قراءة في كتاب
…………………………
(1)
كتاب/ ابتسم أنت في بغداد – المؤلف/ د. طه جزاع
مقالات تخلق من الهموم طرفة
مع أولى قطرات الغيث
في أروقة (المشرق العراقية) الغراء
والشكر موصول
للزملاء الأعزاء أعضاء أسرة التحرير
(( مع وافر الامتنان للفاضل الأستاذ الدكتور طه جزاع في سعيه الكريم وإتاحة هذه الفرصة الكريمة ))
همى الغيث
كتاب يدعو عنوانه القارئ للابتسام، فما يلبث أن تخنقه مقالاته بالعبرات .. جاءت بقلم ابن الأرض الذي عاصر وقائعها كشاهد من أهلها .. وليس الخبر كالعيان!. إنه أ. د. طه جزاع، الأستاذ المحاضر في علوم الفلسفة، وكاتب الأعمدة الصحفية في الجرائد والمجلات والمواقع الإلكترونية، والذي شغل منصب (رئيس التحرير) لعدد منها، وله عدد من الإصدارات الفكرية وقد فاز بالجائزة الأولى لمسابقة (ناجي جواد الساعاتي) في دورتها التاسعة عن عام 2018، عن كتابه الأخير في أدب الرحلات. يصدر هذا الكتاب عن (دار دجلة للنشر والتوزيع)، ويضم عدد من المقالات التي نشرها الكاتب في جريدة المشرق العراقية بعد انقطاع لردح من الزمان، وبعد مناورات لحوحة من أقرانه الصحفيين. وقد شبّه فترة انقطاعه تلك كحالة خرس روحاني لصوفي مخضرم، بين ما كان في حقبة من قرن مضى، وما استجد في حقبة من قرن جديد. وعلى الرغم من أن المقالات في مجملها تمسّ الواقع العراقي وفي الصميم، إلا أنه لن يضيرها استبدال (بغداد) بأي مدينة عربية على امتدادها من المحيط إلى الخليج، على طريقة أمير شعرائها أحمد شوقي في قوله: (كلنا في الهم شرق).
لقد أصبح الفرد العربي في معاشه اليومي بحاجة إلى تحويل واقعه المرّ في بعض أوجهه إلى طرفة، ليس على سبيل السخط أو السلبية أو السخرية، بل لأنها قد تكون (الأخف) تعبيراً فيما يحوطه من قسوة وبؤس وشقاء، كما كان يفعل الكوميدي العالمي شارلي شابلن، وكما كان يقول: (أنا أصنع من ألمي ما يضحك الناس، لكنني لا أضحك من ألم الناس).
يأمل الكاتب من خلال نشر مقالاته هذه أن يصل بمعاناة شعب العراق -الذي ما برح يقاسي ويلات الاحتلال الأمريكي الممنهج منذ ابريل 2003- إلى أخوته في الوطن العربي الفسيح، مؤكداً أن هذا الشعب في عراقته وشموخه وعزيمته -وقد فُقد منه الملايين بين مهاجر ونازح وقتيل- قادر على أن ينهض من جديد ليعمل ويبني وينتج، ويكون كما كان دائماً البدر المنير في الليلة الظلماء، وكما تغنّى شاعره العظيم مصطفى جمال الدين في رائعته الخالدة: (مرت بك الدنيا وصبحك مشمس .. ودجت عليك ووجه ليلك مقمر).
يعرض فهرس الكتاب تسعة عناوين رئيسية لعدد من المقالات في الأدب الساخر تتفرّع عنها، جادت من رشاقة الكلمة وغزارة المعنى ما يُعين على طيّ الجلدة الأخيرة للكتاب خلال سويعات. هي: 1. ابتسم أنت في بغداد / 2. مقبرة الشرف الرفيع / 3. بلاد العرب أوطاني / 4. لعنة الفراعنة / 5. صناعة التاريخ على سطح المريخ / 6. دع القلق وأبدأ الحياة / 7. لائحة حقوق الحمار / 8. (فيسبوكيات) وفضائيات راقصة / 9. باشوات الصحافة وثيرانها.
ومن المقالات المضحكة المبكية التي جاءت تترجم المأثور العربي الضاحك من شر البلية، اختار ما علق في ذاكرتي منها ما يلي:
- تتخذ عملية تفتيش المركبات ذهاباً وإياباً صباحاً ومساءاً شكل من أشكال إثارة الغثيان، والإمعان في نكد المواطن الغلبان، إذ بين كل سيطرة بوليسية وأختها تتناسل سيطرات وتتوالد وتتكاثر، مضافاً إليها الوقت المهدر في استخدام أجهزة السونار لفحص المركبات، رغم ثبوت عدم جدواها في الكشف عما هو أدهى وأمر من حشوات الأسنان وطلاء الأظافر.
- في مذكراتها عن بغداد الستينات، لا بد وأن يضحك القارئ على الجدة الهولندية (يوديت) وهي تمتلئ رعباً من أرطال اللحم في السوق الشعبي والذي كان لا يُرى أساساً وقد التف حوله سرب من الذباب. ويستمر في ضحكه وهي تصوّر عملية بيع اللبن الصباحية طازجاً على الطريقة البغدادية، إذ يحظى الزبون بزيارة البقرة الحلوب مع صاحبتها لتقف عند عتبة بابه برسم الخدمة على طريقة (التوصيل للمنازل) .. فيحلب ويشرب، في التو واللحظة.
- الشقاوات العراقية .. أخوة الفتوات المصرية (في الكار)، قد شوّه التراث المنقول سيرتهم، إلا أنهم في حقيقة الأمر على مذهب الإنجليزي روبن هود .. أشداء على الطغاة رحماء على المستضعفين، يتتبعون الظالم حتى ينتزعوا منه حق المظلوم عنوة .. وبلطجة أحياناً. وقد كان (عبد المجيد كنه) أشهر الشقاوات البغدادية، إذ قاوم ورفاقه الاحتلال البريطاني، وساهم في الحركة الوطنية من خلال التهديد العلني بالقتل ضد كل من يتواطأ مع جيش الاحتلال، وقد نال شرف (شقاوته) بالإعدام شنقاً عام 1920، إذ شيّعته الجماهير ونصّبت له سرادق العزاء .. رحمه الله.
- وبينما يفخر الكاتب بعلم بلاده المرفوع بيد العدّاءة البطلة (دانا حسين)، ومن خلفها الوفد الرياضي العراقي على أرض ملعب جزر العجائب بلندن عام 2012، تحت صيحات الحماس الجماهيري المنقطع النظير، ينتقد افتقار العراق نشيد قومي موّحد. ويسترجع في هذا التصنيف الذي جاءت به صحيفة التلغراف البريطانية عن النشيد الوطني العراقي كواحد من بين أسوأ عشرة أناشيد في تلك الدورة الأولمبية، والتي ضمّت 200 نشيد وطني للدول المشاركة. ومن جانب آخر، لا ينسى الكاتب ذلك المواطن الأصيل الذي اتصل بالإذاعة فرحاً مهنئاً بنتائج إحدى المباريات، رغم أنه شهد صباح ذلك اليوم تفجيرين في منطقته ببغداد، وردّ المذيع العراقي الأكثر أصالة ووطنية بـ: “عفية”.
- وفي مقالته (العراق الأفريقي)، يقترح الكاتب نقل العراق إلى دول خط الاستواء الأفريقي بعد ثبوت تورّط عدد من الدول الكبرى في التلاعب بمناخه، إذ من المتوقع أن ترتفع درجة الحرارة فيه لتصل إلى 70 درجة مئوية خلال الثلاث سنوات القادمة، وما سيترتب عليها بالضرورة من تغييرات ديمغرافية في الشكل واللون والسحنة، إضافة إلى التغيرات الطبيعية الأخرى.
- وعلى غرار سخرية القدر، يتهكم الكاتب على الخبر الذي أورده مدير الزراعة لإحدى المحافظات وهو يُنبئ عن وصول أفواج من طيور الأروي الملونة والهاربة من صقيع سيبيريا، لافتاً الانتباه إلى ما تحمله (الهجرة) من رمزية البحث عن الدفء والرزق والأمن وسائر متطلبات الحياة .. المتطلبات ذاتها التي يهجر فيها العراقي أرضه إلى أرض الله الواسعة، بحثاً عنها!.
- يسترجع الكاتب بعض القفشات التي وقعت حينما تم استقطاب عدد من الممرضات الهنديات في فترة من القرن الماضي، وما صاحب ذلك من صعوبة في التخاطب على الرغم من رواج الأفلام الهندية بين العراقيين آنذاك. إذ حرص البعض على تعلّم عدد من الجمل الهندية البسيطة لاستخدامها في بعض المواقف، مثل (ما اسمك) عند التعارف، و (أنت جميلة) كنوع من الكياسة، و (لن أنساك) وقت الوداع. إلا أنه يذكر تورّط أحدهم عندما لقّنه صاحبه مقولة: “موست شادي كارونجي” على أنها مرادفة لعبارات الشكر عند الوداع، وهو لا يعلم عندما قالها لأحدى الممرضات وقت خروجه من المستشفى بأنه يعرض عليها (الزواج).
- ولا تزال جورجيا الاقتراح الأول عند العراقيين لقضاء إجازة صيف ممتعة واقتصادية، بعد أن دمّر الربيع العربي صيف وشتاء المنتجعات السياحية في معظم البلاد العربية وساكنيها من عرب عاربة ومستعربة.
- وعن ظاهرة تفشي حبوب الهلوسة وأخواتها بين أفراد المجتمع العراقي، تشير القاضية العراقية أن الأمر تطور إلى درجة توفيرها كخدمة علاجية على هيئة حقن دوائية من خلال عيادات وعلى أيدي معاونين طبيين، في حين أن معظم بلاد العالم تقننّ عملية صرف الأدوية من خلال وصفات طبية، وإن كانت بسيطة كالبنادول والأسبرين.
- وفي محاولة لاستنباط درس تاريخي يتقاطع بين الهند والعراق رغم البون الشاسع بينهما، يترحّم الكاتب على المناضل (غاندي) وقد اعتصر قلبه الألم لحظة ما أعلن رفيق دربه (محمد علي) استقلال الباكستان عن الهند عام 1947، وعلى أساس ديني محض، رغم تعدد الطوائف العقائدية والمذهبية بين أبناء الهند أجمعين. فكيف اجتمع الشامي بالمغربي؟ وما أشبه العراقي بالهندي!.
- بينما لا تشجّع الأمم المتحدة عودة اللاجئين العراقيين إلى أرضهم في الوقت الراهن، يعتّصر قلب الكاتب ألماً وقهراً على ما آلت إليه أوضاع شعب كان عزيزاً فذل، فاصطف في طوابير طويلة مهينة أمام شبابيك سفارات بعض الدول يستجدي لجوء إنساني، في حين تصدّ أبواب السفارة العراقية عنهم -وبوجوه مكفهرة- أوسع أبوابها، وتصبح تصريحات -بل قل تطبيلات- الأمم المتحدة أصلح للنقع والعبّ.
- تستوقف القارئ سيرة (شارل ديغول) الزعيم التاريخي لفرنسا .. مصلحها وواضع دستورها، وسياسته في التعامل مع معارضيه، إذ لم يذكر التاريخ أنه كمم أفواه أو صادر آراء أو اعتقل أو سجن أو سحل أو شنق أو حرق أو اغتصب أو سرق …، معتبراً أنه من الصعوبة بمكان إرضاء الناس جميعاً وعلى الدوام، مبرراً ذلك بمقولته الشهيرة: (كيف يمكنك أن تحكم بلداً فيه 246 نوعاً من الجبنة)؟
- وفي تشبيه مبطّن، عقد الكاتب مقارنة ذكية بين سكان بلاد الواق الواق ونظرائهم في بعض بلاد الجوار! فالثروة الفائضة من الذهب جعلت لكلابهم وقرودهم أطواقاً من ذهب كما ذكر العالم (محمد بن زكريا الرازي) في مؤلفاته عن تاريخها، ولديهم من القواسم المشتركة الأصيلة في الدين واللغة والأعراف ما تكفل وحدتهم. غير أن السلطة الحالية تقبض على تلك الثروة بالدم والنار والحديد ومن يتنازع عليها من المتملقين، في حين أن القواسم المشتركة لبقية أفراد الشعب هي التشرذم والكذب والغدر والسرقة، والانغماس في شهوة الأكل والجماع والنوم والغناء والرقص وجمع المال، والنزوع إلى الثرثرة والخلاف والصراخ لأتفه الأسباب في كل حين. فلا غرابة أن يعاني سكان هذه الجزر الواقعة في بحر الهند والذين (تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى) من الفقر المدقع في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والتكنولوجيا …الخ. رغم هذا، فهم يتميزون بعدم وجود هيئات ومفوضيات ومجالس ولجان ومداهمات واعتقالات ومظاهرات واغتيالات وإعلام …. تشنّها السلطة عليهم، خلاف ما يتميز به أهل سكان الجوار أولئك!.
- في نقده لرضوخ المواطن العربي لبرمجة عقله وطلسمة فكره تجاه ما يُملى عليه من أعلى، وبما هو مدعاة للاستسلام والتسليم والخضوع والخشوع، يأتي مصطلح (الاستحمار) الذي استحدثه المفكّر (علي شريعتي) كتشبيه حرفي بليغ لا يحيد.
- وبشيء من التعجب، يستعرض الكاتب رأي صاحبه الحماسي في الحاجة لتدريس مهارات الفساد الإداري والمالي كظاهرة عالمية، والتي تم تلخيصها في قصيدة (احترامي للحرامي) التي أذيعت على لسان شاعرها الأمير السعودي (عبدالرحمن بن مساعد)، ومُنعت عندما أنشدتها المطربة المصرية (آمال طاهر) في مدينة الدوحة!. تأتي هذه الحاجة الملحاحة لحماية المبتدئين وصغار الفاسدين الذين لا يزال يعتور ضمائرهم شيء من النزاهة وحسن النوايا، وللاستفادة أيضاً من خبرات سرّاق الأوطان وكبار المحترفين في الفساد والإفساد، لا سيما في الدول التي تتصدر تقرير المؤشر الدولي السنوي للفساد، كالصومال وأفغانستان وتشاد … والعراق.
- يتحدث الكاتب بنبرة صادقة عن تفشي ظاهرة العنوسة بين النساء في الوطن العربي ككل، والتي جاءت كاختيار حرّ للمرأة العربية في سبيل علمها وعملها وكفاحها ونجاحها .. المجالات التي أبدعت فيها وأبهرت، مضحيّة بالفطرة البشرية في الارتباط والاستقرار. أشاطر الكاتب الرأي في أن هذه العنوسة “وردية” طالما أن الوعود قبالتها زائفة، وارفض معه كلية تشبيه المرأة الحرة الأبية بالرجل، سواء كان فرداً أو يشكّل من العدد عشرة .. فليس الرجل مضرب مثل عنتري ولا نموذج يُحتذى به في البطولة!.
- يقرأ الكاتب على (الرجال) السلام، في أمة تنتحر فيه الفتاة اليافعة والمرأة الناضجة على حد سواء، كرد فعل أوحد أمام جبروت وطغيان وقهر الرجال -بل أشباه الرجال ولا رجال- المتفنن في كافة صنوف العنف والتمييز، كالزواج القسري، الحرمان من التعليم، الضرب، القذف، التهديد، الخطف، الاغتصاب … وغيرها من الكبائر المحصّنة بالقانون أو بالعرف العشائري.
