رواية يتضاعف فيها الأسى.. أسى احتلال الأرض، واحتلال ابن الأرض!
كلمات حارقة بين أب وابنه اختزلت عمراً كاملاً من الفقد واللوعة والترقبّ في أمل لم الشمل العائلي الأصغر الذي يحتضنه بلا شرط الشمل الأكبر.. الوطن! ليس الوطن ذلك النسب المرتبط بالدم أو اللون أو العشيرة، إنما هو القضية والمبدأ الذي لا يحيد. في هذه الرواية عرض للتناقضات التي ما برحت تعتمل في النفس البشرية الأشد تناقضاً وغموضاً.. بين بنوة الدم وقضية شرف تمس الأرض الأم.
تتصدر رواية (عائد إلى حيفا) قائمة إبداع الأدب الفلسطيني رغم مرور ما يقرب نصف قرن على وفاة مؤلفها! إنه (غسان كنفاني 1936 : 1972)، أحد أشهر الروائيين العرب في القرن العشرين والذي تنقّل بين عكا ويافا وبيروت ودمشق والكويت، وقد عاش واقع الاحتلال الإسرائيلي كما ضمّنه في أعماله التي بلغت ثمانية عشر إصداراً، إضافة إلى المسرحيات والمقالات والدراسات التي كانت تصبّ في الحراك الثقافي والسياسي وكفاح الشعب الفلسطيني. تُرجمت أعماله إلى سبع عشرة لغة، وتحوّل بعض منها إلى أعمال مسرحية وسينمائية، وذلك بعد استشهاده في انفجار سيارته بعبوة ناسفة، دبّره له عملاء إسرائيليون.
وعن الكلمة التي تناولها الروائي المجاهد الأعزل كسلاح حتى أردته شهيداً، وقد استصغر مقاتلها أمام من اعتبرهم رجال حقيقيون يموتون شهداء، كان يقول: “كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح، وإنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه”. ومن الرواية المثقلة بالألم والتي استقطعت من رصيد أنجمي الخماسي ثلاثة، أسرد ما علق في ذاكرتي بعد قراءتها، وباقتباس في نص بأريج الزيتون (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
يعود سعيد برفقة زوجته صفية إلى حيفا بعد مرور عشرين عاماً على تهجير قوات الاحتلال للأهالي بوابل من رصاص البنادق والقنابل، وهما يترقبان لقاء ابنهما (خلدون) الذي لم يتمكنا من اللحاق به في بيتهما لالتقاطه من سريره آنذاك، وقد كان حينها رضيعاً لم يتجاوز الخمسة أشهر.. فيعودا، ليجداه وقد أصبح (دوف) ترعاه امرأة يهودية تبنّته وزوجها، وقد تنكّر لأرضه ولهما، وخدم جيش عدوه وعدوهما، عكس شقيقه خالد الذي أصبح فدائياً وأصرّ على أن يلتحق بالمقاومة، ضد مشيئة والديه.
يصل سعيد وصفية إلى بيتهما في حيفا، وقد عادا أدراجهما عقدين من الزمان روادهما في الأثناء خواطر عن كنه الوطن: أهو الأبوة؟ أم البنوة؟ أم صورة للقدس أو لشهيد العائلة على الجدار؟ أم مزلاج نحاسي؟ أم شجرة بلوط؟ فتستقبلهما مالكته العجوز بالترحاب، ويقلّب الثلاثة أنظارهم نحو الأشياء الموزّعة هنا وهناك في غرفة الاستقبال.. أنظار لا تشبه بعضها بعضاً! حينها، يهمس سعيد بداخله قائلاً: “يا للغرابة! ثلاثة أزواج من العيون تنظر إلى شيء واحد.. ثم كم تراه مختلفاً”.
أما الشاب طويل القامة، فقد أخذ يحاور والديه -حين اقتحم الغرفة ببدلته العسكرية ليفاجئ بهما- بحديث بدى وأنه قد أعدّه مسبقاً، لا سيما بعد أن سأله سعيد ما إذا كان يخدم في الجيش؟ ومن يحارب تحديداً؟ ولماذا؟ فإذا به يرد بجفاء: “أنا لم أعرف أن ميريام وإفرات ليسا والدي إلا قبل ثلاث أو أربع سنوات. منذ صغري وأنا يهودي، أذهب إلى الكنيس وإلى المدرسة اليهودية وآكل الكوشير وأدرس العبرية. وحين قالا لي إنني لست من صلبهما لم يتغير أي شيء، وكذلك حين قالا لي -بعد ذلك- إن والدي الأصليين هما عربيان لم يتغير أي شيء. لا، لم يتغير! ذلك شيء مؤكد.. إن الإنسان هو في نهاية الأمر قضية”.
وبينما يواجه والده ممتعضاً عن تركه رضيعاً دونما أي محاولة للعودة، سائلاً إياه: “لقد مضت عشرون سنة يا سيدي! عشرون سنة ماذا فعلت خلالها كي تسترد ابنك؟ لو كنت مكانك لحملت السلاح من أجل هذا.. أيوجد سبب أكثر قوة؟ عاجزون عاجزون مقيدون بتلك السلاسل الثقيلة من التخلف والشلل! لا تقل لي إنكم أمضيتم عشرين سنة تبكون! الدموع لا تسترد المفقودين ولا الضائعين ولا تجترح المعجزات! كل دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقاً صغيراً يتسع لأبوين يبحثان عن طفلهما المفقود.. ولقد أمضيت عشرين سنة تبكي.. أهذا ما تقوله لي الآن؟ أهذا هو سلاحك التافه الآن؟”. لا يخفي سعيد ألم الطعنة التي وجهها له فلذة كبده في التو، وهو يبرر له أن الخطأ إذا اُلحق بخطأ لا يجعل منه صواباً! ثم يفحمه بحجته قائلاً: “ولكن متى تكفون عن اعتبار ضعف الآخرين وأخطائهم مجيرة لحساب ميزاتكم؟ لقد اهترأت هذه الأقوال العتيقة، هذه المعادلات الحسابية المترعة بالأخاديع.. مرة تقولون إن أخطاءنا تبرر أخطاءكم، ومرة تقولون إن الظلم لا يصحح بظلم آخر.. تستخدمون المنطق الأول لتبرير وجودكم هنا، وتستخدمون المنطق الثاني لتتجنبوا العقاب الذي تستحقونه، ويخيل إلي أنكم تتمتعون إلى أقصى حد بهذه اللعبة الطريفة، وها أنت تحاول مرة جديدة أن تجعل من ضعفنا حصان الطراد الذي تعتلي صهوته”.
ينتهي الحوار بين الأب وابنه حول الإنسان في حد ذاته كـ (قضية)، فيوجّه سعيد لـ -خلدون سابقاً ودوف حالياً- توبيخاً قائلاً: “أنا لا أتحدث إليك مفترضاً أنك عربي، والآن أنا أكثر من يعرف أن الإنسان هو قضية، وليس لحماً ودماً يتوارثه جيل وراء جيل مثلما يتبادل البائع والزبون معلبات اللحم المقدد، إنما أتحدث إليك مفترضاً أنك في نهاية الأمر إنسان يهودي، أو فلتكن ما تشاء. ولكن عليك أن تدرك الأشياء كما ينبغي.. وأنا أعرف أنك ذات يوم ستدرك هذه الأشياء، وتدرك أن أكبر جريمة يمكن لأي إنسان أن يرتكبها كائناً من كان، هي أن يعتقد ولو للحظة أن ضعف الآخرين وأخطاءهم هي التي تشكل حقه في الوجود على حسابهم، وهي التي تبرر له أخطاءه وجرائمه”.
ختاماً، قد تشي الرواية بمعنى أكثر عمقاً من مجرد تنكّر المرء لهويته، إذ لا يحق للباطل أن ينتصر إلا إذا تنكّر أصحاب الحق للحق.. إما عن استكانة أو استسلام أو غدر أو عن إخلاص غير حقيقي! يعود سعيد وصفية أدراجهما إلى رام الله، وقد تمنى سعيد حين بلغ مشارفها أن يكون ابنهما خالد قد غادر نحو جيش المقاومة في غيابهما.. فيقول لصفية وهو لا يزال يفتش عن “فلسطين الحقيقية”، منهياً حديثه حول الوطن وهو يقرّ بأن “الوطن هو ألا يحدث ذلك كله”.
تم نشر المراجعة على جريدة الشرق
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الرواية (13) في قائمة طويلة من إصدارات فكرية خصصتها لعام 2023 والذي رجوت مع بدايته أن يكون استثنائياً في جودة الكتب التي سأحظى بقراءتها فيه .. وهي ثالث ما قرأت في شهر اكتوبر، وقد حصلت عليها من معرض للكتاب بإحدى المدن العربية عام 2020 ضمن (90) كتاب كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض. لقد ضحيت بالوقت المخصص للقراءة من أجل أمور طارئة! لم يعد الأمر كذلك، والأشهر المتبقية لي من العام ستكون استثنائية في جودة الكتب .. كما رجوت!
قرأت الرواية إلكترونياً عام 2016، وقد اخترت قراءة نسختها الورقية في هذا الوقت بالتحديد تزامناً مع أحداث (طوفان الأقصى) التي اجتاحت قطاع غزة .. وذلك كإثبات موقف، وإن هذا لمن أضعف الإيمان في نصرة القضية التاريخية.
وعلى أرفف مكتبتي: تصطف مجموعة لا بأس بها في (الأدب الفلسطيني) وما يتعلق منها بقضية الاحتلال. أذكر منها: (خيانة المثقفين) لمؤلفه (ادوارد سعيد) / (دفاتر فلسطينية) لمؤلفه (معين بسيسو) / (الفلسطينيون والتحرر: موقف مسيحي) لمؤلفه (خريستو المر) / (الصهيونية وخيوط العنكبوت) لمؤلفه (د. عبدالوهاب المسيري) / (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية) لمؤلفه (د. روجيه جارودي) / (من يجرؤ علي الكلام: الشعب والمؤسسات في مواجهة اللوبي الإسرائيلي) لمؤلفه (بول فندلي) / (اليهود في العالم العربي) لمؤلفته (د. زبيدة محمد عطا) / (عبق أرضنا: أصوات من فلسطين وإسرائيل) لمؤلفته (كينيزي مراد)
من فعاليات الشهر: رغم الجدول المزدحم والإرهاق المصاحب، لدي إصرار على خلق الوقت للقراءة تباعاً.
تسلسل الرواية على المدونة: 413
التعليقات