الكتاب
لعنة بابل
المؤلف
دار النشر
جروس برس ناشرون
الطبعة
(1) 2013
عدد الصفحات
220
النوع
ورقي
تاريخ القراءة
05/27/2020
التصنيف
الموضوع
اللغة العربية .. بحر لا ينضب من الكنوز
درجة التقييم

لعنة بابل

على عكس ما تحكي كتب التراث عن بلبلة ألسنة أهل بابل حين حلّت اللعنة، فكان من تشتت لغتهم ما كان وبرجهم الذي صار في خبر كان .. جاءت مقالات الكتاب لتوائم بين كلمتين، ظاهرهما البلبلة وباطنهما التآلف، في سابقة لمّاحة على صعيد اللغة العربية وساحتها الأدبية العريضة. لم تكن لعنة إذاً كما صورها عنوان الكتاب، بل فطنة تشوبها الفكاهة، والفلسفة أحياناً.

يعرض فهرس الكتاب على صفحتين مواضيع شتى، تتمحور في مجملها حول اللغة العربية، في عناوين براقة تستحث القراءة، قد استحقت بعد قراءتها أربع نجمات من رصيد أنجمي الخماسي. إنها بالأحرى مجموعة مقالات عميقة تدور حول اللغة العربية بشكل عام، إلا أنها تتجرأ في أسلوب غير مسبوق على كشف العلاقة الخفية بين زوجين من الكلمات من حيث أصل الجذر اللغوي والدلالات، مع ضرب الأمثلة من الواقع المعاش.

فمن جميل ما علق في ذهني من تلك المقالات بعد القراءة، ما يلي:

ملاحظة: ترد بعض التعليقات في نص أزرق .. لا تعبّر سوى عن رأيي الشخصي ولا تمت لمحتوى الكتاب بصلة.

  • ينصح الكاتب في مقالة (يا لطيف) بالتعقّل في التعاطي مع مجريات الحياة، فالتفاؤل قد يشوبه التشاؤم والعكس كذلك. ثم يعرض لعدد من صيغ تحايل ابن آدم اللغوي حين يستجدّ الحديث عن أي شر، كالموت والسرطان وما شابه .. وإن كنت أميل للتفاؤل، فقد يقع السوء إن استحكم الوسواس! وكما قيل (البلاء موكل بالمنطق).
  • على طريقة الكاتب وكاقتباس من عنوان مقالة (ترجموا قبل أن ترجموا) .. فإني أشدّ على يدي اللغة العربية في رجم من خان حبها، وتورط في علاقة سفاح مع لغة غيرها.
  • في المقال الآنف الذكر، يعرض الكاتب إحصائية كارثية صادرة عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة لعدد الكتب المترجمة مقابل كل مليون مواطن! فللإسباني ما يفوق التسعمائة، والنمساوي ما يفوق الخمسمائة، وللعربي (الواحد الصحيح) فقط لا غير!.
  • تنتصر مقالة (حكي نسوان) لإعجاز خلق المرأة، فهي تستخدم -تشريحياً- دماغها بشقيه الأيمن والأيسر في مهارتي السمع والكلام، خلاف تمركزهما عند الرجل في الشق الأيسر فقط!. ليست الميزة فحسب في المساحة الأكثر رحابة التي اختصت بها المرأة، أو في خفة الضرر إن وقع على الدماغ، بل في الملكة السخية الممنوحة للطفل، وقد وجد أمه أول وآخر الأوطان.
  • فعلاً “للمآكل حكايات لا تخلو من دلالات”، فمع مقالة (كرواسون) التي استعرضت المناسبة التاريخية لولادة هذا الهلال اللذيذ حين سقط العثمانيين أمام جيش النمساويين في القرن السابع عشر .. فقد استرجعت مأساة (شجرة الدر) وطبق (أم علي) بمقاديره الرمزية حين ابتكرتها ضرتها على شرف قتلها ضرباً بالقباقيب، ليستمر في تصدّر الموائد العربية منذ عصر المماليك!. هل تصدق هذه الرواية أم أنها موروث شعبي لا يصح؟
  • مقالة (حولة الحسن) وحديث الكاتب عن اللحظ وسحر العيون في أسلوب لغوي مبتكر، لا سيما حَوَر العين المجترئ على محوره، إذ انحرف وفتن .. يذكّرني بغزل جرير حين فُتن هو أيضاً وقال فيه: (إن العيون التي في طرفها حور .. قتلننا ثم لم يحيين قتلانا).
  • يشير الكاتب في مقالة (النحوي والملاح) إلى شراهة دور النشر للكسب المادي على حساب القيمة الأدبية “التي تهين للأسف شرف مهنة النشر” حسب تعبيره. إن هذا يحاكي الواقع بحق! فما جاء شعور الإحباط الذي لا زمني من فراغ، وأنا أجوب دور النشر في معرض للكتاب بإحدى المدن العربية .. بين غثاء فكري ونشل جيوب!.

