الكتاب
فرانك لويد رايت: جني بغداد
المؤلف
دار النشر
دار المدى للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة
(1) 2016
عدد الصفحات
83
النوع
ورقي
تاريخ القراءة
11/19/2021
التصنيف
الموضوع
بغداد أو (جنة عدن) كما رآها المعماري الأمريكي
درجة التقييم

فرانك لويد رايت: جني بغداد

ليست المباني التي تحيط بأهلها مجرد قوالب صُبت من خرسانة وأسمنت ورمل وماء، بل واجهة لثقافة شعب حاضر وماض .. الثقافة التي تعكس فن وذوق وطقس وعقيدة وتاريخ وحضارة كل من ينتمي لها. لا تختلف العمارة العراقية كثيراً عن شبيهاتها من مدن الشرق، غير أنها حظيت بغرام من لا يشبهها في شيء!

إنه المعماري الأمريكي الفذّ فرانك لويد رايت (1867 : 1959)، أو (جني بغداد) كما أطلقت عليه الصحف الأمريكية ظناً بتلبّسه، حين رفض العمل على بعض التصاميم المعمارية لمدينة نيويورك (ومن لا يتمنى؟)، مقابل حضوره لمدينة بغداد والعمل بدلاً من ذلك على تصميم وتخطيط مركز ثقافي بها. لقد كان ذلك بناء على استدعاء خاص من ملك العراق فيصل الثاني آنذاك، وقد كان المعماري حينها يحتفل بعامه التسعين والذي عقّب قائلاً: “أنها أجمل هدية عيد ميلاد”. لم يأت ذلك من فراغ، فقد ارتبط منذ صغره مع بغداد بقصة عشق استلهمتها مخيلته من سحر الألف ليلة وليلة، وبالتاريخ الذي ازدهر زمن هارون الرشيد، وقد أخذ منه الطابع المعماري الشرقي مأخذاً .. العشق الذي جعله يضع نصب عينيه وصل ماضي الشرق بحاضره، في الوقت الذي أصبح فيه معمارياً بارزاً. ليس مستغرباً إذاً أن تمثّل بغداد له (جنة عدن) في الأرض، وقد تصوّر تمثالي (آدم وحواء) اللذان خطط لتصميمهما في مركز حديقته تحت نافورة تشكّل قبة من ماءها، أو كما قال: “حيث بدء الحضارات في بغداد”.

لم تقف خططه التصميمية عند دار الأوبرا وما سيُلحق بها من مراكز تسوّق ومواقف للسيارات وحدائق مطلّة، بل كانت خطة شاملة تستهدف العمارة على ضفتي نهر دجلة، فوضع لذلك أيضاً مخطط لدائرة البريد، وجامعة بغداد، وعدد من المتاحف. كان المعماري يتحلى من شيم الأخلاق ما جعله يوكل مهام التنفيذ إلى المعماريين العراقيين، بعد أن عكف دؤوباً على مهام التصميم والتخطيط ثمانية أشهر متواصلة “وأرسلها إلى مجلس الإعمار في بغداد، وكان فرحاً جداً وفخوراً بهذا الإنجاز وهو يعرض التصاميم في مكتبه، ويتحدث عنها في الأوساط المعمارية، كما عرضها على أفراد الجالية العراقية في أمريكا، واعتبرها خيرة ما أنتج في سنين حياته الأخيرة”. يعود رايت من ثم إلى بلاده ومعه شيء من تلك التصاميم للعمل بها في ولاية أريزونا، لتشابه جوها إلى حد ما مع جو بغداد، في لفتة على إصراره تحقيق حلمه وعشق المدينة .. وقد تم اعتمادها رسمياً في السجل الوطني للمواقع التاريخية في أمريكا. أما في ظل البيروقراطية، واشتعال ثورة تموز عام 1958 في العراق، وبحجة اعتباره “مشروع خيالي ضخم مكلف قد لا يمكن تنفيذه في الحال”، فقد أخرّ المجلس المختص في وزارة الإعمار قرار اعتماد التصاميم لصالح إعمار الأبنية الملّحة كما ارتأى. وبمرور الوقت، وبعد مرور خمس سنوات على الثورة، تم رمي التصميمات والمخطوطات فوق سطح وزارة الإعمار، حتى تم العثور عليها متفرّقة من قبل معماريين عراقيين، اكتمل تجميعها مع بداية السبعينيات من القرن الماضي.

ومما يجدر الذكر به، فإن المعماري الأمريكي -رغم شعبيته- لم يكن محبوباً لدى سلطات بلاده لا سيما المخابراتية، وقد عملت على تجنّب تكليفه بالأعمال الحكومية حين أبدى اعتراضه على مبنى حكومي تم تشييده وفق طابع كلاسيكي لثلاثينيات القرن الماضي، في حين أن “المباني الحكومية هي للشعب” كما كان يعتقد، وأن الشعب الأمريكي يتألف من شعوب عدة بطبيعة الحال. وعلى إثر هذا التصريح الذي يرفض تقديم اعتذار عليه، يُسجن لعدة أيام، حتى تقوم سينما هوليوود بإنتاج فيلم عنه يحمل اسم (هورد رورك) فيما بعد، يضج بدوره الرأي العام على مشهد المحاكمة فيه، تأكيداً على قيم حرية الرأي لديه.

يعرض فهرس الكتاب القصير التسلسل لمهمة المعماري الأمريكي في بغداد. ومن بينها، أعرض ما علق في ذهني بعد القراءة -وقد حظي الكتاب بنجمتين من رصيد أنجمي الخماسي- وباقتباس في نص طوبي (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، كما يلي:

  • في موضوع (رايت في بغداد)، يقدم رايت محاضرة في جمعية المهندسين العراقيين يحثهم فيه على التمسك بالهوية العراقية الضاربة جذورها في أعماق الحضارات، وينبّه على عدم التمادي في محاكاة العمارة الغربية، وقد مرّ الغرب بتجربة مريرة بما يكفي فيما أسماه بـ “المبنى الممسوخ”. يدلي في هذا شهادته ويقول: “ساهمت منطقة الشرق الأوسط بعبقريتها الكبيرة في مجال الهندسة المعمارية، ومن هذا الميراث ستستمر في العطاء والمساهمة في الحضارة الحديثة”.
  • يلتقي رايت بالملك فيصل مرتين، فبينما كانت الثانية للشكر والتوديع، كانت الأولى للتعارف الذي تلاه الحديث عن الحضارة العراقية ومن ثم التطرق إلى الخطة المقترحة لدار الأوبرا، حيث اقترح استبدال الموقع بجزيرة الأعراس، وذلك من وجهة نظره في “العمارة العضوية”، الأمر الذي قابله الملك بموافقة فورية قائلاً: “الجزيرة لك يا سيد رايت”. يعقّب رايت في لهجة ساخرة رغم عمق إيمانه بالديمقراطية قائلاً: “العراق الغير ديمقراطي جيد بعض الشيء، فلا توجد فيه مجالس إدارة ولجان روتينية لأجل الحصول على الموافقات .. مجرد حركة من اليد والجزيرة لك”.
  • أما في تعريفه لـ (العمارة العضوية)، فيتطرق إلى الحديث عن “الشكل والوظيفة”، حيث يعتقد رايت بأن كل شكل في الطبيعة له وظيفته المحددة، عليه، لا بد للأشكال المبنية أن تعكس وظيفتها في البيئة بل وتكون جزءاً منها، “ولأجل هذا تصبح عضوية”. أما (العضوية الطبيعية) لديه، فأشبه بمنظور فلسفي! فهي تظهر في المواقع الجيولوجية كسفوح الجبال والأودية والشلالات والصحاري والغابات. ومن خلال اتصال الإنسان المباشر بها، يحظى بنوع من الانسجام الروحي. “لذلك وضع رايت مبانيه دائماً في مشهد طبيعي مثير ومتكامل مع البناء لتأكيد علاقة متناغمة بين المبنى والمحيط والإنسان”.
  • يتحدث رايت في موضوع (الشروع بالتصاميم) عن خططه، لكن بحميمية، حيث “أقوم بتصميم مركز ثقافي للمكان حيث استنبطت الحضارة .. هو العراق”. فقبل مجيء المغول، كانت هناك المدينة الدائرية الجميلة التي بناها هارون الرشيد، وقد دمروها تدميراً كاملاً، غير أن النفط الذي تفجّر بها قد درّ عليها من المال ما أمكن به استرجاعها اليوم. ومن أجل ذلك، لا بد من الحذار من نوايا المعماريين الغربيين الذين يرومون إلى بناء ناطحات السحاب أينما حلّوا، “لذلك يجب علي أن أحذرهم أنه من الغباء الذهاب بهذا المسعى الذي يفضي الى السير في ركاب الغرب”.
  • وعلى الرغم من أن رايت قد اتخذ قراراً يوجه فيه جميع الشوارع الرئيسية في الموقع نحو القبلة، وذلك من منطلق أخلاقي يحترم فيه دين الإسلام والمسلمين، فإن المدن كانت تُصمم عادة وفق “المؤثرات الموضوعية للاتجاهات وليس الجوانب التي قد تحسب ذات شكلية دينية فحسب”. وعلى الرغم أن هذا الخلاف هو موضع نقاش بين المعماريين، إلا أن اعتبارات الأعراف والتقاليد تؤخذ عادة في الحسبان، بما أن المضيف العراقي ي غالباً ما يتجه نحو القبلة.
  • أما مبنى المسرح الذي أسس رايت تصميمه فوق تلة تصل من خلال طريق متصاعد إلى دار الأوبرا، فقد كان (القوس) الذي أحاط بخشبة المسرح أبرز ما ميزّه، بل وأكبر أثر معماري خلّفه رايت على شهادة وندل كول، وهو أحد نقّاد العمارة. وفي وصف ساحر: “يرمي رايت من هذا القوس الذي يسميه (قوس قزح) تصوير أحد مشاهد قصص ألف ليلة وليلة، وبذلك ربط المبنى بالثقافة المحلية. يعلو المبنى تمثال لعلاء الدين وهو يحمل مصباحه السحري وضوئه المنير الذي يرمز الى الخيال الإنساني، ويحمل علاء الدين أيضاً سيفاً أشار إليه رايت على أنه رمز لسيف النبي محمد عليه السلام، وبهذا يؤكد رايت احترامه وتقديره للإسلام معززاً ذلك بالشوارع الرئيسية المتجهة نحو القبلة”. لا يغفل عن التأكيد على الهوية مجدداً، إذ “اقترح رايت أن تنفذ هذه الأعمال الفنية من قبل الفنانين العراقيين نظراً للقدرات العالية التي وجدها لدى الفنانين والحرفين الذين كان يرغب أن يدعمهم بهكذا أعمال كبيره لتطويرهم فنياً واقتصادياً، وإبعاد العمل ككل عن التأثيرات الأوروبية. لاشك أن تلاحم عمل المعماريين مع الفنانين ظاهرة مهمة كان من الممكن أن تعمل لتطوير الفن والعمارة، وخطوة رائدة في بناء الصروح في العراق”. وللمبنى كذلك فائدة أخرى، حيث “يحتوي سرداب المبنى على قبة سماوية وعرض للنجوم دعماً للثقافة العامة، وتوسيع أفق وإدراك العراقيين في مجال الفضاء والنجوم”.
  • وماذا عن الآن؟ وهل من مدّكر؟ يُختم الكتاب بموضوع (رايت وبغداد الآن) وبقول شجي لا يخلو من حماس، في العمل على بناء مدينة بغداد من جديد .. واسترجاع (جنة عدن) التي لا بد وتظهر جامحة كحاجة ملّحة لدى الشعب العراقي حاجته للنهوض والتقدم والرقي، لا سيما بعد مرور أكثر من قرن مثقل بأزمات وحصار وحرب وإرهاب وهرج ومرج، وليل تحتم عليه أن ينقضي. إذاً “علينا أن نتذكر ذلك، وننهض بوطننا للوصول به إلى الوطن السعيد .. إلى الجنة المرجوة على الأرض التي يستحقها هذا الشعب المناضل العريق”.

