إنه كتاب “شق توأم سيامي” كما عرّف به كاتبه ابتداءً .. وهو وإن امتلك “شهوة الحكي” كغيره -على حد قوله- ليس “بحكّاء”، غير أنه استغرق من عمره ثلاثين عاماً يحكي مع شاشة حاسوبه، حيث تجمّع لديه كمحصلة “حكي كثير” صار من الأجدر نشره لا سيما وهو آخذ بنصيحة صديقين .. إضافة إلى أنه لا يضمّن نفسه زمرة الكتّاب الذين يكتبون لأنفسهم غير آبهين بالنشر، بل إنه كما يقول في مقدمته: “ما كتبت شيئاً إلا تمنيت أن يجد طريقه إلى الناس حتى لو جرّ عليّ ندماً”. ولضخامة ما كتب، فقد اتفق والناشر على النشر من خلال كتابين: أحدهما بعنوان (هكذا أكتب) وقد خصّه بأحاديث عن اللغة والإعلام والتعليم، والآخر بعنوان (هكذا أفكر) زاد عن سابقه بآراء وأفكار في مجالات أخرى .. وهو الذي بين أيدينا!
لكن من هو؟ إنه ذلك الإعلامي الذي تسع طلته الشاشة ومخارج أحرفه الأسماع وموسوعيته العَجب والإعجاب! إنه ببساطة (عارف حجاوي 1956) كاتب ومدرب وإعلامي من فلسطين، تنقّل في مهنته بين هيئة الإذاعة البريطانية وقناة الجزيرة الإخبارية ومحطة التلفزيون العربي، كما عمل كمدّرب دورات إعلامية، إضافة إلى إصداراته التي تختص باللغة والشعر والنحو، وغيرها من إصدارات أدبية وروائية وفكرية.
تمتد مقالات الكتاب على أربع صفحات صنّفها الإعلامي في خمس مجالات رئيسية، تبدو كالآتي .. وقد استنفد بها الكتاب رصيد أنجمي الخماسي كاملاً:
- عني بشكل رئيسي
- أنا والناس
- أفكار شتى
- شيء عن المستقبل
- حديث الأدب
ففي حديثه عن نفسه (بشكل رئيسي)، يبدو الإعلامي متعدد الانتماءات وهو يعلن هويته كـ “إنسان عربي مسلم”، ففي حين يكون الإنسان في نظره “سوياً” حين يحمل بداخله عدة انتماءات، يكون البلد وحيد الدين والقومية واللسان “بلد غير طبيعي”. أما حديثه في (أنا والناس) فيتطرق في أحد أجزائه إلى موهبة المرأة التي قد تُدفن في عقلها مقابل مهنتي الطهي والتكاثر بلا حساب، فبجانب (مدام كوري) التي نالت جائزة نوبل مرتان، الكثير من النساء العاكفات على أعقد التجارب في مختبرات حول العالم، فيصرّ مؤكداً: “المرأة تستطيع أكثر من الطبخ والرقص الشرقي”. وفي (أفكار شتى) يفرّق الإعلامي بين المثقف والمفكر وهي ليست بعملية هيّنة! فبينما يكون المثقف ذلك الذي يحرص على جمع معلومات من ميادين جمة، أدبية وعلمية ودينية وسياسية، بآراء النقاد وتحليلات المحللين، ثم يخرج بين فينة وأخرى بجملة آراء تخصه، فإن المفكر -وهو كذلك يتصدى لمعلومات ولمختلف الآراء- فهو يهضمها لكن لا يعيد إنتاجها “بل يخلق من مجموعها ومن معايشته رؤية أصيلة” .. إنه مستقل وذلك لا يزال تابعاً. ثم يظهر الإعلامي متثائباً في حديثه (شيء عن المستقبل) حين ناكفه أحد القراء في عدم امتداحه الرئيس الراحل ياسر عرفات، فذكّره بـ “طقوس عبادة الفرد” التي مارسها العرب ردحاً من الزمان ثم كفروا بها، وضرب له مثلاً في جمال عبدالناصر وصدام حسين ومعمر القذافي، كـ “فيلم” حضره عدة مرات. ثم يختم في (حديث الأدب) وهو يجول في أروقة من الشعر العربي غنّاء، فيتحسر على مآل بلاد العرب التي أصبح فيها الغني يرتحل، بينما كان الفقير يرتحل سابقاً لطلب الرزق، وقد كانت بلاد العرب آنذاك عزيزة غنية، فيورد بيتين في وجوب الارتحال من أجل تحسين الأحوال، هما: “إذا كنت في دار وضامك أهلها .. وقلبك مشغوف بها فتغرب / فإن رسول الله لم يستقم له .. بمكة أمر فاستقام بيثرب”.
ومن أروقة (الحكي) الذي لا يُمل، أدوّن ما راق لي وأقتبس ((مع كامل الاحترام لحقوق النشر)) إضافة إلى ما سبق من اقتباسات:
- في (عني بشكل رئيسي) يجيب عن سؤال وُجه له حول شاعره المفضل وما لم يجربه في الأدب ومدى رضاه عن إنتاجه، فيقول في (مقالة 6): “أحسن الروايات عندي كتب التاريخ، وأحسن ما كتب عن تاريخنا كتبه غيرنا، لأننا نعيش حقبة الهزيمة ومنذ مئات السنين، فكتاباتنا لتاريخنا مليئة بالاعتذارية والتمجيد، أو بجلد الذات بلا رحمة! الآخرون يكتبون عنا بموضوعية أكثر”.