- على الرغم من اقتضاب المقال، فإن جرائم الشرف ضد المرأة التي لا تزال في اضطراد والتي لا تشمل تلك التي تم اقترافها تحت جنح الظلام، كفيلة بأن تجعل الحليم -وهو في الألفية الثالثة- حيران .. وكأنه مواطن جاء على غفلة من أمره متأخراً إلى عصور الظلام.
علاوة على ما ذُكر، يطيب لي أن اقتبس بعض ما ورد في الكتاب من جميل القول (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
- في مقالة (يا طويل العمر) يعرض الكاتب من خلال إحدى الميثولوجيا الشعبية مدى جهل الإنسان المجبول على الطمع حين اختار أن يطيل الله في عمره خلافاً للحيوانات التي طالبت بتقليص أعمارها بعد أن وعت حجم الشقاء الذي ينتظرها، فينصح قائلاً: “الأعمار بيد الله لكن حذار من أن تسمح لأحد أن يدعو لك بطول العمر، فإنه إنما يدعو لك بطول المعاناة في حياة كلها منغصات ومخاوف ووساوس وهلوسات وفوضى ومفخخات وعبوات ولاصقات وكاتمات واغتيالات .. يا طويل العمر”.
- يعرّي الكاتب في مقالة (زوجة صينية) سوأة العقلية الذكورية التي مسّها من نقصان العقل والدين ما جعلها تستميت في الحصول على زوجة آلية تطيعه إذا أمر بكبسة زر على جهاز الريموت كنترول، فيقول بعد أن انتشر مقطع فيديو طريف عن إعلان لها: “وانتشر هذا المقطع مثلما يقال انتشار النار في الهشيم في هواتف الرجال النقالة من العزاب والمتزوجين، وتداولوه بين هواتفهم نكاية بالزواج والزوجات، وانتصار للفكرة الأزلية التي تعشش في أذهان الذكور ولا أقول الرجال، عن زوجة مطيعة لا حول لها ولا قوة، ولا رأي لها ولا فكرة، تستطيع أن تطويها وتحتفظ بها في دولاب الملابس متى شئت، أو أن تبرمجها على كلمات محددة ….”. وأعقّب بدوري: لا حرج على رجولة عرجاء أرادت تجبير عاهتها بين الأمم فربضت فوق حق النساء!.
- يختم الكاتب مقالة (ولم يغرق الحب) التي تطرّق فيها لقصة نجاح (سيلين ديون)، صاحبة الصوت الملائكي الذي ظل يتردد صداه رغم غرق التيتانيك واستقرارها في قاع المحيط، بكلمات من لؤلؤ: “الحب الصادق يبقى ويستمر إلى الأبد. هو سباح خرافي لا يغرق ولا يموت، حتى وإن غرقت جميع السفن والزوارق، وغرق كل من على متنها من عشاق مجانين وسباحين ماهرين”.
ختاماً .. لطالما شغفني العراق العظيم منذ صغري .. أرض الحضارات ومهد الأنبياء وموطن الأولياء .. سمائه وتربته، أنهاره وأشعاره، أطياف شعبه الممتزجة ألواناً وأسماءً وأعراقاً واعتقاداً ولهجة ولحناً وثقافة. شاء الله أن تصبح أحلك أحقاب أرض السواد نصيب أعمارنا التي كلما تقدمت بنا، تقدم الشر المحدق بها، ليحيلها من أرض سواد في تراصّ نخلاتها الباسقات، إلى أرض سواد في هرجها ومرجها، مدلهم نهارها كليلها. “وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس” .. ولأن (دوام الحال من المحال)، أرجو للكاتب الفاضل د. طه جزاع أن يمنّ الله عليه بمديد العمر، فيتحفنا بمقالات (مضحكة مبكية) جديدة .. تبكينا فرحاً ونضحك معها زهواً، وتدعونا لنبتسم من جديد أمام واقع أكثر جمالاً وسلاماً وتحديداً في بغداد .. مدينة السلام، كما خصّها الكاتب في عنوان كتابه.
سيبقى هذا الكتاب يحمل وجدانياً ذكرى مختلفة، فقد جمع بين كاتبه وكاتبة هذه السطور في صداقة توطدت بإهدائها مجموعة إصداراته الثرية التي نشرها بعد هذا الكتاب بسنوات طوال .. وهو الكتاب الأول الذي حظيت بنشره من خلال صحيفة المشرق العراقية الموقرة .. وأول الغيث قطرة.
يسعدني تواصلكم معي على: hma-algaith.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 9 مارس 2022 – جزء (1) صفحة (10):
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/03/5070.pdf
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 10 مارس 2022 – جزء (2) صفحة (10):
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/03/5071.pdf
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(2)
كتاب/ أديان العالم – المؤلف/ د. هوستن سميث – المترجم / سعد رستم
الإيمان بالله وبتعدد كتبه ورسله .. مما قصّ علينا ومما لم يقصصّ
كتاب يُبحر بقارئه في رحلة روحانية متعمقة نحو أديان العالم الكبرى، ليكشف عن روح كل دين وجوهر الحكمة وراء فلسفته وطقوسه وتعاليمه، في لغة تخالف التقليد العلمي السائد القائم في الأساس على عرض كل دين في قالب أكاديمي صرف، بكتبه المقدسة ومعلميه ومعتنقيه ومذاهبه وتعاليمه الرئيسية ومدى انتشاره … الخ، والذي يكون في العادة معززاً بالبيانات والجداول والإحصائيات.
لا تأتي هذه اللغة المختلفة عن هوى أو من فراغ، إنما هي عصارة ممارسات إيمانية حيّة وعميقة لتعاليم تلك الأديان، انهمك فيها المؤلف نحو خمسين عاماً، وأخلص لها إخلاص المؤمن الحقّ. بهذا النهج المتفرّد، لا يعرض المؤلف شيء من آرائه أو انطباعاته الشخصية كباحث في هذا المجال على الرغم من اعتناقه لكل هذه الأديان وممارسة شعائرها طويلاً فوق أراضي معتنقيها، بل جاء عرضه حيادياً بالكلية. أيضاً، لا يعمد المؤلف إلى التجريح أو التهكم مهما حمل أي دين من معتقدات أو ممارسات غير مألوفة قد تدعو لذلك، بل يظهر متصديّاً في بعض الأحيان أمام ما يحوم حول كل دين من أقاويل وشبهات، فيعمد إلى تصحيحها منطقياً وفلسفياً. عليه، يتحلّى الكتاب بالصدق والمصداقية معاً، فالمؤلف تلقّى علوم كل دين من مصدره المباشر، وألّف مؤلَّفه بعد أن اعتنقه ومارسه!
يخصّ الكتاب في ختامه صفحتين لتسطير شيء من سيرة مؤلفه الذاتية. إنه الناسك الروحي البروفيسور د. هوستن سميث (1919-2016). وُلد ونشأ في الصين لأبوين أمريكيين نصرانيين يعتنقان البروتستانتية ويعملان في التبشير، البيئة التي تفتّحت عليها مدارك العالِم الصغير نحو تنوع الأديان وفلسفاتها، وهو الأمر الذي دعاه للالتحاق ببرامج الفلسفة في الجامعات الأمريكية بعد عودته لوطنه وهو في الخامسة عشر من عمره، ليتوّج مسيرته الفكرية بالحصول على درجة الدكتوراة في الفلسفة من جامعة شيكاغو عام 1945، ومن ثم الانخراط في سلك التدريس في عدد من جامعات بلاده العريقة. استمر في اعتناق المسيحية رغم إعجابه الشديد بالحكمة الشرقية، وقد تتلمذ على أيدي رهبان الهندوسية، ومارس الزن من خلال معلمي البوذية، وقد صرّح في إحدى المقابلات بأنه يُديم الصلاة خمس مرات يومياً باللغة العربية منذ ست وعشرون عاماً. عمل على إنتاج سلسلة من الوثائقيات المتلفزة خلال الستينات من القرن الماضي، وله العديد من المؤلَفات في نفس المجال، أشهرها الكتاب الذي بين أيدينا والذي لا يزال يُصنّف عالمياً بالمرجع العلمي الأول في الأديان، وقد وصلت مبيعاته إلى المليون والنصف نسخة كما تشير هذه الطبعة!.
تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثالثة للكتاب الصادرة عام 2007 عن (دار الجسور الثقافية)، في ترجمة مباشرة للكتاب عن لغته الأصلية (The World’s Religions – By: Huston Smith) والتي عنيّ بها المترجم د. سعد رستم، وهو أكاديمي وباحث سوري حاصل على درجة الدكتوراة في الدراسات الإسلامية بعد أن تحوّل في مرحلته الجامعية عن دراسة الطب البشري إلى هذا الفرع من العلوم. يعيش حالياً في تركيا، وله إسهام كبير في ترجمة الدراسات العلمية الإسلامية، العقائدية والمذهبية.
يعرض فهرس الكتاب عشرة مواضيع رئيسية، بالإضافة إلى مقدمتي المؤلف والمترجم، تبدو أهمها على الإطلاق: (الهندوسية، البوذية، الكونفوشية، الطاوية، اليهودية، المسيحية، الإسلام، الأديان البدائية) ويتفرّع عن كل منها عدد لا بأس به من المسائل التي لا تقل شأناً في الأهمية. من ناحية أخرى، تترافق أوجه الشبه بين مشروع المؤلف وبين أحد علماء التشريح الذي اعتاد أن ينبّه طلاب كلية الطب في اول محاضرة لهم قائلاً في بصيرة: “في هذه المادة سوف نتعامل مع اللحم والعظام والخلايا والأعصاب، وستأتيكم أوقات تبدو لكم فيها كل هذه الأشياء باردة لا حقيقة لها. ولكن لا تنسوا! إنها حيّة تتحرك”.
ومن عبق الروحانيات، أبثّ نفحات مما علق في روحي كما يلي:
- في إسقاطات لمعنى تمثال ذو أذرع متعددة تعكس رمزياً براعة الإله الواسعة عند الديانة الهندوسية، يرى د. سميث أن فعّالية القصص والأساطير أقوى في أثرها على الإنسان من قوة القوانين والأحكام الرسمية، إذ تنطوي على قيم تنقل بقدرتها اهتمامه من العالم المادي المحيط إلى التفكر في الله وتمجيده والتضرع إليه والنظر في إبداعه .. ومحبته آخراً. من ناحية أخرى، لا يتردد المستشرق ماكس موللر في الإشارة إلى (الهند) كإجابة عن سؤال وُجه إليه حول الأرض التي شهدت أعمق التأملات العقلية وأتت بجملة من الحلول في مسائل الحياة تعني بالإنسان، وتثير كذلك اهتمام من درس فلسفتي كانت وأفلاطون! ولا يتردد من الإشارة إلى (أدب الهند) للإجابة عن سؤال آخر حول الأدب الذي صحّح مفاهيم تشرّبها الإنسان من الفكر اليوناني والروماني ومن ثم عمل على تغذية روحانيته، في سبيل حياة أكثر شمولية وعالمية وإنسانية، ليس في الحياة الآنية فقط بل في الحياة الأبدية كذلك.
- وعن قوة الاعتناق، ينافس الهندوسي (سوامي) نظيريه البوذيين (دائي) و (لائي). ففي حين سيواصل الأخيران المقرفصان تأملهما اليوم ساعة استيقاظهما في الثالثة فجراً حتى الحادية عشرة ليلاً بغية سبر أغوار بوذا داخلهما، سيواصل الأول تأمله الذي ابتدأه منذ خمس سنوات مقرفصاً صامتاً في قعر داره الواقع فوق قمة جبل الهملايا، مستثنياً ثلاثة أيام في العام يتحدث فيها. وفي نفس هالة النور وعن أولئك الذين ترقوا روحياً في مراتب من الإدراك والوعي والتجلي، تأتي سيرتهم لتعكس نموذجاً أسمى في النوع الإنساني، فهم حكماء، متحررون، أقوياء الشخصية، فائقو السعادة، ما من شيء في الحياة كفيل بأن يعكّر صفوهم العقلي، أو يُقلق طُمأنينتهم، أو يقودهم للصراع، أو يأسرهم، أو يُرعبهم، أو يُحزنهم .. إنهم مبتهجون على الدوام، يجودون على من اختلط بهم بأنوار من قوة وطُهر وانبساط. لذا، ومن طرف آخر، يتصدى أحد اللا أدريين ليناكف أحد الهنود المتنورين، بأنه كان سيجعل للصحة عدوى بدل المرض .. لو كان ربا! فيفحمه الأخير بأن الشكّاك لا يمكنه استيعاب أن الفضيلة هي فعلاً معدية للرذيلة، والسعادة معدية للتعاسة .. كما العدوى بين الصحة والمرض.
- تتجلى معاني الصيام الإسلامي في الانضباط الذاتي وكبح الشهوات، وفي تذكير الإنسان بضعفه وحاجته الدائمة إلى الله. كما يولّد عنده الشعور بالشفقة والإحساس بالآخرين، إذ لا يشعر بالجوع إلا من جاع فقط، ومن راض نفسه على الصيام تسع وعشرون يوماً يكون أكثر تسامحاً وتفاعلاً مع من يقصده من الجائعين. وفي استنباط لافت للنظر، يشير د. سميث إلى كلمة (القراءة) كمعنى مشتق لكلمة (القرآن)، وبأنه الكتاب الأكثر تلاوة وحفظاً وتأثيراً على مستوى العالم. فلا عجب أن يكون (معجزاً) كما سمّاه نبيه وأتباعه من بعده.
ومن عبق الروحانيات كذلك اقتبس شذرات تثري الروح (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
- يحفل الأدب الهندي بالاستعارات والتشبيهات والصور البيانية التي توجّه أنظار الإنسان نحو “الوجود المطلق اللانهائي” في الكون الفسيح، والكامن عميقاً بين ثنايا وجدانه. تقول إحداها: “إننا مثل شبل أسد فقد أمه بعد ولادته، فعاش صدفة بين مجموعة من الخرفان، فصار يرعى ويأكل العشب معهم ويثغو مثلهم، ظاناً نفسه خروفاً كأقرانه! إننا مثل العاشق النائم الذي يحلم في منامه أنه يجوب الدنيا بحثاً عن حبيبته دون أن يجدها، غافلاً عن كونها مستلقية على الفراش إلى جانبه”. وهو لا يزال في هذه الأجواء، ينتقد د. سميث ربط التماثيل الهندوسية بمعاني الوثنية أو الشرك أو تعدد الآلهة، بل يعتقد بإنها مسارات تتنقل خلالها الحواس البشرية نحو “الأحد” أو “تطير من الأحد نحو الأحد”. ويضرب في هذا مثلاً بكاهن القرية الذي يعتقد بأن حدود إمكانياته البشرية تسببت له بثلاث خطايا يرجو غفرانها، فيفتتح صلواته بدعاء: “يا رب! اغفر ثلاثة خطايا ناجمة عن حدودي البشرية .. أنك في كل مكان لكني أعبدك هنا .. إنك من غير شكل ولا جسم، ولكني أعبدك في هذه الأشكال .. أنك لا تحتاج إلى الثناء والمديح ولكني أقدم لك هذه الصلوات والتحيات .. رب! اغفر ثلاثة خطايا ناجمة عن حدودي البشرية”.
