ولأنها جانب من سيرة الفيلسوفة الوجودية الذاتية، فهي تعكس -وبغرابة- جانب دافئ من شخصيتها المتوارية في العمق أمام ظاهرها الحكيم والعقلاني، لا سيما وهي تسرد تلك اللحظات الأخيرة في حياة والدتها، وهي التي لم ترتبط بها عاطفياً لا في طفولتها ولا في مراهقتها ولا حتى في شبابها وأوج استقلاليتها، بل لطالما تسببت في إشكاليات عائلية جراء ما كانت تعرضه من أفكار في إصداراتها وتعارض بها قيّم والدتها البرجوازية، رغم أنها كانت -ككاتبة مميزة ومرفهة مادياً- داعمة لوالدتها .. أو كانت بمثابة (الابن)، كما جاء في مقدمة السيرة.
إنها اللحظات التي تنشّط الذاكرة وتستعيد بها الفيلسوفة كل ما تصورته من رقة والدتها الماضية، التي وإن كانت تعبر عنها باستياء، فقد كانت رقة ماثلة في قلبها بشكل دائم .. من ناحية أخرى، إنها سيرة الموت العذب الذي أكدّه مقدمو الرعاية الطبية للفيلسوفة عند الفجر، أو كما جاء على لسان الممرضة الخافرة: “أؤكد لك أنه كان موتاً عذباً للغاية”.
لم تخلُ السيرة من عرض جوانب أخرى تتعلق بحزن شقيقتها بوبيت العميق، وحميمية الأصدقاء وزياراتهم التي لم تنقطع محمّلين بباقات الورود وعلب الحلوى، ومراحل علاجها وتطور مرضها بتفاصيل لم يكن لها من داع، وعريها تحت ثوبها المفتوح وجسدها الهيكلي البارز، وموضوع القتل الرحيم الذي جاء في خضمها .. وأسفارها، من ناحية أخرى، التي كانت تقطعها لمتابعة حالة والدتها الصحية .. وعنجهية الأطباء، وعذوبة الممرضات، ولقطات من موقف صديقها الفيلسوف سارتر ….. وغيرها الكثير من شجون!
ومن السيرة التي انقسمت إلى ثمانية أقسام بلا عنوان، وجاءت في ترجمة متقنة من نصّها الأصلي (Une mort très douce – By: Simone de Beauvoir) واستقطعت اثنتان من رصيد أنجمي الخماسي، أقتبس شذرات (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
- متى يكون الموت مهمة شاقة؟ تجيب سيمون: “عمل شاق بالنسبة للموت .. عندما يحب المرء الحياة كثيراً”.
- هل ينجب الموت الحياة أم أن الحياة هي من تحيي الموت؟ تجيب سيمون: “إن الذي حرك مشاعرنا في ذلك اليوم كان الاهتمام الذي توليه إلى أدنى الأحاسيس المرحة، كما لو أنها في سن الثامنة والسبعين تستيقظ من جديد بمعجزة من الحياة”.
- هل كان إيمان والدتها سطحياً كما ادعى البعض، إذ لم تواجه المعاناة والموت؟ تجيب سيمون: “لا أعرف ما الإيمان، لكن كان الدين محور وجوهر حياتها. الأوراق التي وجدناها في أدراجها أكدت لنا ذلك. لو أنها رأت في الصلاة مجرد مواء آلي، لما تعبت من التسبيح بمسبحتها أكثر من حل أحجية الكلمات المتقاطعة. بل على العكس من ذلك، أقنعني تمنعها بأن الصلاة كانت من أجلها ممارسة تتطلب الاهتمام والتأمل وحالة روحية. كانت تعرف ما كان يجب أن تقوله للرب: «اشفني، ولكن إن كانت هذه مشيئتك: أقبل الموت». ولم تقبل في لحظة الحقيقة هذه، ولم تكن تريد أن تنطق بكلمات غير صادقة. ومع ذلك لم تمنح نفسها حق التمرد. كانت صامتة: «الله كريم»”.
- أمام الموت، تجيب سيمون من غير سؤال: “وفي هذه الأثناء، عادت بوبيت إلى أمي، غائبة بالفعل؛ وكان قلبها يخفق، وتتنفس في حالة مستقرة، وعيناها تلمعان من دون أن ترى أي شيء. لقد انتهى كل شيء: «قال الأطباء إنها ستنطفئ مثل الشمعة: ليس كذلك، ليس كذلك على الإطلاق: قالت شقيقتي وهي تنتحب! لكن، يا سيدتي، أجابت الممرضة الخافرة: أطمئنك هذا الموت موت عذب جداً”.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل السيرة (143) ضمن (150) كتاب قرأتهم في عام 2024، وهي في الترتيب (13) ضمن (20) كتاب قرأتهم في ديسمبر .. وقد حصلت عليها من معرض للكتاب بإحدى المدن العربية في نفس العام، ضمن (250) كتاب كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض!
ومن فعاليات الشهر: لا شيء سوى ملاحقة الساعات لإتمام قائمة القراءة .. والتي تطول عادة في آخر شهر من كل عام!
ومن الكتب التي قرأتها في هذا الشهر: سقوط رجل/ حياة الكتب السرية / النوم إلى جوار الكتب / القرية التي كنا فيها / وداعاً لآلام المفاصل / عودة ليليت / كتاب الجيم / اسمها فلسطين / زيارة لمكتبات العالم / نساء رفضن عبادة الرجل / وقائع من حياة فتاة مستعبدة / النوم إلى جوار الكتب / الغيرة والخيانة / في مديح القارئ السيء / On Bullshit
وعلى رف (سيرة ذاتية) في مكتبتي عدد قليل من الإصدارات .. منها ما نشرت على مدونتي!
تسلسل السيرة على المدونة: 593
التعليقات