قد يكون لذكر جمهورية (إيران) مجرّداً وقع مختلف على خاطر الكثيرين! فهي أرض الحروب والطائفية والثورات والنعرات والزيجات اللحظية، واليورانيوم في الأخير .. أرض يصنّفها العم سام من بعيد ضمن محور شر ابتدعه، وأرض يتوخى أتباع المذاهب الأخرى بالجوار خطط مذهبها التوسعي .. غير أن رحالة عربي فذّ غامر بأوراقه الرسمية التي قد تُمهر بالرفض لاحقاً ليصلها، واستطاع أن ينقل بعدسته الاحترافية أمر آخر فيها! فليست إيران سوى أرض التناقضات! ففي مدنها حياة اجتماعية صاخبة وفي عقيدة أبنائها الدين والعلمانية .. منهم من يتعبّد في العتبات المقدّسة ومنهم من يقيم حفلات السكر الراقصة خلف الأبواب المؤصدة .. فيها يبدو الشادور هادراً إلى جانب صيحات الأزياء والمكياج وخصلات الشعر المتطايرة أسفل غطائه .. هنا الجمال المتمرد يطل من خلف أستار الحجاب .. هنا تهرب الفتاة من شرطة الأخلاق المبعثرة في الطرقات، ويستعذب الفتى في طرقات جانبية غزلها وتلميحاتها .. هنا روح زرادشت والمجوس، والعرب والإسلام، والصفوية والتشيع، وامبراطورية الشاه وثورة الخميني .. هنا القلاع والجبال والسجاد والزعفران والمزارات والمقامات والمساجد والآثار والزخارف والمتاحف .. هنا ثنائية العرق والعقيدة، القومية الفارسية وصراع الحكم الجبري بالدين.
يزورها الرحالة عام 2014 في سياحة تخالف التقليد، حيث استعان بشبكة (CS) أو (Couch Surfing) أو (سفر الكنبة)، وهي بالأحرى شركة عالمية تتيح للمسافر التنقل من منطقة لأخرى لأيام معدودة والتعرّف على ثقافتها دون الاستعانة بمكاتبها أو بفنادقها، بل بأهلها الذي هم على استعداد لاستضافة المسافر في منازلهم والترحيب به والتكّفل بمبيته وسياحته وأكله في معظم الأحيان، دون مقابل مادي. يسمح هذا النوع من السفر التعرّف على البلد المضيف من الواقع المعاش لأهله .. على حقيقته في أبسط صوره، مما قد لا توفّره المكاتب السياحية بمرشديها .. لذا، وفي المدن الإيرانية (شيراز الحيوية، يازد الزرادشتية، أصفهان الشيعية، كاشان الأثرية، قم المقدسة، طهران المتمدنة، قزوين التاريخية) استضاف الرحالة المصري: مليكة وسمية ومهتاب وفرهد ومهرنوش ومهزرة ومريم وزينب ومهران وفائزة وأمير وحامد … وغيرهم من كرماء فارس اللذين أجزلوا له الكرم كونه مصرياً بشكل خاص .. وهم الذين يستحق أن يُترجم هذا الكتاب للغتهم، عرفاناً وإكراماً لهم.
أما عن هذا المغامر، فينقل كتابه الثري -الذي أهداه إلى ابنته الغالية نور- نبذة عن نجاحه في مجال الاستثمار والتحليل المالي إضافة إلى احترافه التصوير الضوئي، بينما تضيف سيرته الذاتية على الجانب الآخر ما يقارب الأربعين بلد والمائة مدينة طافها في رحلاته حول العالم .. ولهذا الشغف، أنشأ شركته السياحية الخاصة يجوب فيها ومن يشاركه الشغف مدن عدة شرقاً وغرباً.
