فلك البروج
- مرتبة فلك الكواكب الثابتة أو كوكب المنازل
- مستوى عالم الشهادة:
-
- مرتبة الأفلاك السبعة المتحركة
- مرتبة الدوائر (العناصر الطبيعية الأربعة: النار، الهواء، الماء، التراب)
- مرتبة الموجودات الأصلية أو مرتبة الحياة (المعدن، النبات، الحيوان)
- مرتبة الكائنات الحية (ملك، جن، إنس)
- وفي تحليل صوفي أكثر غموضاً، يقسّم ابن عربي الأمر الإلهي (كن) إلى قسم ظاهر يتكون من الكاف والنون، وقسم باطن يتكون من الكاف والواو والنون، وقد حُذفت الواو لاختزالها في الضمة على الكاف. كذلك، إن لها معنى ظاهري يتمثل في عالم (الملك والشهادة) ومعنى باطني يتمثل في عالم (الغيب والملكوت). أما معناها الظاهري في عالم الملك والشهادة فينقسم بدوره إلى ظاهر وباطن. فالكاف توازي عالم الشهادة الباطن حيث يُنطق من أقصى الحلق، والنون توازي البعد الظاهر في نطقها من التقاء اللسان بالأسنان العليا. أما كتابتها فيعبر شكلها نصف الدائري بنصف الوجود الظاهر، والنقطة تحيل على الباطن المخفي منها.
رابعاً: مما صادف هوى في خاطري:
- إنه لسوء أدب أن يعبد المرء الله امتثالاً لقانون (الثواب والعقاب) فتراه إن أمن العقاب عصى، وإن خافه أمتثل. تقول شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية التي اتخذت من (الحب) وسيلة ترتقي فيها إلى الله حتى يكشف بينها وبينه الحجب:
أحبك حبين حب الهوى وحب لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عما سواكا
وأما الذي أنت أهل له فكشفك لي الحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
- الخطاب الإنساني لا يقف خارج المكان والزمان .. خارج سطور التاريخ وحدود الجغرافيا، وهكذا هم ذوي النزعة الروحانية، فلا هم ينتمون لعصرهم ولا لقوانينه ولا لعقيدته، إنما هم من يشكّلون عقائد عصرهم ومعاييره وقوانينه. إن ابن عربي أحد هؤلاء كما يقول المستشرق الفرنسي هنري كوربان.
- عندما ينتصر الباطل ويسقط الحق، وتموت الحياة في ساحة الحرب، يحلّ التعصب مكان التسامح، وتضيع الروحانية في وحل الواقع .. فكيف لأنصار الحياة الذود عنها بين جثث القتلى ورائحة الدم؟ قد تتألق الروح في التجربة الذاتية، لكنها لا تنجح حين تصطدم بجدار الواقع!. إن ابن عربي ابن عصره في نهاية الأمر، وهو مثل أقرانه .. ابن الوقت الذي يُفرض عليه، لا الذي يخلقه في حالة سموه النفسي. تتوارد كل هذه الخواطر وقد شهد ابن عربي ما مرّ على المسلمين من ضعف وهزيمة.
- التجليات الإلهية عند ابن عربي تظهر في اثنتان: التجلي الوجودي من خلال الظهور في أعيان الممكنات أو الموجودات أو الخلائق وعلى رأسها الإنسان، والتجلي المعرفي من خلال الولوج في قلوب العباد شريطة نهوض العبد في طاعة الله وترقيه في عبادته. تمثّل الأعيان نوع من الحجب تمنع الحقيقة عن قلب المؤمن، بحيث يصبح معراج الصعود نحو حضرة الحق مشروطاً بتخطي مراتب الوجود. لهذا، يكيل المتصوفة التبجيل للحديث القدسي: “ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن“.
- يروى عن علي بن أبي طالب قوله: “الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا “، ويرى ابن عربي أن الفناء ليس إلا حالة يقظة من غفلة تستغرق عمر الإنسان العادي في عالم من صور. تلك الصور الأشبه بما يتراءى للنائم في نومه، والتي يتيقن أنها كانت مجرد أوهام حين يفيق. هكذا هو حال الإنسان في مراتب الوجود المختلفة الخاضعة للصور من أولها لآخرها، يُستثنى منها الصوفي الذي يدرك هذه الحقيقة، ويُصبح ما يراه كشوفات ورؤى إيمانية.
خامساً: من جميل القول في اقتباسات سماوية اللون (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
- يقول صاحب دار النشر في حق أبو زيد -وقد كان السبّاق في مقولة الحق- وهو يعنون مقالته بـ (ليتك معنا): “لقد بدأ نصر حامد أبو زيد ثورته حين وجّه نقداً جريئاً وعلنياً على آليات الفساد وإلى جمود الفكر الديني المهيمن، وذلك قبل فترة طويلة من الثورات التي تتنقل من بلد عربي إلى آخر، فكان رمزاً لدى فئة واسعة من هؤلاء الشبان الذين ملاوا الميادين”. ويستطرد ليوجه له الكلمة رحمه الله: “ليتك يا نصر معنا اليوم لترى أن الثمن الذي دفعته حين حوكمت وهجّرت لم يضع هباءً”.
- يقول أبو زيد عن مصدر عرفان الإمام غير التقليدي: “أنه دخل خلوته دون توجيه شيخ أو تعليم أستاذ، فخرج منها بعلوم وهبية لا يتأتى الحصول عليها بقراءة الكتب”.
- وفي تفرقة بين (الولاية) و (النبوة) باستخدام دلالة اللبنتين (الذهب) و (الفضة)، يرى ابن عربي -باعتبار نفسه خاتم الولاية المحمدية- أنه ظاهرياً يتبع النبي الخاتم وهي دلالة لبنة الفضة، بينما يستمد ولايته من نفس المصدر الذي استمد منه النبي نبوته وهذا دلالة لبنة الذهب. فيقول: “… فكل الأنبياء أولياء. بمعنى أن كل نبي ورسول له ظاهر وباطن: فظاهرة النبوة والرسالة ومناطها التبليغ ومخاطبة الناس على قدر عقولهم، أما الباطن فهو العلم بالأمر على ما هو عليه. من هنا نفهم التفرقة المعروفة في الرسل والأنبياء من حيث هم كلمات إلهية؛ ومن حيث هم شخصيات تاريخية. محمد التاريخي الذي ولد بمكة هو الرسول النبي الخاتم! أي به أغلق باب النبوات والشرائع السماوية المنزلة. أما «الحقيقة المحمدية» فهي المشكاة التي لا ينقطع نورها أبداء منها يستمد الرسل والأنبياء بدءاً من آدم حتى عيسى نورهم ظاهرا وباطنا. ومن باطنها يستمد «الأولياء»”.
- يتذوق ابن عربي الجمال بقلب العارف، فجمال الإنسان أنثى كان أم ذكرا إنما هو مجلى إلهي. وإذا كانت قضية الجمال عامة عند المتصوفة، فهي خاصة عند ابن عربي تكاد تتماثل مع “نظرية الوجود” التي يعكسها الحديث القدسي عن الحق ككنز مخفي خلق الخلق حتى يُعرف. يعقّب أبو زيد في عذوبة: “أن يكون (الحب) مجلى للمقدّس وأن يكون الجمال الإنساني أحد تجليات الجمال الإلهي أمر لا يفهمه الفقهاء ولا يقدّرونه”.
- يشهد الكون على كلام الله المعجز فلا يقتصر المصحف عليه. يقول أبو زيد: “تتجلى اللغة الإلهية -عند المتصوفة- في الوجود كله، فهي ليست محصورة في إطار الخطاب القرآني. إنها تتجلى في الوجود كله، لأن الوجود كلمات الله المسطورة في «الأفاق» والقرآن كلمات الله المسطورة في المصحف. وكما أن كلمات الله الوجودية لا يمكن حصرها ولا تنفد، فكلمات القران المعدودة المحصاة في ذاتها تشير إلى معان ودلالات وجودية لا تنفد”. ثم يفرّق بين تأويلات الفقهاء التي لا تتعدى ظاهر النص بدلالته اللغوية، وبين تأويلات المتصوفة القادرة على النفاذ في باطن الخطاب الإلهي، فيقول: “وهكذا تكون تأويلات المتصوفة للقرآن نابعة من فهمهم لـ «الإشارات» المدلول عليها في العبارات، وذلك لقدرتهم على النفاذ من «ظاهر» اللغة الوضعية إلى «باطن» اللغة الإلهية في بنية الخطاب. أما الفقهاء فيعجزون عن ذلك بسبب عكوفهم على مستوى التجربة الدينية العادية، واستغراقهم في مستوى الدلالة الوضعية للغة الإنسانية «ظاهر» الخطاب الإلهي”.
