يضم الكتاب بين دفتيه حوار ماتع عن توأم القراءة والكتابة، والذي يأتي بدوره على ذكر الكتب والأدباء والمؤلفين والمفكّرين والمثقفين والمبدعين والإعلاميين والسياسيين والمشاهير ودور النشر والقنوات الإعلامية والجوائز العالمية والجمهور العريض والإحصائيات المنشورة ….، طرفاه إعلامي ومؤرخ وثالثهما قارئ حاضر بينهما، وإن كان صامتاً مراقباً مستأنساً لحوارهما.
يكرّس الإعلامي الفرنسي (برنار بيفو 1935) خمس عشرة عاماً من عمره في بث برامج حوارية تخلّد الإرث الإنساني الفكري والأدبي والثقافي، وإن خصّها في العموم لمحيطه المحلي، مثل برنامج (القراءة للجميع) و (فتح القوسين) و (حساء الثقافة)، حيث دأب فيها على استضافة أعلام الثقافة ومحاورتهم بذكاء واقتفاء آثار إبداعاتهم، صانعاً بهذا إنجازاً ثقافياً رصيناً ومؤرخاً لمرجع مهم في عالم الكتب، لا للقرّاء وحسب، بل للكتّاب والناشرين والصحفيين والإعلاميين وكل العاملين في مجال صناعة الكتب والترويج لها كثقافة عامة. إضافة إلى كونه قارئ نهم، فقد عُرف الإعلامي بآرائه غير المهادنة ومشوراته الأدبية السخية التي كان لا يبخل بها على الكتّاب والناشرين، وقد نال شهرة عالمية واسعة وحصد العديد من الجوائز الأدبية. لذا، يأتي من طرف آخر صاحبه المؤرخ والأكاديمي (بيير نورا 1931) والذي تفرّغ في الأساس لنشر الدراسات المتعلقة بالعلوم الإنسانية، محاولاً عقد لقاء صحفي معه بمناسبة اختتام برنامجه (أبوستروف)، الأمر الذي لم يقبله الإعلامي متعللاً بعدم إجادته المحادثات الشفوية، حيث اتفقا على استبدال اللقاء بمراسلات امتدت على مدى أكثر من عام بينهما، مضمونها خلاصة تجربته الإعلامية والثقافية التي أطلق عليها لنفسه “مهنة القراءة”، حتى حان أوان تجميعها وإصدارها في قالب كتاب يحمل هذا العنوان.
رغم ما سبق -والكتاب يبدو ممتعاً للمتابع المطّلع- فهو مثقل بأسماء وبإصدارات وببرامج وبقنوات قد يجهل القارئ العربي جلّها، لا سيما ما يرتبط منها بحدود الوسط الثقافي الفرنسي! أما وقد تُرجم الكتاب إلى اللغة العربية، فقد يطفو على السطح سؤال حول مدى تمكّن مثقفي العرب الإفادة من التجربة الفرنسية، حيث الذخيرة العلمية والفكرية والأدبية الغزيرة التي يزخر بها التراث الثقافي العربي، القديم والحديث!.
ومن الكتاب الذي صنّفته دار النشر بعبارة “الكتابة عن الكتابة”، والذي جاء في ترجمة متقنة من نصّه الأصلي (Le métier de Lire – By: Bernard Pivot) قلّما تحظى بها الترجمات الحالية، وقد عني بها الكاتب والمترجم المغربي (سعيد بوكرامي) .. أدوّن ما راق لي بعد القراءة، وباقتباس في نص ذكي (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) وقد استقطع من رصيد أنجمي الخماسي ثلاثة:
- يتساءل بيير عن مدى تحسّن تقنية صاحبه الحوارية، فيؤكد له هذا أن ذلك التحسن قد تم بمرور السنين عبر ممارسة المهنة، غير أن بيير يعتقد بأن الأسئلة التي ينبغي طرحها في المقابلات مع المؤلفين أمام الجمهور، هي الأسئلة المتوقعة التي تتردد عادة لدى الجميع، بحيث يُصبح على صاحبه أن يكون “مترجماً للفضول العام” .. فهل أتقن هذه الترجمة بحق؟ يجيبه برنار أولاً بالثناء على حسن التعريف بمهنة الصحافة من خلال تعبيره الآنف، وبأنه اجتهد دائماً لأن يكون حلقة وصل بين جمهور متعطش للمعرفة، وبين مؤلف يريد نقل معرفته. ثم يكشف له عن سر تقنيته سواء مع قراءة مسبقة للكتاب موضوع الحوار أم لا، قائلاً: “إذا لم يقرأ السائل الكتب، فإنه سيسأل أسئلة نمطية، لا يستطيع من خلالها أن يطوّر الحوار بسبب معرفته القليلة، وهنا قد يبدو المؤلّف مخيباً للآمال، وبذلك يفشل اللقاء بالنسبة للكتاب وللجمهور على حد سواء. وعلى العكس من ذلك، إذا كان السائل شخصاً على دراية كبيرة، ويُظهر أنه يعرف بقدر ما يعرفه المؤلّف ويمكنه حتى التباهي بذلك؛ فإننا ننتهي إلى محادثة بين متخصصين. حينها يشعر الجمهور بالتهميش وبذلك يفشل اللقاء والمؤلّف وكتابه. لهذا من المهم جداً أن لا يكون الصحافي المسؤول عن الكتب في التليفزيون كاتباً، وزميلاً لضيوفه“.
- يسأله صاحبه من جديد -بعد أفول نجم برنامجه وبات بمثابة مفخرة وطنية ملحقة بـ (البانثيون) مقبرة العظماء في باريس- عن تصنيف برنامجه ومراحل تطوّره، لا سيما تحت ظرف نشوء قنوات منافسة ومشاركته الكعكة الإعلامية نفسها!. يجيبه برنار في فصل (القارئ العمومي) وهو يعده بمكافئة سخريته سراً، قائلاً: “لا يوجد برنامج مهما كان لا يعتمد على قوة قناته! النجم هو القناة. إذا ازداد جمهورها وعمّت شهرتها، فإن جميع البرامج تستفيد من ذلك، وتلك التي لا تستفيد تنتقل بسرعة من الحياة إلى الموت. على العكس من ذلك، إذا تلاشى الجمهور وتدنت هيبة القناة، فإن جميع البرامج تعاني، حتى تلك الأكثر حظوة لدى الجمهور“.
- وماذا عن اختراع المقابلة مع الكاتب وإجراء التحقيق الأدبي المطلوب معه؟ ينقل برنار عن الصحفي الفرنسي (جول هوريت) الذي ابتدع وطوّر هذا الفن، قوله: “المقابلة هي جزء -وأقول ذلك بعبارة عرضية- من لعبة اجتماعية لا يمكن التواري عنها، أو لنطرح الأمر بجدية أكبر: هي تضامن بين العمل الفكري والكتاب من جهة، والإعلام من جهة أخرى. هناك ظروف متشابكة يجب قبولها منذ لحظة البدء بالكتابة، والكتابة تعني في الأخير النشر، وانطلاقاً من لحظة النشر يجب أن تقبل ما يطلبه المجتمع من الكتب وما يمكن أن تفعله بها”.
- يقرأ برنار أسئلة صاحبه بيير التي لا بد وأن ساورته حول عالم الكتب الذي هو فيه منغمس .. مثلاً: عن إمكانية تناسل الكتب، وعن تلك المجهولة منها، وعن ارتفاع خطر التكاثر مع ازدياد الكتب عديمة الفائدة ومتاجرها، وعن مزاجيتها وغضبها وانفلاتها من فوق الأرفف وسقوطها واختبائها واختفائها في بعض الأحيان، وعن مرحها الجلي في عناوينها وانعكاسات اضوائها وأسماء مؤلفيها وجاذبية أغلفتها …..، فيأتي رده حميمياً وهو يقول: “عندما تكون الكتب رائعة، فإنها تفوز بسهولة بلقب أفضل صديق للإنسان أمام أيّ مخلوق آخر. هل يتأثر سلوك الكتب بمحتواها؟ لا. لا يوجد كتاب عن الانتحار ألفيناه وقد انتحر أو كتاب عن الطيور فوجدناه يطير بعيداً، أو كتاب عن الطعام فأصبح بديناً فجأة (إذا كان بديناً فهو كذلك منذ ولادته)، أو كتاب عن جنوح الأحداث صار من الضروري تعليمه القيم ومراقبته ومعاقبته” .. فالكتب -في رأيه- تحرص على إعلان براءتها مما أُجبرت على قوله، إذ هي بطبيعتها حرة ترفض الالتزامات، و “لم يصدر عنها أي موقف كان نتيجة لمحتواها الثقافي، قط. إنها محايدة وبدون ردة فعل”. لذا، وإن كان الأمر كذلك مع الكتب، فمن يأتي بالتمرد إذاً؟ يستطرد برنار في خواطره المستلهمة من (ذكريات أبوستروف) وفنتازيا عالمه المحبب فيقول: “وحدها الكلمات والعبارات، كما أوضحت آنفاً، يمكنها أن لا تحب الطريقة التي هيئت بها، فتترك الكتاب الأشجع والأكثر غضباً لتؤلّف كتاباً آخر رفقة المنفيين الآخرين. لكن هذه ليست سوى ردود فعل فردية للأسماء والصفات والأفعال وما إلى ذلك، التي لا تُغير مظهر ومحتوى الكتاب الذي تركته والذي يظل في جوهره غير قابل للتغيير“.