- وفي (أنا والناس) يقول في (المسيحيون في أرض المسيح) كلاماً عن الانتماء الذي خلفه الاغتراب. فعن تغير الانتماء ومعضلة الإسلام السياسي يقول: “وجاء ما يُسمى بالصحوة الإسلامية (كأن صلاة والدي وجدّي كانت صلاة نائمين). ثم جاء الإسلام السياسي .. وتغيرت أولويات الانتماء”. وعن تلقين الاغتراب يقول: “صادف يوماً أنني ذكرت رجلاً اسمه (ألفرد) وقلت في السياق: (رحمه الله)، ففاجأتني فتاة بالقول: (انتبه يا أستاذ، فقد يكون هذا الرجل مسيحياً، ولا تجوز عليه الرحمة) .. هكذا يدرسونهم في المدارس”.
- وفي (أفكار شتى) يقول في (الله أصل وليس معه أصل) عن منطلقاته الفكرية التي تبدأ بإدراك الله، ثم الإسلام، فالقرآن: “كنت دائماً اسأل نفسي: (ماذا عندك من الإسلام؟) ومنذ بضع سنوات أخذت أجيب: (أنا من الناس الذين عندما يُنادى في يوم الحشر: (فليلحق كل بصاحبه)، أذهب إلى حوض محمد ﷺ وأقول: أنا معك)”.
- وفي (شيء عن المستقبل) يتطرق إلى حديث يخص في أغلبه فلسطين والفلسطينيين والقضية الفلسطينية. فيقول في (فلسطين صورة المستقبل): “نظر الإسرائيليون، الذين يتعايشون مع السلطة الفلسطينية بموجب اتفاقية، إلى الأمر كما يلي: لسنا مستعدين للتعامل مع قيادة تخرج من جيبها صائب عريقات يتحدث عن ضرورة العودة للتفاوض، ومن جيبها الآخر مروان البرغوثي يحث على استمرار الانتفاضة، ومن جيبها الثالث تحالفاً بين فتح وحماس تنكره السلطة وتغذيه في آن واحد. القيادة الفلسطينية في نظر إسرائيل غير مأمونة الجانب وليست صاحبة الكلمة الواحدة. الإسرائيليون يقارنون سلوكها دائما بسلوك الحكم في الأردن، مثلاً، ويدركون الفارق الشاسع“. ويقول أيضاً في (الكضية والقضية .. والواقعية) رداً على شاتمين من بني جلدته، نعته الأول بـ (حـ …. ر) والآخر آزره بشتم قضية فلسطين برمتها: “في الختام، ورداً على صاحبي الثاني (ليس صاحب الحمير بل الآخر صاحب تباً للكضية): يا رجل، والله إنني لأعلم علم اليقين أن المجتمع الخليجي في أمس الحاجة إلى التحرر من قيود كثيرة، وإلى الانطلاق نحو المجد. وليتك تصدق أنني أتمنى لكل بلد عربي المجد والتقدم. لكن المسألة معقدة. ولو كنت أملك حلاً لكنتُ فصلت القول فيه ولكنني محبط من كل المعسكرات العربية. وكنت كتبت تغريدة قلت فيها: يمكنك أن تمدح إسرائيل دون أن تسب الفلسطينيين … جرب“.
- وفي (حديث الأدب) الذي عرض دواوين الشعر وهي تمد الإعلامي بأفكار جاهزة كلما فكّر في أمر ما .. فيقول في (ماذا أتعلم من الشعر): “وقد يمر ببالي صديق لي كان يحمد ربه أن ليست له أخوات، حتى لا يتعرض لهن أحد ولا يغازلهن أحد! ثم أتذكر الخنساء التي بكت أخويها صخراً ومعاوية بديوان شعرها كله فخلّدتهما”.
وخير ما أختم به، إجابته في مقابلة أجريت معه عمّا يشغله هذه الأيام: “وفي كل الأيام .. فلسطين”، وماذا تعني له: “تعني فلسطين لي ما تعنيه الساق العرجاء للأعرج! بعضهم يولد في بلد حر، وبعضهم في بلد يقع تحت الاحتلال .. فلسطين قدري”. وبدوري أختم وأقول: ليت شعري! إنها قدر كل العرب .. الشرفاء وحدهم.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (113) ضمن قائمة لا تنتهي من الكتب التي خصصتها لعام 2024، وهو في الترتيب (13) ضمن ما قرأت في أكتوبر! أما عن اقتنائه، فقد حصلت عليه من (بيت الكتب) في ديسمبر العام الماضي، ضمن أكثر من (120) كتاب من تلك الشحنة.
على الهامش: يزخر الكتاب بالعديد من الكتب التي أشار إليها الإعلامي في معرض حديثه المستفيض .. وقد لقت نظري عدد منها سأحرص على اقتنائها قريباً.
ومن فعاليات الشهر: لا شيء سوى مواصلة النهار بالليل في القراءة وحدها .. وكأنه حلم تحقق!
ومن الكتب التي قرأتها في هذا الشهر: إيروتيكا الشعر الصيني / تأملات في شقاء العرب / الحب هو الحقيقة الوحيدة / التدرب على السبيل: نحو حياة ذات معنى / المختطفات: شهادات من فتيات بوكو حرام
وعلى رف (الأدب) في مكتبتي، عدد كبير من الإصدارات، العربي والعالمي، يعود بعضها لمكتبة العائلة العريقة التي انضمت إلى مكتبتي .. ومنها ما نشرت على مدونتي!
تسلسل الكتاب على المدونة: 563
التعليقات