رواية عبقرية تطلّ على رحاب العالم الفسيح بعقل القلب، وهي تحبك خيوط العشق الإلهي التي حاكها المتصوف الرومي وأستاذه التبريزي .. حيث خلّدت رحلة عشق روحية لا يشبهها عشق آخر قط!.
لا تقلّ الروائية من عبقرية هي أيضاً، إذ وببراعة تنقل القارئ من أجواء القرن الثالث عشر المفعمة بأطياف الحب والإلهام والسكون في عبق روحاني يغلّف قلبين متصوفين، إلى الألفية الثالثة وأجواء أرض العم سام، حيث تلتقي (إيلا) المحطّمة في زواج قاحل دائم منذ عشرين عاماً، بـ (عزيز) الكاتب الملهم .. رغم الأميال الشاسعة بينهما وفي تواصل أثيري عجيب.
إنها (إليف شفق 1971 Elif Shafak)، روائية وأكاديمية ومحاضرة تركية الأصل وفرنسية المولد لأب فيلسوف وأم دبلوماسية، وقد هاجرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية ودرّست في جامعاتها بعد أن حصلت على درجتي الماجستير في الجندر والنسوية، والدكتوراه في العلوم السياسية. وبينما تترعرع في ظروف لا تحكمها سلطة ذكورية، وقد ألحقت اسمها باسم والدتها تُعرف به أدبياً، تتصدر أعمالها قضايا المرأة والشرف والحرية والاستقلالية، إضافة إلى ما تبثه فيها من نفحات صوفية تعكس فلسفة الحب التي تؤمن بها كعقيدة توّحد بين البشر والأديان أجمعها. لها العديد من الإصدارات الروائية التي تنشرها باللغتين التركية والإنجليزية والتي نالت عن بعضها عدد من الجوائز العالمية، وقد تصدّرت روايتها هذه قائمة (الأكثر مبيعاً) في تركيا عند إصدارها عام 2010.
تنساب الرواية العذبة في خمسة محطات، حين تلف (الأرض) في أولها، فتعلو أشيائها الصلبة وتستسلم للممتصة وتخشع عند الساكنة، ثم ليجتاحها (الماء) في ثانيها، فلا تأبه للأشياء السائلة بل تواجه المتغيرة وتصطدم بغير المتوقعة، وتعصف بها (الريح) عند ثالثها، فإذا بتلك الأشياء تتغير لتُخلق أخرى تتحداها، حتى تشتعل فيها (النار) في رابعها، فتتلف الأشياء وتعيث فيها خراباً ودمارا، لتخمد في (الفراغ) عند نهايتها، حيث وجودها الكامن في غيابها.
تحصد الرواية رصيد أنجمي الخماسي بأكمله ولا تُبقِ، وقد جاءت عن ترجمة من نصها الأصلي (The Forty Rules of Love)، والتي استلهم من شاعرية القول ما يُذيب القلب عشقاً ويرتقي بالروح في تجليّاتها .. دفقاً في الأسطر القادمة، وباقتباس في نص من غرام (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
- مباغتة الحب لبرْكة قلب إيلا الراكدة: “… كأن قطعة حجر جاءت من مكان مجهول وضربت بركة حياتها الراكدة”.
- حكمة شمس في العلاقة الربانية الخالصة: “… لا تحكم على أسلوب الآخرين في صلتهم بالله. فلكلّ واحد طريقته وأسلوبه الخاص في الدعاء، لأن الله لا يحكم علينا من خلال كلماتنا الخارجية، بل ينظر إلى أعماق قلوبنا إن كانت صافية بما يكفي أم لا”.
- الرومي حين يستلذ ألم الفراق: “… وبعد النازلة يأتي فصل آخر، واد آخر، شخصك الآخر، وتبدأ برؤية الحبيب الذي لا يمكن العثور عليه في أي مكان، تبدأ برؤيته في كل مكان”.
- الصوفية في أوج تجلياتها: “… ويقال أن ثمة خيطاً رفيعاً يفصل بين ضياع المرء ذاته في الله وضياع عقله”.
- كلمات كيميا المكلومة الفؤاد، حين لفظتها لشمس الذي لم يتواجد حبه إلا في مخيلتها، وحين بدأت روحها تنفصل عن جسدها راحلة شيئاً فشيئاً: “… لم أعرف أن للموت رائحة. رائحة قوية مثل زنجبيل مخلل وشوك صنوبر مقطع مدبب الرؤوس مر الطعم ولكن ليس سيئاً بالضرورة”.
- أمنية عزيز في لقاء الحب على نحو غير متوقع: “… أرجو أن تجدي الحب في أقل الأماكن التي تتوقعينها”.
- خواطر عزيز قبل احتضاره: “… الصوفية تعلمك كيف تموتين قبل الموت”.
- خواطر إيلا المنسابة لأبنتها بعد رحيل عزيزها: “… إنها القاعدة الأربعون: الحياة بلا حب تافهة، لا يؤبه بها. لا تسألي نفسك عن الحب الذي ينبغي لك البحث عنه، روحياً أو مادياً، دنيوياً أو ربانيا، شرقياً أو غربياً. التقسيمات لا تؤدي إلا لتقسيمات أخرى. ليس للحب أسماء ولا تعريفات. هو ما هو، شفاف وبسيط. الحب هو ماء الحياة، والعاشق روح النار! … والكون يصبح كوناً مغايراً عندما تحب النار الماء”.
رغم ما سبق، فإني أجد بعض المآخذ تحوم حول الرواية من وجهة نظر شخصية، أعرضها كما يلي:
- على الرغم من نبل شمس التبريزي تجاه خليله جلال الدين الرومي، وصفاء نيته، وسعيه في تحطيم كل ارتباط بشري به، وترقيته بالواحد الأحد إخلاصاً وتمجيداً .. وهو المسعى الذي دفعه لإرسال الرومي في احضار الخمر من ماخور الحي، بل والمكوث فيه على مرأى ومسمع من الجميع، فإن هذا العمل شائن ديناً وأدباً، إذ لا تلاعب في حلال وحرام، ولا حاجة في أن يسقط المرء من أعين الناس ليرتقي عند رب الناس!.
- يسجّل أحد المدونين اعتراضه على شبكة المعلومات! إذ لم تُعطَ الفرصة لـ (فيليب) الزوج الخائن، للحديث عن نفسه وتبرير خياناته الزوجية المتراكمة، حيث جاء ذكر خياناته على لسان إيلا وحسب، زوجته الصبورة المغدورة! حسناً، وهو رأي ذو نزعة ذكورية! لكن، ما عساه زير النساء أن يلفّق من تبريرات؟ إذ لو كانت له حجة، لأفردت له الروائية صفحات من روايتها المطوّلة!. أما الرد على هذا الاعتراض هو في أن هذا الفيليب ذو التاريخ الصبياني والمغامرات العاطفية قد ظهر مستسلماً منهاراً في خنوع وخضوع بما يكفي لإثبات جرمه تجاه زوجته، بعد أن استشّف حبها الجديد، إذ أن ذنبه الأسطوري لم يدع له مجالاً للتبرير ولا للتكفير، وقد كانت لديه الفرصة الكافية حينها للدفاع عن نفسه، أو للوم إيلا إن شاء .. لكن الخائن لا يجرؤ!.
- لكن ما بال شمسكم؟ وماذا عن عدم قربه مطلقاً من زوجته كيميا -ابنة عشيقه الرومي المتبناة- لقرابة عام هي مدة زواجهما الورقي، حتى ماتت كمداً وهي لا تزال بكراً؟ ألم تلعنه في الليالي ملائكة البخاري؟ ولماذا كان عندما يختلي بها قبل زواجهما وهو ذو السبعين خريفاً وهي ذات الخمسة عشر ربيعاً يتحسس شفتيها في تقرّب أشبه بالتحرش الجنسي؟ .. وهل علم الرومي بغدر خليله في ابنته؟ ولماذا أقدم على الزواج منها في الأساس، مع علمه المسبق إنه إما عاجز أو متعفف أو مكبوت أو حصور أو روحاني معتّق؟ واعترض بدوري على طريقة صاحبنا المدون ضد (الشمس الجريئة)، إذ لم يكشف لنا لماذا لم يبنِ على حليلته كيميا؟ أكان عجزاً جنسياً أراد ترقيعه بصوفية بالية وروحانية فارغة؟ هذا رغم أن الروائية قد أفردت له الصفحات الطوال لكي يخوض في الغث والسمين والرث والثمين. ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فإن شمس الشموس هذا قد قام بكرع المتبقي من زجاجة الخمر بعد أن أفرغها على النبتة الميتة، فإذا بها تحيا على يديه وقد كانت من ذي قبل كعجيزة نخلة خاوية. أي إعجاز زائف هذا؟ وبعد هذا! أيستطيع أحد المتنطعين أن يتحفنا برأي شرعي في تلكم الكبائر التي اقترفها رجل ذاع صيته في العشق الإلهي؟
على هامش الرواية:
استكمالاً للفائدة المرجوة من الرواية، سيكون من الجيد الاطلاع على (قواعد العشق الأربعون) التي وضعها شمس الدين التبريزي، وتتبّع طرق الروائية في توظيفها بين أبطال روايتها. وبالاستعانة بشبكة المعلومات العالمية، يمكنني إيجاز القواعد الأربعون -حسب استيعابي لها- فيما يلي:
- بالطريقة التي نرى فيها دواخلنا .. نرى الله
- طريق الحق يمر عبر القلب لا العقل
- يتجلى الله في كل شيء .. وفي قلب عاشقه، على نحو أبدي
- الفكر يشكّل العقد والحب يحلّها .. الفكر حذر والحب مجازف
- الكلام يسبب المشاكل .. والحب يعلّم لغة الصمت
- اجعل الله في داخلك .. فستعرف نفسك
- احمد الله في العطاء وفي الحرمان
- تُعرف الأشياء بأضدادها .. ومن الصبر تتجلى نتائجه
- لكل امرئ صلاته .. وقوة الإيمان تكمن في نقاء القلب
- السفر إلى داخل النفس يمهّد للسفر إلى الكون الفسيح
- لا بد من الألم حتى يكتمل الحب
- السعي نحو الحب يقود إلى النضج
- المعلم الحقيقي لا يطلب طاعته .. بل يعين المرء على تقدير ذاته
- التغيرات التي تعترض سبيل المرء، قد تظهر له جوانب أفضل من التي اعتاد عليها
- الإنسان وهو صنيعة الله، يسعى جاهداً نحو الكمال، باعتباره عمل فني غير مكتمل
- حب الناس من حب الله
- أدران النفس لا يطهرّها إلا الحب في القلب
- عندما تعرف نفسك .. تعرف الله
- سيغير الناس معاملتهم لك عندما تغيّر معاملتك لنفسك
- كن أنت التيار بدل من أن تسير معه
- لا يتشابه اثنان .. واحترام الاختلافات هو احترام لنظام الله المقدّس
- النية في القلب أهم من أي عمل يأتي به الإنسان
- التطرّف يهز التوازن الداخلي .. والصوفي هو المتسامح على الدوام
- تعرّف على الروح الإلهية في داخلك .. وعش وفقها
- الجنة والنار هنا .. عندما تحب تصعد للسماء وعندما تكره تسقط في جهنم
- كل كلمة تنبعث في الفضاء تعود لصاحبها بعد حين .. خيراً أو شراً
- فكر وانطق بأمور جميلة خلال أربعين يوماً .. ستتغير في داخلك
- يتحرك الزمن في دواخلنا .. والسرمدية تعني الخلود
- كلنا نشترك في عزف موسيقى الكون
- الصوفي لا يرد الإساءة بالإساءة .. بل يتحلى بالصبر الجميل
- حتى يشتد الإيمان .. لا بد أن يكون القلب ليّناً
- اعرف الله بقلبك دون أي وسطاء
- العدم في دواخلنا يدفعنا نحو مواصلة الحياة
- الاستسلام للجوهر الإلهي يمنح الطمأنينة .. مهما اضطرب العالم
- الوصول إلى مرحلة الكمال تتأتى من مخالطة الكفر والإيمان في داخل النفس
- خير بخير وشر بشر .. هكذا مبدأ التبادل الذي خُلق عليه الكون
- مواقيت الله تعمل في الكون بدقة .. لا تتقدم ولا تتأخر
- كل لحظة من عمر الإنسان هي ميلاد جديد
- دين الله هو دين العشق .. والقلوب متصلة بحلقات إذا انفصلت واحدة حلّت أخرى محلها
- “العشق ماء الحياة والعشيق هو روح من النار” .. وعندما تعشق النار الماء .. يتغيّر الكون
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الرواية (46) في قائمة ضمت (85) كتاب قرأتهم عام 2019، رغم أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان (80) كتاب فقط، وقد تضمّنت القائمة أربعة كتب لم أتم قراءتها! وهي ثامن مؤَلَف اقرأه في شهر يوليو من بين عشرة .. وقد حصلت عليها من معرض للكتاب في إحدى المدن العربية عام 2017 ضمن (55) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض.
وبالإضافة إلى هذه، فللروائية في مكتبتي روايتين لم اقرأهما بعد، هما: الفتى المتيم والمعلم / شرف
تسلسل الرواية على المدونة: 161
التعليقات