وهنا، ومن الكتاب الذي يصوّر إيران في عشرين يوماً .. تاريخياً وحضارياً وسياسياً ودينياً واجتماعياً وعرقياً وثقافياً، في أسلوب أدبي رشيق، وبعدسة محترف لامعة، والذي لم يخلُ من قفشات وروح دعابة معتادة لدى كل ما هو مصري، والذي من أجل ذلك حصد رصيد أنجمي الخماسي كاملاً .. أقتطف ما علق في ذهني من الأيام الخمس الأولى بعد قراءتها، وباقتباس في نص من زعفران (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:
- في (اليوم الأول: نعم! إلى إيران)، وبعد أن يستعرض الرحالة سيل التساؤلات والاستنكارات والاشتباهات والتحذيرات التي تلقّاها ممن يعرفه وممن لا يعرفه عن وجهته السياحية المحفوفة بالمخاطر، واضطراره في المطار لقطع تذكرة ذهاب وإياب استيفاءً لشروط السفر، رغم عدم اشتراط القنصلية الإيرانية في بلده الحصول على تأشيرة مسبقة لزيارته .. يجعل لقائه بأول شخص في إيران من (حسن الحظ)، حيث كان سائق تاكسي عربي الأصل يقطن إقليم الأهواز، غير أنه ما لبث أن اشتم الخبث في عرضه بتوفير ما يشاء له مصحوبة بغمزة من عينه، حيث “أنه يعرف الكثير من الأماكن لتقديم الخمور والحشيش والترياق (الأفيون) وحتى نساء المتعة” .. مع علم الرحالة المسبق أنه “لا يوجد بارات أو ديسكوهات أو بيوت دعارة بالتأكيد في إيران! كله ممنوع طبقاً للقانون ولدستور الجمهورية الإسلامية”. يصل الرحالة إذاً، فتطالعه ابتداءً في مدخل مبنى المطار المتواضع صورة كلاً من (الخميني) قائدة الثورة الإسلامية، بعمامة سوداء ولحية بيضاء وسحنة متجهّمة، و (خامئني) المرشد الأعلى للجمهورية آنذاك، بملامح لا تختلف عن سابقه لكنها أقل حدّة.
- وفي (اليوم الثاني: لقاء فتاتي شيراز)، يزور الرحالة برفقة الجميلتين مليكة وسمية (مسجد نصير الملك) أو كما يُعرف محلياً باسم (المسجد الوردي)، وذلك للزجاج الذي يغطيه من الجانب الشرقي ليعكس إضاءة خلابة مع شروق الشمس، وقد بُني أواخر القرن التاسع عشر في عصر أسرة القاجار التي أنتهى حكمها بوصول أسرة بهلوي إلى سدة الحكم. يقول الرحالة في وصفه: “المسجد مزيّن بأحجار ذات ألوان زرقاء فيروزية من التي تشتهر بها دول وسط آسيا. وليس عجباً أن إيران أكبر بلد منتج لحجر الفيروز المستخدم في تزيين معظم المساجد في أنحاء إيران”. تصارحه إحدى الفتاتين بسعادتها لزيارة المسجد من جديد برفقته، إذ أن التحرش سيطالها حال مرورها وحيدة وسط البلدة القديمة! يُفاجئ الرحالة بتشابه الثقافتين العربية والفارسية حيال سلوك التحرش في الشوارع، وقد علم مع هذا بانتشار أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في طرقات المدن الإيرانية، إلا أن الفتاة تبرر ذلك السلوك المشين باستهزاء قائلة: “مجتمع ذكوري مكبوت محروم”. يعقّب الرحالة على استنكارها قائلاً بدوره: “يتشابه شيوخ الشيعة والسنة إذاً في الهوس الجنسي! فعندنا في مصر يلوم أيضاً بعض رجال الدين المتشددين المرأة على خروجها، كأن خروج الفتاة من بيتها في حد ذاته هو ذريعة للتحرش بها، وكأنها لمجرد خروجها من البيت فإنها بهذا تعلن عن رغبتها في أن تكون فريسة للمتحرشين”. وفي شقة مضيفيه الواقعة في الدور الثالث الخاصة بأسرة إحدى الفتاتين، يعاين الرحالة ردهة جميلة بأثاث حديث تتوسطها شاشة كبيرة تعرض مقاطع راقصة، منها العربية الجريئة. يحدثونه بإنجليزية طلقة، ويحاورونه في الشأن المصري الذي وجده الرحالة محط اهتمام الكثير من الإيرانيين، ثم يتعرف على أول وجبة من المطبخ الإيراني (أكلة بيتي) وقد بدأ بالشوربة الإيرانية المكونة من خليط من اللحم والخضار والأشبه بالملوخية المصرية.
- أما في (اليوم الثالث: درس الرسم الممنوع)، فيركب الرحالة التاكسي وقد نبهه مضيفيه الإيرانيين على الاتفاق مسبقاً مع السائق فيما يتعلق بالأجرة نظراً لعدم وجود عداد في حافلات التاكسي. فيستطرد قائلاً مغتبطاً: “علموني بالأمس بعض الأرقام الفارسية حتى أستخدمها عند ركوب التاكسي، وكانت المفاجأة السارة أنني وجدتني أعرف الأرقام من 1 إلى 6 جيداً، هي بالترتيب: يك دو سه جهار بنج شيش. هي ببساطة مسميات أرقام (النرد) التي يرددها المصريون عند لعب الطاولة على المقهى. كان أول من اخترع النرد أو (زهر الطاولة) وقدمه إلى المصريين هم الفرس غالباً، لذا احتفظ المصريون بالتسمية الفارسية للأرقام وفاء لهذه الهدية العظيمة“. غير أن الحضارة بدت تبادلية عند هذا الأمر! حيث تحتوي اللغة الفارسية على الكثير من المفردات العربية، فضلاً عن الأحرف العربية التي استبدل بها الفرس حروفهم الفارسية إثر الفتح الإسلامي، مع الحفاظ على لغتهم من الاندثار. وفي ذلك اليوم، يكتشف الرحالة وجهاً آخراً مستتراً لإيران، حين اجتمع مع فتيات وفتيان إيرانيين في إحدى الدور مع معلمهم الإيراني ذو المظهر الأوروبي، وذلك لتعلم الرسم -لا سيما رسم الإنسان- الذي يحظره الرأي الديني، وقد تخلصت الفتيات من أغطيتهن وأظهرن ما أمكنهن من محاسنهن، وقد تشاركن بحماس ظاهر وزملائهن معاينة “صور عارية تماماً لنساء ورجال” على شاشة الكمبيوتر، قبل بدء جلسة الرسم! وفي تلك الدار كان لا بد من خلع الملابس كاملة مع الإبقاء على بعض منها من أجل رسم جسد الإنسان الفاتن على طبيعته! يبرر الرحالة الوضع الفصامي الذي يغلّف رغائب الإنسان الإيراني أمام سطوة الدين قائلاً: “يجد الإيرانيون السبل لخرق القوانين المفروضة تحت شعار الدين، كغيرهم من البشر، فلا سيطرة للدين على السلوك الإنساني إلا إذا كان نابعاً من الداخل وليس مفروضاً بالقوة من الخارج، وبخاصة الأوامر الدينية غير المنطقية مثل تحريم رسم الإنسان”.
- أما عن (اليوم الرابع: بين حضارات فارس القديمة)، والذي تعرّف فيه الرحالة على الإمبراطورية الفارسية القديمة، فقد استيقظ في ساعة مبكرة لينتقل من مدينة شيراز إلى مدينة برسبوليس مع رفاقه، في يوم قائظ. تلتقيهم المرشدة السياحية عند المدخل الرئيسي للمدينة، وهي التي ينقسم اسمها إلى شقين (برس) و (بوليس) وتعني (مدينة الفرس)، وقد كانت تمثّل عاصمة للإمبراطورية الإخمينية التي تولت حكم فارس في الفترة ما بين 550 : 350 قبل الميلاد، وامتدت لتشمل معظم دول آسيا الوسطى حتى حدود الصين شرقاً، إلى مصر وليبيا غرباً، مع أجزاء من أوروبا الشرقية شمالاً، وهي المدينة التي يزعم تأسيسها على يد “الملك العظيم قورش الكبير”. تضيف المرشدة السياحية لمعلوماته -كونه عربياً مسلماً- مؤكدة “أن أغلب المؤرخين يعتقدون أن قورش الكبير هو (ذو القرنين) المذكور في القرآن الكريم في آخر سورة الكهف. يذكر البعض أنه كان مؤمناً بالله وباليوم الآخر، يستدل على ذلك بصفاته الحميدة المذكورة في كتب العهد القديم (التوراة)، فقد كان موجوداً قبل المسيح بخمسمائة عام”.
- يأتي (اليوم الخامس: عجباً! لم يشيعني أحد) ليتجوّل فيه الرحالة وسط شوارع المدينة ويتوقف عند أحد الأفران ليعاين إعداد الخبز الإيراني الساخن والذي يشتهر في إيران بخمسة أنواع منه .. وفي إيران، تبدأ العطلة الأسبوعية بيوم الخميس، ويعد يوم الجمعة مقدّساً بشكل أكبر لما يميّز الصلاة فيه من روحانية. ثم تقوده قدماه إلى الطريق الذي يعلّق صور شهداء الحرب العراقية-الإيرانية، نحو (مسجد سيد علاء الدين الكاظمي) والذي يجد مكتوب عند مدخله “إذن دخول حرم مطهر”، حيث الوقوف لدقيقة من أجل الصلاة لصاحب المقام، أمر واجب. يصف الرحالة أجواء المسجد وقد صلى فيه كما كان يصلي في القاهرة، فلم يتمنّع من تربيع يديه ولم يصلِ على التربة الحسينية، ولم يعارضه أحد من المصلين التابعين للمذهب الجعفري “المكان مضاء بنجف ضخم يتدلى من السقف، والكثير من الإضاءة الخضراء غير المباشرة التي تجعل المكان كله يبدو مخضّراً من الداخل. حول المقام يتوجه الزائرون بالدعاء في خشوع لامسين السور الخارجي للمرقد للتبرك. يضع البعض منهم الصدقات في فتحة معينة في المرقد وترى النقود الكثيرة ملقاة بجوار التابوت وداخله. تمثل الأموال دائما باب رزق للعاملين على الطقوس الدينية ولعلها تذهب حقاً إلى مصارف الصدقات. تعلق الناس بالمقام والتبرك به يذكرني بنفس التصرفات والقناعات حول مرقد الإمام الحسين أو السيدة عائشة في القاهرة، أو أي من مقامات أولياء الله الصالحين في أنحاء مصر. لا يوجد فرق بين سني وشيعي في زيارة الأولياء، الكل يخشع ويبكي ويلتمس البركة“.
………… إنها رحلة ماتعة بالفعل، وودت لو واصلت التدوين!
وكعادتي على هامش مادة كل كتاب اقرؤه، أتوخى كتب أخرى سيأتي على ذكرها أو يوصي بها .. ولم يخيّب هذا الكتاب ظني! فقد أورد الرحالة في سياق سياحته عدد من الكتب التي سأسعى لاقتناء بعض منها، أذكر منها: ديوان الشاعر حافظ الشيرازي / ديوان الشاعر سعدي الشيرازي / رواية (سمرقند) للأديب أمين معلوف / رواية (ابن سينا والطريق إلى أصفهان) للروائي الفرنسي جيلبرت سينويه / كتاب (إيران من الداخل) للكاتب فهمي هويدي / كتاب (مدافع اية الله) للصحفي محمد حسنين هيكل.
ختاماً أقول: إن على المستوى الفردي لكل قارئ، ثمة أدوات لتقييم جودة الكتاب المقروء بعيداً عن تلك المعايير الاحترافية .. لذا، وعندما يفلح الكتاب في نقل القارئ من جوّه إلى أجوائه، بالصوت والصورة والطعم والرائحة والحس والخاطرة والمعلومة والفكرة .. إلى بُعد مذهل وبعيد .. بُعد يجعل القارئ حين يطوي جلدته الأخيرة، يستفيق ليتساءل عن وقته الذي مضى فيما مضى وأين وكيف ولماذا!؟ عندها، يكون الكتاب إبداعياً بامتياز … وهكذا جاء هذا الكتاب!
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (10) في قائمة طويلة من كتب فكرية خصصتها لعام 2023 والذي رجوت مع بدايته أن يكون استثنائياً في جودة الكتب التي سأحظى بقراءتها خلاله .. وهو ثاني ما قرأت في شهر سبتمبر، وقد حصلت عليه من متجر نيل وفرات الإلكتروني للكتب العربية في يونيو من عام 2021، ضمن (80) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة .. لقد ضحيت بالوقت المخصص للقراءة من أجل أمور طارئة! لم يعد الأمر كذلك، والأشهر المتبقية لي من العام ستكون استثنائية بجودة الكتب .. كما رجوت!
وعلى رف (أدب الرحلة) في مكتبتي: تصطف هذه الكتب: (الغابة / سواح في دنيا الله / مغامرة في الصحراء / حكايات مسافر) لمؤلفها: د. مصطفى محمود / (اللهم إني سائح / حول العالم في 200 يوم) لمؤلفها: أنيس منصور / (سائح في دنيا الله: حول العالم في 30 عاماً) لمؤلفه: عبدالوهاب مطاوع / (رحلاتي في العالم) لمؤلفته: د. نوال السعداوي / (رحلة أفوقاي الأندلسي) لمؤلفه: أحمد بن قاسم الحجري / (فوق الغيوم تحت الغيوم) لمؤلفه: د. طه جزاع / (داغستان بلدي) لمؤلفه: رسول حمزاتوف / (رحلة إيطالية: 1786 – 1788) لمؤلفه: جوته / (حول العالم في ثمانين يوماً) لمؤلفه: جول فيرن / (مشاهدات بريطاني عن العراق سنة 1797) لمؤلفه: جون جاكسون / (الفتى المتيم والمعلم) لمؤلفته: أليف شافاك
من فعاليات الشهر: قضيت بدوري رحلة سياحية في ربوع سويسرا الساحرة .. وأحاطت بي فنتازيا من نوع آخر .. وسط الطبيعة الخلّابة، والثلوج فوق سفح الجبل، وزخّات المطر اللطيفة .. وبريق قوس قزح يتلألأ من بين الغيوم وتحتضنه المروج.
تسلسل الكتاب على المدونة: 410
التعليقات