مذكرات ينسج يومياتها معارض سياسي معتقل يقبع في زنزانة داخل سجن (إيفين) سيئ السمعة بطهران، والذي يعجّ بالمحكوم عليهم بالإعدام، وذلك عقب نشوب الثورة الإيرانية عام 1979. يروي (أكبر) ذو الجسد المنهك بالسرطان -في لغة جافة يشوبها حس الفكاهة- حياة السجن، الذي رغم ضيق زنازينه اتسع ليشمل الذكريات والمواقف والعلاقات والمفارقات والروائح والأصوات، وبقية التفاصيل الصغيرة التي كانت تجمع بين المعارضين السياسيين وما كان وراء صراعاتهم السياسية .. وصرخات المعذبين، والدماء المسفوكة، والموت الوشيك، والتمسك بخيط الحياة الذي كان يفصل بين عالم زنازينهم المكتظّ وفضاء العالم الخارجي .. وهم الذين تم تصفية الكثير منهم في قوافل الإعدام التي لم تتوقف طيلة سرد تلك المذكرات، تحت سيمفونية مالر الأولى والتي ابتدع الراوي تقنية تخيّلها للتهوين على السجناء!
أما المؤلف .. فهو (بهروز قمري تبريزي 1960). كان طالباً يدرس هندسة النسيج، لكنه كان شيوعياً يسارياً يحارب الرأسمالية ويعتنق مبادئ حزب العمّال، فناضل ضد سيطرة الحكم الإسلامي المتطرّف في ثمانينيات القرن الماضي على طريقة الثورة البلشفية في الإمبراطورية الروسية، مع الثوريين من القوميين والاشتراكيين والطلاب وبعض رجال الدين. ومن قبل ذلك، تصدّى مع من تصدّى للحكم الملكي الذي كان يرزح تحت سطوة الشاه، والذي لم يكن سوى امتداداً للطغمة الإمبريالية العالمية رغم ما تبجّح به من شعارات تمجّد القومية الفارسية! إذ بينما كان الشعب الفارسي يرتع في الفقر المدقع، كان هو وعلية قومه ينعمون في بذخ الثراء الفاحش! لذا، جرى مطاردة هذا الشاب الثائر من مدينة لأخرى ومن منزل لآخر عن طريق السلطات، حتى قُبض عليه وزج به في السجن ضمن قوافل المناهضين للحكومة آنذاك. وهناك، يصف آلامه وآلام رفاقه السجناء والصبر الذي كان يغلّفهم أجمعين، ويقصّ قصصهم وقضاياهم وطرق استجوابهم الذي كان من أحدها تعصيب العينين تحسّباً لانتقام السجناء لاحقاً من أولئك القضاة، الذين لم يتورعوا من محاكمة السجين صورياً ثم إدانته بتهمة مخالفة أيديولوجيا القادة الجدد، ومن ثم إصدار حكمهم النهائي عليه بالإعدام! وقد أرّخ ذلك لعهد جديد من القمع والإرهاب والاستبداد، كما أصدر أحد رموز الحكم الإسلامي فتوى تعتبر مس أي شيوعي أحد نواقض الوضوء، كما هو في حكم الكافر ونجاسته، إضافة إلى تجريم كل من يُضبط وبحوزته كتباً لمؤسس حزب العمال الديمقراطي الاشتراكي (فلاديمير لينين)، أو نشر شيئاً عن الماركسية اللينينية. يُفرج عن (بهروز) بوساطة، حتى يغادر إلى الولايات المتحدة الأمريكية ويعمل بها كأستاذ جامعي .. حتى اليوم.
والكتاب الذي جاء في ترجمة متقنة عن لغته الأصلية (Remembering Akbar: Inside the Iranian Revolution – By: Behrooz Ghamari) تكشف صفحة المحتويات في آخره عن قائمة طويلة من العناوين التي تعرض مذكرات السجين داخل السجن وخارجه، والتي أعرض في الأسطر القادمة شيء مما علق في ذاكرتي منها، وباقتباس في نص ثوري (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، وقد حصد الكتاب نجمة واحدة فقط من رصيد أنجمي الخماسي:
- في (المقدمة)، وعن خواطر لا تخطر سوى على قلب إنسي عايش الموت في كل لحظة .. يقول السجين: “يحدث الموت تدريجياً .. يلتهم جزءاً صغيراً من الحياة كل مرة”.
- وفي (نصر الله) وعن النفحات التي يختص بها الله من اختلى به صادقاً .. يقول السجين: “تجعلني القيادة خلال هذه الساعات المبكرة أشعر بما يصفه أصدقائي المتدينون بأنه اللذة السامية للصلاة كل يوم قبل بزوغ الضوء، وتمنحني إحساساً بأنني الروح الوحيدة في هذا العالم، إضافة إلى الرغبة في تشارك هذا العالم مع الآخرين”.
- وفي (هذا أيضاً سيمر) ومع سيل من خواطر أخرى تفصل بين مفهومي الربح والخسارة، والسجين يستعد لجلسة تحقيق تبدو كمناورة يعمل على النجاة منها .. يقول: “طالما تستطيع أن تبرر في عقلك ما فعلته أو ما قلته، أنت تربح. لكنك تخسر في اللحظة التي تصبح فيها أفعالك غير قابلة للتفسير أمام نفسك”.
- وفي (ما العمل؟) وفي خضم الهواجس التي تلف كل ثوري لا يكلّ عن المعارضة ولا يملّها، ويعمل في الخفاء وهو يتقي شر الفخاخ التي تنصبها السلطة بأيدي حرّاسها .. يقول السجين: “أحياناً يكون فعل الأمر الخطأ أهم من أن نوصف بالجبن! لا أحد يريد أن تكون تلك الصفة في تاريخه الثوري”.
- وفي (الرجال ذوو الأثداء)، يصبح كل جلّاد بمثابة أي مخلوق آخر لكن لا بشري .. يقول السجين: “ليسوا بشراً هؤلاء الناس، إنهم حيوانات .. لا، الحيوانات أفضل من هؤلاء الناس .. الحمير، الأبقار، الدجاج .. هل تعرف كم هي رائعة؟ إذا سرت أمام حمار ينهق ليقول لك مرحبا، إذا وضعت عصا في قفاه يرفسك حتى الموت! هل ترى؟ الحيوانات عادلة .. لكن هؤلاء الناس همجيون”.
رغم ما سبق، وعلى قدر ما قرأت في أدب السجون، جاءت هذه المذكرات رتيبة ومكررة وجافة من أي إثارة يشعلها جحيم السجن في العادة، لا سيما إذا كان السجن مخصص للمعتقلين السياسيين، وما يحيط به من صنوف تعذيب بطبيعة الحال!. كما أن السجين ظهر كالذي يتحفّظ عن البوح بأمور يخشى عواقبها، فلم يوضّح كيف انخرط في النضال ولا ظروف الافراج عنه لاحقاً، إلا من أسطر معدودة في خاتمة مذكراته، كما أن اللحظات الأخيرة التي شهدت خروجه للحرية لم يأتِ على وصفها، والتي عادة تكون مفصلية لدى أي سجين، وتثري مذكراته إن سطّرها!
ختاماً .. قد يجمع قلب سجين واحد تناقض ما، فاليائس هو الذي يحمل عادة قدر ضخم من التفاؤل بالحياة القادمة ويؤمن بوعودها! هكذا اعتقد صاحب هذه المذكرات .. قبل سجنه وبعده!
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (6) في قائمة طويلة من كتب فكرية خصصتها لعام 2023 والذي أرجو أن يكون استثنائياً في جودة الكتب التي سأحظى بقراءتها خلاله .. وهو ثالث كتاب اقرؤه في شهر مارس، وقد حصلت عليه من متجر جملون الإلكتروني للكتب العربية في ديسمبر من عام 2020، ضمن (85) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة.
من فعاليات الشهر: لا شيء مميز سوى مصارعة الوقت لاستكمال أعمال فائتة من العام الماضي .. وقد أجلّت عمل الأمس إلى اليوم وإلى الغد وإلى ما بعد الغد .. وقد صادف العشر الأواخر منه استهلال رمضان المبارك لعام 1444 هجري، وهو الشهر الذي أتوقف فيه عن القراءة، لاغتنام الخير المشمول به!
تسلسل الكتاب على المدونة: 406
التعليقات