ليس كتاباً تقليدياً في التنمية البشرية، وقد ظننته عكس ذلك الأمر الذي جعلني ارجئ قراءته .. فلا يبيع المؤلف الكلام ولا يدعو القرّاء للتغافل عن كل شيء كالموات .. في سبيل العيش الرغيد!
يتطرق المؤلف إلى متلازمة الاستحقاق التي تجعل همّ الموبوئين بها أن يكونوا الأوائل ومن بعدهم الطوفان! فيدعو بدلاً من ذلك إلى تقبّل الواقع واعتناق القيم ووضع المقاييس الملائمة، من غير تفريط ولا إفراط حتى لا ترتد الأمور على أعقابها .. ثم ينهي كتابه بالحادث الفاصل الذي قلب محور حياته رأساً على عقب عندما شهد مصرع صديقه المقرّب وهو يوصيه بالبحث عن الحقيقة، حتى جاءت رحلته إلى رأس الرجاء الصالح تتويجاً لما اعتنق .. تفعم بالحياة رغم اقترابه من الموت حينها قاب قوسين أو أدنى، في فلسفة وجودية تحثّ الإنسان على أن يحيا بعمق مع يقين أعمق بحتمية الموت .. ويا لها من معادلة.
يعرض فهرس الكتاب الذي تم تصنيفه ضمن الأكثر مبيعاً على قائمة نيويورك تايمز، تسعة فصول رئيسية، يحظى معها الكتاب بثلاث نجمات من رصيد أنجمي الخماسي. وقد جاء عن ترجمة مباشرة من لغته الأصلية (The Subtle Art of Not Giving a F*ck: A Counterintuitive Approach to Living a Good Life – By: Mark Manson). والفصول هي:
- الفصل الأول: لا تحاول
- الفصل الثاني: السعادة مشكلة
- الفصل الثالث: لست شخصاً خاصاً متميزاً
- الفصل الرابع: قيمة المعاناة
- الفصل الخامس: أنت في حالة اختيار دائم
- الفصل السادس: أنت مخطئ في كل شيء (وأنا كذلك)
- الفصل السابع: الفشل طريق التقدم
- الفصل الثامن: أهمية قول لا
- الفصل التاسع: … وبعد ذلك تموت
ومن تلك الفصول وفنون ما جاءت به في اللامبالاة، أدون ما راق لي في الأسطر التالية، وباقتباس في نص مفعم بالحياة (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
يتحدث المؤلف في الفصل الثامن عن فن قول (لا) على اعتبار أن (الرفض يجعل حياتك أفضل)! فيرى أن نمط الثقافة الإيجابية أو الثقافة الاستهلاكية -في تعبير أصح- قائم على تلقين الانفتاح الكامل نحو الفرص والتجارب والعلاقات والمغامرات .. وكل شيء، إذ تصبح كلمة (نعم) هي حجر الزاوية للكتب والدعاوى والصيحات التي تدعو إلى التفكير الإيجابي في الحياة. غير أن الرفض في حد ذاته يدلّ على موقف ما يفاضل فيه الإنسان بين أمرين، فمن غيره تُصبح الحياة فارغة من أي معنى، ويصبح ذاك إنسان يعيش بلا هدف! يذهب المؤلف بعد ذلك ليؤكد أنها مسألة هوية، إذ أن: “هذا الرفض جزء ضروري لا يتجزأ من محافظتنا على قيمنا، أي على هويتنا. ونحن نتحدد بما نختار أن نرفضه. أما إذا لم نرفض شيئاً (قد يكون هذا نتيجة خوفنا من أن تُرفض)، فهذا يعني أنه ليست لنا هوية على الإطلاق”. عليه، يصبح تجنب قول (لا) أشبه بحالة نرجسية، مبالغة في درجة الاستحقاق. يستمر ويقول: “وأما الرغبة في تجنب الرفض مهما تكن التكلفة، والرغبة في تجنب المواجهة والنزاع، والرغبة في محاولة قبول كل شيء على قدم المساواة، وجعل كل شيء منسجماً ومتناسقاً، فهي حالات عميقة خبيثة من أشكال الشعور الزائد بالاستحقاق. فبما أن أصحاب هذا الشعور الزائد بالاستحقاق يرون أنهم يستحقون أن يروا أنفسهم أشخاصاً ممتازين طيلة الوقت، نراهم يتجنبون رفض أي شيء، لأن ذلك الرفض قد يجعلهم يشعرون بالسوء، أو قد يجعل أشخاصاً آخرين من حولهم يشعرون بالسوء. ولأنهم يمتنعون عن رفض أي شيء، فإنهم يعيشون حياة من غير قيم، حياة تسوقها المتعة والاستغراق في الذات. وهم لا يهتمون بشيء أبداً غير الإبقاء على ذلك الإحساس فترة أطول، وغير تجنب حالات الفشل المحتومة في حياتهم والتظاهر بأنهم لا يعرفون أي نوع من أنواع المعاناة”. لذلك، يعتبر المؤلف أن قول (لا) إنما هي بمثابة مهارة، إن أحسن الإنسان تطبيقها، فسترفع من نوعية الحياة التي يعيشها، فيصرّ قائلاً بأن “الرفض مهارة من مهارات الحياة .. إنها مهارة هامة، بل حاسمة الأهمية. ما من أحد يرغب في أن يظل عالقاً في علاقة لا تجعله سعيداً، وما من أحد يرغب في أن يظل عالقاً في عمل يكرهه ولا يؤمن به، ولا أحد يريد الشعور بأنه غير قادر على قول ما يفكر فيه حقاً”.
على الهامش: ولأن كتب التنمية البشرية وأباطرتها هي من أشدّ ما أنتقد، فقد اعتبرت تكريس ساعات لقراءة هذا الكتاب وهو مصنف ضمنها، مغامرة!. أنني حقاً لا استطيع استيعاب كمّ تلك الكتب بعناوينها الساحرة التي تعد بتحويل المستحيلات الثلاث إلى حقيقة ماثلة خلال ثلاثة أيام .. وكأنه كورس مضاد حيوي، لا كورس تنمية بشرية!.
وأنتهي من حيث ابتدأ المؤلف حين ضرب مثلاً يتداوله أهل تكساس مفاده أن “أصغر الكلاب أشدها نباحاً” .. فلا يحتاج الإنسان الواثق من نفسه البرهنة على ثقته بنفسه .. فإما أن يكون أو لا يكون شيئاً، وأن سيل الأمنيات إذا استمر طوال الوقت دون عمل فهو يعزز واقع ذلك الإنسان .. مرة بعد مرة بأنه: ليس كذلك!
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (79) في قائمة احتوت على (105) كتاب قرأتهم عام 2020 رغم أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان (100) كتاب فقط .. وهي قائمة تضمّنت تسعة كتب لم أتم قراءتها. وقد كان هذا الكتاب هو خامس ما قرأت في شهر سبتمبر من بين ستة كتب، والذي حصلت عليه من متجر جملون الإلكتروني للكتب في يوليو من نفس العام، ضمن (50) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة!.
لقد كان 2020 عام الوباء الذي جاء من أعراضه الجانبية (ملازمة الدار وقراءة أكثر من مائة كتاب)! لم يكن عاماً عادياً وحسب .. بل كان عاماً مليئاً بالكمامات والكتب.
وفي هذا العام، دأبت على كتابة بعض من يوميات القراءة .. وعن هذا الكتاب، فقد قرأته في شهر (سبتمبر)، والذي كان من فعالياته كما دوّنت حينها:
“تعود الحياة وكأنها تتنفس الصعداء من جديد .. ويتم البدء بإعطاء متنفس من الحجر الصحي“.
تسلسل الكتاب على المدونة: 257
التعليقات