كتاب قد لا يزال مثير للجدل من وجهة نظر دينية ودنيوية وهو يحمل بين طيّاته فكر إلحادي صريح وتوجهات تبدو إباحية وآراء مضادة لما يقوم عليه الواقع البشري فعلياً في الحياة!
يشنّ المتعصبون من الأصوليين والأفّاقين ومحاربي الحريات، والمحافظون من أهل العفة ودعاة الاحتشام .. كل على حد سواء، الحرب الشعواء ضد برتراند رسل شخصياً، وضد تعيينه كأستاذ محاضر في جامعة نيويورك، تنتهي ابتداءً لصالحهم بينما يصبح هو الرابح الأكبر في نهاية المطاف ما بين أصوات الداعمين له، وبين سيل المناصب التي يتولاها، متوجاً بتكريم ملك إنجلترا له رسمياً!.
إنه برتراند آرثر ويليام راسل (1872 : 1970)، فيلسوف وعالم رياضيات وناقد اجتماعي، ويعدّ من أبرز علماء المنطق في القرن العشرين، بالإضافة إلى اسهاماته في شرح الرياضيات واللغة والميتافيزيقيا مستعيناً في ذلك بعلم الفلسفة. كان كذلك ليبرالياً نشطاً ومن دعاة السلام ومناهضة الاستعمار، حيث يسجّل له التاريخ مواقف ضد حرب الولايات المتحدة الأمريكية على فيتنام، والأسلحة النووية، وشخصيات سياسية بارزة مثل هتلر وستالين، الأمر الذي عرّضه للكثير من القلاقل في حياته، لا سيما اعتقاله أثناء الحرب العالمية الأولى وخسارة منصبه كأستاذ في جامعة كمبريدج البريطانية! حاز عام 1950 على جائزة نوبل للأدب تكريماً لإسهاماته الفكرية والإنسانية.
يعرض الكتاب الذي جاء عن ترجمة مباشرة من نصّه الأصلي (Why I Am Not a Christian – By: Bertrand Russell) مباحث مطوّلة تندرج تحت خمسة عشر فصلاً، تعكس مدى العمق المنطقي والفكري والتحليلي للفيلسوف السابق لأوانه على ما يبدو، ما يبرر رفض مواقفه من قِبل العامة والساسة! وهي:
- الفصل الأول: لماذا لست مسيحياً؟
- الفصل الثاني: هل قدم الدين إسهامات نافعة للحضارة؟
- الفصل الثالث: ما أؤمن به
- الفصل الرابع: هل نبقى بعد الموت؟
- الفصل الخامس: يبدو يا سيدتي؟ بل، هو كذلك
- الفصل السادس: حول الشكاكين الكاثوليك والبروتستانت
- الفصل السابع: الحياة في العصور الوسطى.
- الفصل الثامن: مصير توماس بين
- الفصل التاسع: ناس لطفاء
- الفصل العاشر: الجيل الجديد
- الفصل الحادي عشر: أخلاقنا الجنسية
- الفصل الثاني عشر: الحرية والكليات
- الفصل الثالث عشر: وجود الإله
- الفصل الرابع عشر: هل يمكن للدين أن يحل مشاكلنا؟
- الفصل الخامس عشر: الدين والأخلاق
ومن الكتاب الذي يحصد نجمتين من رصيد أنجمي الخماسي، استعرض في عجالة مقتطفات مما علق في ذهني منه بعد القراءة، وباقتباس في نص جسور (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:
- بينما يطرح الفيلسوف في الفصل الأول بعض المسائل التي تبحث في وجود الإله وهو يسوق لها عدد من الحجج، كحجة القانون الطبيعي وحجة الخطة والتصميم وأخرى متعلقة بعلاج الظلم وغيرها من الحجج الأخلاقية، يستهل مبحثه فيها بسؤال (ما هو المسيحي؟) الذي يلحقه بالحديث عن شخصية المسيح، يقوده للخوض في العيوب التي تشوب تعاليمه، ومن ثم الكنائس وإعاقتها للتقدم. فيقدّم بدوره توضيحاً لرفضه المسيحية التي لم تعد تُجدِ نفعاً وللإلحاد الذي اعتنقه كبديل، قائلاً: “علي، عندما أقول عبارة لماذا لست مسيحياً، أن أحدثكم عن أمرين مختلفين، الأول: أنني لا أؤمن بوجود إله ولا أؤمن بالخلود. والثاني: أنني لا أعتقد أن المسيح كان أفضل الرجال وأكثرهم حكمة رغم أنني أمنحه درجة عالية من الصلاح الأخلاقي. لكن بسبب الجهود الناجحة للملحدين في الماضي، لا يمكنني أن أقبل تعريفاً مرناً للمسيحية كذلك التعريف، فكما قلت من قبل كان للكلمة في الأيام القديمة معنى أكثر صفاء بكثير، على سبيل المثال كانت تتضمن الاعتقاد بوجود جحيم، بل إن الاعتقاد بنار جهنم خالدة كان بنداً أساسياً من الإيمان المسيحي حتى وقت قريب تماماً، لكنه توقف، في هذه البلاد، كما تعلمون، عن أن يكون كذلك، بسبب قرار «المجلس الخاص»”. وهو من منطلق هذا القرار يتخذ موقفاً وقد تزعزع إيمانه بالمسيحية، إذ يقول: “ومنذ أن اتخذ المجلس ذلك القرار انشق اسقف كانتربري وأسقف يورك، لكن في هذه البلاد، ديننا يقره مرسوم من البرلمان، لذلك كان المجلس الخاص قادراً على تجاوز سيادتهما، وهكذا لم يعد الإيمان بالجحيم ضرورياً للمسيحي. نتيجة ذلك، أنا لا أصر على أن المسيحي ينبغي أن يؤمن بالجحيم”.
- وهو لا يزال في الفصل الأول، يفاضل وبجرأة بين العلم والدين معتبراً أن (الخوف هو أساس الدين)، حيث أن الدين لديه يقوم “بصورة أساسية وأولية على الخوف”. وهو يصرّ على رأيه، يستمر ويوضح قائلاً: “إن الخوف هو أساس الأمر كله .. الخوف من كل ما هو غامض، الخوف من الهزيمة والخوف من الموت، إن الخوف هو أبو القسوة وأمها، لذا لا عجب إذا ما كان الدين والقسوة يسيران يداً بيد”. رغم هذا، يتفاءل باعتقاده أن العالم الحديث بدأ يمسك بزمام الأشياء المحيطة به، فهماً وسيطرة “بمساعدة العلم الذي شق طريقه خطوة خطوة رغم الدين المسيحي، ورغم أنف الكنائس ورغم معارضة كل المفاهيم القديمة. فالعلم يستطيع أن يساعدنا في تجاوز هذا الخوف الذي يصيبنا بالجبن والذي عانى منه الجنس البشري لأجيال عديدة”. يدفعه تفاؤله للحديث بجرأة أكبر نحو تصوره لهذا العالم وهو يتخذ من العلم لا الدين مطية، فيقول: “إن باستطاعة العالم أن يعلمنا وأظن أن قلوبنا ذاتها يمكن أن تعلمنا في أن لا ننظر بعد الآن حولنا بحثاً عن دعم خيالي وأن لا نخترع بعد اليوم حلفاء لنا في السماء، بل بدلاً من ذلك نتطلع إلى مجهوداتنا هنا على الأرض لكي نجعل هذا العالم أهلاً للعيش فيه بدلاً من ذلك النوع من الأمكنة، الذي عملت الكنائس طوال تلك القرون كلها على صنعه”.