- وفي خاتمة الجزء الثاني (حساء الثقافة)، يتجلى معدن الصحفي المخضرم في قيّمه الوطنية التي لم يعلن عنها قط بلسانه، بل وفي انتمائه للحضارة الإنسانية على اختلاف مذاهبها ومشاربها .. كلما أشاد المثقفين من مختلف ثقافات العالم بدوره في رفعة شأن الفرانكوفونية، حيث يعلّق قائلاً بتواضع غير مزيف: “لم اعتبر نفسي وزيراً للثقافة يمثّل الفرنسية في العالم، لكنني كنت فخوراً باستخدام سمعتي ومعرفتي في خدمة قضية وطنية، ولصالح خدمة عالمية للغة الفرنسية. أنا الذي لم أعلن عن انتمائي حتى الآن إلا في كرة القدم، فوجئت، في نهاية المباراة أن أجد بين الكلمات التي أتفوه بها نكهة وطنية. أضيف، لكن يمكنك أن تخمّن أن هذه البرامج استخدمت أيضاً وحتى بشكل أساسي، من أجل فتح عيون المشاهدين الفرنسيين على الثقافات الأجنبية وجعلهم يقابلون الكتّاب والفنانين الذين تشكل أحاسيسهم جزءاً من الجغرافيا والتاريخ الذي يختلف تماماً عن تاريخنا، وحيث لم يكن من النادر اكتشاف التطابقات والصلات“.
وبدوري أقول أخيراً: حديث وجدتني بين خواطره .. وفي جوهره .. وفي روحه العاشقة للكتب!
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (34) ضمن قائمة لا تنتهي من الكتب التي خصصتها لعام 2024، والذي أرجو أن يكون استثنائياً بحق في جودة الكتب التي سأحظى بقراءتها خلاله، وهو في الترتيب (4) ضمن قراءات شهر ابريل الذي قرأت فيه (13) كتاب .. وقد حصلت عليه من متجر (بيت الكتب) الإلكتروني في ديسمبر من عام 2023، ضمن (120) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة.
وعلى رف (المكتبات) في مكتبتي، عدد يتزايد من الإصدارات .. أذكر منها: (لماذا أكتب؟) – تأليف: جورج أورويل / (بضع جمل قصيرة عن الكتابة) – تأليف: فيرلين كلينكنبورغ / (العرنجية: بلسان عربي هجين) – تأليف: أحمد الغامدي / (تباريح القراءة: مقالات في القراءة والكتابة وشئونهما) – تأليف: نعيم بن محمد الفارسي / (كيف غيرت القراءة حياتي) – تأليف: آنا كويندلين / (رقصة القمر مع اينشتاين) – تأليف: جوشوا فوير / (أنا والكتب) – تأليف: طريف الخالدي / (رسالة الغفران) – تأليف: أبو العلاء المعري / (في مديح القارئ السيء) – تأليف: مكسيم ديكو / (الزن في فن الكتابة) – تأليف: راي برادبيري / (كيف نقرا الأدب؟) – تأليف: تيري إيغلتون / (جنتلمان المكتبات) – تأليف: ألبرتو مانغويل / (غرفة المسافرين) – تأليف: عزت القمحاوي / (مكتباتهم) – تأليف: محمد آيت حنّا / (كيف تؤلف كتاباً؟) – تأليف: د. راشد العبدالكريم / (يوميات طفل يقرأ) – تأليف: منغ شيان مينغ / (مسيرتي في التأليف: مذكرات هذه الصنعة) – تأليف: ستيفن كينج / (مكتبة ساحة الأعشاب: قل لي ماذا تقرأ، أقل لك من أنت) – تأليف: إيريك دو كيرميل / (مكتبة شكسبير الباريسية) – تأليف: سيلفيا بيتش / (القراءة والقارئ: صورة في البلاغة الأدبية) – تأليف: فيليب دايفيس / (بم يفكر الأدب؟ تطبيقات في الفلسفة الأدبية) – تأليف: بيار ماشيري
من فعاليات الشهر: يقابله في العام الهجري 1445 ما تبقى من شهر رمضان المبارك وعيد الفطر في العاشر منه .. وفي هذا الشهر عادة انقطع عن القراءة، غير أنني تمكّنت في هذا العام من استقطاع وقتاً يسيراً للقراءة، وكان مثمراً.
تسلسل الكتاب على المدونة: 484
التعليقات