قصة .. لو كتبها أحدهم وادعى أنها من نسج الخيال ومبالغاته بحجة أنها مجرد محاولة لمحاكاة جانب مظلم من النفس البشرية ضمن واقع إنساني معاش، لكانت من أحطّ شطحات الأدب وضاعة ودناءة وخسّة .. لكنها قصة حقيقية، ودموية، ومروّعة إلى حد الموت!.
إنها الروائية الإيرلندية (انطوانيت ماغواير) أو كما تُعرف (توني ماغواير Toni Maguire) المولودة عام 1944 في ايرلندا، لأم انجليزية وأب ايرلندي، والتي تقرر عام 2006 في جرأة وإصرار كتابة سيرتها الذاتية في جزئين (Don’t Tell Mummy / When Daddy Comes Home)، بكل ما فيها من تفاصيل بشعة وقاهرة ومأساوية لا تمت للإنسانية بصلة، وقد شهدت نجاحاً منقطع النظير بعد أن أذهلت القرّاء واحتلت قائمة الكتب (الأكثر مبيعاً).
وعن ترجمتها إلى العربية، فقد عني بها د. محمد التهامي العماري (1963) والذي تعرض سيرته الذاتية على موقعه الرسمي نبوغ أكاديمي وإنتاج فكري غزير وإبداع أدبي لا ينمّ سوى عن تكريس حقيقي للعلم في العمل. فهو بالإضافة إلى درجة الدكتوراة التي يحملها في اللغة العربية وآدابها، عمل على طرح عدد من الأبحاث والدراسات المتعلقة في مجال تخصصه، فضلاً عن المقالات المنشورة والعديد من الترجمات لأعمال أدبية عالمية. لم تكن ترجمة متقنة لغوياً وحسب، بل عبقرية بما يكفي في نقل الإحساس الذي خطّت به الضحية قسوة أقدارها! لا عجب إذاً أن تعصف السيرة بعاطفة القارئ العربي عصفاً، تتأجج كلما عاود استرجاع أحداثها أو قراءة مقتطفات من بين سطورها بعد حين .. وكذلك تفعل بحق كلما عُدت!.
لست ممن تهوى قراءة القصص ولا قصّها عادة، فضلاً عن عنصر التشويق الذي أعتقد أن الإبقاء عليه مُصاناً هو حق محفوظ للقارئ لا سيما من أجل تفاعله مع ما يقرأ! لذا أكتفي بسرد مقتطفات درامية مما علق في روحي بعد إتمام القراءة، كما يلي:
- توني .. الطفلة التي عندما باشر والدها اغتصابها جنسياً، كانت ذات ستة أعوام فقط.
- الاغتصاب الذي يستمر ثمانية أعوام تحت التهديد بـ (لا تخبري ماما)، ولا يتوقف إلا بعد اكتشاف حملها منه وهي في الرابعة عشرة من عمرها.
- والدتها التي كانت تتغافل حفاظاً على صورة العائلة السعيدة والزوج الوسيم الذي كان يصغرها سناً، كانت تجهل أو بالأحرى تتجاهل حقيقة وقائع الاغتصاب المستمرة، وقد وبّختها حينما أخبرتها ابتداءً عن قبلة والدها الحميمية فوق شفتيها الطريتين.
- لا يصدّق الطبيب ولا الممرضة ولا الأهل ولا المجتمع أن والدها هو من قام باغتصابها، بل ويتفق الجميع على اضطهادها وإلقاء اللوم عليها جرّاء صمتها على فعلته، حتى يتم طردها من المدرسة ويطردها ذوي أبيها الإيرلنديين.