- وعندما ينتقل إلى الفصل الثالث ويحدد الأمور التي يؤمن بها بدلاً عن الدين، مثل: الطبيعة والإنسان، الحياة الصالحة، القواعد الأخلاقية، العلم والسعادة .. يركز في حديثه عن (الخلاص) للفرد وللمجتمع، فيضرب مثلاً في الطلاق الذي لا ينبغي أن يكون صعب التطبيق بحجة الحفاظ على حياة سليمة للأطفال “فالإدمان على المخدرات، والقسوة والجنون أسس ينبغي أن يكون الطلاق بوجودها ضرورياً من أجل الأطفال تماماً كما هو من أجل الزوج أو الزوجة”. وهو في خضم حديثه يعيب الأهمية الخاصة المعطاة “في الوقت الحاضر لارتكاب الزنى” الأمر الذي يعتبر غير عقلاني على الإطلاق من وجهة نظره “إذ من الواضح أن الكثير من أشكال سوء السلوك هي أكثر فتكاً بالسعادة الزوجية من عدم الإخلاص الذي يقع أحياناً. على أن إصرار الذكر على إنجاب طفل كل عام، وهو حسب العقل التقليدي ليس بالسلوك السيئ ولا القاسي، يعتبر الأشد فتكاً من الكل”.
- يحرّض الفيلسوف في الفصل الحادي عشر وهو يتحدث عن الأخلاقيات الجنسية، على تبني أسلوب يقوم على المكاشفة التامة لكل الأمور المتصلة بالجنس مع الأطفال مقابل استفساراتهم المبكّرة، بدلاً من المواربة أو الحديث “من فوق الأسطح” على حد تعبيره، الأمر الذي لا بد وسيزعزع ثقة الأطفال بآبائهم في حال كذبوا عليهم ما سيدعوهم للكذب عليهم في المقابل!. إن هذا الرأي في البحث عن أخلاق جديدة للنشاط الجنسي يُستبدل بها الأخلاق القديمة التي تأسست كنتاج لعاطفة قديمة غير عقلانية، عليه من اللغط الشيء الكثير، حيث يقول في صراحة فجّة: “إذ ليس ثمة سبب وجيه من أي نوع كان لإخفاء الحقائق عندما نتكلم مع الأطفال، بل ينبغي إجابتهم على أسئلتهم كما ينبغي إشباع حب الاستطلاع لديهم بالطريقة ذاتها، حين يتعلق الأمر بالجنس تماماً، كما يتعلق بعادات صيد الأسماك أو أي موضوع آخر يهمهم. هنا ينبغي ألا يكون أي مجال للعاطفة، لأن الأطفال الصغار لا يشعرون كما يشعر البالغون ولا يرون مناسبة للكلام من فوق الأسطح، كذلك لا مبرر لإيصال الحقائق المهمة في الحياة بطرق ملتوية”. يبرر رأيه هذا بالمقارنة بين الأطفال الذين تلقوا معرفة جنسية مباشرة عن أولئك الذين لم يتلقوها بالمثل، فيقول: “إن الطفل الذي يقال له ما يريد أن يعرف والذي يسمح له بأن يرى والديه عاريين، لن يكون لديه تلهف ولا أي هاجس من نوع جنسي، بينما الصبيان الذين يتربون في جهل رسمي يفكرون ويتكلمون عن الجنس أكثر بكثير من الصبيان الذين سمعوا معالجة هذا الموضوع على مستوى معين من قبل أي شخص آخر”. عليه، يستنتج وضعاً أكثر سوء من عدم المصارحة، إذ يعتقد: “إن الجهل الرسمي والمعرفة العملية يعلمانهم أن يكونوا مخادعين ومرائين مع الأكبر منهم سناً. من جهة أخرى، فإن الجهل الحقيقي، عندما يتحقق، يحتمل أن يكون سبباً للصدمة والقلق وجعل التكيف مع الحياة الحقيقية أكثر صعوبة. كل جهل يسبب الندم فيما بعد، لكن الجهل في مسألة مهمة كالجنس هو خطر كبير”. وحتى يمنع أي شبهة تنال من رأيه وتؤوله على غير ما قصده، يستطرد في صراحة فجّة من جديد ويؤكد: “حين أقول: ينبغي التحدث مع الأطفال حول الجنس، أنا لا أعني أنه يجب فقط أن تقال لهم الحقائق السيكولوجية العادية، بل يجب أن يقال لهم أي شيء يرغبون بمعرفته ويجب ألا تكون هناك محاولة لتقديم البالغين على أنهم أكثر فضيلة مما هم، أو أن الجنس يحدث فقط في الزواج، فليس هناك عذر لخداع الأطفال .. إذ عندما يكتشفون، كما يحدث ولا بد في الأسر التقليدية، أن آباءهم كذبوا عليهم، فإنهم سيفقدون الثقة بهم ويشعرون أن لديهم المبررات لكي يكذبوا عليهم. ثمة حقائق ينبغي ألا أقحمها على الطفل لكنني سأخبره أي شيء بسرعة أكبر من أن أقول له ما ليس صحيحاً. فالفضيلة التي تبنى على تزييف الحقائق هي فضيلة زائفة. وكلامي هنا ليس نظرياً فقط بل من الخبرة العملية. لهذا، أنا على قناعة تامة أن الصراحة الكاملة حول مسائل الجنس هي الطريقة الأفضل لمنع الأطفال من التفكير بها بصورة مفرطة أو وسخة، أو غير صحية، وهي أيضاً التمهيد الذي لا بد منه تقريباً لأخلاق جنسية مستنيرة”.
- وهو في خضم حديثه عن المسائل الجنسية كمنظومة أخلاقية، يعتقد أنها لا بد أن تتحرر من عدة عوامل، منها تجنب الإنجاب في سن ما دون العشرين، وذلك من ناحية فسيولوجية وتربوية، وكذلك تفضيل الجاذبية الجسدية على حساب التجانس والتفاهم، بالإضافة إلى العامل الاقتصادي الذي يعتقد أنه عاملاً فاسداً ما تغلغل في أطر السلوك الجنسي. يقول وهو يكشف الستار عن واقع الزوجات: “فالزوجات في الوقت الحاضر تماماً مثل كثير من المومسات، يعشن من بيع فتنتهن الجنسية وحتى في العلاقات الحرة المؤقتة، يتوقع من الرجل عادة أن يتحمل مصاريف الارتباط كلها. والنتيجة أنه يحدث نوع من الشبك الفظيع بين المال والجنس، وأن دوافع النساء لا تخلو إلا نادراً من عنصر الارتزاق، فيما على الجنس، حتى لو باركته الكنيسة، أن لا يكون حرفة”. يقول بعد ذلك قولاً ينم عن فكر تنويري لا عجب أن يطاله عليه ما طاله من رفض وطرد، وهو يؤكد: “صحيح أنه يجب أن يدفع للمرأة مقابل تدبيرها المنزل أو الطبخ أو العناية بالأطفال، لكن ليس فقط لإقامة علاقة جنسية مع الرجل. كما لا ينبغي على المرأة التي أحبت رجلاً أو أحبها رجل أن تعيش أبداً على نفقته إذا ما كف واحدهما عن حب الآخر. إن على المرأة أن تعمل كالرجل من أجل معيشتها، فزوجة متبطلة لا تعمل ليست أجدر بالاحترام عملياً من رجل يعيش على حساب مومس”.
وللمفكر السبّاق على مكتبتي عدد لا بأس به من الإصدارات، منها: تاريخ الفلسفة الغربية، مقدمة إلى فلسفة الرياضيات، التصوف والمنطق ومقالات أخرى، بحوث غير مألوفة: 12 مناقشة في الحجة والنقاش
بالفعل! إنها فلسفة سابقة لأوانها جرّت على صاحبها المصاعب وستجرّ على كل من يحمل فكراً علمانياً أو ينادي ولو على استحياء بفصل الدين عن الدولة، ولو كان التوقيت يشير إلى الألفية الثالثة على كوكب الأرض.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (15) في قائمة ضمت (57) كتاب قرأتهم عام 2021 تتضمن أربعة كتب لم أتم قراءتها وثلاثة كتب أعدت قراءتهم من جديد، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان أكثر بكثير، غير أن ظروف الحياة لم تسمح لمجابهته! وهو الكتاب الأخير الذي قرأته في شهر أغسطس من بين خمسة كتب .. وقد حصلت عليه من معرض للكتاب في إحدى المدن العربية عام 2020 ضمن (90) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض.
تسلسل الكتاب على المدونة: 296
التعليقات