حديث علمي مبسط يتناوله عالم علماني يؤمن بالعلم وحده لا شريك له .. ويرفض الدين رفضاً قاطعاً ولا ينكره!
بينما يعرّف المترجم ابتداءً (تاريخ الأفكار) بمجموعة الشروحات التي تسبق بالضرورة أي طرح علمي، أو كما عرّفه اختصاراً بـ “التطور التاريخي للمعرفة العلمية”، فهو يقدّم مؤلف الكتاب من خلال محاضراته ودراساته ومقالاته العلمية كمتتبع لهذا التاريخ التطوري .. التاريخ الذي يفسّر الصيغة النهائية للفهم الإنساني حول أي مسألة في العلم الحديث. بيد أن هذا التتبع العلمي يمكّن من تحقيق نتائج مهمة تتعلق بموقع الإنسان في فورة الانفجار التكنولوجي، الذي رغم أنه حقيقة ماثلة لا يدركه الكثير من البشر.
لا يتوقف المؤلف عند هذا الحد، بل إنه يتعرّض إلى الصراع القائم بين العلم والدين! وعلى عكس توجّه “العلماء المنتمين إلى لا دينية ما بعد الحداثة”، فهو لا يجد في الدين من ضرر يتهدد العلم، بل إنه -وهو عالم ملحد- يعتقد في الجوانب الإيجابية للدين المحفّزة بالضرورة على تحقيق حياة كريمة للإنسان .. وهو لا يزال يفصل بين تعاليم الدين والحقائق العلمية، يرى أن عملية (منع مروجي القضايا الدينية كحقائق علمية) هي المسألة الأكثر خطورة في هذا الصراع! لذا، تكمن الإشكالية لديه في كيفية التعاطي مع هذا الصراع بأفضل الطرق الممكنة، حيث أن “الخرافة والدوغمائية وتلويث الأدلة هي العدو الأول للعقلانية” في رأيه، كما أن نسبة معقولة من العقول العلمية في وطنه وأكثرها إنجازاً، لا تزال تتمسك “بتعريف ذواتهم على أنهم متدينون” كما يستشهد في محاضراته. لذا، يُصبح من الحكمة فهم وتفهّم “تمسّك عامة الناس بلا عقلانية الدين”، رغم واقعية الحياة التكنولوجية التي تمثّل أدق تفاصيل حياتهم اليومية.
وعنه، فهو (نيل ديغراس تايسون 1958). وُلد في مدينة نيويورك الأمريكية، وتلقّى فيها تعليمه المدرسي والجامعي الذي ترقّى فيه حتى نال درجة الدكتوراة في الفيزياء الكونية والفلكية، ثم تقلّد مناصب أكاديمية واستشارية عدة في الجامعات والمعاهد والمجالس الأمريكية، مثل: جامعة هارفارد، وجامعة كولومبيا، ووزارة الدفاع، والمتحف الوطني للعلوم الطبيعية، ووكالة ناسا الفضائية. . وإضافة إلى شهرته في تقديم سلسلة من البرامج الوثائقية، فقد عكف على نشر عدد كبير من الأبحاث العلمية في مجال الفلك، بالتعاون مع علماء آخرين في أمريكا وبريطانيا، ونال عنها العديد من الجوائز العالمية.
أما الكتاب الذي جاء في ترجمة متقنة من نصه الأصلي (About this vast universe – By: Neil deGrasse Tyson)، فيبدأ بمقدمة المترجم والتعريف بالمؤلف، وينتهي بحوار علمي في معهد (سالك) الأمريكي للدراسات البيولوجية، بينما يقع بينهم مواضيع شائقة علمياً ينال بها الكتاب من رصيد أنجمي الخماسي أربعاً. هي كما يلي:
- ما هو العلم؟ وكيف ولماذا يعمل؟
- في الطريق إلى حواسّنا
- محيط الجهل
- الحياة خارج الأرض
- مسارات الاستكشاف
- لماذا يتوجب على الولايات المتحدة أن تستكشف الفضاء؟
- إمكانية العثور على مجرّة قزم
- قليلاً جداً عن مآزق الكون
- نظرية الأكوان المتعددة
- نظرية المؤامرة والشك
- حياة أخرى في مجرّتنا
- بداية غامضة … ليست كلّها غامضة
ومن هذه المواضيع التي جاء بعضها في قالب علمي صرف يستعصي إدراكه على القارئ غير المختص، أدوّن ما علق في ذهني بعد القراءة، وباقتباس في نص فسيح (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
- تبدو القوانين الفيزيائية من الدقة والتناغم والانضباط ما يجعلها تتخذ صفة (الكونية)، بحيث لو قدّر للإنسان الهبوط على كوكب آخر ينعم بحضارة ما، لوجد تلك الحضارة قد سلكت نفس القوانين الفيزيائية التي قامت عليها الحضارة الإنسانية فوق كوكب الأرض، وإن اختلفت أنظمة الإدارة بين الكوكبين اجتماعياً وسياسياً! يقول المؤلف وهو يتحدث في موضوع (في الطريق إلى حواسّنا): “ولو كان هناك بالفعل غرباء ومخلوقات فضائية في هذا الكون، فبإمكاننا أن نراهن أنها لا تتكلم الانكليزية أو الفرنسية أو حتى الصينية، ولن نعرف فيما اذا كانت المصافحة معهم تعني إشارة حرب أم إشارة سلام! نحن لن نعرف بالأصل هل إن لديهم أيادي كي نصافحها أم لا! لكن الأكيد في هذا إننا لو أردنا أن نتواصل معهم فعلينا أن نتكلم معهم لغة العلم، لأنه بالضرورة سيكون متشابهاً ومنطلقاً من ذات المنطلقات والقوانين الفيزيائية الثابتة في هذا الكون، وتعمل في كل مكان”.
- أما عن (الحياة خارج الأرض) وبعيداً عن سرديات الخيال العلمية السينمائية التي تصوّر القادمين من الفضاء الخارجي إلى كوكب الأرض كدخلاء وغزاة ومحتلين، فإن المؤلف يفترض جدلاً -من غير أن يُبخس الثدييات الأخرى قدرها من الذكاء- أن الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي تمكّن من تطوير مستويات ذكاء متقدمة، على أساس أن كوكب الأرض يوفّر معايير علمية تمكّنه من التعرف على نوعية الحياة المتوفرة على كواكب أخرى، ما يفترض بالضرورة “أن الذكاء الحيوي يجب أن يكون نادراً جداً”. يستكمل المؤلف فرضياته فيقول: “تشير بعض التقديرات الى أن عدد الأنواع الحية التي ظهرت على وجه الأرض منذ ظهور الحياة عليها، يقترب من 10 مليارات نوع حي متميز وقائم بذاته. هذا يعني إنه لو كانت هناك حياة على كوكب آخر خارج الأرض، فإن علينا ألا نتوقع أكثر من هذه النسبة (1) فقط من 10 مليارات لاحتمالية ظهور ذكاء حيوي يوازي الذكاء الإنساني! فما بالك بتوقع أن يكون هذا الذكاء أعلى منّا مرتبة، وقد سبقنا في التطوّر؟”.
- يلقي المؤلف محاضرة علمية تتناول (نظرية المؤامرة والشك)، فيستهل حديثه عن الأطباق الطائرة وادعاءات البعض معاينتها أو التعرض للخطف من قبل قائديها، ما يقوده للتطرّق إلى نظرية المؤامرة. ثم ينتقل للحديث عن تأثير القمر على كوكب الأرض وساكنيه لا سيما وقت اكتماله الذي ارتبط جزافاً بمعدلات الولادة، وحالات الهياج المصاحبة لحركتي المد والجزر الموازية للسوائل في جسد الإنسان، وحالات الإصابة بالسرطان، والتشكيك في حقيقة هبوط الإنسان الأمريكي الأول على سطحه، واحتمالية وجود حياة موازية على كوكب المريخ …. وغيرها من أمور تمزج بين العلم والتجديف! يدفع هذا الحديث المؤلف للتطرّق إلى مسألة حجر الدين على العلم، الذي قد يتصدّى لبعض المجهودات العلمية بحجة تعارضها مع إرادة الله، كما كان الحال مع بنجامين فرانكلين واختراعه أداة (امتصاص الصواعق) .. وذلك على الرغم من تصدّي المجتمع العلمي والبشري ككل لمثل هذا التعنت الديني! وفي هذا يقول: “إذن، الأمر يبدو وكأن هناك من يتقبل وجود العلم في الحياة اليومية، بينما يضخ المجتمع الجهود من أجل نيل التطور العلمي والأبحاث في مجالات لا يفهمها معظم الناس، لكنهم يؤمنون بضرورة العلم. في بغداد قبل 1000 سنة، كان هناك التقاء في الطرق الحضارية التي جعلت كل الأعراق والأثنيات تتواجد فيها، مسيحيون ومسلمون ويهود، ولا أعرف إن كان هناك ملحدون، ربما كان اسمهم (المشككين) .. الجميع كان يتقاسم الأفكار. وهو ما نتج عنه تقدم عظيم في وقتها، في الهندسة وعلم الفلك والرياضيات. وهذه الكلمات (الجبر، واللوغارتم، الأرقام) كلها ذات أصول عربية. كل ذلك حدث الى غاية القرن الثاني عشر، وتقرأ باقي القصة التي تقول إن المغول غزوا بغداد وبالتالي أحرقوا المكتبات، وأغرقوا الكتب في النهر. وكتب التاريخ فيها الكثير كي تحتويه من التفاصيل، لكن ما يغيب عنا هو أثر هذا الرجل (الإمام الغزالي). كان دوره في الإسلام يشابه دور القديس أوغسطين في المسيحية، وهو من بين الذين جمعوا التعاليم الاسلامية وفصّلها وخصص منها الأهم فالمهم من أجل وصف (المسلم الصالح). ربما يكون أوغسطين تحدث أكثر عن إحراق السحرة، وهو صاحب نظرية تقول إن التلاعب بالأرقام هو جزء من عمل الشيطان”.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (37) ضمن قائمة لا تنتهي من الكتب التي خصصتها لعام 2024، والذي أرجو أن يكون استثنائياً بحق في جودة الكتب التي سأحظى بقراءتها خلاله، وهو في الترتيب (7) ضمن قراءات شهر ابريل الذي قرأت فيه (13) كتاب. وعن اقتنائه، فقد حصلت عليه من معرض للكتاب بإحدى المدن العربية العام الماضي ضمن (400) كتاب، كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض.
وعلى رف (العلم) في مكتبتي، عدد يتجاوز (70) من الإصدارات، منها قديم ومنها حديث .. أذكر منها: (ألغاز تاريخية محيرة) – تأليف: بول أرون / (شرخ في التكوين) – تأليف: د. جنفر داودنا / (حتى نهاية الزمن) – تأليف: برايان جرين / (نظام الزمن) – تأليف: كارلو روفيللي / (قصة الأصل) – تأليف: ديفيد كريستيان / (نرد أينشتين وقطة شرودنجر) – تأليف: د. بول هالبرن / (الكون: عوالم محتملة) – تأليف: آن درويان / (طبيعة العالم الفيزيائي: النظرية النسبية ونظرية الكم وأسئلة اﻹنسان الكبرى) – تأليف: سير آرثر ستانلي إدنجتون / (ماذا لو؟ إجابات علمية جدية عن أسئلة افتراضية غير معقولة) – تأليف: راندال مونرو / (عالم الرياضات العجيب) – تأليف: جين أكياما / (الجين: تاريخ حميم) – تأليف: سيدهارتا موكرجي / (الإشعاع النووي: قصة تشرنوبل ومستقبل البشرية) – تأليف: سعود رعد / (الكوارث: الموت الآتي من الأرض والفضاء) – تأليف: أديب أبي ضاهر / (خمس وسبعون ظاهرة حيرت العلماء) – تأليف: رياض العبدالله/ (غرائب من العالم) – تأليف: وليد ناصيف / (الحياة المريبة للجثث البشرية) – تأليف: ماري روتش / (كون عقلك: التفكير بفعالية من خلال حل لغز البزل الإبداعي) – تأليف: إدورد برغر / (أغرب من الخيال: سر الأطباق الطائرة) – تأليف: راجي عنايت / (سحر الواقع: كيف تعرف حقيقة الواقع؟) – تأليف: ريتشارد دوكنز / (الثقوب السوداء والأكوان الناشئة) – تأليف: ستيفن هوكينج
من فعاليات الشهر: يقابله في العام الهجري 1445 ما تبقى من شهر رمضان المبارك وعيد الفطر في العاشر منه .. وفي هذا الشهر عادة انقطع عن القراءة، غير أنني تمكّنت في هذا العام من استقطاع وقتاً يسيراً للقراءة، وكان مثمراً.
تسلسل الكتاب على المدونة: 487
التعليقات