- تدافع الأم في استماتة عن زوجها المجرم في المحكمة إلى حد التواطؤ مع أحد المحامين لإثبات حالة من الاضطراب النفسي عليه كوسيلة لتبرئته قدر الإمكان، حتى تصف الطفلة من حيث لا تعلم في إحدى جلسات المحكمة، أمام القاضي الذي كان متعاطفاً معها دون الجميع، وصفاً ينم عن استخدام والدها واقياً ذكرياً في كل مرة قبل مباشرة فعلته، الأمر الذي يدلّ على وعي تام بما هو كان يقدم عليه، ولا مجال معه في إثبات أي خلل عقلي أو نفسي عليه .. الوصف الذي شهق له كل من حضر وشهد في أرجاء المحكمة، وأفسد بالتالي خطة والدتها التي لا تقل إثماً عن والدها.
- يعترف والدها بجريمته الشنعاء النكراء ويصدر عليه حكماً قضائياً بالسجن، ويتم اجهاض ابنه من طفلته .. ومع استمرار تجاهل والدتها لما حصل، وتكالب المجتمع مع القدر ضدها، تقدم على محاولة انتحار تبوء بالفشل، وتودع في مصحّة نفسية …..!
ومن السيرة الذاتية التي تحصد رصيد أنجمي الخماسي ولا تبقِ، أقتبس في نص من نار ما ورد في معاينة الطبيب الذي لم يكن ليختلف في قلبه وقالبه عن والدها الذئب، وقرار إجهاضها كحل وحيد إكراماً لوالدتها الضحية (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:
“وسمعت فجأة صوت المفتاح! دخلت أمي إلى البيت رفقة الطبيب، وراحا يتداولان بشأني حوالي ساعة من الزمن، ثم صدر الحكم: لزوم الصمت. سيلتحق أبي بالمشفى لبضعة أيام لعلاج «حالة الاكتئاب»، وسأجهض أنا بطريقة مشروعة، ثم أحال بتوصية من الطبيب على دار الأطفال الذين يعانون من مراهقة صعبة. سأبقى هناك إلى أن أبلغ سن مغادرة المدرسة، عندئذ سيبحثون لي عن شغل. لقد غدا العيش مع أبي تحت سقف واحد مستحيلاً، لكن بانتظار أن يحين وقت الإجهاض، ستتخذ الحياة مجراها كما لو أن شيئاً لم يقع. أمي هي من أعلنت لي عن هذه القرارات التي باركها الطبيب بصمته. وأضافت إن الطبيب أخبرها بأن هذا هو الحل الوحيد. ومضيتُ أتابعها متعبة ومذهولة وهي تسرد إجراءات تضع حداً للحياة الوحيدة التي نشأت عليها. ثم خاطبني الطبيب مباشرة: «ما قبلتُ مساعدتك إلا لأجل أمك، فهي ضحية لا ذنب لها في هذه الحكاية. كذبت على هذا الصباح، وأوهمتني أن ذلك لم يقع غير مرة واحدة». ثم صمت لحظة ورشقني بنظرة ازدراء، واسترسل يقول: «شاركت في الفعل وشجعت عليه بصمتك لسنوات، فلا تزعمي الآن أنك بريئة»”.
إنها قصة لطفلة حملت قبل الأوان على عاتقها الصغير ما لا تطيق حمله الجبال .. ينزف لها القلب قبل العين دماً مسفوحاً، وتكشف عن وجه شيطان مريد ارتدى قناع بشر وفتك بها .. وأي بشر! كان أب!!!.
……… ولن يتوقف ذلك الدم المسفوح مع آخر سطر في هذه السيرة الدموية، بل سيستمر بعد أن يتركوا الشيطان يعود، في تتمة لقصة انطوانيت (تركوا بابا يعود)!.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل السيرة (10) في قائمة احتوت على (105) كتاب قرأتهم عام 2020 تتضمن تسعة كتب لم أتم قراءتها، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان (100) كتاب فقط! وهي آخر ما قرأت في شهر فبراير من بين ستة كتب .. وقد حصلت عليها من معرض للكتاب في إحدى المدن العربية عام 2017 ضمن (55) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك ذلك المعرض .. ولم يكن تأجيل قراءة السيرة سوى لإصراري الحصول على الجزء الثاني منها، بحيث اقرأهما تباعاً، وقد حصلت عليه في هذا العام.
لقد كان 2020 عام الوباء الذي جاء من أعراضه الجانبية (ملازمة الدار وقراءة أكثر من مائة كتاب)! لم يكن عاماً عادياً وحسب .. بل كان عاماً مليئاً بالكمامات والكتب.
وفي هذا العام، دأبت على تدوين بعض من يوميات القراءة .. وعن هذا الكتاب، فقد قرأته في شهر (فبراير)، والذي كان من فعالياته كما دوّنت حينها:
“يبدأ الفايروس بالتوحش ويبدأ الحجر الصحي مع نهاية الشهر“.
تسلسل السيرة على المدونة: 196
أشكرك بداية على قراءتك ترجمتي لرواية “لا تخبري ماما”. هذا شرف لي، وأشكرك أيضا على التدوينة التي تنم على أن قراءتك لم تكن قراءة عابرة وسطحية، بل قراءة متأنية عميقة.
صحيح ما أشرت له حول القضية التي تعالجها الرواية السيرة الذاتية. فهي تحكي تجربة مريرة عاشتها الكاتبة في طفولتها، إذ دأب أبوها على اغتصابها لفترة طويلة. وعوض أن تساندها والدتها حين علمت بالأمر، تنكرت لها، بل تنكر لها المجتمع بأكمله حين افتضح أمر حملها. هكذا عوض أن يعاقب الجاني، نرى العقاب يحل بالضحية البريئة بدعوى الحفاظ على تماسك الأسرة وسمعة العائلة. إن الرواية تقدم لما مجتمعا محافظا قاسيا ومنافقا. الحفاظ على المظاهر، والتستر على الرذائل أهم لديه من إنصاف طفلة حطمتها نزوات أب وغد أقرب إلى البهائم، وخذلتها أم متواطئة.
إن زنا المحارم منتشر في كثير من المجتمعات، ومنها المجتمع العربي. لكن الحديث عنها ما يزال من الطابوهات المسكوت عنها، وأكثر ما نجد ذلك في المجتمعات المحافظة التي تدعي الورع، وتتشدق بمكارم الأخلاق، وهي في الحقيقة إنما ترفض أن ترى وجهها البشع في المرآة. مجتمعات شيزوفرينية تعيش انفصاما بين الخطابات والممارسات. لذا حين عرض علي ترجمة هذا النص لم أترجج لأنه يعالج قضية قلما عولحت في الإبداع الالأجبي العربي، لاسيما بمثل هذه الجرأة والصراحة، وبمثل هذا النضح الجمالي.
وفي الأخير كم وددت أن تقولي كلمة في الترجمة.
سعيد بالتواصل معك، ودامت القراءة حسرا للحوار والتفاعل،
مودتي.
محمد التهامي العماري
مترجم الرواية
وكم كان من دواعي سروري أن أتلّقى إشادتك بالمراجعة التي جاءت بالفعل عن قراءة متأنية للسيرة، عايشت كل كلمة بها بما تحمل من قهر تغلغل بين أضلعي .. ولا يزال! لم يكن سبب ذلك كما أعتقد -إلى جانب مأساوية القصة- سوى الصدق! صدق الضحية فيما كتبت، وصدق المترجم في تبنى طيّاتها الإنسانية والأخلاقية .. فما يبدأ بالصدق، يصل ويتواصل.
وعلى جانب آخر، لقد فتّق ردك الكريم -بما احتوى من شجن حول الوضع الظلامي في مجتمعاتنا العربية- جرحاً نازفاً اعتاد أن يداويه إما بالتغافل أو بجرعة زائدة من تابوهات الدين والأعراف .. تلك المجتمعات التي وإن كانت تكتسي بجلباب العفة في الظاهر، أقرب ما تكون إلى النفاق في ستر العور الأخلاقي الذي تمارسه في الخفاء، وللمرأة العربية نصيب الأسد في تبعاته! وكفتاة عربية أقول في جرأة قد يقذف عليها القوم أخلاقي: قلّما تسلم (أنثى) عربية من جريمة (زنا المحارم) .. فإن لم تكن الجريمة بكامل أركانها، فغبار منها .. كلمسة عابرة أو تعبير وقح أو نظرة شبقة خاطفة تتكرر بين حين وحين، وهي لدى (المحرَم) إنما بمثابة (أضعف الإيمان).
