كتاب في أدب السجون، يعرض التجربة الشخصية التي خاضها الصحفي في قناة الجزيرة (سامي محي الدين محمد الحاج) في معتقل غوانتنامو المصنّف ضمن الأسوأ عالمياً، والذي تم زجّه في غياهبه لمدة ست سنوات عجاف عن شبهة أحاطت به أثناء تغطيته للقصف الأمريكي على أفغانستان أواخر عام 2001. وقد بثت قناة الجزيرة الإخبارية في 31 مايو 2008 تقريراً إخبارياً يحمل عنوان (وصول سامي الحاج إلى الدوحة)، كما أن (مدونات الجزيرة) تنشر قصته كاملة على مدى حلقات.
تلك التجربة التي امتنّ فيها الصحفي النزيل رقم 345 لمعتقليه بالشكر الجزيل قبيل الإفراج عنه .. مستفزّاً إياهم، إذ أتاحوا له من حيث لم يحتسبوا فرصة ذهبية للنزول في (تغطية مباشرة) إلى (قلب الحدث)، والتي استخدمها فيما بعد بذكاء كمادة حية في فضح الجرائم اللاإنسانية المرتكبة في زنازين مقفرة وعلى أيدي سجانين وحشيين، وهي في الحقيقة الفرصة التي يتوق لها الكثير من الصحفيين والإعلاميين والحقوقيين الأحرار بغية فضح زيف أمة إرهابية استكبرت في الأرض .. تحمل في ازدواجية سافرة راية محاربة الإرهاب .. ظلماً وعلوا.
وكمحاولة ندية لبث الشجن أو للتخفيف من وطأته، يرافق ليل الكاتب أثناء سرد قصته (الطائر المغرد) .. بين رفرفة ذعر وزقزقة أنيس .. إلا أنه لن يضاهي بلسم الزوجة الرؤوم (أم محمد).
غوانتنامو! وما أدراك ما غوانتنامو؟ إنه عالم مفقود خارج المكان والزمان، حظي جلادوه بصكوك غفران من وزير دفاع الشيطان دونالد رامسفيلد، إذ يُنسب له تصريحاً قال فيه: “جاءت المشورة القانونية بأننا يمكننا فعل ما نشاء بهم هناك، فهم سيكونون خارج الصلاحيات القضائية لأي محكمة”.
يعرض الصحفي نزيل غوانتنامو قصته في ثمان وعشرين فصلاً، ينضح كل واحد منها بما يكفي من قيح، على الرغم من النفحات الإيمانية التي تشوبها بقدر كبير. وفي الأسطر القادمة، أزيح عمّا جثم فوق صدري من هول الأحداث، وباقتباس في نص مظلم (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، وقد حظي الكتاب بثلاث نجمات من رصيد أنجمي الخماسي:
ملاحظة: عادة، يعتمد أسلوبي في التدوين على التعبير بـقلمي عن محتوى الكتاب ككل بعد قراءته، مع القليل من الاقتباسات بما يخدم عرض محتواه بشكل جيد. رغم هذا، أستثني الكتب التي تجمع بين موضوعية الرأي وبديع الأسلوب في قالب واحد، بحيث يصبح نقل النص كما ورد هو الخيار الأمثل، بدلاً من التعبير عنه وفق أسلوب آخر. لذا، تدفعني بعض الكتب لاقتباسات أكثر مما اعتدت عليه، وهذا قلّما يحدث في مراجعاتي! جاء هذا الكتاب ضمن هذا الاستثناء، لذا وجب التنويه.
- يختلف اختلافاً كبيراً الوصف الذي يرسمه من كانت يده في النار عن ذلك الذي يده في الماء! كذلك النزيل، حينما استعظم الجَلَد الذي كان يتلبّسه بعد نجاته من نار المعتقل. فيوجّه أسئلته الصادمة قائلاً: “… هل ذقتم العُري مع ضغط القيد وخشونة الأرض الصلبة؟ هل جرَّبتم الحرمان من النوم ليالي متصلة تحوِّل الساعات كابوساً متصلاً تتحرك فيه النفس والمرئيات مثل أشباح تتوالد أشباحاً لدرجة أن يصبح الجنون أمنية ونافذة للخلاص؟ عُواء الكلاب الشرسة .. هجومها .. استغاثات المعذبين جسدياً ونفسياً .. يا إلهي، كيف استطعتُ تَحَمُّل ذلك العذاب؟”.
- هنا، يُجرّد السجين من كل شيء حتى لا يتبقى له ملمحاً إنسانياً واحداً! فيصف الصحفي النزيل أحد المواقف القاسية قائلاً: “… سحبوني خارج القفص ومشيت أمتاراً حتى وصلت إلى بوابة العنبر، خرجت من البوابة فإذا بحفرة أمام الباب مباشرة وقد وضع على جانبيها بابان قديمان من الحديد وبينهما فتحة صغيرة، ثم قالوا لي: اقض حاجتك هنا. فطلبت فك القيد من يدي ففكوه، وانتظرت انصرافهم فلم يذهبوا وقالوا لي: افعل. فقلت: تأخروا قليلاً أو اذهبوا. قالوا: لا، نحن لا نذهب، سنبقى هنا معك وإذا لم تفعل في دقيقتين فسنعيدك مرة أخرى، أمامك ثلاث فرص في اليوم فقط، وهذه هي الثانية. بقيت لك فرصة واحدة ستكون في المساء آخر اليوم ولن يسمح لك بأخرى. كانوا يسمحون بقضاء الحاجة في الصباح الباكر وفي منتصف اليوم وفي أول الليل. وقفت أتأمل حولي فنهروني، وقالوا انظر أمامك فقط ولا وقت للتأخير. سمعت ضحكة نسائية، ورفعت رأسي فرأيت إحدى الجنديات وهي تحمل رشاشاً توجهه نحوي، وتشير لي بأصبعها أن أسرع وهي تضحك مع الجنود هازئة ساخرة. قضيت حاجتي على عجل وقمت ولم يعطوني شيئا أنظف نفسي به، لا ماء ولا ورق ولا أي شيء”.
- ولدى أولئك المخلوقات اللابشرية، تقليعات في فن التعذيب النفسي يُمليها عليهم كبيرهم إبليس، وكأنها جديرة ببراءة اختراع. يصف الصحفي المعتقل إحداها قائلاً: ” … كانوا يركزون في هذا التدريب على الخيمة التي يوجد فيها مرضى أو جرحى! كان من ضمن سلسلة الحروب النفسية ضد السجناء العزّل في قندهار رفع الصليب عالياً فوق الأبراج واستفزاز السجناء بجنديات مائعات يتلفظن بألفاظ فاحشة ويتندرن بكلام بذئ إمعاناً في الإهانة والتعذيب النفسي”.
- يتضاعف الشعور بالحنق أمام صنوف أخرى من التنكيل والتعذيب والاضطهاد يمارسها بمهنية واقتدار من ارتدوا معاطف ناصعة البياض وأقسموا من ذي قبل على شرف مهنتهم ونالوا بشرفها الاحترام! فعنهم يقول الصحفي المعتقل الحرّ: “حقاً هناك جنود قاموا بالتعذيب وضباط شاركوا وأمروا به، وذهب الكثيرون إلى المبالغة في اتهام الجنود والضباط وتحميلهم المسؤولية عن تعذيب المعتقلين في غوانتانامو، وهم صادقون. لكن العقل المدبِّر والمخترع الرئيس لوسائل التعذيب البدني والنفسي المتنوعة في الحقيقة هم هؤلاء الأطباء الذين أبدعوا في القسوة والألم وإيذاء بني البشر. وقد صرَّحوا لنا ذات يوم قائلين: (سنعذبكم دون موت .. ولن نسمح لكم بالموت عندنا، ولكن ستعيشون بين الموت والحياة). كان هذا هو شعارهم اللعين. بل إن صحفياً أميركياً في مقاله المنصف (التجنب والهروب والمقاومة) قال بالحرف الواحد: (وحسب معايشتي لهؤلاء الأطباء فقد كانوا مشرفين حقيقيين على كل مراحل التعذيب مبيِّنين كل مناطق الألم ومراكز الإحساس، وقد تجاوزوا مجرد الاستشارة في أكثر من حالة). ورغم حرصهم على أن يظلوا خلف الستار، فهم مسؤولون عن أنواع من التعذيب والإيذاء، بل ونقل الإفساد مع الترصد والإصرار”.
بعيداً عن تلك القسوة ومن ناحية أدبية، يستخدم الكاتب لغة سلسة تبتعد عن الألفاظ الغريبة أو التعبيرات المتكلفة، في أسلوب مسترسل يساعد على إتمام القراءة خلال زمن وجيز، يتلبّس القارئ في الأثناء حالة وجدانية يختلط فيها فضول يحفّز على المتابعة، وتوجس يكبح ذلك الفضول.
ومع كل صدعات القلب التي حفرتها صرخات حية لضحايا أبرياء في سجن تدمر وأبو غريب وغوانتنامو، تُردد صدى صرخات لفظت أنفاسها بين جوانب ظلماتها .. أرتل وأنا أختم: “أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ”.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (56) في قائمة ضمت (85) كتاب قرأتهم عام 2019 تتضمن أربعة كتب لم أتم قراءتها، رغم أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان (80) كتاب فقط .. وهو ثاني كتاب اقرأه في شهر سبتمبر من بين ستة كتب. وقد حصلت عليه من متجر جملون للكتب العربية ضمن (50) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة.
ومن فعاليات الشهر: قضيت الأيام الأولى منه في زيارة قصيرة إلى مدينة لشبونة (عاصمة البرتغال)، احتجت إليها لغرض الاسترخاء والقراءة في هدوء، وفعلت .. حيث الشاطئ والشمس وحيوية الحي والساكنين، فضلاً عن ملاقاة بعض الأصدقاء المحليين .. غير أن أزمة الصداع النصفي باغتتني فاضطررت للعودة إلى الديار أسرع مما خططت وتمنيت. وقد كانت تلك الرحلة هي الأخيرة التي قمت بها قبل جائحة كورونا العالمية التي فرضت الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي وحظر السفر وموانع مشددة أخرى .. علّ الحياة تعود من جديد، وأعود!.
تسلسل الكتاب على المدونة: 169
التعليقات