خلافاً لما ورد أعلاه من حسنات، فللكتاب مآخذ -من وجهة نظري- أسردها كما يلي:

  • في مقالة (رتق الذاكرة وفحولة اللسان) ولتقريب التزاوج بين كلمتي (كتب) و (قطب)، يستشهد الكاتب بعملية (إنبات) حواء من ضلع آدم!. عني، ستبقى أسطورة (الضلع الآدمي والعوج الحواءي) من أشد أكاذيب التاريخ افتراءً وسماجة، مما عرفت .. والويل الويل إذا اصطبغت بطلاء ديني!
  • وفي نفس المقالة، يستدرج الكاتب استنباطاته اللغوية ليخلص إلى أن عضو الرجل ذو علاقة بالكتابة بينما يرتبط رحم المرأة بالجذر! بل أكثر من هذا، إذ أن جمع حبات المفردات تتقاطع مع عملية الجماع، وأن اللغة المتحدثة عن الجنس هي خصيصة في الجنس البشري!. وبينما أكتب هذه السطور، بدأت أتساءل في (خجل ووجل) .. على طريقة الكاتب في المزاوجة بين الكلمات: بماذا أكتب في هذه اللحظة؟ بقلم، أليس هو قلم؟
  • تستبرأ مقالة (فاتن وعنتر) للرجل من فعل “الفتنة الغاوية” وتختصها بالمرأة كماركة مسجلة!. حقاً؟ ألم يُفتن قابيل بأخته فيفتن البشرية من بعده، حين سنّ شريعة القتل مع سبق الإصرار والترصد في (لَأَقْتُلَنَّكَ) فأصبح يحمل وزراً من كل حادثة قتل تجري بين ذرية آدم؟؟ أم أن الإقرار بغواية آدم في (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) قابل للتشدّق والتنطّع والتفيهق في التفاسير الذكورية؟؟ .. ليت شعري، ما صنع آدم ونسله من صُلب القاتل قابيل على هذه الأرض!.

توقفت عند الكثير من أقوال الكاتب المثقلة بالحكمة، اقتبس منها في نص يانع يرمز لخصوبة اللغة العربية (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) الآتي:

  • يزدان الحديث بطيب عن اللغة العربية فضلاً عن الاعتزاز بها، إذ يحدّث الكاتب في مقالة (بيت وسيارة) فيقول: “من الضروري أن أعرف كيف أتعامل مع اللغات الأخرى .. أعرف كيف استعملها كسيارة لتوصيلي إلى بيتي، أي إلى لغتي. إن أي علاقة مع أي لغة أخرى غير لغتي على حساب لغتي هو خلل في ذاتي! إن من يفضل لغة غيره على لغته كمن يفضل أم غيره على أمه الحقيقية، وهو حكماً ولد عاق، والعقوق اللغوي أحد أسباب ترقق عظم الواقع العربي وفقر دمه”. ويستطرد ليوجع العاق بقوله: “إن تفضيل لغة غيري على لغتي مثير للشفقة، لأنه شرخ في الروح يحتاج إلى علاج نفسي” .. ما أبلغه من قول وأحكمه!.
  • وفي الصميم يأتي رأي الكاتب في مقالته عن (طلاق لأسباب لغوية) حين قال: “معروف على مستوى العالم المتحضر أن إنساناً لا يحترم لغته لا يمكن أن يُحترم .. وأمة لا تتعامل مع لغتها بود مشكوك في مستواها الحضاري”.

لا أدعي الحذاقة في اللغة العربية وإن كنت متيّمة بها، إلا أن عيني الفاحصة التقطت عدداً من الملاحظات اعتبرها لغوية، كما يلي:

  • يستهل الكاتب مقدمة كتابه ليقول: “لا أظن أن هناك كاتباً لا يرغب في رؤية بنات أفكاره بين ضفتي أو دفتي كتاب”. أقترح استبدال كلمة (كاتب) بـ (مفكّر).
  • يشرح الكاتب في مقالة (ترجموا قبل أن ترجموا) حال المختص حين تواجهه عشرة مصطلحات عربية مقابل واحد أجنبي “فيمتلكك إحساس سكان مدينة بابل بعد اللعنة اللسانية”. أرى استبدال كلمة (فيمتلكك) بـ (فيتملكك).
  • في أواخر مقالة (تفاحة لغوية) وبالتحديد في المثال المعطى عن (الفتى جاك والفتاة جيل)، يقع خطأ مطبعي في عبارة “ولكن جيل ليس جائعاً” والصحيح (جاك).
  • ورد خطأ مطبعي في آخر فقرة من مقالة (الخمار الأسود)، فجاءت عبارة “البضاعة غير الرغوب فيها” والصحيحة (غير المرغوب).
  • يشير الكاتب في مقالة (الفراهيدي والقرصان الرقمي) إلى أن الأخير صنّف في معجمه الكلام العربي من حيث تداوله إلى صنفين: مستعمل ومهمل. فلنترك المستعمل ونأتي على المهمل! إذ التقطت عيناي على طول الكتاب تعبيرات أصنفها مهمله، مثل: (كريم المحتد) و (تعاور الأيدي) و (المضغة اللحمية الموّارة) و (يكتبون بعيونهم مواجدهم).
  • يتكرر بين عدد من المقالات ذكر السيدة البتول مريم العذراء في صومها عن الكلام وحديثها الرمزي مع قومها. يا حبذا ذكر النموذج المقابل والمتمثل في زكريا عليه السلام، حيث كانت إحدى آيته كما أخبره عز وجل “أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً”.

في عجالة -وعلى سبيل النقد الأدبي- فإن هذا الكتاب:

  • سليم اللغة واضح المفردات، ويبتعد عن استخدام الكلمات الغريبة، غير أن أسلوب الكاتب -وهو الأكاديمي- قد لا يكون مباشراً في بعض الأحيان، ما يتطلب إعادة القراءة لبعض العبارات.
  • متناغم الإيقاع في سرد الأفكار حول موضوعاته المختلفة وعلى طول الكتاب.
  • مثير في أسلوبه الأدبي لعاطفة القارئ، ومحفّز لنظرته التحليلية نحو نفسه ولغته وقومه والحياة من حوله.
  • لطيف الخيال في إيراد الصور البيانية وبعض الأمثلة الحية لتوضيح أفكاره.

ولاستيفاء حق الكتاب، يحق القول إنه كتاب عن كتب .. حيث يستشهد الكاتب الموسوعي -كما يبدو- بعدد لافت للنظر من الكتب، تثير فضول القارئ النهم للمزيد من البحث حولها، أو حتى اقتنائها. وعلى سبيل المثال لا الحصر: مقامات الحريري، رسالة الغفران، رسالة التوابع والزوابع، البيان بلا لسان، الظرف والظرفاء، أخبار الحمقى والمغفلين، أوراق مسافر، طوق الحمامة، في مطبخ الخليفة، والكثير من المعاجم وقواميس اللغة. هذا بالإضافة إلى المعلومات المتفرقة بين المواضيع المطروحة، ما قد يُثري بحق حصيلة القارئ المعلوماتية، ويحثّه كذلك نحو البحث والاستزادة.

تعرض سيرة الكاتب القصيرة على ظهر الكتاب كأستاذ أكاديمي وكاتب عمود، اهتمامه باللغة الصينية، ما يوحي بنبوغ غير معتاد!. استرجع في هذه اللحظة زميل الدراسة الصيني عندما دعاني للفخر معه، حيث نشترك أنا وهو في التحدث بلغتين تصنفان عالمياً الأصعب على الإطلاق.

ختاماً، وكما تمنى الكاتب المحنّك للكتاب في مقدمته نيل رضا القراء .. أؤكد أنه قد فعل، وفتح باباً على إحدى روافد اللغة العربية وافراً وعميقاً، ليشقّ سبيلاً جديداً قد يُسفر عن بعض كنوزها المكنونة، لم يكشف عنها أحد من قبل.

في كلمة أخيرة! إنها تجربة لقراءة في كتاب .. فريدة من نوعها، لا أقول بين السطور بل بين الكلمات!.

 

= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =

من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (30) في قائمة احتوت على (105) كتاب قرأتهم عام 2020، تتضمن تسعة كتب لم أتم قراءتها، رغم أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان (100) كتاب فقط! وهو خامس كتاب اقرأه في شهر مايو من بين سبعة كتب. وقد حصلت عليه من معرض للكتاب في إحدى المدن العربية في نفس العام ضمن (90) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض!.

لقد كان 2020 عام الوباء الذي جاء من أعراضه الجانبية (ملازمة الدار وقراءة أكثر من مائة كتاب)! لم يكن عاماً عادياً وحسب .. بل كان عاماً مليئاً بالكمامات والكتب.

وفي هذا العام، دأبت على كتابة بعض من يوميات القراءة .. وعن هذا الكتاب، فقد قرأته في شهر (مايو)، والذي كان من فعالياته كما دوّنت حينها:

يُختم شهر رمضان المبارك .. مع استمرار الحجر الصحي“.

تسلسل الكتاب على المدونة: 212

 

 

تاريخ النشر: مايو 29, 2022

عدد القراءات:1218 قراءة

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *