كتاب في أدب الرحلات .. يمخر فيه الكاتب عباب الأرض والسماء ليصل بين ثقافتين حكم كل منها سلالة سلاطين ماضياً وأحزاب برلمانية حاضراً .. من غرب آسيا حيث تركيا الحديثة بشقيها الأسيوي والأوروبي عبر آل عثمان، إلى شرقها حيث ماليزيا وقومياتها الثلاث وشعب الملايو من قبل .. في مائة وأربعين يوم من عام 2016، مسجلاً انطباعاته على غرار ابن بطوطة الذي أمضى في رحلته منقطعاً خمس وعشرين عام.
قبل الإقلاع، يطلب الكاتب من القارئ ربط حزام الأمان ليشهد في رحلة عبر الورق ما التقطت عدسة عيناه وما اختزن في محفظة ذاكرته من أخبار المدن والناس .. وينبهه ليتمهّل! فليست المدن أبنية من حجارة صماء ولا مجرد أزقة وحدائق وأسوار، بل أشبه بكائن حي في دورة حياة كاملة .. تفرح وتبتهج وتحيا، وتحزن وتأسى وتموت .. منها ما تشامخ عمرانها وتنوعت مرافقها وكثرت سبل رفاهيتها، إلا أنها مقيتة تبعث في النفس الكرب والقنوط، ومنها ما تشحذ الخيال الخصب وتورق معها الروح، رغم بساطة أبنيتها وخدماتها وسبل الراحة فيها، فإنما “أهل المدن ومواطنو الدول بأخلاقهم وآدابهم وسلوكهم وتحضرهم هم الذين يحكمون على مدنهم ودولهم بالحياة أو الموت .. بالحزن أو الفرح” كما يقول الكاتب استهلالاً في (قبل أن تربط حزام الأمان)، والذي يستمر في سرد خواطره من فوق الغيوم وهو ينظر إلى أغلى ما تحتها، إذ “ما ازددنا رغبة وشوقاً إلا للقاء الإنسان، لأنه وحده من يعمّر الأرض ويبهج الشوارع الكئيبة ويبعث الحياة في الحجارة الصماء إن أراد الحياة. وهو أيضاً من يخرّب الأرض ويفسد فيها ويسفك الدماء ويصنع الحزن والكآبة ويدمر الحياة إن أراد الموت. فلا الثروات في باطن الأرض وعلى وجهها، ولا البحار ولا الأنهار ولا البحيرات ولا الموقع الجغرافي ولا الطبيعة الخلابة هي التي تجعل المدن والدول غنية مترفة سعيدة، إنما هو الإنسان الذي يصنع مصيره بيديه وإرادته وحكمته وكفاحه، ويخلق أسباب الرفاهية والحياة مهما أقفرت ثرواته وجدبت أرضه وجفت مياهه وقست طبيعته وشحّت أمطاره”. يوافق هذا الرأي تعقيب ابن بطوطة في كتابه (تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) عما قيل في بركة الشام وشفقة الروم “إنما عنى به أهل هذه البلاد”. ولأن (الرفيق قبل الطريق) فقد أحسن الكاتب الرفقة برفيقة العمر التي كان من جمال روحها وصبرها ما حمل عن الكاتب الكثير من متاعب الرحلة ومصاعبها .. لا عجب أن يختص إهداء الكاتب بها، ولا عجب أن يختصّها الله بـ (السكن). أما أنا .. وكعادتي كلما ارتحلت بمفردي، يصبح دعاء (اللهم أنت الصاحب في السفر) نديمي!.
أغلبنا يسافر ويعود ثم يعود ليسافر .. مراراً وتكراراً، لكن من يحدّث عمّا جال بينها بقلمه الذي يصوّر من الدقائق والتفاصيل والظواهر والخفايا فقليل، ولا أنكر أن د. طه جزّاع أحدهم .. ولو قُدّر له المزيد لجاد بالمزيد! إنه إذاً د. طه جزاع، وهو أستاذ محاضر في علوم الفلسفة، وكاتب أعمدة صحفية في الجرائد والمجلات والمواقع الإلكترونية، وقد شغل منصب (رئيس التحرير) لعدد منها، كما أن له عدد من الإصدارات الأدبية والفكرية.
أجود بدوري مما جال في خاطري بعد مرافقة الكاتب في رحلته وهو فوق الغيوم وهو تحت منها من خلال خمس وأربعين محطة تحتلها عناوين شائقة في الفهرست -وقد حظيت رحلته بثلاث نجمات من رصيد أنجمي الخماسي- وباقتباس في نص سماوي (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:
ملاحظة: عادة، يعتمد أسلوبي في التدوين على التعبير بـقلمي عن محتوى الكتاب ككل بعد قراءته، مع القليل من الاقتباسات بما يخدم عرض محتواه بشكل جيد. رغم هذا، أستثني الكتب التي تجمع بين موضوعية الرأي وبديع الأسلوب في قالب واحد، بحيث يصبح نقل النص كما ورد هو الخيار الأمثل، بدلاً من التعبير عنه وفق أسلوب آخر. لذا، تدفعني بعض الكتب لاقتباسات أكثر مما اعتدت عليه، وهذا قلّما يحدث في مراجعاتي! جاء هذا الكتاب ضمن هذا الاستثناء، لذا وجب التنويه.
ملاحظة أخرى: ترد بعض التعليقات في نص أزرق .. لا تعبّر سوى عن رأيي الشخصي.
في مقدمة لا بد منها، يقول الكاتب: “صحيح أن الإمبراطورية العثمانية أصبحت جزءاً من التاريخ، وأن نظام السلطنة فيها قد زال من تركيا الحديثة منذ حوالي ست وتسعين سنة حين أُلغيت الخلافة وصار الحكم جمهورياً، لكن نظام الولايات فيها مازال باقياً إلى يومنا هذا، ولكل ولاية وال لكنه يعين من قبل الحكومة المركزية في أنقرة لا من قبل سلطان الباب العالي في إسطنبول. وصحيح أن ماليزيا دولة اتحادية ملكية دستورية معاصرة، الحكم التنفيذي فيها لرئيس الوزراء وحكومته، لكنها تتألف من ولايات ولكل ولاية سلطان يجلس على عرش الملكية مع غيره من سلاطين البلاد بالتناوب والتراضي، فهو ملك على ماليزيا كلها لسنوات محددة، لكنه سلطان في ولايته إن قام وإن قعد”. وعند هذه المقارنة الوجيزة يقول: “وما بين بلاد سلاطين آل عثمان وسلاطين الملايا الكثير من مظاهر الأبهة والترف والنعيم، وبينهما أيضاً الاعتزاز بالإسلام ديناً وثقافة ومنهجاً، كما الاعتزاز بلغة القرآن التي كُتبت بأحرفها اللغة التركية العثمانية، مثلما كُتبت وما زالت تكتب بها على نطاق واسع اللغة الملايوية”.
تركيا
- يتحدث الكاتب ابتداءً عن تركيا الحديثة في (تركيا .. صراع الطربوش والقبعة) وأباها الروحي مصطفى كمال أتاتورك الذي عمد رغم إصلاحاته إلى تصفية ما تبقى من إرث الخلافة العثمانية لاسيما جوهرياً فيما يمس روح الهوية التركية المسلمة، كاستبدال الأحرف العربية باللاتينية والطربوش بالقبعة والتودد السافر لإغراء الانفتاح الأوروبي على حساب القيم الشرقية والإسلامية. سنّ لهذا “قانون القبعة” الذي لاحق به مرتدي الطرابيش في الشوارع والذي أعدم به من خالفه، كان أبرزهم (الشيخ محمد عاطف أفندي) الذي وضع كتاباً تحريضياً يدعو للثورة على الإفرنجية. استحضر هنا كتاب (الرجل الصنم-مصطفى كمال أتاتورك: حياة رجل ودولة) من تأليف ضابط تركي سابق، والذي كان ممنوعاً حتى فترة قريبة، وقد حوى من الفضائح الكمالية ما يندى لها الجبين. وفي حديثه عن أنقرة، العاصمة السياسية التي أسسها أتاتورك، يورد الكاتب في (أنقرة .. وكل غريب للغريب نسيب)، معلومة تاريخية عن الشاعر الجاهلي امرؤ القيس الذي يقال أنه مدفون فوق تلة هيديرليك المطلة على مشارفها، إذ يجد وهو عائد من القسطنطينية مستنجداً بملك الروم على قتلة أبيه، قبراً يقال أنه لفتاة أو أميرة عربية دُفنت في تلك الأرض الغريبة البعيدة، فأنشد أبياتاً قال في أحدها: (أجارتنا إنا غريبان ههنا .. وكل غريب للغريب نسيب). فما لبث يوماً حتى مات ودُفن جوارها.
- وعن مولانا جلال الدين الرومي الذي تتنافس في نسبه تركيا وإيران وأفغانستان، تنساب كلمات الكاتب عذبة في (كعبة العشاق في قونية) وهو يعيش نفحات العشق عند ضريح رب العشق الإلهي والوجد الصوفي في ليلة جعلها خالصة له، زاد حميمها خواطر رواية (قواعد العشق الأربعون) التي وضعتها الكاتبة التركية إليف شافاك، على لسان بطلتها إيلّا صاحبة عزيز المدفون أيضاً في قونية، وقد قالت عن القاعدة الأربعين والأخيرة: “الحياة بلا حب تافهة لا يؤبه بها. لا تسألي نفسك عن الحب الذي ينبغي لك البحث عنه، روحياً أو مادياً، دنيوياً أو ربانياً، شرقياً أو غربياً .. التقسيمات لا تؤدي إلا إلى تقسيمات أخرى. ليس للحب أسماء ولا تعريفات .. هو ما هو .. شفاف وبسيط. الحب هو ماء الحياة والعاشق روح النار، والكون يصبح كوناً مغايراً عندما تحب النار الماء”. لم تخلّد الرواية شعلة الحب التي احتضنت الرومي ومرشده التبريزي فحسب، بل كما وجدتها تتناسخ روحياً أو تدور في محيطنا أو تتمثل بشكل ما في شخص عزيز اليهودي الذي اعتنق الإسلام وارتبط روحياً بإيلّا المسيحية حتى رقد بجانب حبيبه الرومي في مثواه الأخير .. الرومي الذي قال يوماً “لن تكون الأرض بعد الموت قبري .. إن قبري في صدور العارفين”. ومن الكتب الرائعة التي قرأتها أيضاً تحكي سيرة العاشقَين كتاب (بحثاً عن الشمس من قونية إلى دمشق) لمؤلفه عطاءالله تدين. ثم يتطرق الكاتب للحديث عن متحف الرومي الذي يضم مقتنياته الشخصية ومخطوطات مزخرفة مع نسخ من مؤلفاته الكبرى، والدراويش الذين جُعلت لهم ثمانية عشر غرفة تيمناً بالرقم (9) ومضاعفاته الذي كان يحمل قدسية خاصة عندهم تظهر في مدد الاعتكاف ومرات الدوران في الرقصة المولوية. هل اعتبر (19) ضمن أسرة الأرقام المباركة؟ فقد وُلدت في ليلته وكانت الحياة آنذاك رمضانية!. يصف الكاتب بعد ذلك الأجواء الشاعرية التي تسود ساحة المتحف بعد أن يقفل أبوابه مع غروب الشمس .. من خلال مصابيح مضاءة، تتوسطها نافورة تعكس ألواناً مبهجة يسودها الخُضرة، تحفّ جوانبها أكاليل من زهور حمراء مرفوعة على أعمدة الكهرباء، وتنظيم مختلف في توزيع الشجيرات والأعشاب والورود، والمقاعد بينها يحتلها أولئك الذين تستهويهم الأجواء الروحانية والمنعشة معاً رغم حر الصيف. على الهامش: ليست هي الصدفة التي جعلتني اختار لهذا الكتاب تحديداً فاصل من ضمن مجموعتي ما يحمل صورة تخيلية للرومي مع مقولة تُنسب له، هي: “لست واحداً قائماً بذاتك أيها الرفيق .. بل إنك فلك وبحر عميق”.
- يرحل الكاتب إلى مدينة طرابزون الساحرة في (مطار على حافة البحر) التي تشمل زيارة قصر أتاتورك وجامع إسكندر باشا .. المدينة التي تظهر كما أُطلق عليها “لؤلؤة البحر الأسود” من مرتفعاتها عند غروب الشمس .. مع كأس الشاي والزوارق واليخوت تغدو وتروح في الأسفل .. في مشهد خلاب. يذكر الكاتب أيضاً أن المدينة التي كانت تقع تاريخياً على طريق الحرير التجاري لا تعكس طبيعة خلّابة فحسب، بل كانت مسرحاً لمعارك مصيرية كبرى كالتي وقعت بين المغول والسلاجقة “ويومها كانت طرابزون امبراطورية من ثلاث امبراطوريات تكونت بعد سقوط الإمبراطورية البيزنطية قبل أن تتهاوى على يد السلطان العثماني محمد الفاتح سنة 1461 م”. هي أيضاً مسقط رأس السلطان سليمان القانوني الذي “اكتسب في السنوات الأخيرة شهرة واسعة لدى المشاهدين العرب بعد عرض المسلسل التركي الشهير (حريم السلطان)”. وأنا أعجب من جيل يتهافت على كل ما هو تافه بقدر ما يجهل تاريخه المشرّف! وكيف أن السلطان الثوري الذي قضى جلّ حياته في ساحة المعارك وبين خدع الحروب ومؤامراتها، يصبح ألعوبة مكائد حفنة (نسوان) همّهن التبرج وما سيجرّ بعده من عربدة فوق مخادع ساخنة! لقد قمت بشنّ حملة مضادة لمسلسل السلطان وحريمه في وسائل التواصل الاجتماعي وقت عرضه، حتى شكيته لزميلة الدراسة التركية وقد تم تحريف عنوانه من (القرن العظيم) بالتركية إلى (حريم السلطان) بالعربية! غير أن الكاتب يورد من أخبار المسلسلات ما يثلج الصدر في (العرب يفتحون طرابزون سياحياً) كمسلسل (قيامة أرطغرل) و (عاصمة عبدالحميد الثاني)، والثالث الذي يجسّد انتصار العثمانيين على الإنجليز في مدينة الكوت العراقية. وقد جاءت جملة هذا الإنتاج كردة فعل ضد الإساءة التي طالت تاريخ السلاطين العثمانيين كما ارتأها بعض المسئولين الأتراك “فجاء انتاج المسلسلات التاريخية الجديدة ليصحح تلك الصورة عبر تجسيد أعمال ومواقف ومعارك وبطولات وانتصارات السلاطين والجيش العثماني عبر التاريخ”. وخيراً فعلوا .. رغم أنني لا أشاهد الإنتاج التلفزيوني والسينمائي عادة!. ولأن الشيء بالشيء يُذكر، يستنكر الكاتب في (سياح وشحاذون على البوسفور) سلوك التسول الذي ينتشر انتشار المكاتب السياحية على مضيق البوسفور من قبل أطفال الأتراك و “بعض السوريين شيوخاً وعجائز ونساءً ورجالاً وشباباً وأطفالاً، يتفننون في أساليب الكدية إلى أقصى إذلالها وتوسلاتها”، الأمر الذي يجعلني استرجع صياح أحدهم من أسفل (باص إسطنبول الكبير) وهو يجوب الطرقات حين كنت في أعلاه مع صديقتي الذي استرعى انتباهنا، والذي قال بمجرد أن نظرنا إليه “أنا سوري .. أنا سوري”، وقد ظن أن التعريف بهويته كفيلاً لاستدرار الدموع ومن ثم الجيوب! وفي تقسيم حيث الفندق الذي نزلنا فيه، لاحقنا ولمدة أسبوع بائع سوري يغرينا بمحله الذي يبيع الجلابيب على (ستايل) حريم السلطان -وكأنه لا يوجد في تقسيم سوانا- حتى كدت أن أشتم السلطان على حريمه على بضاعته الخائبة في آخر مرة، فإذا به يأتي بمشهد درامي محترف قال لي فيه بالحرف: “ما بدك تشتري مني لأنّي سوري .. الله يسامحك”. ورغم أنني رددت عليه دعاء المسامحة بالمثل، إلا أن زميلي الحلبي أخبرني فيما بعد بأن كل هذا “حكي فاضي” يريد من خلاله إشعارك بالذنب ومن ثم استدرار “كرمك المالي” كتعويض!.
- وبعد حديثه عن هذه الظاهرة، يشيد الكاتب بدور تركيا الحالي في فرض تعليم اللغة العربية ابتداءً من المرحلة الابتدائية بعد أن كانت مادة اختيارية تُدرّس في المرحلتين الإعدادية والثانوية. لن يساهم هذا التوجه بالطبع في مجرد تعلم اللغة العربية، بل في تعرّف الأتراك على تاريخهم المكتوب باللغة العثمانية القائمة أساساً على الحروف العربية، والتي مُنع استخدامها منذ عام 1925 ضمن ما جاء به أتاتورك من جملة إصلاحات مزعومة. “ويلاحظ منير اصفري مؤلف قاموس (التركية للمسافر العربي) أنه خلال السنوات الأخيرة في تركيا وخاصة في استانبول وأنقرة وأزمير أن الطبقة الراقية عادت إلى استعمال الكلمات والجمل العربية وأصبحت تدل عند استعمالها على الرقي والأصالة”. استرجع في هذا المقام ما جاء في كتاب (علو الهمة) لمؤلفه محمد إسماعيل المقدم، عن الشباب الأوروبي الذي كان يرتحل للأندلس من أجل طلب العلم الحديث آنذاك ويتعلم اللغة العربية كمطلب إلزامي له، حتى إذا فرغ وعاد إلى موطنه، أخذ يفاخر بعلمه الذي تلقاه عند المسلمين أمام أقرانه من خلال إدراج الألفاظ العربية في حديثه بلغته الأم -تماماً كما يفعل العكس معظم أبناء العرب اليوم- الأمر الذي أثار حفيظة الكنيسة وتوعدت (أولئك الشباب الرقعاء) بأن تصدر ضدهم صكوك (حرمان من الجنة) إن هم لم ينتهوا!!. “وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ”.
- تقلع الطائرة من طرابزون باتجاه إسطنبول التي يهيّج منظرها من فوق الغيوم ذاكرة القارئ في استرجاع ما قاله القائد الفرنسي نابليون بونابرت في حقها، بأن “لو كان العالم دولة واحدة لكانت إسطنبول عاصمتها”. لم لا؟ وهي (إسلام بول) التي افتتحها سابع السلاطين العثمانيين محمد الفاتح عام 1453م وهو ابن واحد وعشرين عاماً، وقد كانت من قبل عاصمة الإمبراطورية البيزنطية التي كان مجلس شيوخها يشهد جدلاً لاهوتياً بيزنطياً يدور حول نوع الملائكة ما إذا كانوا ذكوراً أو إناثاً وحول حجم الشيطان إن كان كبيراً فلا يسعه حيّز أو ضئيلاً يسلك ثقب إبرة! “وفيما كانت المدينة منشغلة بجدلها هذا، وفيما كان المدافعون عنها يقاتلون بشراسة، تمكن السلطان العثماني محمد خان بن السلطان مراد خان الثاني (محمد الفاتح) ورجاله من اقتحام أسوارها، منهياً الجدل البيزنطي العقيم الذي لا يؤدي إلى نتيجة مقنعة للطرفين، ويكون مهلكاً حين يحدث في مدينة تحاصر أسوارها جيوش الفاتحين، لتنهي امبراطورية عمرها أكثر من ألف عام”. ويذكّرني بدوره هذا الجدل البيزنطي الغابر بجدل ربع-خالٍ يدور في عالم مواز حول شرعية كشف وجه المرأة وكفيها دون قدميها، وإشكالية الخروج على الحاكم الظالم وإن تبجح بسكره وزناه علناً كل يوم، في الوقت الذي يبحث فيه أحفاد البيزنطيين أولئك احتمالية وجود حياة مشابهة على كوكب المريخ كالحياة على كوكب الأرض. يبدأ الكاتب حديثه هذا في (كأننا في حائل) حين استرعى انتباهه مشهد أفواج العرب السعوديين في مطار طرابزون وتعليق أحدهم مازحاً بأن المشهد مألوفاً وكأنه في مدينتهم، في الوقت الذي يرتدي فيه رجالهم الملابس العصرية ونسائهم يتلفعن السواد! وكأن الكاتب بهذا يصرّ على تأليب سؤال معلمتي الأنجليكانية الشقراء حين استعانت بي لاستيضاحه أثناء دراستي في إنجلترا .. وقد بدى لها وجودياً حينها، إذ شاهدتهم بأم عينها في أكسفورد سترييت يرتدون الـ (بنتاكور) ويفتحون جيوب صدورهم، وبجانبهم (حريماتهم) لا يظهر منهن شيئا!.. (أي دين يتبعون)؟
- وبعيداً عن شموخ الجامع الأزرق ومتحف آيا صوفيا ومتحف قصر الباب العالي (أو توب كابي) وبحر مرمرة وجامع السلطان أحمد وحمام حريم السلطان التاريخي، يمس الكاتب وهو يتحدث عن عظمة مدينة إسطنبول في (متحف الرواية والشجن الإسطنبولي) جانباً عاطفياً مختبئاً في اللاشعور، إذ يقول أن “إسطنبول هي الآستانة عاصمة الدولة العلية العثمانية التي حكمت أغلب أجزاء القارات الثلاث القديمة لمدة تزيد عن ستمائة عام، وهي الباب العالي الذي كان يتحكم ذات يوم بمصير ما مجموعه أكثر من أربعين دولة حديثة في آسيا وأفريقيا وأوروبا، يعيّن ولاتها ويحدد تحالفاتها وسلمها وحربها، وإليه تعود خزائنها وكنوزها وخراجها. لذلك فإن متاحفها هي من أغنى متاحف العالم قاطبة، ووثائق ومعاهدات وتحالفات وأسرار وبيانات وتواريخ أربعين دولة معاصرة تنام في خزانتها. ألهذا السبب يشعر الإسطنبولي الذي فقد قبل أقل من قرن امبراطورية شاسعة الأرجاء بالكآبة والحزن المتجذر الذي أشار إليه أورهان باموق؟! أم أنه يقصد أن المواطن الإسطنبولي يعيش ازدواجية قاتلة وهو يرتدي الزي الأوروبي ويحنّ في داخله إلى زمن العمامة والطربوش؟!”. وابن باموق هذا هو روائي تركي معاصر سليل عائلة أديبة، حاصل على جائزة نوبل للآداب عام 2006 عن روايته (إسطنبول .. الذكريات والمدينة)، وهي أشبه بالسيرة الذاتية التي تعرض إلى جانب طفولته وأهله وجيرانه ومدينته ما أسماه بـ “الشجن أو الحزن الإسطنبولي”، وكأنه الوعي الجمعي الدفين في نفوس سكّانها، على مجد امبراطوريتهم المفقود وجُشم زمن الجمهورية.
- وعلى ذكر المعالم الأثرية العظيمة لهذه المدينة، يخص الكاتب المعلم التاريخي العملاق آيا صوفيا في (كاتدرائية ثم مسجد ثم متحف ثم …) بقول مزهو لا يخلو من غصص، فـ “آيا صوفيا ليست مجرد معمار عظيم يدل على براعة العمارة البيزنطية الممتزجة بطراز العمارة والزخارف الإسلامية، إنما هي حكاية تلخّص قصة صراع حضاري وتاريخي وعقائدي وروحي وديني وسياسي. إنها معمار لبناء من الحجر الأبكم والمرمر الأصم، لكنه يكاد أن يتكلم ليكون شاهداً على نشوء الامبراطوريات وانهيارها وانتصاراتها وهزائمها، وكيف يتحول من كاتدرائية وكنيسة في زمان ما إلى مسجد وجامع في زمان آخر، ثم إلى متحف في زمان أتاتورك وأخيراً في أيامنا هذه متحف … لكنه يرفع الأذان في أوقات الصلاة”. وعلى خط مواز لآيا صوفيا، يكاد الحجر الأصم لجامع قرطبة أن يشهد بالمثل! فقد كان موقعاً لكنيسة مسيحية على زمن القوط، والذي حوّله عبدالرحمن الداخل إلى مسجد في العهد الأموي وتوسع أكثر فأكثر لاحقاً، ثم أعيد ككنيسة تابعة للكاثوليكية الرومانية في حروب الاسترداد التي تلت سقوط الأندلس، والذي بلغ الذروة بعد ادخال صحن الكاتدرائية له في القرن السادس عشر الميلادي!. وعلى الرغم من عدّه مزاراً حيوياً ومعلماً أثرياً في إسبانيا الحالية، إلا أن الأذان قد رُفع فيه مؤخراً مع إعادة تسميته بـ (جامع-كاتدرائية قرطبة) بعد أن كان (كاتدرائية) فقط. لقد غلبت الغصص الزهو الذي تملّكني حين كنت أفكّ لبعض السيّاح زخرفة الآيات القرآنية في أرجائه، في أول زيارة لي هناك.
- وفي (جبل أيوب المقدس والحب المستحيل) يمجّد الأتراك الصحابي الجليل أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري الذي نال شرف الشهادة على أسوار القسطنطينية في محاولات الفتح الأول عام 670م، بمنحه لقب (سلطان) وتشييد جامع باسمه بالقرب من ضريحه “بعد أن استدل الشيخ آق شمس الدين أستاذ ومربي السلطان الشاب محمد الفاتح على قبر الأيوبي”، وهو تحفة معمارية يقصده المصلون والزوار على حد سواء. ولما عشق الروائي الفرنسي بيير لوتي المكان وقدّسه مع فتاته التركية أزياديه، وتقمّص الروح التركية في مظهرها وجوهرها، وظل يقصد المدينة للراحة تارة وللكتابة تارة عن الشرق وسحره والحنين والموت لاسيما بعد موت عشيقته في غيابه وبشكل مأساوي، خلّده الأتراك “عبر إطلاق اسمه على مقهى كبير أصبح مزاراً للسياح وقبلة للمثقفين”. وشتّان بين العرفان لأناس أخلصوا لغير أوطانهم، وبين التحقير لمن أساءوا لأوطانهم ولتراثه، حيث يشهد الكاتب على احتفالات الأتراك ليلة ذكرى المولد النبوي الشريف في (وتوقفت الساعة عند التوقيت 9,05) الذي يشير إلى لحظة وفاة أتاتورك عام 1938 “وحديقة أتاتورك تحت تمثاله البرونزي المستند على قاعدة مرتفعة. وكانت أصوات مكبرات الصوت من المسجد المطل على الساحة المزدحمة بالناس تنقل أصوات المنشدين المحتفلين بالميلاد النبوي وسط حشود من المواطنين المحيطين بالمسجد وهم يرفعون أياديهم بالتكبيرات والصلوات والدعوات في هذه الليلة المباركة تحت أنظار رجل العلمانية الأول”.
… وعني، لا زلت استرجع أجواء زيارتي الأولى لتركيا وأنا طفلة، والتي تكررت بعدها لأربع مرات زرتها بمفردي ولحضور دورة تدريبية وأخيراً مع صديقتي .. وإني لأرجو أن تتم السادسة في القريب العاجل!.
ماليزيا
- كما تركيا، تولي ماليزيا اهتماماً كبيراً للغة العربية التي تحرص على بثّها في المناهج الدراسية الأساسية، والتي أصبحت مطلباً إجبارياً للطالب “قبل تخرجه من الجامعة الإسلامية العالمية. وهي جامعة كبيرة تعود فكرة إنشائها إلى مهاتير محمد ماليزيا، وقد صممت أبنيتها وفق طراز العمارة الإسلامية في الأندلس بقبابها الزرق ومآذنها وأروقتها وأقواسها وزخارفها”، فضلاً عن الصحف والقنوات التلفزيونية والبرامج الإذاعية والنشرات الإخبارية الناطقة جميعها باللغة العربية. يعرض الكاتب كل هذا في (باشوات وداتوات .. باشا وداتو) في الوقت الذي تتأرجح فيه مشاعره بين البهجة لهذا الاهتمام باللغة العربية والأسى على إهمالها عند بني جلدتها!.
- بوتراجايا .. ليست مدينة دبلوماسية ذات حصانة كما يقول الكاتب في (بوتراجايا غرور شخصي .. ولكن)، رغم أنها كذلك وبامتياز لكونها المدينة السياسية ومقر للمواقع الحكومية والبرلمانية ومجلس الوزراء، غير أنها تُعد من أهم المعالم السياحية في ماليزيا التي يتجول فيها السيّاح والمواطنين والمقيمين على حد سواء من غير حواجز أمنية أو نقاط تفتيش أو سين وجيم، وبأقل تكلفة للمواصلات. إنها كذلك مقر لجامع بوترا الذي يُعد من أكبر جوامع ماليزيا المشيّد على أفخم طراز إسلامي، والذي يستقبل كافة الأعراق من مختلف الديانات، بالإضافة إلى ما تزدان به من حدائق ومطاعم وبحيرات وجسور ويخوت سياحية ومنتجعات استجمام. “ويوم تأسست مدينة المستقبل بوتراجايا التي كانت من رؤية وتخطيط وإشراف الطبيب الجراح الحاج مهاتير محمد رئيس الوزراء التاريخي لماليزيا، فإنه قال بما معناه: ستشكل هذه المدينة روح ماليزيا بأكمل إحساسها في القرن 21 وهي تمثل طموح هذه الأمة. وعندما وضع حجر أساس المدينة يوم 19 أيلول / سبتمبر 1996 واجه الكثير من الاعتراضات والانتقادات بسبب هذا المشروع الضخم، لكنه كان يزور موقع البناء كل أسبوع تقريباً حتى تسنى له الانتقال إلى المكتب المقبب الجديد لرئيس الوزراء بعد مرور أقل من ثلاث سنين”. ومع حديث الكاتب عن بوتراجايا تحدثني زميلتي الماليزية عن سايبرجايا، وهي مدينة تتصل بالأولى مباشرة وتعتبر مركزاً رئيسياً لنظم المعلومات على مستوى البلاد. ومع صغر مساحتها، فهي تضم أفضل الجامعات، ويتميز ناسها بالتعليم العالي، وتتمتع بالهدوء رغم كثرة السياح.
- لا تخلو الأضداد من حُسن إن صلحت النيات!. يقول الكاتب في (تعايش الشورت والحجاب) قولاً حكيماً عن روح التعايش التي تسود القوميات الرئيسية الثلاث لماليزيا والتي تشكل النسيج الثقافي العام للمجتمع، على عكس ما يُفترض من تضادها بطبيعة الحال، فـ “لأن السياحة تعني فيما تعنيه الامتزاج الحضاري والتقاء الثقافات والتعرف على العادات والتآلف الإنساني بعيداً عن مظاهر التعصب والانكماش والتخندق، فقد اكتسب الماليزيون صفة التسامح وتقبل الآخر. وأينما تجولت في كوالالمبور فستجد المسجد والكنيسة والمعبد الهندوسي والمعبد الصيني البوذي كلها مفتوحة للجميع، وكلها تدعو للتسامح والتعايش والسلام، فالبلد بلد سياحي ولا سياحة بلا روح سمحاء وخلق في التعامل وعقل منفتح على الآخرين. ولعل هذا الامتزاج هو الذي عززّ في الوقت نفسه الارتباط بمظاهر شكلية للدين والقومية، حتى من خلال أمور تبدو بسيطة واعتيادية، غير إنها تعكس مدى تمسك المسلم بإسلامه والمسيحي بمسيحيته والبوذي ببوذيته والهندوسي بهندوسيته. لذلك تجد المسلم الملايوي يحرص على التمسك بكتابه وسنة نبيه وصلاته وصومه وزكاته وحجه، كما تجد المرأة الملايوية المسلمة تتمسك بحجابها وملابسها المحتشمة بلا فرض ولا تسلط ولا إكراه بل بقناعة ورضا ومحبة حقيقية لدينها، مثلما تتمسك المرأة الماليزية الهندية بلباسها التقليدي الساري، ومثلما تتمسك المرأة الماليزية الصينية بالشورت القصير الذي تكشف بعض أنواعه ومقاساته أكثر مما تخفي! ويمكن للسائح أن يلاحظ بسهولة هذه المتناقضات في الشوارع والأسواق والمولات والمقاهي والمطاعم، حيث يتعايش الحجاب الإسلامي مع الشورت الصيني من غير إحراج ولا انتقاد ولا غضب ولا استهانة ولا تكفير”. وعلى رقعة الربع-الخالي في العالم الموازي الآنف الذكر، يعتبر كائناته الصحراوية حجاب المرأة ركناً أساسياً من أركان الدين كشهادة التوحيد والشعائر الأربع، فما أن تتسلل شعرة من خلف السواد كي تتنفس سهواً، حتى تصيح الحناجر إما تكفيراً أو قصاصاً!. و “يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ”.
- وبخلاف الالتباس الحاصل عند الماليزيين عن المعاني الصحيحة للأسماء العربية، من مجرد اختيارها لصلتها بالدين فحسب، ينقل الكاتب في (خير الزانيات) عن استاذهم الجامعي الذي التقى بأحد معارف صديقه في أوزبكستان وقد جمع في بيته المتهالك فوق فقره المدقع أربع زوجات “لأغيز بهم الكفار”. وكأن الكفار -لا قدّر الله- متبتّلين أو في انقراض! أو كأن المسلم المغوار الذي لا يُشق له غبار سيصبح في موضع حسد على نعمة فحولة تدّك حصون أربع نسوة في آن! عاينت شخصياً حالة مشابهة لامرأة تُقبل في سواد وتُدبر بها (لتغيظ أعداء الدين) كما هرطقت! وما علمت المغدورة أن الأعداء الافتراضيين ما علموا بها ولا بالوأد الذي ساوت فيه محياها بمماتها!.
