كتاب يلفه الجمال الذي قد لا يتنعّم به القارئ غير المختص في لغته العلمية .. وكنت أنا كهذا القارئ!
ما برح الزمن يثير في غموضه فضول المفكرين والمتأملين، فهو لغز تارة وهو مجرد وهم تارة أخرى، وهو في أحسن حالاته اللحظة الراهنة! وقد يكون من غير الإنصاف لدى البعض تناوله كقضية علمية صرفة، لذا، حرص المؤلف على تهذيب الفيزياء في كتابه من خلال بثّ متفرقات شعرية وروحية وتأملية مستلهمة من الحكمة البوذية والميثولوجيا الهندوسية ومن نظرة الإنسان بعيدة المدى للحياة ككل .. فما رقصة الإله شيفا كما يبدو في إحدى التصاوير المقدسة سوى تدفق، أو بالأحرى تدفق الزمن الذي كان يحافظ على المسارات الكونية. غير أن هذه الشاعرية لا تصف الكون على حقيقته من المنظور المادي، فلا الأرض مسطحة كما تبدو بل هي كروية، ولا هي مستقرة تلف حولها الشمس في مدارها، إنما الأرض هي من تلف حول نفسها!
لهذا، كان الزمن وطبيعته وكيفية عمله هو ما لفت انتباه المؤلف حين كان طالباً شاباً، ضمن ألغاز الحياة العظمى التي ما كان لها من تفسير تام! ولأن الدهشة هي دافع الشغف نحو المعرفة، فثمة أسئلة انطلق منها المؤلف مع مقدمة كتابه التي جاءت بعنوان (الزمن قد يكون اللغز الأعظم)، قائلاً: “لماذا نتذكر الماضي لا المستقبل؟ هل نوجد في الزمن أم يوجد الزمن فينا؟ ماذا يعني حقاً أن الزمن (يمر)؟ ما الذي يربط الزمن إلى طبيعتنا كأشخاص أو إلى نظرتنا الذاتية؟”.
يجيب المؤلف على فحوى هذه الأسئلة من خلال ثلاث عشرة موضوع، ضمن ثلاثة أقسام رئيسية، يصيب بها الكتاب اثنتان من رصيد أنجمي الخماسي .. وهي كما يلي:
- القسم الأول: (تفتت الزمن):
وفيه يصحح المؤلف النظرة التقليدية للزمن الذي يفترض به المرور من الماضي عبر الحاضر نحو المستقبل، فإنما هو “مجموعة معقدة من البنى” أو من طبقات مفتتة واحدة تلو أخرى!
-
- ضياع الوحدة
- ضياع الاتجاه
- نهاية الحاضر
- ضياع الاستقلال
- كمّات الزمن
- القسم الثاني: (العالم بلا زمن):
وفيه يحاول المؤلف فهم “المنظر الطبيعي المتطرّف والجميل” للعالم المتجرّد من جوهره .. حيث اللازمن، كالأرض الخلاء التي تصفر فيها الريح، والجبل الشاهق الذي لا يغطي سفحه سوى الثلج!
-
- العالم مؤلف من أحداث لا من أشياء
- قصور القواعد اللغوية
- الديناميكية بوصفها علاقة
- القسم الثالث: (مصادر الزمن):
وفيه يعود المؤلف أدراجه من أجل العثور على منشأ لغز الزمن الذي لا يزال يتدفق من حولنا ولأجلنا، وعناصره الأساسية المكوّنة له والمؤثرة بالضرورة في تشكيل ماهية الإنسان.
-
- الزمن جهل
- المنظور
- ما الذي ينشأ عن التعين
- رائحة المادلين
- مصادر الزمن
ومن الكتاب الذي جاء في ترجمة احترافية من نصه الأصلي (L’ordine del tempo – By: Carlo Rovelli) أقتطف شذرات مما علق في ذهني بعد القراءة، وباقتباس في نص سحري (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
- وفقاً لنظام الزمن، تقيم الأشياء -التي تتحول حسب الضرورة من بعضها إلى البعض- العدل فيما بينها. هكذا يقرر (أناكسيمندر) الفيلسوف الإغريقي الذي سبق سقراط وأعلام الفلسفة من بعده، حيث يوضح المؤلف في (ضياع الوحدة) ما عناه فيزيائياً قائلاً: “لقد تطورت علوم الفلك والفيزياء من وقتها سائرة على خطى ذلك الأثر الخلاق الذي تركه لنا أناكسيمندر: عن طريق فهم كيفية حدوث الظواهر وفقا لنظام الزمن. في العصور الغابرة، وصف الفلك حركة النجوم في الزمن. وتصف معادلات الفيزياء كيف تتغير الأشياء في الزمن. منذ معادلات نيوتن التي أرسَت أساسات الميكانيكا، إلى معادلات ماكسويل الخاصة بالظواهر الكهرومغناطيسية؛ من معادلة شرودنغر التي تصف تطور الظواهر الكميّة، إلى معادلات نظرية المجال الكَمّي الخاصة بديناميكا الجسيمات دون الذرية: ظلّت الفيزياء بأكملها، والعلم عموما، تتناول كيفية تطور الأشياء (وفقاً لنظام الزمن)”.
- أما أرسطو، وكأول من طرح على نفسه سؤال: “ما الزمن؟” خلص إلى أنه “قياس التغير” .. فالأشياء التي بطبيعتها عرضة للتغير، يُصبح الزمن مقياساً دلالياً لحساب هذا التغير. يعلّق المؤلف في (ضياع الاستقلال) وقد وجد فكرة أرسطو معقولة، قائلاً: “أرسطو كان مؤمنا بذلك. لو لم يتغير شيء، فإن الزمن لا يمر، لأن الزمن هو طريقتنا في إدراج أنفسنا في علاقة مع تغير الأشياء: وضع أنفسنا في علاقة مع عدّ الأيام. الزمن هو قياس التغير: إذا لم يتغير شيء، فلا زمن”. يستمر المؤلف في تحليل فكرة أرسطو فيقول: “لكن ما هو إذاً الزمن الذي أسمعه ينساب وسط الصمت؟ يقول أرسطو في كتابه الطبيعيّات: «إذا كان ظلام وكانت خبرتنا الجسدية معدومة، لكن تغيراً يحدث داخل العقل، نفترض على الفور أن زمنا قد مر أيضاً». بعبارة أخرى حتى الزمن الذي ندرك تدفقه داخلنا هو قياس لحركة ما: حركة داخلية .. لو لم يتحرك شيء، فلا زمن، لأن الزمن ليس إلا تسجيلاً للحركة”.
- بيد أن هنالك ثمة إشكالية تكمن في الوصف الحقيقي للأشياء، لا سيما اللحظية منها .. الواقعة في الوقت الحاضر، أو كما أسماها الفلاسفة بـ (الحاضرية) .. ومن جانب آخر، هنالك (الأبدية) التي وصف بها فلاسفة آخرون تدفق الوقت بحيث يجتمع الماضي والحاضر والمستقبل في اللحظة الآنية، إذ ما التغير إلا وهم! وهم في هذا يستشهدون برأي الفيزيائي الرائد (ألبرت أينشتاين) الذي ضمّ الكون في كتلة واحدة .. الرأي الذي صار يُطلق عليه “الكتلة الكونية”، رغم أنه عُرف بتغيير رأيه في أمور أساسية! يقول المؤلف في (قصور القواعد اللغوية): “التمييز بين الماضي والحاضر والمستقبل ليس وهماً، إنه البنية الزمنية للعالم. بيد أن البنية الزمنية للعالم ليست بنية حاضريّة. العلاقات الزمنية بين الأحداث أكثر تعقيداً مما كنا نظن، لكن ذلك لا يجعلها تكف عن الوجود. علاقات البنوة لا تُرسي نظاماً عالمياً، لكن ذلك لا يجعلها وهماً. وإذا لم نكن جميعاً طابوراً واحداً، فذلك لا يعني أنه ما من علاقة بين بعضنا والبعض. التغير، ما يحدث ليس وهماً. جُلّ ما اكتشفناه هو أنه لا يسير وفقا لنظام عالم”.