- تتجلى معاني الوحدانية الإلهية في ترانيم الطاوية، فـ: “هناك كائن رائع وكامل .. وُجد قبل السماء والأرض .. كم هو هادئ .. وكم هو روحي .. يبقى وحيداً لا يتغير .. يوجد قريباً وبعيداً .. هنا وهناك .. ومع ذلك فهو لا يعاني من هذا التواجد .. يلف كل شيء بحبه كثوب يغطي كل شيء .. ومع ذلك فلا يدّعي شرفاً أو مقاماً ولا يطلب أن يكون سيداً .. أنا لا أعرف اسمه ولذلك اسميه (طاو) الطريق .. وأبتهج بقوته”. وفي لغة صوفية تحلّق بعيداً عن رحب ميدان رياضة اليوغا وتتقاطع مع العشق الرومي، تنساب الوصية عذبة بأن: “كل ما يجب علينا فعله في هذه اليوغا أن نحب الله حباً جما، لا مجرد أن نقول بلساننا أننا نحب الله، بل نحبه حقاً، ونحبه وحده، ولا نحب شيئاً غيره إلا لأجله، ونحبه لذاته لا لغرض آخر أو هدف أبعد، حتى ولا انطلاقاً من الرغبة بالخلاص والتحرر، بل نحبه للحب فقط. نجاحنا في ذلك يمنحنا بهجة وسعادة، لأنه ما من تجربة يمكن أن تقارن بتجربة من يعيش حباً تاماً صادقاً. علاوة على ذلك، كلما قوي تعلقنا بالله واشتد حبنا له، كلما ضعفت سيطرة العالم علينا. نعم قد يحب القديس العالم، بل هو يحبه فعلاً أكثر من محبة المدمن له، لكن حبه للعالم يختلف تماماً عن حب الآخرين له. إنه يحبه لأنه يرى فيه انعكاساً لمجد الله الذي يعبده”.
- وفي إنصاف وحيادية معهودة، يؤكد د. سميث على الحرية الدينية التي تمتع بها اليهود والنصارى والهندوس إبان الحكم الإسلامي شرقاً وغرباً. وفي مقارنة بين سماحة المسلمين الأتراك مع النصارى عند فتح القسطنطينية، وبين جرائم محاكم التفتيش التي نصّبها الصليبيون الأسبان لتعذيب المسلمين بعد سقوط الأندلس، يعتقد المسلمين أن “سجل المسيحية هو السجل الأكثر سواداً في هذا الصدد”، بينما يتفق المؤرخون المنصفون بأن “سجل الإسلام في استخدام القوة لم يكن أبداً أظلم من سجل المسيحية”. وأختم في مسك بقول د. سميث عن لغة القرآن، حيث يقول مقتبساً بدوره: “لا يوجد شعب في العالم تحركه الكلمات، سواء المقولة شفهياً أو المكتوبة، كالعرب. من النادر أن يكون لأي لغة في العالم تلك القدرة على التأثير على عقول مستخدميها كالتأثير الذي لا يُقاوم للغة العربية” ثم يُعقب قائلاً: “يمكن للجماهير في القاهرة أو دمشق أو بغداد أن تُلهب مشاعرها وتُثار إلى أعلى درجات الإثارة العاطفية ببيانات، إذا ما تمت ترجمتها تبدو عادية”.
عجباً كيف تختلف الأديان برمتها، لكنها تصبّ انتهاءً في عبادة الله وحده التي تحقق السكينة الروحية كمطمح أزلي. إن هذا الكتاب يدفع بالفضول نحو المزيد من البحث حول كل دين، لا سيما أن الطرح يكتنفه قدر من الصعوبة قد يعود إلى النظرة التحليلية الفلسفية التي يتأسس عليها الكتاب في تناوله للأديان، أو الصعوبة المتعلقة بجوهر كل منها، أو للترجمة في أحايين قليلة. ومن جانب شخصي، لا يغفل المؤلف عن إسداء جزيل الشكر والعرفان لزوجه التي لم تدّخر جهداً في تنقيح ومراجعة كتاب زوجها بكل سعادة، الذي لم يكن متوقعاً له تحقيق أعلى نسبة في المبيعات قبل طرحه .. في لفتة شاعرية منه بل وروحانية.
إنه ليس كتاب ترويجي ولا تبشيري ولا مقارن ولا نقدي، بل روحاني بالدرجة الأولى، يقدّم للقارئ خلاصة ما اكتسبه مؤلفه من معرفة وجدانية وتجارب روحانية عاش بها ولها ومعها، يجود فيه على القارئ بأنوار من فكر وأبعاد من إدراك، ووعي وحكمة وبصيرة، وأفق أكثر رحابة، نحو تصور جديد للحياة وجوهر وجود الإنسان فيها، بما يحيطه من مصاعب وآلام وتحديات، وطرق مواجهتها من زوايا دينية أكثر اتساعاً من ذي قبل .. لتصبّ جميعها في نهاية المطاف في فضاء الحقيقة المطلقة: (الله الأحد).
ومسك الختام .. (لا إله إلا الله) بها نحيا وبها نموت وبها نلقى الله.
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 16 مارس 2022 – جزء (1) صفحة (10):
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/03/5076.pdf
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 17 مارس 2022 – جزء (2) صفحة (10):
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/03/5077.pdf
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(3)
كتاب/ العرب: وجهة نظر يابانية – المؤلف/ نوبواكي نوتوهارا
صورة العرب من خلال مرآة يابانية
كتاب على قدر وافر من الحيادية بل والمصداقية يدور محوره حول أمة العرب، سُطّر بقلم وعين وقلب مستعرب ياباني أمضى ما يقارب الأربعين عاماً من عمره بين أبنائها وعشائرها، ويرى أن (عشرته) الطويلة تلك تعطيه نصيب من الحق في التحدث وبصدق عن قوم ألفهم وألفوه.
لذا، لا بد أولاً من التعريف بالكاتب كـ (مستعرب) لا كـ (مستشرق)، إذ أن (المستشرق) يكون عادة غربياً تناول الثقافة الشرقية كمادة للبحث والدراسة وهو قطعاً لا ينتمي للشرق لا عرقياً ولا جغرافياً ولا ثقافياً، كالإنجليزي آرثر جون آربري الذي عنيّ بترجمة معاني القرآن الكريم، والمؤرخ الفرنسي إرنست رينان الذي درس سيرة الفيلسوف المسلم ابن رشد. بينما يكون (المستعرب) هو من تناول الثقافة العربية وتأثر بها وهو لا ينتمي لبني العرب لكنه جاورهم وساكنهم، مثل الأمازيغ والموريسكيين الأسبان في المغرب العربي والأكراد في مشرقه.
لا يتحدث المستعرب نوبوأكي نوتوهارا (1940) في مقدمة كتابه عن نفسه كثيراً، فيكتفي بعرض مسيرته مع اللغة العربية، حيث ابتدأها عام 1961 حين افتتحت جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية قسماً للدراسات العربية فيها، فالتحق وتخرج فيه بعد أربع سنوات. عمل بعد تخرجه كأستاذ مساعد في جامعة طوكاي، ثم معيداً في جامعته الأولى عام 1969، ليحصل عام 1974 على منحة خاصة من الحكومة المصرية للالتحاق بجامعة القاهرة كطالب مستمع، حيث استهل ابداعه الحقيقي من خلال الانكباب على القراءة والكتابة والترجمة، بالإضافة إلى الانخراط مع الفلاحيين في الدلتا. يتوّج مسيرته بعد ذلك في الارتحال إلى بادية الشام ومعاشرة البدو ردحاً من الزمان، في تجربة غنية لم يعايشها من ذي قبل كياباني تخلو أرض آبائه من بادية. يسترجع نوتوهارا في خاتمة كتابه وبحميمية ذكرياته مع أصدقاء مسيرته العرب الذين يكنّ لهم الكثير من الإعزاز والامتنان في مصر واليمن وسوريا والمغرب، وتجمعه بهم روابط مشتركة وذكريات دافئة رغم بون ثقافة مختلفة لا تشبهه في شيء!.
ينتقد المستعرب في الكتاب وبشكل رئيسي الأوضاع السلبية الجسيمة التي تعاني منها المجتمعات العربية في العموم، حيث القمع، الحاكم المعمّر، انعدام الديمقراطية، هدر حقوق الإنسان، السجناء السياسيين، تهميش المواطن، انعدام الشعور بالمسئولية، غياب العدالة الاجتماعية، حقوق المرأة، عدم توظيف الدين الإسلامي بشكل صحيح، تتبع النمط الأوحد، رهاب قول الحق، الطغيان وفوقية أصحاب السلطة على القانون ….. وغيرها الكثير. وما يضاعف من مرارة هذه الحقيقة الدامغة هو أن القارئ العربي (المحايد) لا يملك إلا أن يومئ برأسه -ولو على استحياء- إيماءة إقرار واعتراف لما عرضه (مستعربنا) من عار وشنار، في الوقت الذي يبرر موقفه مردداً: “رحم الله امرئ أهدى لي عيوبي”.
وفي منأى عن العاطفة التي تتملك المستعرب نحو أصدقائه العرب، فإنه يعزز قيمة الموضوعية التي حرص عليها في كتابه من خلال “تجربة صعبة ومريرة” واجهها كياباني مع قومه أجمعين! فعندما سيطر العسكر على مقاليد البلاد ورقاب العباد وزجّوا بهما في حروب طاحنة ضد دول الجوار، آلت اليابان إلى دمار شامل على يد الولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب الحرب العالمية الثانية. لقد دفع الشعب الياباني الثمن باهضاً الأمر الذي دفعه لأن يكون أكثر وعياً وأن يعترف بالخطأ ويستفيد من الدرس، فأبعد العسكر عن السلطة، وبنى ما دمّره القمع السياسي، واستغرق الإصلاح أكثر من عشرين عاماً عانى فيها اليابانيون الأمرّين. فمن الدروس التي لا ينساها الشعب الياباني كما يقرّ المستعرب هي “إن القمع يؤدي إلى تدمير الثروة الوطنية وقتل الأبرياء ويؤدي إلى انحراف السلطة عن الطريق الصحيح والدخول في الممارسات الخاطئة باستمرار. لقد ضحى اليابانيون جميعاً بأشياء كثيرة تحت سلطة القمع العسكرية، ولكن كان هناك فئة تربح دائماً ولا تخسر شيئاً هي فئة التابعين للسلطة العسكرية، أعنى حاشية السلطة وأعوانها ومخبريها”. وإن اللبيب من الإشارة يفهم.
تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى للكتاب والصادرة عام 2003 من منشورات الجمل، والتي يتطرق فيها الكاتب إلى سبعة مواضيع رئيسية في بلاد العرب. فيُثني على جمال الأدب العربي الذي تعلّمه وعلّمه ويطري عدد من الأدباء العرب، ويتحدث بإسهاب عن ثقافة البدو الذين عاش معهم فترة لا بأس بها من الزمن حيث يرى أن البادية العربية هي الموطن الأصلي للعرب، وهي الأرض الخصبة للتأمل والفلسفة ونشوء العقيدة، ويتفاعل ويتعاطف كذلك مع القضية الفلسطينية ويؤازرها بصدق حيث يرى أن الإعلام مضلل فيما يتعلق بها، كما يطري الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، ويمنحه لقب “الأديب الشهيد”. وبدوري، أتطرق في الأسطر القادمة مع شيء من التعمق إلى أبرز ما جاء في الكتاب من قول صريح موجع، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:
- يسود الشعب العربي حس منعدم بالمسئولية لا سيما تجاه مقدّرات الوطن، فإنما هي أملاك الحكومة لا أملاكه. ففي تلك المجتمعات التي يحرص فيها كل فرد على التميّز إما بكنية أو قبيلة أو منصب أو درجة علمية في ظل غياب العدالة وسيادة القمع وذوبان الاستقلالية الفردية، يُصبح غياب “الوعي بالمسؤولية” نتيجة حتمية وسمة بارزة. “ولذلك لا يشعر المواطن العربي بمسؤوليته عن الممتلكات العامة مثل الحدائق العامة والشوارع ومناهل المياه ووسائل النقل الحكومية والغابات، باختصار المرافق العامة كلها، ولذلك يدمرها الناس اعتقاداً منهم أنهم يدمرون ممتلكات الحكومة لا ممتلكاتهم هم”. إن غياب هكذا شعور بالمسئولية العامة يولّد مظهراً آخراً أشد خطورة، وهو غياب الشعور بالمسئولية تجاه أفراد المجتمع بعضهم ببعض. يضرب المستعرب في هذا مثلاً بالسجناء السياسيين في البلدان العربية الذين ضحّى بهم الشعب، رغم أنهم ضحّوا بمصيرهم وبشجاعة من أجله. يعقّب المستعرب مستنكراً: “فلم نسمع عن مظاهرة أو إضراب أو احتجاج عام في أي بلد عربي من أجل قضية السجناء السياسيين. إن الناس في الوطن العربي يتصرفون مع قضية السجين السياسي على أنها قضية فردية وعلى أسرة السجين وحدها أن تواجه أعباءها”. ومن ناحية أخرى، وعن التقديس الأبوي، يصف المستعرب (أبوة) الحاكم العربي (لأبنائه) من الرعية بـ “الظاهرة الغريبة”، إذ يعتبر اليابانيون كلمة “يا أبنائي ويا بناتي” التي يخاطب بها الحاكم العربي شعبه عادة “إهانة بالغة”. فيرفضها كياباني قائلاً: “نحن لا نقبل بهذه الصيغة! نحن نقول لرئيس الوزراء أنت حر في بيتك، ولكن خارج البيت نحن لا نسمح لك”. ومن جملة الاستنكار، يهزأ من ثقافة (مدح السلطان) الضاربة بجذورها في تاريخ العرب، حيث: “نحن نستغرب ظاهرة مديح الحاكم كما نستغرب رفع صوره في أوضاع مختلفة كأنه نجم سينمائي أو مطرب ذائع الصيت”.
- يستمر المستعرب ليصرّح بأن فضيلة الحرية هي أساس الحياة الكريمة والبوابة إلى العمل والإنتاج والإبداع، ويشبّه القمع بداء عضال ينبغي قهره حتى لا تفقد البشرية الكثير من معانيها. فيقول ضمناً: “وفي سياق الكلام عن الحقيقة فأنني أضيف أن الناس في الوطن العربي يخبئون الحقائق التي يعرفونها حق المعرفة”. يستشهد في هذا بـ (سجن تدمر)، الذي وعلى الرغم من زيارته لمدينة تدمر خمس مرات وزيارة متحفها الشعبي هناك إلا أنه لم يكن يعلم بوجود سجن شهير فيها يحمل اسمها، ولم يكن بالطبع يعرف موقعه! ولهذا مبرر سيكولوجي، حيث “إن الخوف يمنع المواطن العادي من كشف حقائق حياته الملموسة، وهكذا تضيع الحقائق وتذهب إلى المقابر مع أصحابها”. ومع ذكر هذا المتحف، يُعرب الياباني عن استغرابه -ولا أستغرب- وهو يتجول في (السوق السوداء) للآثار العربية، حين يهمس له بالإنجليزية أحد موظفي متحف على حدود إحدى البوادي العربية بـ: “أن اشتري سراً بالطبع قطعاً أثرية. لم أصدق أذني في البداية ولكنه أكدّ لي بوضوح أنه يستطيع أن يؤمن لي قطعاً نادرة، ولم ينس أن يؤكد أننا لن نختلف على السعر”. يستهول المستعرب الياباني إثم خيانة الوطن والضمير والشرف، فيعقّب متعجباً: “شيء لا يصدق” .. غير أن أبناء العرب أنفسهم يصدّقون، بل وبإمكانهم تخمين في أي متحف أو (سوق) عربي كان يتجول!.