- يسترسل أبو زيد في جدلية الوضوح والغموض ليؤكد على (منحى الستر) الذي اتخذته اللغة في الخطاب القرآني، حيث يتطلب الكشف عنه من خلال فك شفرة (الإشارات). فيقول: “إن الدلالة المزدوجة لبنية القرآن -دلالته على الوجود من حيث لغته الإلهية، وعلى الشريعة الظاهرة من حيث مواضعات اللغة الإنسانية وأعرافها- تكتسب وحدتها من خلال التجربة الصوفية التي هي تجربة وجودية وعرفانية في الوقت نفسه. هي تجربة وجودية من حيث إن «معراج» الصوفي ليس إلا رحلة روحية يتخلص فيها تدريجياً من علائقه بعالم «الظواهر» نافذاً إلى «باطنها» الروحي. وإذ يرهف «السمع» لأرواح الموجودات في معراجه يكتسب معارف تتزايد بدرجة رقيه في المعراج، ومع التزايد الكمي في المعرفة يحدث تحول كيفي في قدرته على السماع، حتى يصل إلى فك شفرة يعض أبعاد اللغة الإلهية (كلمات الله الكونية). في هذه الرحلة تنطبع في النفس -نفس الصوفي العارف- شفرة اللغة الوجودية، فيتمكن من النفاذ إلى الآفاق، فيرى «الآيات» في الآفاق كما يراها في نفسه. هذا هو المعنى الذي يفهمه المتصوفة من الآية القرآنية الكريمة «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق» سورة فصلت 41/53”.
- لذا، يكون حجب العلم مستحباً أحياناً! يستمر أبو زيد في شرحه ويقول: “إن الضنّ بالعلم على غير أهله لم يكن مسلك الصوفية وحدهم، فالفلاسفة أيضا حرّموا على العامة الاطلاع على كتب «البرهان» خشية أن تفسد عقائدهم. لكن لهذا الحرص على الستر عند المتصوفة بعداً آخر يتمثل في عجز اللغة «العادية» عن الوفاء بحق التعبير عن مواجد الصوفية ومعارفهم. «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة». هكذا يقول النفري”. وفي حين أن هذا الستر قد يتخذ شكل الإيماءة أو الإشارة أو الرمز، تبقى العلة المركزية له هو اتقاء اضطهاد السلطة السياسية بالعاملين لديها من الفقهاء أو علماء الرسوم كما جاز للشيخ تسميتهم، فيقول: “ولا أشد من علماء الرسوم على أهل الله المختصين بخدمته، العارفين به من طريق الوهب الإلهي، الذين منحهم الله أسراره في خلقه، وفهّمهم معاني كتابه وإشارات خطابه، فهم لهذه الطائفة مثل الفراعنة للرسل عليهم السلام. ولما كان الأمر في الوجود والواقع على ما سبق به العلم القديم … عَدَلَ أصحابنا إلى الإشارات، كما عدلت مريم عليها السلام، من أجل أهل الإفك والالحاد، إلى الإشارة”.
- تتعدد التجارب الروحية داخل كل ثقافة بل كل دين، بها يسلك العارفين طريقهم نحو الحقيقة. يقول أبو زيد: “إن الحقيقة في ذاتها واحدة لا تتعدد، ولكنها تتشكل وتتلون مثل الماء الذي يأخذ شكل الإناء الذي هو فيه ويتلون بلونه، هذا رغم أن الماء في حقيقته لا شكل له ولا لون. ابن عربي يكثر من تكرار هذا النموذج – الماء والإناء- نقلاً عن أسلافه من العارفين”.
- هنالك صنفان من العلماء أمام حوائج الناس، يضع أبو زيد ابن عربي في الصنف الأول، إذ يقول: “قضاء حاجات الناس عند الملوك والأمراء والخلفاء كانت دائما واحدة من المهام التي أحس العلماء والعارفون بأنها مسئوليتهم، فقد كانوا يمثلون صوت العامة من المظلومين وذوي الحاجات في قصور الحكام ودواوين الأمراء. بعض العلماء بالطبع كانت مصالحهم الخاصة مع السلاطين والحكام أهم عندهم من توفير العدل للمحتاجين، فانخرطوا في تملق الحكام وتبرير كل أفعالهم لهم. ابن عربي نموذج للعارف من الصنف الأول”.
- ولقيود المكان وضغوط الزمان شأن في إرباك الروحانية المبتغاة، فليس الأمر على الدوام تحليقاً عالياً. يقول أبو زيد: “ألا يؤكد هذا كله الحقيقة التي نحاول إبرازها، حقيقة أن الروح في محاولتها السمو والارتفاع تظل في حالة صراع مع واقعها الأرضي، فإذا كانت تنجح أحيانا في التحليق عالياً فوق غيومه وأمطاره فإن هذا الواقع يصيبها في أحيان أخرى بفتور لا يمكن إنكاره أو تجاهله؟”.