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، يطل شيخ (عريفي) وسيم قسيم على إحدى القنوات العربية، ليُفتي لفتاة قصدته في تحرّش والدها بها بعدم جواز ارتداءها بنطالاً ضيقاً أو قميصاً قصيراً أمامه يبرز ثديها أو جسدها لا سيما وإن كان جميلاً، فيُفتن بها لا سيما وإن كان شاباً .. فيؤزّه الشيطان لأمور وهو يقبّلها أو يحضنها .. وإن كان أباها “لكن يبقى أن هذا الأب شاب” حسب تعبيره! ثم يستمر في سيل قيح الفتوى فيأمرها بعدم الخلوة معه بل أن تحرص على وجود أمها أو إخوتها معهما “إلى أن ييسر الله أمرها وتتزوج” حسب تعبيره الآخر! أما عن أباها أو شيطانه، فاكتفى بعد التعوّذ بالله بالتصريح أن هذا نوع من الشذوذ والفاحشة. لا عجب! إن حواء العربية تحمل إثم الخطيئة، بينما لا يُلام آدم العربي إن نهش لحم محارمه فهو ذئب بطبيعته، وتكفي براءته من دم ابن يعقوب!
وكملح لاذع على جرح أوسع، فإن قوانين الاغتصاب في محاكم الدول العربية تتنافس فيما بينها أيّها أشد فتكاً بالضحية المغتصبة! يظهر ذلك من خلال تخفيف عقوبة المغتصب قدر الإمكان، بحيث تتراوح العقوبات ما بين جلد أو سجن أو دفع غرامة أو دفع مهر الفرج الذي اغتصب، بل تصل إلى حد الإعفاء التام من العقوبة إذا تزوج من ضحيته! وهنا يجتمع الغبن والبغي معاً، ففي حين يكون المغتصب قد كوفئ مرتين: عندما اغتصب مجاناً وعندما تزوج مجاناً، تكون الضحية قد عوقبت مرتين: عندما اغتُصبت مرة وعندما اغتُصبت (شرعاً) كل يوم ألف مرة!. وفي السودان على سبيل المثال، فقد نافس قانونها الأكثر وحشية قوانين إخوته الذكورية الآنفة من أخوة يوسف الباقين، إذ تتعرض الضحية للجلد إن لم تكن متزوجة أو للرجم حتى الموت إن كانت متزوجة، في حال تقدّمها ببلاغ ضد مغتصبها مع عدم تمكّنها في نفس الوقت من إثبات أن عملية الاغتصاب تمت بغير موافقتها.
لا يعكّر المشرّع العربي صفو ذكورته ليقنّن مواد قضائية طالما أن الضحية هو (حيّا الله) فرج أنثوي هُتك من ضمن الفروج، والفروج كُثر .. وها هي جرائم الشرف في وطننا العربي العزيز تبيح تصفيته وصاحبته ما مسّهما عار أو شبهة منه .. ومنه إراحة القاضي وزمرته، ومنه كفاية الله المؤمنين القتال.
إن ما يلزم الأمة هو طوفان نوح .. فإما يغسل العقول والنفوس أو يذهب بهم عن بكرة آبائهم ويأتي بخلق جديد .. أطهار بالفطرة السوية!
وإن كان قولي يبدو تشاؤمياً طوباوياً، فلا بد من المحاولة والإسهام بما نملك. وبدوري أشكرك د. محمد التهامي العماري جزيل الشكر لهدفك النبيل وإسهامك في إحياء الأمة وتوعية المجتمع وتطهير ما أمكن تطهيره من خلال ترجمتك الأكثر إنسانية والأكثر من رائعة.
وإنه شرف لي ورقي وسرور أن أحظى بهذا التواصل المثمر ..
وحب القراءة يجمعنا
دمت بخير
مها