- أما في ثقافة المجتمع العربي الذي يبدو إقطاعياً، فلا يُنكر القوم سلوك طفل ربط عنق عصفور بحبل يجرّه فوق التراب بينما العصفور يرفرف في بؤس مستنجداً، فهو مشهد طبيعي تألفه العين ويتكرر في الحياة اليومية، وإنما هو “طفل يتسلى بلعبة” أو مجرد “ضعيف تحت سيطرة قوي”. يكمل المستعرب قائلاً: “والناس يقبلون سلوك المسيطر القوي ويرضخون له، أي يسمح المجتمع أن تسيطر قوة على أخرى أضعف منها”. ومن المواقف التي شهدها المستعرب تصبّ في ثقافة الغالب والمغلوب، الفتى ذو العشر سنوات صاحب عربة الخردوات، والذي تصدمه بسيارتها إحدى معارف المستعرب وهي تقلّه بعد حضوره مؤتمر في ذكرى ميلاد الكاتب طه حسين، فيسقط وتتبعثر أشيائه الصغيرة في حين ترمقه تلك بشرارة حارقة وماطرة بوابل من شتائم كـ “الحيوان المتخلف الغبي”. يعتصر لحظتها قلب المستعرب ألماً ممزوجاً بالعجب ويقول: “أنا لم أتوقع منها هذا السلوك اللاإنساني الفظّ تجاه شاب فقير يسعى لكسب رزقه في ظروف صعبة وعلى عربة خشبية بسيطة! إني أرى سلوكها سلوكاً عنصرياً تجاه من هم أقل مرتبة في سلم الغنى لأنها تملك سيارة”. وفي خضم حديثه عن الجيل يتحدث عن التعليم، وهو حديث يجده المستعرب ذو شجن، حيث ينتهي المطاف بالفتيان والفتيات النوابغ في البادية إلى حال الأفراد العاديين في ظل غياب الاهتمام والرعاية الاجتماعية. فيتحدث عن ابن صديقه السوري، جاسم الهادئ الصامت، الذي “يشع من عينيه ذكاء خاص وشرود يشبه شرود المتأمل. كان دائماً يراقبني بهدوء ويتحدث معي بالطريقة نفسها. كل شيء في ذلك الطفل كان يوحي بأنه سيصبح كاتباً أو شاعراً لو كان طفلاً في اليابان. بعد عشر سنوات رمى جاسم موهبته كلها وأصبح راعياً نموذجياً كما يتوقع منه المجتمع”. وأتساءل بدوري في شجن أعمق: كم من عالم ومفكّر وكاتب وشاعر في وطننا الفسيح يقطن البوادي ويرتدي زي الرعاة ويرعى القطعان حتى الممات؟
- ينتقل المستعرب بعد ذلك ليتحدث عن ظاهرة الفوضى الجماعية التي يدور رحاها يومياً عند مواقف الحافلات في المدن المصرية، حيث تكتظ الحشود ويختلط الحابل بالنابل في سعي حثيث نحو الركوب أو (الشعبطة) بأي ثمن كان، فيستنكر معقّباً: “وفي هذا الازدحام المحموم ينسى الكثير من الرجال والنساء السلوك المحتشم الذي يوجبه عليهم الإسلام كمسلمين”. وفي فطنة يابانية، يستغل المستعرب ثقافة (الحلال والحرام) ليواجه بها احتيال بعض العمّال أثناء إقامته الطويلة في مصر مقابل إصلاحات منزلية، فيتوعد هؤلاء قائلاً: “ألا تخاف الله؟ أنا سأطالبك بالنقود الزائدة التي أخذتها مني يوم القيامة”. ليخلص أن “الجميع كانوا يخافون فعلاً ويأخذون أجرهم في حدود ما كانوا يسمونه الحلال”. وهو لا يزال يتعرّض للسلوك الاجتماعي عند العرب، يفرّق المستعرب في شاعرية بين غضّ النظر وتذوق الجمال، مستشهداً بقول عنترة بن شداد: (وأغض طرفي إن بدت لي جارتي .. حتى يواري جارتي مأواها). ولا يزال يستنكر حجب المرأة بعد أن علم أن: “على المرأة أن تخبئ جسمها لأنه عورة أو لأنه فتنه. وفي الريف على المرأة الجميلة أن تختبئ هي أيضاً في البيت وكأن الجمال لعنة أو ملكية ضيقة ليست للظهور أبداً”.
- وعن الازدواجية، وكإسقاط لشخصية (أحمد عبدالجواد) في (ثلاثية نجيب محفوظ) الثلاثي الأبعاد في البيت والحي والماخور، يتحدث المستعرب عن انطباعه حول معلماً مصرياً زار طوكيو لفترة، وقد كان رغم كونه لطيفاً واجتماعياً “لاهياً إلى أقصى الحدود ومنغمساً في الملذات انغماساً لا يعرف الارتواء”، ولم يكن يتورع عن التصريح بمذهب اللذة الذي كان يعتنقه. زاره المستعرب بعد ذلك في منزله في إحدى أحياء القاهرة الشعبية، وقد هاله “التبجيل المضخم” المقدم لـ (حضرته) من قبل زوجته وابنتيه، فيُعلق قائلاً: “ولقد بدى لي الأب الذي يمثل الاستقامة والأخلاق الصارمة والحفاظ على كل مظاهر الشرف”. وقبيل الغداء، لاحظ المستعرب صاحبه وهو يراوغ لسحبه خارج الدار خلسة نحو خمّارة، ليبدئا بشرب الخمر قبل الوجبة على عادة اليابانيين. وعودة على رواية (سي عبدالجواد)، فقد كانت مهمة تسمين البنات وظيفة الخادمة الأساسية باعتبار أن السمنة النموذج المرغوب به للزوجة الموعودة. عليه، كانت الزوجة والبنتان يرزحن تحت وطأة أرطال من الشحم واللحم، وقد اشتكت البنتان له صدمتهما الثقافية بعد انخراطهما في الجامعة وسط عالم النحيفات، وقد وجدتا النحافة بالنسبة لهما: “شبه مستحيل في ذلك البيت، لأنهم يحافظون على نظام الطعام المليء بالشحوم والدسم والمشويات ونظام القيلولة الطويل”. فيحذًر المستعرب بقوله: “وما لم يتغير النظام نفسه فإن البنات سيعانين من مشاكل السمنة اجتماعياً على الأقل”. ويكمل في صراحة مزعجة قد تثير عنصرية ذوي النزعات الذكورية، إذ يقول: “ليس صديقي وحده مزدوجاً! إن معظم الرجال العرب الذين قابلتهم لهم قيمتان، واحدة في البيت وأخرى في الحياة العامة. الرجل العربي في البيت يلحّ على تثمين قيمته ورفعها إلى السيطرة والزعامة، أما في الحياة العامة فأنه يتصرف وفق قدراته وميزاته ونوع عمله. وهذان الوجهان المتناقضان غالباً ينتج عنهما أشكال لا حصر لها من الرياء والخداع والقمع”.
- ومن حافة بعيدة، كان البيت المتهالك على أطراف مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في دمشق يقطنه رجل خمسيني، وقد برّر تهالكه للمستعرب قائلاً: “هذا بيت مؤقت. بيتي الحقيقي هناك في فلسطين. نحن نسكن هنا بصورة مؤقتة وسنعود إلى ديارنا عاجلاً أم آجلاً، وإذا وضعنا سقفاً بشكل كامل فهذا يعني إننا نتنازل عن العودة”. استأذن العجوز ثم عاد يحمل معه مفتاح بيته في فلسطين وقد اعتبره شيئاً نفيساً، واستطرد قائلاً: “كلنا نحتفظ بمفاتيح بيوتنا. نحن هنا بصورة مؤقتة”.
وقبل الختام، لا بد لهذا الكتاب الناقد أن يحظى بشيء من النقد الأدبي لا سيما من قرّائه العرب وقد خصّهم. إنه كتاب سليم اللغة واضح المفردات، جاءت كلماته على سجيتها عكس ما تميل إليه بعض كتابات المستشرقين/المستعربين من استخدام ألفاظ ممعنة في الفصاحة استخرجوها من بطون قواميس لغة الضاد، تستعصي على فهم أبناء يعرب أنفسهم. وهو كذلك مسترسل بانسيابية في سرد الأفكار حول موضوعاته المختلفة، ومثير في أسلوبه الأدبي لعاطفة القارئ، سواء سلباً أو إيجاباً. غير أنه بالفعل جاء خصب الخيال في إيراد الكثير من الأمثلة لتوضيح فكرته وتعزيز رأيه، كما أنه مباشر وجذاب في عنوانه، حيث يُقرأ الكتاب منه، بل ويثير الفضول نحو قراءته فعلاً ولربما التحفظ بعد قراءته! بالإضافة إلى هذا، فهو كتاب موضوعي حيادي رغم العاطفة المتأصلة بين الكاتب والعرب الذين جعلهم موضوع كتابه، وكما كان يؤكد باستمرار “أنني أعطيت القضية العربية عمري كله، فمن حقي -ربما- أن أقول شيئاً”.
أخيراً، أختم في أسى وأنا أشاهد قومي العرب كما شاهدهم المستعرب من خلال مرآته اليابانية صامتون ذاك الصمت الذي يجهر مدوياً في جلّ حركاتهم وسكناتهم! وأتساءل معه تلك التساؤلات “البسيطة والصعبة” وقد طويت الكتاب لكنها رافقتني كما رافقته من ذي قبل: “لماذا لا يستفيد العرب من تجاربهم؟ لماذا لا ينتقد العرب أخطائهم؟ لماذا يكرر العرب الأخطاء نفسها؟ وكم يحتاج العرب من الوقت لكي يستفيدوا من تجاربهم ويصححوا أخطائهم ويضعوا أنفسهم على الطريق السليم؟” .. وما أشبه الليلة بالبارحة!.
كتاب يبدو أنه كان محظوراً عند إصداره، وقد وصل إلى مكتبتي من مدينة لندن حينها. وأنها لمفارقة أن يتطرق المستعرب في كتابه إلى التعسف السياسي العربي الواضح من خلال إحكام الرقابة، ومصادرة الكتب، وتكميم أفواه الكتّاب!.
قرأته .. وأعدت قراءته بعد أعوام للمرة الثانية .. وقد أقرأه للثالثة، علّ تاريخ العرب في الثالثة لن يعيد نفسه!.
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 23 مارس 2022 – جزء (1) صفحة (10):
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/03/5079.pdf
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 24 مارس 2022 – جزء (2) صفحة (10):
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/03/5080.pdf
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(4)
كتاب/ الألم النفسي والعضوي – المؤلف/ د. عادل صادق
إن هنالك أبعاداً وجدانية للآلام الجسدية
هل يمكن للألم العضوي أن يُستثار فيتضاعف أو يُهمل فيخبت؟ إن هذا التفاعل المتناقض ليس سوى انفعالاً وجدانياً مصدره (العقل) وحده، يصبّ في حقيقة (الألم) كمعنى، أو بالأحرى معنىً خاص يتشكّل بصورة أو بأخرى لدى كل إنسان على حدة، حسب الشخصية أو الموقف أو التوقيت أو الاستعداد، وغيرها من عوامل في قائمة لا تنتهي. في هذا المعنى، يعرض المؤلف رأيه العلمي بلغة عذبة مستخدماً أسلوب السهل الممتنع رغم مادة الكتاب العلمية الخالصة، والتي تصل بالقارئ في نهاية المطاف إلى قدر عالٍ من التصالح النفسي والسلام الداخلي. غير أن الكتاب لا يصلح للقارئ “الموسوس” الذي قد تلحق به علّة ما من حيث لا يحتسب تعود لهواجسه وحسب، والتي تحيل كل مرض عضوي لسبب نفسي، ظاهر أو خفي!.
وعن المؤلف، فهو د. عادل صادق (1943 : 2004)، تعلّم وتخرج في كلية الطب عام 1966 نزولاً على رغبة والده، رغم ميله نحو الأدب والفن الموسيقى، ثم حصل على درجة الدكتوراة في الأمراض العصبية والنفسية عام 1973، وعمل أستاذاً للطب النفسي والأعصاب بكلية طب عين شمس. شغل مناصب أخرى منها رئيس تحرير مجلة الجديد في الطب النفسي، وأمين عام اتحاد الأطباء النفسيين العرب، وافتتح عام 2000 مستشفى يحمل اسمه لعلاج الإدمان والأمراض النفسية لا يزال تمتد شهرته على مستوى الشرق الأوسط. عُرف بالنبوغ منذ صغره وبدماثة الأخلاق وإخلاصه للعمل وسعيه الحثيث نحو رفع وعي المجتمع بالمرض النفسي وسبل علاجه، وذلك من خلال مؤلفاته وأبحاثه التي تجاوزت الثلاثين إصدار، والتي أهلّته عام 1990 للحصول على جائزة الدولة في تبسيط العلوم.
يعالج المؤلف من خلال كتابه القصير سبعة مواضيع رئيسية. فيبدأ في الفصل الأول -وبشيء من فلسفة- بالحديث إجمالاً عن الألم، كإحساس وكانفعال وكعقاب للذات وكوخز للضمير وكبديل للصراع وكتعبير عن العدوان وعن الحب أيضاً، لينتقل في الفصل الثاني إلى الحديث تفصيلاً عن الأمراض النفسية وارتباطها بالألم، كالقلق والهستيريا والفصام والاكتئاب والتوهم المرضي، في حين يعرض في الفصل الثالث أنماط الشخصيات من منظور علاقتها بالألم، كالشخصية القهرية والشخصية الهستيرية والشخصية القلقة. أما الفصل الرابع فيوّضح فيه المؤلف ماهية الأمراض النفسجسمية متطرّقاً إلى الآلام المصاحبة لها، كالصداع والروماتيزم وآلام الوجه وآلام أسفل الظهر، بينما يخصّ الفصل الخامس للمرأة وللحديث عن آلامها كأنثى وكأم، وعن آلامها المرتبطة بطفلها تحديداً وقد أسماها بـ (المحيّرة). وقبل الختام، يُفرد المؤلف الفصل السادس لطرق العلاج، ومن ثم يختم في الفصل السابع حديثه عن معنى الحياة، وكيف أن الحياة بلا ألم إنما هي حياة بلا معنى .. أو بكلمة أخرى هي (الموت).
تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثانية للكتاب والصادرة عام 2015 عن دار الصحوة للنشر والتوزيع، وهي تستلهم من كنوز المؤلف المعرفية ما يبعث على الأمل، وتقتبس منها نزراً يسيراً بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، كما يلي:
- المخ مركز الإحساس بالألم، وبدونه لا شعور للألم .. وكأنه سيد الأعضاء، على الرغم من أن المخ لو قُطع بسكين لما شعر الإنسان بشيء “ومن العجيب أن نعرف بعد ذلك أن المخ هو الذي يدرك الألم الصادر عن أي مكان في الجسم”. ومن العجيب كذلك أن يتم إدراك الألم في عضو ما دونما أي استثارة لنهاياته العصبية، فقد يسمع إنسان ما صوت جرس دون وجود جرس حقيقي، كما يستشعر مريض ما ألماً في رجله رغم بترها. إذاً إن للعقل دور حيوي، إذ يتدخل فيجعل من الألم (عملية وجدانية)، إما أن يستشعر الألم ويضخّمه، أو أن يستبدله بشيء من الرضا والمرح، وكل هذا يعتمد في الأساس على استعداد الإنسان وعلى انفعالاته وتوقّعاته وتاريخه مع الألم. عليه، لا بد وأن يتعاطف الإنسان مع ألمه، فينحاز أو يميل، إذ أن حيادية المشاعر تعني التبلد .. تعني الموت، ولا يصاب بهذه الحيادية إلا المريض العقلي.
- إن المسار الحقيقي للألم يبدأ من العقل وينتهي في الجسد .. من الوجدان إلى العضو، إما حقيقة أو وهماً، وقد تكثر الأوهام وقد يتمسك بها المريض طالما أنها تحقق له منفعة ما .. قد نكون فعلاً نحتاج لآلامنا! ومن هذه الحقيقة يرى المؤلف أن الألم يرتبط وبقوة بالحب، فقد يحتاج إنسان ما لحظة موته إلى الحب، فيبثّ عقله ألماً إلى جسده فوراً، فينادي على من يحب ليحصل على آخر جرعة حب .. الألم هو النداء، وهو استعادة لخبرة حب أو لحظة حب أو موقف حب .. وقد يموت شريك عمره أو رفيقه العزيز، فتزوره آلام في نفس الأعضاء التي تألم منها شريكه، كنوع من التعبير عن الأسى! يستمر المؤلف وهو يكشف جانباً من الإنسان يحرص على إخفائه، فقد يكبر أحدهم ويتعلم وينضج ويوصف بالمتزن والعاقل، غير أنه في لحظة ضعف إنساني واحدة كخوف أو وحدة أو تعب أو تهديد، يفزع الطفل في داخله فيصرخ منادياً على من يحب أن: “كن بجانبي وابعث الدفء في وحدتي”.. ألم داخلي يمتزج بألم خارجي! أيهما الأصل وأيهما الصورة يا ترى؟ لكنه يبدو من ناحية أخرى ألماً ضرورياً، حيث يأتي الألم أحياناً ليحمي الإنسان بشكل ما .. إنه حقاً ضروري كالأكسجين! فعند موت إنسان عزيز لا بد وأن تكون معاناة الألم عند شريكه أقوى من معاناة الفقد، وإلا فقد عقله، فمن غير الأكسجين تموت خلاياه ومن غير الألم تموت نفسه. لكل منا عزيز، يرقى ارتباطه به ليصبح كرباط الجسد، ويصبح موته كفقد جزء من هذا الجسد. يقول د. صادق: “إنه شكل من أشكال التوحّد التي لا غنى للإنسان عنها في رحلة حياته .. وإلا مات الإنسان”.
- يتوقع المؤلف أن حياة بعض المرضى ستضطرب لو أن عقاراً سحرياً شفاهم كلية من أمراضهم التي عانوا منها سنيناً طوالا، حيث إن هذا الألم كان في حقيقة أمره (دعامة) وعامل استقرار لهم، فلما زال، زال الأمان، وأصاب حياتهم بالارتباك! يستطيع الجسد تحمّل آلاما جمّة، لكن النفس لا تستطيع حمل صراعات الهزيمة والفشل والموت، فيأتي الجسد ليحيط بالنفس كالمظلة. يقول د. صادق: “الجسد مظلة تحيط بالنفس .. مظلة تتلقى أشعة الشمس الحارقة فتكتوي بها وتمنعها عن النفس”. وفي حديثه عن الاكتئاب، يعترف له أحد أساتذته بأن الاكتئاب يسبح في دمه، ويحيله ناراً يشعر بلسعها في جسده وفي ملابسه، تكاد أن تصيبه بالجنون. يقول د. صادق: “معظم الناس تنسى أنها ستموت” ويستطرد ليقول: “المكتئبون يرحبون بالموت”. لذا، عادة يشير المريض العضوي إلى ألمه، لكن لا يستطيع المريض النفسي فعل ذلك! إن مرضه أفدح فتراه يشير إلى السماء.
- يشرح المؤلف حالة أم لم تجد ابنتها في نهاية يوم دراسي وهي تنتظرها كعادتها عند بوابة المدرسة، فصعدت الدماء إلى رأسها عندما نهشتها أوهاماً مخيفة كاختطاف ابنتها أو قتلها، ما أصابها بالصداع المزمن من وقتها، على الرغم من أنها وجدت ابنتها أمامها في لحظة أوهامها تلك! لا تزال تلك الأم تعتقد أنها مصابة بورم في المخ بسبب هذا الصداع المزمن. وفي حالة أخرى يصف المؤلف صاحبها قائلاً: “ينفجر رأسه بالصداع أو يشتعل بطنه بالأوجاع” .. إنه صاحب الشخصية القهرية، حيث أن القلق هو أهم حالة نفسية تصيب الإنسان بالصداع، وقد يتزامن بتزامن القلق في حياة الإنسان، وفي أسوأ الحالات يصيب حياته بالشلل .. فلا تفكير ولا تركيز ولا عمل. يقول د. صادق: “وفي حالة القلق المزمن يألف الإنسان الصداع بحكم العشرة وتمضي حياته والصداع في رأسه أو على رأسه”. وعلى الرغم من أن أصحاب الشخصية القلقة ترعبهم فكرة الموت، إلا أنهم يعيشون زمناً أطول عن أصحاب الشخصيات الأخرى، وذلك حسب آخر (مفارقات) التقارير العلمية. ومن ناحية علمية كذلك، لم يُعرف حتى الآن سبباً قاطعاً للصداع النصفي، ويُعتبر الأذكياء والطموحين والمثقفين أكثر عرضة للإصابة به، وعندما يصيب الصداع الرأس، تتأثر الأوعية الدموية والأغشية والعضلات ماعدا المخ! عجباً له، فهو كالسيد، يصدر عنه الألم لكنه لا يشعر به. واستكمالاً لأنماط أخرى من الشخصيات، فإن الشخصية الهستيرية تقيم مجزرة ضد دبوس لا يرى بالعين المجردة قد اقترب منها عن غير قصد وأحدث جرحاً بريئاً، كما أن الويل والثبور قد يطول من حضر الحادثة الشنعاء ولم يبدِ تعاطفاً. تتأثر هذه الشخصية بالإيحاء، كما أن الافتقار إلى التحليل الموضوعي هو أحد سماتها، وهي شخصية تستمر بالصراخ حتى بعد انقضاء الألم. بعد كل هذا، يؤكد المؤلف أن عذاب الإنسان في حقيقته مركب، فيبدأ بنقطة باهتة تنتهي إلى جبل شاهق، وهو يستمر يخلق لنفسه سلسة من عذاب تلو عذاب يلفها بيديه حول عنقه، في حين يتصارع مع ذاته ومع رغباته التي قد تتعارض مع الدين والعرف، فتُكبت تلقائياً في اللاشعور.
- يزداد الألم النفسي عندما يرتبط بألم المفاصل الذي يعوق الحركة ويعيق الحياة بأكملها، فيضيف الألم النفسي حملاً آخراً على المفاصل، ويزيد من حدّة ألمها. قد ينجم مرض الروماتيزم عن فورة غضب أو فقد عزيز أو خسارة صديق، فيؤثر هذا الانفعال على جهاز المناعة والذي يؤثر بدوره على المفاصل. ويحدث أن “يتيبس” أحدهم في مشاعره كما “تيبست” مفاصله، إذ يصبح أكثر حدّة وأكثر بعداً حتى عن المقربين منه. وفي صورة أخرى، قد تؤدي آلام أسفل الظهر إلى إصابة أحدهم بالعجز الجنسي، والعكس وارد أيضاً، فقد يؤدي العجز الجنسي في التسبب بالحرج الذي يصيب بالتالي أسفل الظهر بالألم، فيصبح هذا الألم شمّاعة عجزه وليس العكس. وفي حالات أخرى، قد تتفوق الزوجة علمياً وعملياً ومادياً واجتماعياً على زوجها، فيُقصم ظهره كحيلة لمداراة عجزه الجنسي الناشئ عن نفوره من زوجته، والذي هو في حقيقته نفور بسبب فشله أمامها.
- وعن الأمراض النفسجسمية، تشير التقارير إلى أن 50% من المرضى الذين يعانون من آلام في البطن والصدر لا يعانون فعلياً من أي مرض عضوي، فهي آلام تعود لأسباب نفسية. وتسجّل التقارير أيضا 40% من الحالات التي تضطرب فيها وظائف الجهاز الهضمي لأسباب نفسية، دون العثور على أي مرض عضوي مباشر. غير أن للنفس أفاعيل أخرى، حيث ترتسم “كلمة الحب” على وجه المحب تلقائياً .. إنها أعصاب الوجه الخاصة بالعاطفة والتي تتغذى بالإحساس والوجدان. يقول الحبيب عندما قرأ كلمة “أحبك” على وجه حبيبته قبل أن تنطقها: “وحين امتلأ وجدانك حباً استرخت عضلات وجهك بالبهجة واتسعت عيناك بالسرور واجتمع الشوق مع الفرحة ليسيطرا على شفتيك فخرجت من بينهما الكلمات راقصة بفرح”. ويعقّب د. صادق قائلاً: “وما زال العلم عاجزاً عن تفسير ذلك النور الذي يملأ الوجه حين يشعر الإنسان بالحب والسلام والطمأنينة”. لكنه يقول في موضع آخر: “سالت دموعها فرحة أنه لم يعرف أنها تتألم، وسالت دموعه فرحاً أنه جعلها تشعر أنه لم يعرف أنها تتألم” …. في تعبير مؤلم لقصة أكثر إيلاماً أوردها في كتابه.
- إن لحظات الولادة أشبه بلحظات تتويج ملكة! الألم هناك في رحمها فقط، لكن عقلها ووجدانها يهتزان فرحاً. تبكي وقد يبكي وليدها لبكائها، لكنها تستعجل ولادته لا للخلاص من آلامها بل ليكتمل زهوها به. وهناك ثمة علاقة سادية-مازوخية .. المعتدي هو الرضيع والمعتدى عليها هي أمه!.
يختم د. عادل صادق حديثه العذب عن الإنسان وهو يقطع طريقه بين الرجاء في الحياة وبين الموت المحتّم، فما الموت إلا (رحمة) في أحيان لا يُرتجى سواه، فيقول بيقين المؤمن: “وقد يجيء الموت في لحظة يتصاعد فيها الألم إلى أقصاه .. وفي ذلك رحمة، لأنه مع هذا الألم الشديد تهون الحياة ولا يشعر بالأسف لمغادرتها فقد كانت كلها حتى لحظاتها الأخيرة معه مصدراً لكل ألم”. وما الألم سوى (نعمة) يُعطي الإنسان -بعد أن يبرأ منه- دفقة جديدة للحياة وبمفهوم آخر عنها، فهي تستحق العيش مهما كان. فيقول: “إنه الرضى الذي يملأ النفس سروراً فيجعل للألم مذاقاً مقبولاً”.
وأختم بدوري بعبارة تستخلص الحكمة من قول الحكيم عن الألم، الذي وإن كان يُفسر علمياً كإنذار لخلل بيولوجي أصاب أحد أنسجة الجسم .. فإنه ألماً يعطي للحياة المعنى .. وأي معنى؟!
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 30 مارس 2022 – جزء (1) صفحة (10):
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/03/5084.pdf
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 31 مارس 2022 – جزء (2) صفحة (10):
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/04/5085.pdf
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
أنشر هذه المقالات في شهر ابريل 2022 والذي يصادف شهر رمضان المبارك 1443
رمضان كريم
وكل عام والجميع بخير
همى الغيث
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(5)
كتاب/ القرآن المعجز – المؤلف/ د. جاري ميللر
المنطق القرآني سبباً في اعتناق عالم رياضيات للإسلام
كتاب موجز دوّنه المبشّر السابق وأستاذ الرياضيات د. جاري ميللر، حينما أراد قراءة القرآن الكريم بغية (فضح) ما به من أخطاء وتناقضات، والتي زخر بها من قبل الإنجيل المقدس عندما وقع عليها وهو يعمل كناشط في مجال التبشير المسيحي، وقد اعتقد ابتداءً أنه سيجد في هذا الكتاب وصفاً للصحراء والجمال والخيام المنصوبة فضلاً عن سيرة محمد الذاتية، الأمر الذي حمله إلى اعتناق الدين الإسلامي في نهاية المطاف. اختار اسم (عبدالأحد عمر) بعد اسلامه وعكف على دراسة اللغة العربية من أجل فهم أدق للقرآن الكريم، وأصبح ناشطاً مرة أخرى لكن في مجال التأليف وإلقاء المحاضرات حول الدين الإسلامي، وتعرض شبكة المعلومات عدداً من المواد المسموعة والمقروءة عن المؤلف وكتابه، فضلاً عن مقابلات شخصية معه. ولقد عمل بعد اعتناقه للإسلام في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في المملكة العربية السعودية ضمن أعضاء هيئة التدريس ولعدة سنوات.
بالإشارة إلى عنوان كتابه، لا يعتقد د. ميللر أن المسلمين هم فقط من يصف القرآن الكريم بـ “المدهش”، بل أن هناك الكثير من غير المسلمين من يعتقد فيه هذه الصفة، بل والأكثر دهشة أن بعض من أولئك هم فعلياً من الكارهين للإسلام كراهية كبرى، إلا أن الشمس لا تُحجب بغربال بطبيعة الحال!.
تعتمد هذه المراجعة على الترجمة العربية للكتاب من لغته الأصلية ( The Amazing Qur’an – By: Dr. Gary Miller ) والتي عني بها موقع (إسلام هاوس) على شبكة المعلومات عام 2005. تعرض قائمة المحتويات في صفحة الكتاب الأولى إحدى وأربعين موضوعاً، تحمل عناوين ذكية مثل: (عن البحر، أدق الأشياء: العسل، اختبار عدم الزيف، علم طبقات الأرض، الوحي وأبو لهب، مفارقة مع قس، شهادة مفكر، منشأ العالم والحياة)، والتي اختار منها ما أذهل عالم الرياضيات بعد قراءته للقرآن الكريم الذي (لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
التحدي الصريح والقائم الذي جاء به القرآن الكريم في عدد من آياته ككتاب يخلو من الأخطاء، كآية: “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا”. فيعتقد د. ميللر أن موقف التحدي هذا ليس من طبيعة البشر في شيء، حيث يشبهّه بطالب دخل قاعة امتحان وأجاب عن أسئلته، ثم ذيّل إجابته بتحدٍ للمراجع في إيجاد خطئاً واحداً بين إجاباته! بطبيعة الحال، سيتفرغ ذلك المراجع للبحث عن خطأ حتى يجده. عليه، لن ينجح أحد في هذا النوع من التحدي، لذا استخدمه الله مع المعاندين فقط. وبنفس النهج وعلى طريقة الرياضيين، يتتبع د. ميللر موقف أبي لهب وزوجه المعاند، ويعلق بمنطقية كاشفاً جانب من جهلهما قائلاً: “إن القرآن ذكر أن عم رسول الله هو وزوجته من أهل النار، وقد عاشوا بعد هذا التقرير مدة طويلة وماتوا على الكفر والعياذ بالله. فإن لم يكن ذلك وحي من الله فماذا يكون التفسير المقنع؟ لمَ لمْ يدّعي أبو لهب وزوجته الايمان فقط من أجل تكذيب القرآن؟ وقد كان يريد وزوجته اظهار كذب رسول الله بأي طريقة، ولكن هذا لم يحدث أبداً”.
عدم تطرق القرآن الكريم لسيرة النبي محمد ﷺ الذاتية، بل ظهر وهو يعمد إلى تأصيل القواعد العامة في علاقة الإنسان بالخالق وبالخلق. إذ لا وجود -على سبيل المثال- لخبر موت بنيه أو زوجه أو ما راوده من انفعالات حال تنّزل الوحي عليه، وغيرها من أمور التي لا بد وقد شغلت حيزاً كبيراً من عقل النبي ﷺ ونفسه وآلامه وسلوكه، إلا أن عدم ورود شيء من قبيل الانطباعات الشخصية لهو دليل على المصدر الإلهي للقرآن الكريم لا بشريته كما يدعّون. وفي لغة تبدو للبعض (نسوية)، يُثني المؤلف على أم المؤمنين (السيدة خديجة بنت خويلد) بعظيم الثناء وقد اطّلع على السيرة النبوية العطرة، لا سيما أوائلها حيث الصعاب التي واجهها النبي الأكرم ﷺ وتزامنها مع وفاة أكبر معين له، فيقول في استنباط شاعري: “في الواقع، فقد كانت زوجة عظيمة لأنه في بداية الوحي لجأ إليها خائفا يرتعد، فواسته وثبتته وأيدته. وأنت لا تجد حتى في أيامنا هذه أحداً من العرب حينما يكون خائفا أن يذهب لزوجته ليعلنها بهذا الخوف، ولكن لا يتم هذا الإخبار إلا إذا كانت هناك رابطة قوية جداً بينه وبين زوجته حتى يرفع تلك الكلفة بينهما، وهذا يوضح لك مدى قوتها وثقة الرسول عليه الصلاة والسلام فيها. وبالرغم من أن هذه بعض الأمثلة فقط التي تنبئ بما كان يدور في ذهن الرسول، ولكنها كافية لتوضح وجهة نظري”. ومن المدهش أن يستشف رجل أحمر -قرأ لتوه السيرة النبوية- معنى (السكن) بين النبي وزوجه، في حين لم يضع أحد بنو العرب كبرياءه جانباً على امتداد أربعة عشر قرناً ليتأسى ويركن إلى سكنه .. في حاجة وفي غير حاجة، فضلاً عن أن يصرّح بهذا (التنازل) علناً!.
دعوة القرآن الكريم قارئيه لسؤال أهل الاختصاص في أي علم كان .. في علم الأحياء، في علم النبات، في علم الجغرافيا، وغيرها، عملاً بالآية الكريمة: “فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ”. وقد كان هذا ديدن المسلمين الأوائل في انفتاحهم على علوم الغير، وانتهاج منهج البحث، وتحقيق الكثير من الاكتشافات المذهلة بناءً على ذلك. وهو كذلك يتطرق إلى عدد من الحقائق العلمية كـ (علم الأجنة) على سبيل المثال لا الحصر، حيث استعان د. ميللر في هذا برأي د. كيث موور وهو باحث أكاديمي من جامعة تورنتو مختص في هذا المجال، الذي أقرّ بأن مراحل تطور الجنين كما جاءت في سورة الحج لم تكن معروفة قبل حوالي ثلاثين عاماً. وقد جاء هذا الاستنتاج من خلال تعاون علمي تم بينه وبين مجموعة من الباحثين في المملكة العربية السعودية. ويستمر د. ميللر في حديثه عن الإعجاز القرآني وفي اختصاص أنثى النحل تحديداً بإنتاج العسل، حيث يعقد مقارنة علمية لا تخلو من طرفة بين أنثى النحل في القرآن الكريم وذكر النحل في مسرحية شكسبير، فيقول: “هل يمكنك التمييز بين ذكر النحل وأنثى النحل؟ يحتاج الأمر لخبير للتمييز بينهما! ولكن تم الاكتشاف بأن ذكر النحل لا يغادر الخلية أبداً لجمع الغذاء. ومع ذلك في مسرحية (هنري الرابع) لشكسبير يدور نقاش بين الشخصيات يوضح أن النحل عبارة عن جنود ولديهم ملك، فهذا ما كان الناس يعتقدونه في عصر شكسبير أن النحل الذي نراه يطير هو جنود ذكور يمتثلوا لأوامر ملكهم، ولكن هذا ليس صحيحاً على الإطلاق، لأن الحقيقة العلمية تؤكد انهن إناث يمتثلن لأوامر ملكتهم”.
وكمقارنة بين الأديان، يستعين د. ميللر بالإنجيل المقدس من أجل الاستدلال بمعجزة جرت على يد السيد المسيح (عليه السلام) في إحياء أحد الأشخاص بعد وفاته لأربعة أيام، فما كان من ثلة من اليهود إلا أن صاحوا في عند وافتراء: “الشيطان يساعده .. الشيطان يساعده”. وقد جاء هذا الاستدلال كتعقيب على حوار جرى بينه شخصياً وبين أحد القساوسة، والذي أشار من خلاله إلى القرآن الكريم موجهاً كلامه إلى القسيس قائلاً: “أنا أثق بهذا الكتاب” ويكمل: “ومن غير أن يعرف ماهية الكتاب الذي أشير إليه، أجاب: (إن لم يكن هذا الكتاب هو الكتاب المقدس، فهو مكتوب من أحد البشر). وكاستجابة لهذه الملاحظة قلت له: (دعني أذكر لك شيئا مما في هذا الكتاب). وأمضيت حوالى ثلاث أو أربع دقائق أسرد له بعض ما جاء فيه، وبعد هذه الدقائق، عاد وغير من لهجته قائلا: (أنت محق ليس هذا قول بشر، هذا من أقوال الشيطان، الشيطان قد كتبه)!. بالطبع هذا التعليق السريع بائس جداً لأسباب كثيرة. فهو اعتذار رخيص جداً، كما أنه هروب من مواجهة موقف محرج”.
وكختام لهذه المراجعة، أبى قلمي إلا أن يسطّر كلمة في نعمة الإيمان بالفطرة، إذ أن الحديث عن هذه النعمة قد تكون أبلغ في التعبير حين يتحصّلها المرء لا عن طريق الوراثة ولا التلقين، بل من خلال عملية التفكير الحر وبتجرد ومنطقية! وهذا ما تترجمه مداخلة د. جاري ميللر في ندوة حضرها كانت تدور حول (الإيمان بالله من وجهة نظر فلسفية)، إذ قال وقد صدق: “إن المتتبع لحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لابد أن يؤمن بالله، فإيمانه وثقته التي لاتحد والنور الذي يشع من إيمانه هو بالله سبحانه وتعالى وأثر ذلك على كل تصرفاته، لهي أكبر معين ننهل نحن منه، فمن نوره نقتبس نور إيماننا، فهو النور الذي لا ينضب، وهو المثال العملي الذي يغنينا عن آراء الفلاسفة، وذلك أدعى إلى الإيمان الثابت الذى لا يتزعزع”.
وبدوري أنتهي بـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا).
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 6 ابريل 2022 – صفحة (10):
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/04/5089.pdf
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(6)
كتاب/ الموسوعة الميسرة في التاريخ الإسلامي
المؤلف/ فريق البحوث والدراسات الإسلامية في مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة
سلسلة التاريخ الإسلامي منذ النشأة حتى الوقت المعاصر
موسوعة ميّسرة تعرض سلسلة التاريخ الإسلامي في مجلدين، تستهل الجلدة الأولى من المجلد الأول بالنشأة عند تنزّل الوحي مع بداية عصر النبوة، لتقف عند الجلدة الأخيرة من المجلد الثاني إلى ما آل عليه الوضع في العصر الحالي من ضعف وانقسام وتشرذم. وعلى الرغم من أن الموسوعة جاءت في مجلدين، إلا أنه بالإمكان اعتبارها مقدمة تعريفية عامة في التاريخ الإسلامي، والتي تدفع إلى الاستزادة بعد ذلك من خلال مراجع وبحوث متعمقة أخرى.
تأتي أهمية تدوين التاريخ الإسلامي كأعظم وأرقى وأصحّ تاريخ إنساني سرى على ظهر هذه البسيطة، “فالتاريخ الإسلامي هو تاريخ أمة شاهدة وأمة خاتمة وأمة صالحة وأمة تقية نقية”. كما تذكر الموسوعة، غير أن أهميته لا تقتصر على مجرد تدوينه فحسب بل في اعتباره دستور حياة، من خلال دروس الماضي وفي كل ما يصلح الحال والمآل.
تعتمد هذه المراجعة على الطبعة السابعة والعشرين للموسوعة الصادرة عام 2014 عن مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، والتي عني بها فريق البحوث والدراسات الإسلامية وحققها د. راغب السرجاني، وهو داعية ومؤرخ إسلامي مصري حاصل على درجة الدكتوراة في الطب. وقد جاءت هذه الموسوعة دقيقة ومفصّلة في ثمانية أبواب رئيسية ما يعكس جودة البحث، والتي أعرض منها ما علق في ذهني بعد قراءتها وباقتباس يسير بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
المجلد الأول:
في (الباب الأول: موجز السيرة النبوية) ينقسم تاريخ هذه السيرة إلى فصلين: (الأول: من الميلاد إلى البعثة) ويتم التطرق فيه إلى نسب الرسول ﷺ، وولادته، وكفالة جده عبدالمطلب له بعد وفاة أمه، ومن ثم كفالة عمه أبو طالب بعد وفاة جده. تسرد السيرة بعد ذلك أهم الأحداث التي مرت به ﷺ في تلك الفترة، كحادثة شق الصدر في طفولته، ولقاءه بالراهب بحيرا في الشام وهو غلام، ورعي الغنم في شبابه، وتحكيم القبائل له بعد إعادة بناء الكعبة وهو على مشارف الأربعين. أما في (الثاني: من البعثة إلى الهجرة) فتتطرق السيرة إلى بدء نزول الوحي والدعوة إلى الدين الإسلامي وإسلام السابقين، لتعرج إلى مرحلة الاضطهاد التي دفعت المسلمين الأوائل إلى الهجرتين نحو الحبشة، ومحاولات المشركين في ردهم وما انطوت على مساومات ومقاطعات. ومن أهم أحداث هذه الفترة هو عام الحزن الذي شهد وفاة زوج الرسول ﷺ خديجة وعمه أبو طالب، ورحلة الإسراء، وخروجه إلى الطائف، وزواجه من عائشة أم المؤمنين، ودخول الأنصار في الإسلام، وبيعتا العقبة الأولى والثانية، وهجرته إلى المدينة المنورة. يؤسس الرسول ﷺ للدولة الإسلامية في المدينة بعد هجرته إليها والتي شهدت إنجازات عديدة، كبناء أول مسجد، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وعقد المعاهدة بين المسلمين واليهود. تشهد أيضاً شن الغزوات كغزوة بدر وغزوة بني قينقاع وغزوة أحد وغزوة الأحزاب وغزوة مؤتة وغزوة حنين وغيرها. تم فيها كذلك عقد صلح الحديبية وبيعة الرضوان، وفتح خيبر، ثم فتح مكة وقد كان هو الفتح الأعظم. تنتهي هذه الفترة بحجة الوداع، ووفاته ﷺ ولحاقه بالرفيق الأعلى.
أما (الباب الثاني: الخلفاء الراشدين) فتظهر فيه فترة الخلافة كأصدق الفترات بعد النبوة، إذ لم يكن خلفاؤها ذوي مطامع سياسية أو أصحاب شعارات في الاستقلال والتحرير، بل كانوا فاتحين معلّمين هادين مهديين. وينقسم التاريخ عندها إلى: أولاً (خلافة أبو بكر الصديق – ربيع أول 11 هـ : جماد الأخر 13 هـ)، وتتحدث الموسوعة عن انتخابه كأول خليفة للمسلمين وعن أهم الأحداث التي تصدى لها، كأزمة المرتدين، وإنفاذ جيش أسامة، وبداية جمع القرآن الكريم. تبدأ في هذه الفترة أيضاً فتوحات العراق وبلاد فارس وغزو الروم في الشام. ثانياً (خلافة عمر بن الخطاب – جماد الأخر 13 هـ : ذي الحجة 23 هـ): تتعرض الموسوعة إلى الكيفية التي تم فيها استخلافه بعد وفاة الخليفة الأول، ثم تستهل بسرد الفتوحات التي تمت في عهده وهي كثيرة، مثل فتح دمشق وأجنادين وبيت المقدس ومصر وبلاد فارس، مع شيء من التفصيل في الأحداث البارزة، مثل معركة القادسية ومعركة اليرموك ومعركة نهاوند ويوم عماس ويوم أرماث ويوم أغواث. أيضاً، تتطرق إلى بعض المجريات التي تخللت تلك الفتوحات، كعزل خالد بن الوليد، ومعاهدة أهل إيلياء، وانهزام المسلمين في معركة الجسر، وتثاقل رستم عن مواجهة المسلمين، وانكسار يزدجرد كسرى فارس. تنتهي هذه الفترة باستشهاد الخليفة الثاني في صلاة الفجر بطعنة خنجر مسموم على يد أحد المجوس الذي أسلم ظاهراً. ثالثاً (خلافة عثمان بن عفان – ذي الحجة 23 هـ : ذي الحجة 35 هـ)، وتتحدث الموسوعة هنا عن إنشاء أول أسطول بحري إسلامي في عهده كخليفة ثالث للمسلمين والذي أعقبه فتح قبرص. تتم في عهده عملية جمع القرآن الكريم، وتشهد اشتعال أول شرارة للفتنة بين المسلمين. رابعاً (خلافة علي بن أبي طالب – ذي الحجة 35 هـ : رمضان 40 هـ)، وتواصل الموسوعة في الحديث عن الفتنة التي استمرت في عهده كخليفة رابع للمسلمين، لا سيما موقعة الجمل وموقعة صفين اللتان مهدتا لظهور الخوارج. وفي عهد الخلافة الرشيدة، وبمجرد مقتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، سارعت الفرس بنقض المعاهدات وبدأت والروم بمحاولات طرد المسلمين من الشام “فواجه عثمان محنة عظيمة كتلك المحنة التي واجهها أبو بكر في حروب المرتدين”، إلا أن المسلمين الأُول استبسلوا في الدفاع حتى تمكنوا من إعادة السيطرة على تلك المناطق وقبلوا اعتذار أهلها، الذين استمروا في العيش بسلام تحت كنف دولة الإسلام.
في (الباب الثالث: الخلافة الأموية – 41 هـ : 132 هـ) تبرز الخلافة هنا كدولة حافظت على جميع مظاهر القوة بين الأمم رغم ما نالها من فتن وما شهدت من ثورات، ولم تظهر بمظهر الضعف إلا ككبوة. ما كان يميز هذه الفترة هو طابع الجهاد في سبيل الله حيث الإسلام يكتسح مشارق الأرض ومغاربها، ومن كان يصطف في جيوشها من الصالحين وكبار العلماء والتابعين. هنا، يُعرض تاريخ الخلافة في فصلين: (الأول: خلفاء بني أمية) وتستهل الخلافة بمعاوية بن أبي سفيان الذي أعاد الأمن للبلاد وبدأ أولى محاولات فتح القسطنطينية، وقد أولى بالخلافة لابنه يزيد قبل مماته، فيستتب الأمر له ويبايعه المؤيدون والمعارضون كأول أمير للمؤمنين في الدولة الأموية، مع قناعته بمن هو أكثر أهلّية منه بين كبار الصحابة آنذاك، إلا أنه كان يرجو أن يكون “أنفعكم ولاية وأنكأكم في عدوكم” كما قال في خطبته. ومن أبرز خلفائهم ايضاً الوليد بن عبدالملك الذي اكتمل في عهده بناء الجامع الأموي في دمشق، وابنه سليمان بن عبدالملك الذي حاول من جديد فتح القسطنطينية، وعمر بن عبدالعزيز الذي سار على نهج الخلفاء الراشدين الأربع. تنتهي هذه الخلافة بالخليفة مروان بن محمد. (الثاني: الفتوحات في عهد بني أمية) وتمتد الفتوحات في هذه الخلافة شرقاً وغرباً، حيث تأتي على الشمال الأفريقي وصولاً إلى المغرب وبلاد الأندلس، ثم تعكس الاتجاه نحو بلاد ما وراء النهر وبلاد الترك وبخارى وسمرقند، فضلاً عن المحاولات الرامية نحو أرض الهند وأرض الصين.
وفي (الباب الرابع: الخلافة العباسية – 132 هـ : 656 هـ) يتشعب التاريخ في هذه الخلافة إلى ستة فصول: (الأول: خلفاء بني العباس) حيث يتم التطرق أولاً إلى كيفية بدء الدعوة العباسية بتعثر وقد اشتبكت في عراك مسلّح مع الدولة الأموية انتهت باستخلاف عبدالله بن محمد بن العباس كأول خليفة لبنو العباس وقد لُقب بـ (السفاح). يستهل الفصل بأسماء خلفاء العباسيين تباعاً، مثل: المنصور، محمد المهدي، هارون الرشيد، المأمون، المعتصم، الواثق بالله، محمد المنتصر، المستعين بالله، المعتضد بالله، المكتفي بالله، المقتدر بالله، المتقي بالله، المستكفي، الفضل المطيع لله، الطائع لله، القائم بأمر الله، المقتدي بأمر الله، المستظهر بالله، المسترشد بالله، المقتفي لأمر الله، المستنجد بالله، المستضيء بأمر الله، محمد بن الناصر، المنصور بن الظاهر، وغيرهم. تشهد هذه الخلافة أمور جمّة، كبناء مدينة بغداد، ومحنة البرامكة، ومحنة خلق القرآن التي ارتبطت بمحنة الإمام أحمد بن حنبل، وثورة صاحب الزنج، وتنفّذ السلاجقة الأتراك، وسيطرة البويهيين، وصراع السنة والشيعة، وغزو التتار. يعتلي هارون الرشيد سدة الحكم في الدولة العباسية وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وقد كان ذو مناقب عدة، فمع كثرة صلاته واستدامته على الحج عام والغزو عام، كانت فترة حكمه الأكثر رخاءً، وقد لحقتها من النوازل والكوارث الكثير، كمحنة خلق القرآن المذكورة آنفاً. يخاطبه نقفور ملك الروم في رسالة إليه يبدأها بـ “من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب”، فحواها المطالبة باسترداد ما دفعت له الملكة السابقة من جزية، مع تهديد صريح بإعمال السيف بينهما إن لم يستجب! يقلب هارون الرشيد تلك الرسالة الحمقاء ويكتب في ظهرها رداً بليغاً قائلاً: “من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة والجواب ما تراه دون ما تسمعه”. (الثاني: أهم الدول التي قامت في عهد الخلافة العباسية) وتصنّف الموسوعة هنا أحد عشرة دولة استطاعت الاستقلال عن الدولة العباسية التي لم تتمكن من إرسال الجنود لإخضاعها من جديد. هي: الدولة الرستمية التي أسسها رستم بن بهرام في تاهرت بالمغرب على مذهب الإباضية. دولة الأدارسة وأسسها ادريس بن الحسن في المغرب أيضاً على مذهب الزيدية. دولة الأغالبة وأسسها إبراهيم بن الأغلب في شمال أفريقيا ابتداءً من تونس الحالية. وهنالك أيضاً دولة بني زيري بالمغرب، الدولة الطولونية، الدولة الإخشيدية، دولة بني حمدان، الدولة السامانية، الدولة الغزنوية، الدولة الخوارزمية، الدولة الغورية. (الثالث: المسلمون في الأندلس – 92 هـ : 897 هـ)، وتشهد شبه الجزيرة الإيبيرية على بسالة المسلمين الأُول، أمثال طارق بن زياد وموسى بن نصير وعبدالرحمن الغافقي ويوسف بن تاشفين، وكذلك على ذلة المتأخرين منهم حين طُردوا منها شر طرده غير مأسوف عليهم، هكذا على امتداد ثمانية قرون، مخلّفين وراءهم محنة الموريسكيين. وينقسم التاريخ الأندلسي إلى عشرة مراحل، هي: 1. ولاية تابعة للدولة الأموية (92 هـ : 138 هـ) 2. إمارة موحدة (138 هـ : 238 هـ) 3. التدهور الأول (238 هـ : 300 هـ) 4. عودة القوة وإعلان الخلافة (300 هـ : 368 هـ) 5.قيام الدولة العامرية (368 هـ : 399 هـ) 6. التدهور الثاني وسقوط الدولة الأموية (399 هـ : 422 هـ) 7. ملوك الطوائف (422 هـ : 484 هـ) 8. عهد المرابطين (484 هـ : 539 هـ) 9. عهد الموحدين (539 هـ : 620 هـ) 10. دولة بني الأحمر والانهيار الأخير (620 هـ : 897 هـ). ينبري المسلمون ابتداءً في فتح الأندلس حتى يجاوزوا حدود فرنسا، لكن قدر الله شاء أمراً آخراً حينها. يقول جيبون وهو أحد المؤرخين الغربيين المنصفين: “لو انتصر العرب في تور-بواتييه لتُلي القرآن وفسّر في أكسفورد وكمبريدج”. (الرابع: الدولة الفاطمية – 297 هـ : 567 هـ) وكان من أهم سماتها الاعتماد على اليهود والنصارى في إدارة البلاد من خلال توليهم مناصب سامية، الأمر الذي جعل من هذه الفترة معترك للصراع ومرتع للبؤس. (الخامس: الحروب الصليبية وجهاد آل زنكي وصلاح الدين ضدها – الحملة الصليبية الأولى 489 هـ : الحملة الصليبية السابعة 648 هـ) وقد كانت خير مثال للمسلمين وللصليبين على حد سواء في نبذ التعصب واحترام العهود ولين المعاملة، والذود عن حمى الأرض، الأمر الذي ساهم في تأخير السطوة الصليبية عمّا يزيد عن ستمائة عام. (السادس: دولة المماليك – 468 هـ : 922 هـ) لقد كان هؤلاء أهل نزال وانتصارات كما في عين جالوت، غير أن نزالهم الذي ارتد إلى الداخل وولّد الغفلة بينهم عن العدو الخارجي قد سارع في زوالهم من التاريخ. من أعلام تلك الفترة سيف الدين قطز، والعز بن عبدالسلام، والظاهر بيبرس.
المجلد (2):
يظهر في (الباب الخامس: تاريخ المغول المسلمين) كيف ذاق المسلمون شر الويلات على أيدي هؤلاء المغول في بداية تاريخهم، غير أن التاريخ يشهد فيما بعد على فضلهم في توسيع رقعة الدولة الإسلامية -بعد أن هداهم الله للإسلام- بشكل لم يسبق له مثيل حتى الوقت الحاضر. ينقسم التاريخ بدوره هنا إلى خمسة فصول: الأول: المغول في شرقي أوروبا وغربي سيبيريا. الثاني: المغول في إيران. الثالث: المغول في بلاد الصين ومنغوليا. الرابع: المغول في تركستان الغربية. الخامس: المغول في الهند. أما عن (الباب السادس: الخلافة العثمانية) فيكفي هذه الخلافة فخراً فتح القسطنطينية الذي لم يكن مقدّراً لغيرها رغم المحاولات المستميتة، وقد توغلت فتوحاتها إلى قلب أوروبا حتى توقفت عند أسوار فيينا. يُعرض تاريخ هذه الخلافة في أربعة فصول: الأول: الدولة العثمانية من النشأة حتى إلغاء الخلافة. الثاني: بلاد العرب، لا سيما في الجزيرة العربية، والعراق، والشام، ومصر، والمغرب العربي. الثالث: بلاد البلقان. الرابع: بلاد القوقاز. يعرض (الباب السابع: جنوب شرقي آسيا) كيف أن الأسبان والبرتغاليين لم يهنأ لهم بال بعد طرد المسلمين من بلادهم الواقعة غرب العالم وهم يشاهدون اكتساح الإسلام من جديد في شرقه، حيث دفعتهم أحقادهم إلى غزو تلك البلاد والتنكيل بأهلها الذي استبسلوا في الدفاع عن أراضيهم ودحر أعداءهم، سواء كانوا من المسلمين أو من غير المسلمين. يقول لابو لابو وهو أحد ملوك جزر الفلبين المسلمين: “إن الدين لله، وإن الإله الذي أعبد هو إله جميع البشر على اختلاف ألوانهم”. وختاماً، يعرض (الباب الثامن: أفريقيا) وما كان لهذه القارة من نصيب الأسد في استيطان الإسلام والمسلمين، فلا غرو أن تكون الأشد بطشاً على أيدي المستعمرين الأوربيين الذين تركوها خراباً يباباً إلى يومنا هذا. تعرض الموسوعة تاريخ القارة في ثلاث فصول: الأول: الممالك الإسلامية قبل قدوم الاستعمار الصليبي: في غربها، في السودان العربي، في سواحلها الشرقية. الثاني: الاحتلال الأوروبي الغاشم. الثالث: الدول المستقلة في أفريقيا، وهي: الدول ذات الأغلبية الإسلامية التي يحكمها المسلمون، مثل: موريتانيا والسنغال وجزر القمر، والدول ذات الأغلبية الإسلامية التي يحكمها غير المسلمين، مثل: غينيا وأثيوبيا والكاميرون.
… إن الموسوعة مثقلة حقاً بكل ما هو مدعاة للفخر .. والخيبة كذلك، ولا تتسع الصفحات لتلخيصه!
قد تحتاج الطبعات الجديدة إلى تحديثات أكثر واقعية، لتعكس الوضع الأخير للأمة الإسلامية المتخبطة فيما يُسمى بثورات الربيع العربي، والامتهان الأكبر في الاعتراف بدولة إسرائيل وما تلاها من عمليات التطبيع الرسمية.
أختم بما جاء في الصحاح من خير كلام سيد البشر عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: “بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ”.
ومن يدري؟ .. علّنا نكون الغرباء!.
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 13 ابريل 2022 – جزء (1) صفحة (10):
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/04/5094.pdf
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 14 ابريل 2022 – جزء (2) صفحة (10):
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/04/5095.pdf
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(7)
كتاب/ الصراع من أجل الإيمان: انطباعات أمريكي اعتنق الإسلام
المؤلف/ د. جفري لانج
المترجم/ د. منذر العبسي
دار النشر/ دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر
المنطق أو الفطرة .. كلاهما مرادف لجوهر الإسلام
كتاب تتدفق فيه كلمات مؤلفه على امتداد أكثر من ثلاثمائة صفحة، من أجل الإجابة على سؤال وجهته إليه ابنته يوماً لم يكن يتجاوز حينها الأربعة كلمات: “لماذا اخترت الإسلام يا أبي”؟
إنه د. جيفري لانج (Jeffrey Lang)، البروفيسور في علم الرياضيات. ولد عام 1954 في مدينة بريدج بورت لأسرة أمريكية نصرانية متدينة تعتنق الكاثوليكية، وتابع تحصيله الدراسي حتى حصل على درجة الدكتوراة من جامعة سان فرانسسكو عام 1981، وانخرط في سلك التدريس بعدها، وكان قد هجر الكنيسة حينها واختار الإلحاد. يُسهب البروفيسور وهو يتحدث عن رحلته الإيمانية بدءاً من الكاثوليكية إلى الإلحاد انتهاءً بالإسلام ونطق الشهادتين، وذلك حين لم تُجب الكاثوليكية على أسئلته الروحانية وهو العالِم الذي أسس عقله على بنيان من منطق وبراهين ومنهجية، حتى أهدت إليه إحدى الأسر المسلمة القرآن الكريم، فبدأ معه (صراعه الحقيقي) ورحلة مختلفة نحو الإيمان الحق لم تكن هيّنة على الإطلاق!. تعرض شبكة المعلومات عدداً من المواضيع المسموعة والمقروءة عنه فضلاً عن بعض اللقاءات الشخصية، وله إصداران آخران هما: كتاب/ ضياع ديني: صرخة المسلمين في الغرب، وكتاب/ حتى الملائكة تسأل: رحلة إلى الإسلام في أمريكا.
تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثانية للكتاب الصادرة عام 2000 عن (دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر) في دمشق، وعن ترجمة مباشرة للكتاب من لغته الأصلية (Struggling to Surrender: Some Impressions of an American Convert to Islam)، وقد عني بها د. منذر العبسي، وهو أكاديمي سوري حاصل على درجة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي من جامعة جلاسكو في بريطانيا، ويعمل في سلك التدريس الجامعي. وقبل البدء، لقد كانت لفتة راقية أن يهدي البروفيسور كتابه إلى (بناته المؤمنات: جميلة وسارة وفاتن) في خط ديواني أنيق، والذي تعرض محتوياته خمسة فصول رئيسية هي: 1. النطق بالشهادة / 2. القرآن / 3. رسول الله / 4. الأمة / 5. أهل الكتاب. وأعرض فيما يلي شيئاً من جميل ما ورد فيه، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
يسترجع البروفيسور حلماً قد تكرر معه عندما كان يافعاً، وهو أدائه للصلاة في مسجد يقبع أسفل درج ويشعّ النور من كوة بداخله، ضمن مجموعة من رجال مسلمين ينحنون فوق سجادها الأحمر، في وقت لم يكن قد عرف فيه المسجد ولا الإسلام بعد! حتى أتت رؤياه كفلق الصبح بعد يومين فقط من إعلان إسلامه، وعند صلاته مع إخوته الجدد من المسلمين في نفس الغرفة السفلية وفوق نفس السجاد ومن فوقهم كوة النور، لدرجة شعر فيها أنه نائماً متلبساً في حلمه من جديد، أعقبتها برودة سرت في جسده كله، فرجفة، وانتهت بدفء النور والدموع .. في أعجب ما يمكن تصوّره عن مدارج الروح، وهي من أمر الله. وفي محاولة لتأويل رؤياه السابقة بعد بلوغه الذروة وقت سجوده، يعترف قائلاً: “تملكني الخوف والرهبة عندما شعرت لأول مرة بالحب والعطف الظاهرين، لا لأنّا نستحق ذلك، ولكن لأن هذا الحب والعطف كانا دوماً موجدين، وكل ما علينا عمله للحصول عليهما هو أن نعود إلى الله”. بعد سفره بعيداً عن والديه للدراسة، وخبرة مرحلة الانفكاك من التبعية إلى الاستقلالية، يستشعر البروفيسور الحد الفاصل بين المؤمن والملحد، قائلاً: “لا أحد يعرف الوحدة كالملحد. فعندما يشعر الشخص العادي بالعزلة فإنه يستطيع أن يناجي من خلال أعماق روحه الواحد الأحد الذي يعرفه ويكون بمقدوره أن يشعر بالاستجابة. لكن الملحد لا يستطيع أن يسمح لنفسه بتلك النعمة، لأن عليه أن يسحق هذا الدافع، ويُذكِّر نفسه بسخفها. لأن الملحد يكون إله عالمه الخاص به، ولكنه عالم صغير جداً، لأن حدود هذا العالم قد حددتها إدراكاته، وهذه الحدود تكون دوماً في تناقص مستمر”. وفي حديثه عن الإلحاد، يرى أن العرب قبل الإسلام لم يكونوا ملاحدة بل وثنيين يعتقدون بتعدد الآلهة، غير أنهم لم يكونوا متدينين. عليه، كانت معضلة القرآن الكريم مع هؤلاء القوم ليست في الكفر بالله بل الانحراف في تصوره، مما أرداهم في حياة الفسق الفجور.