- كعادة العرب -وتراثهم الغنائي يقول (وان كنا نهجر اوطانا .. الحب يديلنا اوطان)- يتجمع أبنائهم في شارع بوكيت بنتانغ الواقع استراتيجياً وسط العاصمة الماليزية، وهو شارع يعجّ بمختلف الأنشطة على مدار الساعة حتى حظى شعبياً باسم (شارع العرب). ففي (عرب بوكيت بنتانغ)، تنتشر المطاعم التي تعلوها لافتات مكتوبة باللغة العربية، وكذلك محلات الملابس والموسيقى التقليدية ولوازم المناسبات الدينية والأعياد والاحتفالات وغيرها، كما يكتظ الشارع بالسياح والمقيمين منهم والعاملين فيها، وذلك على غرار ما تشهده العديد من المدن الأوروبية والأمريكية من (تعريب) لثقافتها، والتي تأخذ سمتها واسمها فيما بعد. “لكن ما ليس مرغوباً فيه أن تشوب مثل هذه التجمعات العربية سمعة سيئة بسبب تصرفات بعض العرب في ممارسة فنون النصب والاحتيال والسرقة والتسول وتجارة السوق السوداء والحمراء، التي قد تصل إلى ممارسة أعمال غير أخلاقية مثل الدعارة والاتجار بالمخدرات! ولهذا السبب ولأن العملة الرديئة تطغى على العملة الجيدة، فإن تسمية شارع بوكيت بنتانغ المزدحم بالمتناقضات بشارع العرب ينطوي في التصور الماليزي وغير الماليزي على السمعة السيئة لا السمعة الطيبة للأسف الشديد”. وهكذا كنت أجد الوضع في ادجوير روود أو (شارع العرب) في لندن وهو يتأرجح بين الحسن والرديء، حيث عبارات الترحاب من أصحاب المطاعم .. وعبارات الغزل من روّاده!. لا يمنع هذا الكاتب من التأكيد على وجود جالية كبيرة من العرب المقيمين في ماليزيا سواء من الموظفين أو أصحاب الأعمال أو الطلاب الذين يعكسون بأخلاقهم العربية الأصيلة صورة مشرّفة لأوطانهم، وهم يحظون باحترام مميز من المسلمين الملاويين الذين يمجّدون كل ما له صلة بالإسلام. واستحضر في هذه اللحظة زميلي المصري الذي تشع من عينيه أطياف الحب كلما تحدّث عن زوجته الماليزية وطفلهما الذي يحمل من جينات أجداده بنو الأصفر نصيب الأسد.
- لم يكن السيد المبجّل ليانغ ليانغ والسيدة الأولى شينغ شينغ وهما في مقرهما الفخم المحاط ببوابات دخول إلكترونية وسلالم من رخام مصقول وتحذيرات بمنع التصوير والكلام في حضرتهما سوى زوجين صينيين من سلالة دببة نادرة مهددة بالانقراض، ترعرعا في كنف ماليزيا ضمن اتفاقية تستعيرهما بموجبها من الصين لمدة تسع سنوات، مقابل مليون دولار سنوياً. يقول الكاتب وهو (في قصر ليانغ ليانغ وحرمه) بأنه من أجل توفير بيئة تلائم الزوجين من “جو مكيف وغذاء ورعاية صحية وعيادة خاصة مزودة بأحدث الأجهزة الطبية، عوضاً عن مطعم للزوار كل ما فيه يشير إلى الباندا، ومحال لبيع القمصان والقبعات والدمى والتذكارات وإطارات الصور والهدايا المختلفة التي تجمعها صور هذا الدب وأنثاه”، فقد تكلفت ماليزيا ما يقرب من ثمانية ملايين دولار لتشييد هذا الصرح في حديقة الحيوان الوطنية. أما طفلتهما نوان نوان فتم إعادتها لمسقط رأسها بعد إتمامها العامين حسب الاتفاقية، في وداع رسمي حضره وزير البيئة الماليزي. كانت “دبلوماسية الباندا” التي انتهجتها الصين مع بداية الحرب الباردة في الستينيات سياسة فعّالة في تحسين وتوطيد العلاقات الدبلوماسية كما حصل مع الاتحاد السوفيتي وأميركا، وكذلك في تخفيف حدة التوتر مع غيرها من الدول مثل كندا وكوريا الشمالية. ينشغل الكاتب عن الأجواء وعن السيد المشغول أصلاً بمضغ سيقان البامبو عن زوّاره، ليتفكّر في “قدرة الصين على استثمار وجود هذا الحيوان في تمتين علاقاتها مع مختلف الشعوب والبلدان، في الوقت الذي فشل فيه سياسيون عباقرة ورؤساء دول وقادة كبار من بني البشر في إنجاز هذه المهمة لشعوبهم وبلدانهم، ولم يجلبوا لها وللبشرية غير النزاعات والحروب المدمرة والفقر والجهل والمرض والتخلف”. … ويكاد الدب أن يكون حمامة سلام!
- ينقل الكاتب في (عذاب النار ومحاكمات الجحيم) عن الأديب أنيس منصور في رحلته حول العالم مشاهد تصور أهوال الحياة الأخروية عند البوذيين تشبه إلى حد كبير ما شاهده في زيارته للمعبد الصيني في جنتنغ هايلاند، والذي لا يبعد عن العاصمة كوالالمبور أكثر من ساعة واحدة .. صنوف العذاب التي تشبه إلى حد كبير ما جاء في المرويات الإسلامية عن رحلة الإسراء والمعراج وكوميديا دانتي في الجحيم!. يورد الكاتب -والذي يبدو محبّاً للثقافة الصينية- معلومة أخرى عن التنين الصيني الذي لا يخلو معبد أو سوق أو منزل أو مهرجان منه “منحوتاً أو مرسوماً أو منقوشاً” بجسده الناري وأرجله ومخالبه. فهو “يمثل لهم -على خلاف النظرة الغربية التي تجعله رمزاً للشر والتدمير- رمزاً للقوة والسلطة والنباهة والحكمة والنبل والحظ الطيب، ومصدر الخير والماء والمطر والنماء، منذ أن اتخذه أباطرة الصين رمزاً لقوتهم وصلابتهم واتساع سلطانهم. وصار التنين يرمز للصين عموماً وللحضارة والتقدم والغزو الصناعي الصيني للعالم”. وهناك معلومة قرأتها تفيد بأن النبهاء والمتميزين في أي مجال يحظون بلقب (تنين) عند الصينين!.. التميز الذي يجعل من الأب الصيني يتمنى لطفله أن يصبح (تنيناً).
- ومن المعبد البوذي إلى المعبد الهندوسي في كهوف باتو التي تبعد عن العاصمة كوالالمبور بنصف ساعة فقط، ومع تنبيه الكاتب في (حذار من قرود المعبد) الذين يستوطنون سلالمه متطفلين على الزوار وحاجياتهم، تقود السلالم في نهايتها إلى مدخل الكهوف وهي تضم تماثيل آلهة الهندوس المتعددة وعلى رأسهم براهما الذي يُجّسد عادة بأربع رؤوس، وفيشنو الذي يتجسّد في كريشنا وراما، بالإضافة إلى الآلهة الأنثوية شيفا وديفي. تعكس كل تلك التماثيل مع أشكالهم، أساطيرهم وأعمالهم وعباداتهم وقدراتهم العجيبة، كما يقود قسم آخر في المعبد إلى كهوف خاصة لممارسة الشعائر الدينية، إلى جانب أقسام أخرى للمزيد من تماثيل الآلهة. ومع الآلهة المتعددة الأطراف، استرجع ما قرأته في كتاب (أديان العالم) لمؤلفه د. هوستن سميث عن بعض الإسقاطات لمعنى تمثال ذو أذرع متعددة عند الهندوس، التي تعكس رمزياً قوة وقدرة وبراعة الإله اللامتناهية.
مع انضمام هذا الكتاب إلى مكتبتي الجوداء، ترتفع قيمة المجموعة التي تحتويها في أدب الرحلات، والتي أذكر منها: (حكايات مسافر) و (الغابة) لمصطفى محمود، (حول العالم في 200 يوم) و (أعجب الرحلات في التاريخ) لأنيس منصور، (سائح في دنيا الله) لعبدالوهاب مطاوع، (رحلة أفوقاي الأندلسي) لأحمد بن قاسم الحجري، (يوميات رحلة إلى أوروبا) لناصر الدين شاه القاجاري، (مسافر الكنبة في إيران) لعمرو بدوي. وهنا تراودني الخاطرة القديمة التي تستجد كلما قرأت في هذا الصنف من الأدب: هل أشرع في تسجيل انطباعاتي عن رحلاتي التي لا تنتهي إلى أوروبا، لا سيما في شبه الجزيرة الأيبيرية أو (الأندلس) التي أحمل لها شغفاً لا تخبت شعلته؟
ختاماً أقول .. يأتي هذا الكتاب -الذي فاز بالجائزة الأولى لمسابقة ناجي جواد الساعاتي لأدب الرحلات عن عام 2018- كهدية جميلة في إهداء أجمل من كاتبه إلى كاتبة هذه السطور، مع (دعوة للسفر على أجنحة الكلمات) كما سطّرها بخط يده الأشبه بخط الأطباء غير المقروء!. وبالمثل، وكما تقدّم بالشكر في بداية كتابه بلغة كل من ساهم في إصداره .. للتركي “تشكر إداريم” .. وللملاوي “تيرما كاسه” .. وللصيني “شي شيه” .. وللهندي “بهوت شكريا” .. أقول بالدارجة العراقية المحببة: “ممنونة .. كلش هواي”.
… إنه كتاب ضمن قائمة تطول وتطول من الكتب المعدّة للقراءة في عام 2021 والذي شارف على الانتهاء وهو لا يزال يرزح تحت طائلة وباء لقيط مشكوك في نسبه حتى كتابة هذا النص!.
ينشر الكاتب مشكوراً هذه المراجعة على جزئين كما يلي:
جريدة الزمان – طبعة العراق – 25 سبتمبر 2021
جريدة الزمان – الطبعة العراقية والدولية – 26 سبتمبر 2021
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (16) في قائمة ضمت (57) كتاب قرأتهم عام 2021 تتضمن أربعة كتب لم أتم قراءتها وثلاثة كتب أعدت قراءتهم من جديد، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان أكثر بكثير، لكن لم تسمح ظروف الحياة لمجابهته! وهو أول كتاب اقرأه في شهر سبتمبر من بين اثنين فقط.
أنه الكتاب الثالث ضمن باقة مؤلفة من أربعة كتب جاءت كعربون صداقة جمعت بين كاتبها الكريم وكاتبة هذه الأسطر التي ازدادت فخراً حين اطلعت على سيرته الذاتية في آخر صفحة من هذا الكتاب .. فعلاً، إن (حب القراءة يجمعنا) .. مع فائق الشكر والاحترام والتقدير د. طه جزاع.
تسلسل الكتاب على المدونة: 67
التعليقات