- ويخلص أبو زيد في نفس المبحث إلى حقيقة نوم العالم الذي يتيقظ بعد موته، فيقول: “إنه زمان «البركة» وإقامة دين الله -الإسلام- على الصراط المستقيم. لكنه موعد قيام الساعة ونهاية العالم، كأن ابن عربي لا يرى صلاحا للعالم إلا في نهايته، وهل في ذلك من غراب؟ أليس «الموت» هو اليقظة من حالة «النوم» التي هي العالم؟ «الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا» هكذا يروى عن النبي أنه قال، وهكذا يفسر ابن عريي الوجود بأنه «خيال» وأن البشر يظنون أنفسهم يقظى والحقيقة أنهم نائمون”.
- العالم بأسره عند ابن عربي يزخر بتجليات الحقيقة الإلهية، فلا مكان للكفر به. يأخذ أبو زيد على عاتقه شرح هذا اللبس فيقول: “الكفر بمعنى إنكار وجود الباري ليس إلا صفة عارضة ظهرت مع ظهور الشرائع السماوية على أيدي الرسل والأنبياء. فصدقهم البعض وكذبهم البعض الأخر، فأطلق على المصدقين اسم «المؤمنين» وأطلق على «المكذبين» اسم الكفار. لولا نزول الشرائع وانقسام الناس بين مصدق ومكذب ما كان للكفر أن يظهر في العالم. لكن ظهور الكفر في العالم لا ينفي حقيقة أن العالم كله مؤمن في الباطن. فمنذ اللحظة التي أخذ الله فيها العهد على البشر وهم في حالة «الذر» أي وهم في لحظة كونهم بذوراً في ظهر أبى البشر «آدم» أعلنت الذراري إيمانها بربها حسب ما ورد في القرآن الكريم: «وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بريكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين» الأعراف 7/172”.
- ويستمر ابن عربي في رأي عن الشرك مغاير لما تعارف عليه، فيتصدى أبو زيد بالشرح ليقول: “المشركون هم باختصار كل من سوى الموحدين، وهم الذين يؤمنون بإله واحد لا شريك له ولا ولد. وأياً كان ما يعبد المشركون أو أيا كان من يعبدون من حجارة أو كواكب أو أشخاص، فهم في النهاية يؤمنون «أن هذا ا لحجر أو هذا الكوكب أو ما كان من المخلوقات أنه إله» فهم في الحقيقة -هؤّلاء المشركون- يعبدون الله المتجلي في الحجر أو الكوكب أو الشخص فيكون خطؤهم في هذه الحالة خطأ في نسبة الألوهية نسبة مطلقة إلى من نسبوها إليه. والخطأ في النسبة لا يمنع صحة الإيمان وصحة العبادة في الباطن. أليس الله سبحانه هو القائل: «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» فكيف تكون عبادة لغيره”.
- وللموجودات مراتب بعد نشأة الوجود عند ابن عربي أرقاها مرتبة الإنسان، فيقول أبو زيد في هذا: “العالم إذن هو المرأة، لكنه بدون الإنسان مرآة غير مجلوة، ولا يجلوها إلا وجود الإنسان. وبعبارة أخرى لا يكون العالم ممثلاً للوجود الإلهي إلا بوجود الإنسان، لأنه بالنسبة للعالم بمثابة «الروح» بالنسبة للجسد”.
- وفي جدلية الظاهر والباطن، يذم الإمام علماء الرسوم ويرثى لحال العلماء بالله -وكأنه بين ظهرانينا- فيقول أبو زيد عنه: “وأما الملوك فالغالب عليهم عدم الوصول إلى مشاهدة هذه الحقائق لشغلهم بما دفعوا إليه، فساعدوا علماء الرسوم فيما ذهبوا إليه إلا القليل منهم فإنهم اتهموا علماء الرسوم في ذلك لما رأوا من انكبابهم على حطام الدنيا وهم في غنى عنه وحب الجاه والرياسة وتمشية أغراض الملوك فيما لا يجوز. وبقي العلماء بالله تحت ذل العجز والحصر معهم كرسول كذبه قومه وما آمن به واحد منهم”.
- أما في جدلية الوضوح والغموض، فلا يختلف ابن عربي عمّن سبقه من السلف الصالح حين كتموا ما حصّلوه من علم واستتروا خلف ظواهر الأمور ونزلوا بأنفسهم منازل الدعابة والمزاح. فها هو أبو هريرة يقول في موقف ما: “لو بثثته لقطع مني هذا البلعوم”. وقال ابن عباس: “لو فسرته لكنت فيكم الكافر المرجوم”. ويستشهد بعلي بن أبي طالب وهو يقول: “إن ها هنا -وضرب على صدره بيده- لعلوماً جمة، لو وجدت لها حملة”. وبابنه زين العابدين حين أنشد:
“يا رب جوهر علم لو أبوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا”
- كخاتم للولاية المحمدية، يعزز ابن عربي مكانته برؤيا يقول فيها: “ولقد رأيت رؤيا لنفسي في هذا النوع (حيث يدرك الرائي أنه في رؤيا ويميز بين ذاته خارج الرؤيا وبين صورته في الرؤيا) وأخذتها بشرى من الله، فإنها مطابقة لحديث نبوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ضرب مثله في الأنبياء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثلى في الأنبياء كمثل رجل بنى حائطاً فأكمله إلا لبنة واحدة فكنت أنا تلك اللبنة فلا رسول ولا نبي بعدي” و “… وقلت متأولاً: إني في الاتباع من صنفي كرسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنبياء وعسى أن أكون من ختم الله الولاية بي، وما ذلك على الله بعزيز”. و “والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر، وهو موضع اللبنة الفضة، وهو ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام، كما هو آخذ عن الله في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه، لأنه يرى الأمر على ما هو عليه، فلابد أن يراه هكذا وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن فإنه أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول. فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع بكل شيء”.
- وفي حديث ابن عربي عن معاني كشف الوجه والكفين والقدمين للمرأة، يتطرق إلى جواز إمامة المرأة في الصلاة!، فيقول: “من الناس من أجاز إمامة المرأة على الاطلاق بالرجال والنساء وبه أقول. ومن الناس من منع إمامتها على الاطلاق، ومنهم من أجاز إمامتها بالنساء دون الرجال. الاعتبار: شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض النساء بالكمال -كما شهد لبعض الرجال وإن كانوا أكثر من النساء- وهو النبوة. والنبوة إمامة فصحّت إمامة المرأة. والأصل إجازة إمامتها فمن ادعى منع ذلك من غير دليل فلا يُسمع له، ولا نص للمانع في ذلك. وحجته في منع ذلك يدخل معه فيشترك ويشرك فتسقط الحجة فيبقى الأصل إمامتها” … رحمك الله يا ابن عربي، إن مقالتك لحق! وليأبى من في قلبه مرض!.
على هامش المادة العلمية للكتاب، أذكر في متفرقات ما يلي:
- عن مكانة ابن عربي -الغائب الحاضر- العالمية، يشير الكاتب إلى موقع (جمعية أكسفورد) على شبكة المعلومات، وهي: ibnarabisociety.org وقد اطلعت عليه ووجدته قيّم للمهتمين من غير العرب.
- يشير الكتاب إلى عدد من الكتب ذات الصلة، تُغري المهتمين -أمثالي- باقتنائها، أذكر منها وقد حصلت على كتاب (فصوص الحكم) منذ شهر تقريباً:
- الخطاب والتأويل / الاتجاه العقلي في التفسير: المجاز في القرآن عند المعتزلة. (نصر حامد أبو زيد)
- الخيال الخلّاق عند ابن عربي. (هنري كوربان)
- التفسير الكبير / الفتوحات المكية / فصوص الحكم / مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم / عنقاء مغرب في ختم الأولياء وشمس المغرب. (محي الدين ابن عربي)
- قرأت للكاتب من قبل كتاب (نقد الخطاب الديني) وكتاب (دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة) وكانا رائعين، ولدي على رف مكتبتي كتاب (فلسفة التأويل) وكتاب (التفكير في زمن التكفير) للكاتب لم أقرأهما بعد!.
في عجالة -وعلى سبيل النقد الأدبي- فإن هذا الكتاب الثاقب:
- قوي اللغة، واضح المفردات، ويبعد عن استخدام الكلمات الغريبة. غير أن إدراك المعنى يكتنفه بعض الصعوبات والتي قد تعود إلى لغة الكاتب الثرية والمتمكنة .. والمقعّرة.
- متناغم الإيقاع في سرد الأفكار حول موضوعاته المختلفة وعلى طول الكتاب.
- مثير في أسلوبه الأدبي لعاطفة القارئ، ومحفز لإعادة نظره في الكون بقلب متصوف يرى أبعد من حدود الرسوم.
- خصب الخيال في إيراد بعض الأمثلة لتوضيح فكره الصوفي. على سبيل المثال: (الفتى التونسي الأمرد) وتغزّل ابن عربي فيه كتقليد شعري صوفي لا يُقصد به الشذوذ بل استحسان الجمال.
- معبّر في صورة غلافه عن انتماء ابن عربي لأرض الأندلس، وقد حمل طرف من النحت المعماري الشامخ لقصر الحمراء في غرناطة، يصدح بـ: ولا غالب إلا الله.
- ذكي في عنوانه، حيث تعتلي أرفف المكتبات روائع لأولئك الفاعلين في الحياة من خلال ما (تكلّم) به كل فرد منهم. أذكر على سبيل المثال:
- هكذا تكلم زرادشت
- هكذا تكلم أفلاطون
- هكذا تكلم عيسى
- هكذا تكلم الأمام علي
- هكذا تكلم جعفر الصادق
- هكذا تكلم جلال الدين الرومي
- هكذا تكلم الحلاج
- هكذا تكلم عبدالقادر الكيلاني
- هكذا تكلم روجيه جارودي
- هكذا تكلم الجواهري
- هكذا تكلم علي شريعتي
- هكذا تكلم فان جوخ
- هكذا تكلم نصر أبو زيد … وحُق له!.
ختاماً ..
إن دين الحب الذي نادى به ابن عربي قد كان خلاصة نظرته الخالصة نحو الإنسانية جمعاء .. وهو أحوج ما نريد في زمن أصبح التكفير فيه عقيدة والكراهية مذهبا .. دين الحب الذي يحتضن أبناء آدم وحواء أجمعين باختلاف قبلتهم!.
…. ولا يزال ابن عربي حاضراً بيننا يتكلم بلغة الحب الذي دان به، علّنا نعيها!!. وقد قال:
قد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أني توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (1) في قائمة ضمت (57) كتاب قرأتهم عام 2021 تتضمن 4 كتب لم أتم قراءتها و 3 كتب أعدت قراءتها، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان أكثر بكثير، لكن حالت ظروف الحياة دون تحقيقه .. وقد حصلت عليه من متجر جملون الإلكتروني للكتب في شهر ديسمبر من عام 2019، ضمن (35) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة.
إذاً، إنه الكتاب الأول في عام 2021، حيث الأجواء لم تزل عكرة بفعل وباء كورونا.
ومن فعاليات الشهر: لا شيء سوى عمل مكثف في أمر ما، استغرقت فيه إلى الأربعة شهور التالية له.
تسلسل الكتاب على المدونة: 284
على الهامش: بعد نشر هذه المراجعة، تلقّيت تعليقاً من (لحية) ممن ظن أن إطلاقها هو غاية الدين حسب نقد المتنبي، أو كصك غفران يضمن له الجنة، يقدح فيه بثقافة أبو زيد “وأضرابه” .. كما عبّر، الثقافة التي طغى عليها الفكر الفلسفي من وجهة نظره، وجعلت أتباعه يتخذونه ونظرائه أنموذجاً لبث أفكارهم المراد منها فصل الماضي عن الحاضر، ومن ثم “إسقاط حرمة الدين وعظمة تراثه النقي” كما ادعى!..
وبينما ظن هذا المغسول مخه -في غفلة من أمره- أن ما هرطق به هو جهاد في سبيل معتقده سيبّثه في مدونتي .. وتلك أمانيه وأضرابه .. فإنه قد صادق من حيث لا يدري على نقد أبو زيد للخطاب الديني في كتابه الذي تعرّض بسببه للتكفير من قبِل التكفيريين وأضرابهم .. الخطاب الذي لم يخطّه سوى بشر، استقوا -على اعتبارهم الخلف- من السلف، دون أي تجديد أو تمحيص لآرائهم وفتاواهم وتفاسيرهم واجتهاداتهم، فما كان صالحاً في زمانهم هو ليس بالضرورة كذلك في زماننا .. وليس الأخذ برأي السلف من عدمه هو بمثابة إعلاء كلمة الدين ولا الطعن في ثوابته .. على الإطلاق!.
حقاً، يصدق الشاعر الزبيدي حين قال: لقد أسمعت لو ناديت حيا .. ولكن لا حياة لمن تنادي
التعليقات