- يستمد عالم الرياضيات وفيلسوف القرن التاسع عشر (إدموند هوسرل) بنية العالم الزمنية من مفهوم “الاستبقاء” والذي يتفق فيه مع القديس أوغسطين -حين حلّت الألحان محل الترنيمات- في أن تشكّل المقطوعة يتم حين تستبقي النغمة اللاحقة، السابقة عليها. وبينما يخط هوسرل رسماً بيانياً تظهر فيه خطوط رأسية وأفقية تشكّل مرور الزمن واستبقاء اللحظة، يجد الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر الزمن في الفعل الذي يتفاعل فيه الإنسان مع الأشياء، بحيث يصبح الزمن (أفق للكينونة الإنسانية) نسبة إلى الإنسان ككائن يطرح مشكلة الوجود! يعقب المؤلف قائلاً في نهاية القسم الثالث من الكتاب: “هذا الحدس بدرجة تأصل الزمن في الذاتية يظل مهماً أيضاً بالنسبة إلى أي فلسفة طبيعية محترمة تنظر إلى الذات كجزء من الطبيعة ولا تخشى الحديث عن (الحقيقة) ودراستها، بينما تعترف في الوقت نفسه أن فهمنا وحدسنا محدودان جوهرياً بطريقة عمل تلك الآلة القاصرة: دماغنا هذا الدماغ جزء من الحقيقة يعتمد بدوره على التفاعل بين عالم خارجي والبنى التي يعمل العقل من خلالها. لكن العقل هو نتاج عمل دماغنا، وما بدأنا في فهمه على (ضالته) عن طريقة عمله تلك هو أن دماغنا بأكمله يعمل على أساس مجموعة من الآثار التي خلفها الماضي في التشابكات التي تربط الخلايا العصبية. التشابكات العصبية تظل تتشكل بالآلاف ثم تُمحى، خاصة أثناء النوم، تاركة وراءها انعكاساً مشوّشاً لما قد شغل جهازنا العصبي في الماضي. صورة مشوّشة، بلا شك -فكّر في ملايين التفاصيل التي تراها أعيننا كل لحظة ولا تبقى في ذاكرتنا- لكنها صورة تحتوي على عوالم كاملة”.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (40) ضمن قائمة لا تنتهي من الكتب التي خصصتها لعام 2024، والذي أرجو أن يكون استثنائياً بحق في جودة الكتب التي سأحظى بقراءتها خلاله، وهو في الترتيب (10) ضمن قراءات شهر ابريل الذي قرأت فيه (13) كتاب. وعن اقتنائه، فقد حصلت عليه من معرض للكتاب بإحدى المدن العربية العام الماضي ضمن (400) كتاب، كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض.
وعلى رف (العلم) في مكتبتي، عدد يتجاوز (70) من الإصدارات، منها قديم ومنها حديث .. أذكر منها: (ألغاز تاريخية محيرة) – تأليف: بول أرون / (شرخ في التكوين) – تأليف: د. جنفر داودنا / (حتى نهاية الزمن) – تأليف: برايان جرين / (عن هذا الكون الفسيح) – تأليف: كارلو روفيللي / (قصة الأصل) – تأليف: ديفيد كريستيان / (نرد أينشتين وقطة شرودنجر) – تأليف: د. بول هالبرن / (الكون: عوالم محتملة) – تأليف: آن درويان / (طبيعة العالم الفيزيائي: النظرية النسبية ونظرية الكم وأسئلة اﻹنسان الكبرى) – تأليف: سير آرثر ستانلي إدنجتون / (ماذا لو؟ إجابات علمية جدية عن أسئلة افتراضية غير معقولة) – تأليف: راندال مونرو / (عالم الرياضات العجيب) – تأليف: جين أكياما / (الجين: تاريخ حميم) – تأليف: سيدهارتا موكرجي / (الإشعاع النووي: قصة تشرنوبل ومستقبل البشرية) – تأليف: سعود رعد / (الكوارث: الموت الآتي من الأرض والفضاء) – تأليف: أديب أبي ضاهر / (خمس وسبعون ظاهرة حيرت العلماء) – تأليف: رياض العبدالله/ (غرائب من العالم) – تأليف: وليد ناصيف / (الحياة المريبة للجثث البشرية) – تأليف: ماري روتش / (كون عقلك: التفكير بفعالية من خلال حل لغز البزل الإبداعي) – تأليف: إدورد برغر / (أغرب من الخيال: سر الأطباق الطائرة) – تأليف: راجي عنايت / (سحر الواقع: كيف تعرف حقيقة الواقع؟) – تأليف: ريتشارد دوكنز / (الثقوب السوداء والأكوان الناشئة) – تأليف: ستيفن هوكينج
من فعاليات الشهر: يقابله في العام الهجري 1445 ما تبقى من شهر رمضان المبارك وعيد الفطر في العاشر منه .. وفي هذا الشهر عادة انقطع عن القراءة، غير أنني تمكّنت في هذا العام من استقطاع وقتاً يسيراً للقراءة، وكان مثمراً.
تسلسل الكتاب على المدونة: 490
التعليقات