وأختم في قول للمعماري لا يخلو من تصوف وجمال ومحبة للوجود .. في نصه الأصلي باللغة الإنجليزية وترجمته:

كلما تعيش أكثر تصبح الحياة أكثر جمالاً، أما إذا كنت تتجاهل بحماقة الجمال فسوف تجد نفسك بدون حياة وحياة فقيرة، ولكن إذا كنت تستمر في الجمال فسوف تبقى الحياة معك كل الأيام

The longer I live the more beautiful life becomes. If you foolishly ignore beauty, you will soon find yourself without it. Your life will be impoverished. But if you invest in beauty, it will remain with you all the days of your life

بالإضافة إلى هذا، يزخر الكتاب بمجموعة من الصور لمباني ومخطوطات ومناظر عامة، وكذلك نصوص من المداخلات التي أجراها المعماري الأمريكي منقولة بلغتها الأصلية مع الترجمة.

رغم أن الكتاب يظهر اختصاصي في أغلب أجزائه، إلا أنه يضيف قدر من الفائدة للقارئ العادي في فن العمارة.

 

= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =

من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (37) في قائمة ضمت (57) كتاب قرأتهم عام 2021 تتضمن أربعة كتب لم أتم قراءتها وثلاثة كتب أعدت قراءتها، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان أكثر بكثير، لكن لم تسمح ظروف الحياة لمجابهته! وهو عاشر كتاب اقرؤه في شهر نوفمبر من بين ثلاثة عشرة كتاب .. وقد حصلت عليه من متجر جملون الإلكتروني للكتب العربية في فبراير من نفس العام، ضمن (20) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة.

على الهامش: لقد قمت بنشر المراجعة عن هذا الكتاب تحديداً في هذا الوقت، رغم وجود قائمة طويلة لكتب قرأتها مسبقاً والتي أنا بصدد تنقيح مسودات المراجعة الخاصة بها ونشرها .. لكن جاء هذا النشر المسبق بناء على طلب بعض المتابعين من أرض العراق .. فأرجو أن أكون قد وُفقت.

ومن فعاليات الشهر: لا شيء مميز فيه، غير أن حماس القراءة قد أخذ بي مأخذاً تلاه الشهر اللاحق، لما فرّطت من قراءة ما أعددت له من كتب كان ينبغي عليّ قراءتها في الأشهر الماضية .. أو هكذا أظن!.

تسلسل الكتاب على المدونة: 81

 

تاريخ النشر: نوفمبر 27, 2021

عدد القراءات:1019 قراءة

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *