هنا ديوان يموج فيه الشاعر بين كلمات .. بعضها عذب، كتلك التي خاطبت المحبوب قبل رحيل العام عن قطرة ماء وفجر غريب وغنوة تعزف لكل موسم، وبعضها قاسٍ، كالتي نعت شهيدة الجنوب اللبناني (سناء محيدلي) عندما قدّمت روحها ضريبة عشق لوطن رسم أجمل وشم لكفن!
دبّج كل تلك الكلمات المغزولة بخيوط ملتّفة من صوف وحرير، الشاعر المصري (فاروق جويدة 1946) .. والذي يُعد أحد روّاد الحركة الشعرية الحديثة في العالم العربي، وقد أضاف لواحة الشعر العربي ثلاثة عشر مجموعة شعرية وثلاثة مسرحيات شعرية حققت نجاحاً باهراً حين تقديمها في عدد من المهرجانات، وهي (الوزير العاشق / دماء على ستار الكعبة / الخديوي)، إضافة إلى عشرين كتاباً أدبياً .. وقد تُرجم بعض تلك الإصدارات إلى لغات عالمية كالإنجليزية والفرنسية والصينية واليوغوسلافية. وعن علم الشاعر وعمله كما تنقل شبكة المعلومات، فقد تخرّج في كلية الآداب قسم الصحافة، وعمل في جريدة الأهرام المصرية التي تنقّل بين المناصب فيها، ابتداءً من عمله كمحرر في القسم الاقتصادي، إلى سكرتير، وأخيراً كرئيس للقسم الثقافي.
يجمع الديوان عدد من القصائد تظهر في العناوين التالية .. يسبقها إهداء في أبيات شعرية قصيرة عن العشق كموت وعن الموت كعشق، يكتبها الشاعر بخط يده فيقول: “يملؤنا العشق فنغرق فيه ولا ندري .. هل نحمل عشقاً أم موتاً .. فبعض العشق يكون الموت .. وبعض الموت يكون العشق”.
- قبل أن يرحل عام
- بعض العشق يكون الموت
- بائع الأحلام
- الحرف يقتلني
- تأملات باريسية
- لقيط الأحبة
- صناديق القمامة
- لن تموتوا مرتين
- الجلاد
- لن أبيع العمر
- الرقاب
- ملعون يا سيف أخي
- ماذا أخذت من السفر
- وتعود الشمس
- لان الشوق معصيتي
ومن تلك القصائد التي أصاب بها الديوان نجمتان من رصيد أنجمي الخماسي، أقتبس قصيدة (ملعون يا سيف أخي) وهي تتناول حادثة حصار المليشيات التابعة للنظام السوري مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، خلال فترة الثمانينيات من القرن الماضي، حتى طالب المحاصرون علماء المسلمين باستصدار فتوى تبيح لهم أكل جثث الموتى حتى لا يموتوا هم من الجوع، بعد أن فرغوا من أكل لحوم القطط والكلاب .. (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
لم آكل شيئاً
منذ بداية هذا العالم
والجوع القاتل يأكلني
يتسلل سماً في الأحشاء
يشطرني في كل الأرجاء
أرقب أشلائي في صمت
فأرى الأشلاء بلا أشلاء
من منكم يمنحني فتوى باسم الإسلام
أن آكل إبني
إبني قد مات
قتلوه أمامي
قد سقط صريعاً بين مخالب جوعاً لا يرحم
بعد دقائق سوف أموت
ودماء صغيري شلال
يتدفق فوق الطرقات
اعطوني الفرصة كي انجو
من شبح الموت
لا شيء أمامي آكله .. لا شيء سواه
* * *
لا تنزعجوا
لست بمجنون أو قاتل
فأنا صليت الفجر ورب الكعبة عشر سنين
لم أترك فرضاً
وكثيرا ما أقرأ وحدي
ورد الصوفية كل صباح
وكثيراً ما يسبح قلبي بين القرآن
وأنا والله أصوم ويسحرني
قبس من نور في رمضان
وأهيم وحيداً حين يطل على قلبي نور الرحمن
وأنا والله .. أخاف الله
وأخشى يوماً تنكرني فيه قدماي
أو يسأم جفني من عيني
وتثور على صمتي شفتاي
أو يهرب وجهي من وجهي
وتموت على جفني عيناي
قد جئت الآن لأسألكم
افتوني باسم الإسلام
أن آكل إبني
إني أبوه وأعرف أمه
أشهد والله بأن امرأتي
ما كانت يوما زانية
كي تزني فيه
ولدي من صلبي أعرفه
من لون الشعر .. إلي قدميه
وجهاً هو يحمل لوني
منذ رأيت حقول القمح
تضيء الفجر على عينيه
هو يحمل لون الشعر
وإن كانت أطياف الضوء
تطارد شبح الليل على رأسي
هو يحمل أوصاف شبابي
لكني أشهد أن وليدي
كان عنيد الحلم فلم يحمل
في يوم شيئاً من يأسي
وهناك على الصدر علامة
وطن مُغتـصب .. وكرامه
* * *
لم أنجب غيره
قد عشت أخاف سحابة حزن
سوف تغلف أيامي
قد عشت أسير بأرض الله
وأجهل خطوة أقدامي
فلماذا أنجب والدنيا
وطن مصلوب الجدران
إني إنسان
أحمل أوصاف الإنسان
أتكلم .. أحلم
أمشي .. أو أبكي
أو أكتب شعراً
حين يطل على عيني وجه الأحزان
لكني لا أملك وطنا
لا بيت لدي .. ولا عنوان
تلفظني كل الأبواب
تصفعني كل الأعتاب
فأنا مكروه مرفوض في كل كتاب
كل الأبواب أمام العين
يحاصرها شبح الحراس
فأنا محسوب بين الناس
لكني شيء .. غير الناس
* * *
أحببت صغيري
حملته يداي وأسمعني
أحلى الضحكات
ولدي قد مات
أحمله الآن على صدري
أشلاء رفات
كم كنت أصلي في عينيه
ويغمرني ضوء الصلوات
كم كنت أحدق فيه
فألمح عمري بين يديه
كم كنت أصلي الفجر
ويشرق نور الخالق في عينيه
كم كنت أراه الوطن القادم
من أشلاء الوطن المهزوم
كم كنت أراه وأسمعه
يبكي في الليل
فأسمع فيه صهيل الخيل
وألمح فيه الفرس الجامح
يتهادى فوق الأسوار
أراه المارد يخرج
بين سواد الليل خيوط نهار
ويقول كلاماً أفهمه
لكني أبداً لا أحكيه
أعرفتم كيف نقول
كلاماً في الأعماق
ونخشى يوما أن نحكيه
* * *
ولدي من زمن يسكنني
وأنا من زمن أسكنه
قد عاش زماناً في صدري
والآن تكفنه عيني
فدعوني آكل من إبني
كي أنقذ عمري
* * *
ماذا آكل من إبني
من أين سأبدأ؟
لن أقرب أبداً من عينيه
عيناه الحد الفاصل
بين زمان يعرفني
وزمان آخر ينكرني
لن أقرب أبداً من شفتيه
شفتاه نبي مصلوب
برسالة نور تهديني
وبريق ضلال .. يجذبني
لن أقرب أبداً من قدميه
قدماه نهاية ترحالي
في وطن عشت أطارده
وزمان عاش يطاردني
* * *
ماذا آكل من إبني
يا زمن العار
تكتب أشعاراً في الفقراء
وفي البسطاء
وحق الثورة .. والثوار
تتشدق عن زمن الصاروخ
وعصر العلم
وسوق البورصة والدينار
تتباكى عن حق الإنسان
شذوذ الجنس .. ومرضى الإيدز
وحق الشورى والأحرار
تكفر بالله
تبيع الأرض تبيع العرض
وتسجد جهراً للدولار
لن آكل شيئاً من إبني يا زمن العار
سأظل أقاوم هذا العفن
لآخر نبض في عمري
سأموت الآن
لينبت مليون وليد
وسط الأكفان على قبري
وسأرسم في كل صباح
وطناً مذبوحاً في صدري
* * *
حاربت كثيراً أعدائي
لم أُهزم منهم
حاربني ظلي
حاربني سيفي يا للعار
تسلل في ظلمة ليل
كي يسكن جنبي
كيف الشريان تنكر يوماً خادعني
وغدا سكيناً في قلبي
فأخي في الله وباسم الدين
وباسم محمد
يقتلني في غرفة نومي
إبني قد مات بسيف أخي
وغدا سأموت بسيف أخي
ملعون يا سيف أخي في كل كتاب
في التوراة
وفي الإنجيل
وفي القرآن
ملعون يا سيف أخي
في كل زمان
ملعون يا عار أخي
خوفاً في صدر المحكومين
وبطشاً في أيدي الحكام
ملعون يا سيف أخي
ماذا أبقيت من الدنيا
وعيون صغيري بعض حطام
رحم موبوء جمعنا
خانتنا كل الأرحام
ما أنت أخي
قد جئت سفاحاً يا ملعون وابن حرام
ملعون يا وجه أخي
فدمي يتحلل في الأنقاض
وبين الموتى والأيتام
ملعون يا سيف أخي
سيف يتعبد للسفهاء
ويسحقنا تحت الأقدام
من منكم يمنحني فتوى باسم الإسلام
أن أقتل يوماً جلادي
وأحطم .. كل الأصنام
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الديوان (41) في قائمة احتوت (70) كتاب قرأتهم في عام 2022، وهو يحتل رقم (17) ضمن (23) كتاب قرأتهم في شهر نوفمبر .. وقد كان ضمن مكتبة العائلة العريقة التي استحوذتُ عليها كاملة بما تضم من إصدارات قديمة قد لا تتوفر حالياً في المكتبات، إضافة إلى دواوين: (كانت لنا أوطان / آخر ليالي الحلم / وللأشواق عودة) للشاعر! وللحق، فطالما شاهدت هذه الدواوين وهي تصطف فوق رف الشعر العربي في مكتبتي، ولم تُثر يوماً فضولي نحو قراءتها، وذلك عائد -حسب انطباعي- إلى اللون الغزلي الذي يرسم به الشاعر قصائده .. فلستُ أهوى الغزل ولم أستطلع يوماً أخبار الغرام، بل أنني عادة ما أهزأ بالعشق وأهله، وأغضب غضباً عارماً من الغزل الذي يتجاوز حدّه إلى حدّ الإباحية! غير أنني اتخذت قراري بقراءة هذه الدواوين في هذا الشهر تحديداً، وذلك لأنني خصصته لقراءة ما خفّ من الكتب، إضافة إلى إعادة قراءة بعض الكتب التي قرأتها سابقاً.
من فعاليات الشهر: لا شيء سوى مصارعة الوقت لقراءة المزيد من الكتب وتعويض ما فات خلال العام .. وقد أجّلت عمل الأمس إلى اليوم كثيراً والذي أصبح فائتاً كذلك!
تسلسل الديوان على المدونة: 372
التعليقات