كمسلم مستجد، يبتكر البروفيسور طريقة عملية في التنبيه لصلاة الفجر تحديداً، وقد وجد مشقة فيها رغم استشعاره أهمية الصلاة عموماً كفريضة وما تستجلب للمرء من عون وراحة، تمثلت في الاستعانة بثلاثة منبهات موزعة على أماكن متباعدة في مسكنه، يقوم بضبطها على مواقيت متتالية مع فارق قصير بينها. ورغم مشقة صلاة الفجر بالتحديد كما عبّر، يعود فيقول في روحانية: “صلاة الفجر بالنسبة لي هي إحدى أجمل الشعائر الإسلامية وأكثرها إثارة. هناك شيء خفي في النهوض ليلاً بينما الجميع نائم لتسمع موسيقى القرآن تملأ سكون الليل. تشعر وكأنك تغادر هذا العالم وتسافر مع الملائكة لتمجد الله بالمديح عند الفجر”. لقد كان يحرص على صلوات العتمة في جماعة حيث (الجهرية) هو طابعها، ورغم أنه لم يكن قادراً على فهم ما يسمع إلا أن ما يسمعه كان مريحاً بالنسبة له، كالطفل يرتاح لصوت أمه وهو لا يفهم كلماتها، وكذلك كان (صوت) الصلاة الجهرية، وقد تمنى أن يعيش أبداً تحت حماية صوتها. يعتقد أن (اقرأ) كأمر إلهي إنما هو نعمة سماوية في تعلم القراءة، وعن طغيان الإنسان واستغناؤه في منتصف السورة الكريمة يعتقد أن العلم الحديث صوّر للإنسان من عظيم الشأن ما أغناه عن الله، غير أن تلك العلوم وما حملته من فكر تأبى إلا أن تتفق مع ما ورد في القرآن الكريم، الأمر الذي دعى الكثير من أصحاب تلك العلوم إلى اعتناق الدين الذي جاء به.
ينتقل البروفيسور ليتحدث عن الإعجاز القرآني في اختصاص أنثى النحل بإنتاج العسل من خلال آية (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)، وعن منهج (التجربة والخطأ) في العمل وارتكاب الخطأ والتسامي عليه بعد إدراكه ومن ثم الاستمرار والتقدم، يقرأ آية (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)، ثم يبكي بكاء الطفل المفقود بعد عودته لأمه استشعاراً لقرب الله الذي لا يتخلى عمّن بحث عنه، وهو يتلو (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى). وفي لغة فلسفية، يتحدث عن القرآن وقد استشعر بأن القرآن هو من يحدثه، بل يتحداه ويقرأ أفكاره، ويجيب على كل ما راود عقله من تساؤلات. فعن تلك المعركة الروحانية يقول: “ولم أكن في وضع أُحسد عليه، إذ بدا واضحاً أن مبدع هذا القرآن كان يعرفني أكثر مما كنت أعرف نفسي. إن الفنّان يستطيع أن يجعل العين في أي لوحة يرسمها تبدو وكأنها تنظر إليك حيثما كنت منها، ولكن أي مؤلف يستطيع أن يكتب كتاباً مقدساً يستطيع أن يتوقع حركاتك وسكناتك اليومية؟ لقد كان القرآن يسبقني دوماً في تفكيري، ويزيل الحواجز التي كنت قد بنيتها منذ سنوات، وكان يخاطب تساؤلاتي”. وبنفس اللغة يكمل: “وفي كل ليلة كنت أضع أسئلتي واعتراضاتي، ولكنني كنت إلى حد ما أكتشف الإجابة في اليوم التالي. ويبدو أن هذا المبدع كان يقرأ أفكاري، ويكتب الأسطر المناسبة لحين موعد قراءتي القادمة. لقد قابلت نفسي وجهاً لوجه في صفحات القرآن، وكنت خائفاً مما رأيت. كنت أشعر بالانقياد، بحيث أشق طريقي إلى الزاوية التي لم تحوِ سوى خيار واحد”. ثم يتطرق إلى مناقشة بعض الآيات القرآنية المثيرة للجدل عند الغرب، وينظر بمفهوم آخر لبعض الأحاديث النبوية كحديث (فتنة النساء) بعيداً عن المعنى الحرفي وإحالته على أمور حسية، فيرى أنها على الأصح فتنة للرجال في ميلهم نحو ظلم المرأة واحتقارها لضعف يرونه فيها دائماً، ويضرب أمثلة لتلك الفتنة في مسألة الطلاق ومضرة الوالدة بولدها. ويستمر في حديثه عن المرأة أجده شجياً، فيثمّن انتخاب السيدة بنازير بوتو كرئيسة وزراء للباكستان، ويرى أن للأمر انعكاساً طيباً على المجتمع الأمريكي المسلم، حيث إن جلّ من يعتنق الإسلام “هم من النساء الماهرات المدربات في التنظيم والقيادة، وممن يمتلكن مواهب في مجتمع هو في أمس الحاجة إليها”. وبالرجوع إلى القرآن الكريم، يؤكد على أن “ليس هناك في القرآن تصريح مباشر ضد انتخاب نساء قائدات، بل إن القرآن يقدم لنا أنموذجا فريداً عن الحاكمة الصالحة وهي ملكة سبأ بلقيس. ويظهر القرآن هذه الملكة على أنها قائدة حكيمة وعميقة التفكير وديمقراطية كرّست جل اهتمامها لسعادة شعبها ورفاهيته، ولقد قادت أمتها من خلال نفوذ سليمان إلى الإيمان بالله. ونظراً لغياب أي تحريم قرآني لهذه الإمكانية، ولأن المثال الوحيد المذكور في القرآن حول هذا مثال إيجابي، فإننا يمكن أن نتوقع أن تكون فكرة المرأة الزعيمة مقبولة عند المسلمين، ولكن بشكل عام، ليس هذا هو الحال”.
وفي تطرّقه إلى شئون المرأة المسلمة، يعزف على وتر موجع لا يحيد عن موضوعية، مشوب باستفهام مستعص على أي تبرير منطقي، أشاركه فيه مع ابنته ذات الأربعة أعوام حين تساءلت في براءة عن سبب عدم السماح للنساء بحضور المسجد، في مقارنة مع رفيقتها المسيحية وعائلتها الحريصة على زيارة الكنيسة. فيعبّر عن استنكاره متسائلاً بدوره: “لست متأكداً كيف ومتى أصبح للمسجد جو لا يكاد يسمح بدخول النساء إليه؟” ثم يستطرد: “ومن الواضح أن ذلك قد حصل في وقت متأخر وفي وضع ثقافي مختلف”. وبينما يرى أن بعض الثقافات المسلمة توفر للنساء مناهج معينة لإثراء إيمانهن بالله، فأنها لا تقدم لهن بديلاً عن حضورهن للصلاة في المسجد “كاجتماع نسائي أسبوعي مثلاً”، وهذا بدوره “يعني أنك تعطيهن مقاماً من الدرجة الثانية”. ويعتقد في مثل هذا الجو من عدم الاكتراث بتشجيع النساء على المشاركة الفعّالة في اللقاءات الاجتماعية على قدم وساق مع نظرائهن الرجال، فإن الجو العام لمساجد المسلمين سوف يكون عرضة للمزيد من التبدّل وسوف يكون الأطفال عرضة لخسارة النفع المرجو من هذه المشاركات مع أمهاتهن وآبائهن سوية. ونظراً لما لرأيه غير المألوف من تبعات قد لا تكون مرضية، يستكمل موضّحاً: “إنني لا أنادي بتغيير أشكال الشعائر بل إن ما أدعو إليه هو تشجيع اشتراك الأسرة في كل نشاطاتنا الاجتماعية والعمل على تسهيل ذلك والترحيب به”. ثم ينتقل -وهو لا يزال يتحدث عن شؤون المرأة المسلمة- إلى اللباس الشرعي، إذ يوصي المسلمين في المجتمعات الغربية وقد واجهوا المصاعب في تطبيقهم “لهذا النظام من اللباس” بأن يكون نهجهم “سمحاً ولطيفاً وليس اتهامياً وتوبيخياً”. فيطالب بأن يتم إعطاء النساء مساحة أكبر من الحرية في اختيار الملابس التي يرتدينها بحيث لا يثنيهن عن المساهمة الفعالة المتوقعة منهن في المجتمع. وتحقيقاً لهذا النفع، يوجه نصحه للرجال المسلمين على أن يتحلوا بالقدر الأكبر من التفهّم. ثم يصف منظراً تناقضياً في هذا الشأن عاينه شخصياً يقول فيه: “ولم يمض وقت طويل على مشاهدتي لمنظر سخيف كانت فيه النساء المسلمات تعانين فيه حر الشمس على إحدى طاولات النزهة، فيما راح أزواجهن يمرحون عند الرمال والأمواج بين الأمريكيين والأمريكيات الذين كانوا يأخذون حمامات الشمس”.
في حديثه عن القضية الفلسطينية-الإسرائيلية، يسترجع طفولته في حي بريدج بورت حيث كان يقطنه سكان من أعراق وثقافات مختلفة، وقد كانت كلمة (يهودي) بحد ذاتها هي المفضلة لدى الأطفال كلما أرادوا أن يكيلوا الشتائم لبعضهم البعض، سواء لليهودي منهم أو لأي عرق آخر. وفي حين كان غير اليهودي يعتبرها مرادفاً لـ (القذارة والتعاسة والجبن)، فإن اليهودي كان لا يجد له معيناً من ذويه ضدها كمذمة. أما في سن الرشد، فقد كان البعض من أصحابه يعترفون له بسر (يهوديتهم) وكأنهم “متهمين سابقين” حسب تعبيره، في حين كان يتنصل البعض الآخر منها، باعتبار أن اليهودية ليست سوى ديانة لم يعودوا يؤمنون بها. وفي مناصرته للقضية الفلسطينية، يعود للتاريخ ليقول: “يتفق المؤرخون على أن الغالبية العظمى من العرب الفلسطينيين لم يقدموا إلى فلسطين مع الفتح الإسلامي، بل إن هؤلاء هم بشكل رئيسي أبناء الساميين الذين تعود ملكيتهم لفلسطين لثلاثة آلاف عام على الأقل قبل الميلاد، وقد تكون هذه هي أبسط فترة ملكية في العالم وأطولها. أما العبرانيون القدماء فقد جاءوا إلى فلسطين بعد ذلك بكثير، وذلك بحوالي ألف وأربع مئة عام قبل الميلاد”. ثم يتساءل في مبحثه ويجيب: “هل لليهود حق أخلاقي-ديني في فلسطين”؟.
ختاماً، لقد كانت رحلة صراع روحانية من النقيض إلى النقيض .. من الإلحاد إلى الإيمان، وعرض أكثر تجلياً لروح الدين الإسلامي من وجهة نظر غربية ومنطقية. لذا، لا أجد بد وأنا أختم هذه المراجعة باقتباس يوافي هذه اللحظة الشاعرية على لسان د. جيفري لانج في لغة صوفية قلّما يسوقها الرياضيون: “ومع ذلك فإني مدرك دوماً أن لي نقاط ضعفي وتقصيري! إنني أعلم الآن أنني أذا ما فقدت الله ثانية فإنني بالتأكيد سوف أفقد كل شيء، وإني أدعوا مع رابعة العدوية: (إلهي هل صحيح أنك سوف تُحرق قلباً يحبك كثيراً). وإني أجد عزاءً في جوابها”.
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 20 ابريل 2022 – جزء (1) صفحة (10):
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/04/5099.pdf
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 21 ابريل 2022 – جزء (2) صفحة (10):
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/04/5100.pdf
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(8)
كتاب/ جدد حياتك
المؤلف/ د. محمد الغزالي
دار النشر/ نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة/ الأولى – 1996
مبادئ الإسلام مقابل توصيات مفكر أمريكي
كتاب تفاؤلي تكمن روعته في الدعوة للانفتاح على الحياة من خلال ما ورد فيه من آراء واقتباسات ولمحات توقظ العقل وتعزّز الشعور الصادق الكامن في الوجدان والفطرة الإنسانية، والتي -ولا عجب- حملها من يختلف عنّا عرقاً وعقيدة وثقافة. هذا ما فعله الداعية المجدد د. محمد الغزالي عندما أفرد قلمه ليسطّر ما استلهمه من خواطر الكاتب الأمريكي (ديل كارنيجي Dale Carnegie) الرائد عالمياً في تنمية الذات، في كتابه الأشهر (دع القلق وابدأ الحياة How to Stop worrying and Start Living)، لكن بمنهج إيماني خالص، وبأسلوب يبتعد عن التعصب أو رفض الآخر. لقد وجد الغزالي فيه من آراء الفلاسفة والمصلحين وأحوال الخواص والعوام ما يتفق إلى حد كبير مع المبادئ الإسلامية، فعزم على وضع كتاباً باللغة العربية يرد فيه هذا الكتاب إلى “أصوله الإسلامية” كما ارتأى، وقد انتهج في هذا نهجين: عرض النصوص الدينية وعرض ما يقابلها من النقول المذكورة في كتاب الأمريكي. لم يفت الغزالي وهو يضع كتابه أن يحرص على إحياء اللغة العربية وما تزخر به من حكمة، كصدّ للتوجه العالمي المعادي للعرب وللغتهم، فيقول مخاطباً قرّائه: “وإذا كان ديل كارنيجي يحيا بقرّائه في جو أمريكي بحت، فمن واجبي أن أعيش مع قرائي في جو عربي خالص، لا أتركه إلا للمقارنات الإنسانية الأخرى وهي مقارنات لا صلة لها بجنس معين”.
إنه د. محمد الغزالي (1917 : 1996) عالم دين ومفكر مصري، عُرف بمنهجه التجديدي للخطاب الديني وبأسلوبه الأدبي الرصين، وبمناهضته للآراء الدينية المتشددة التي واجه بها ردود فعل معادية. حفظ القرآن الكريم في صغره ودرس أصول الدين في جامعة الأزهر الشريف، ثم عمل في الدعوة والإرشاد. انخرط فيما بعد في جماعة الإخوان المسلمين بعد أن تعرّف على مؤسسها حسن البنا، وقد أودع السجن إثر حلّ الجماعة عام 1984، حتى خرج منها نهائياً بعد خلافه مع المرشد، ليلتحق أخيراً بسلك التدريس الجامعي. لُقب بالغزالي تيمناً بالإمام أبو حامد الغزالي الذي رآه والده في منامه يبشّره بمقدمه ويوصيه بإطلاق اسمه عليه.
تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 1996 عن (نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع). وبينما يعرض فهرس الكتاب أربع وعشرون موضوعاً تبدأ بالمقدمة وتنتهي بالخاتمة، أكتفي في الأسطر القادمة بعرض ما جال في المواضيع العشر الأولى، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:
يعبّر الغزالي في (مقدمة) كتابه عن الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها في تمييز الخير عن الشر، والتي تظهر لدى أصحاب العقول والأنفس والأمزجة والطباع السليمة بصرف النظر عن الأديان التي يعتنقونها، وهم الذين خصّهم النبي الأكرم ﷺ في وصيته “استفت قلبك”، لما لهم من قابلية على التمييز الصحيح. غير أن تلك الفطرة عرضة لأن يعتريها الانحراف والعلل والمرض ما يقود إلى ظهور الفساد في الأرض، وهو الأمر الذي بعث الله لأجله أنبيائه الهادين المهديين. والشواهد تشير إلى كثير ممن لم يحظ من تراث الأنبياء بشيء لكنه حظي من صفاء الفطرة ما لا يجعله يضل عن الله الواحد الأحد، بل ولعلّه يكون أحسن حالاً وأرجى مآلاً ممّن مكّنه الله من هديه لكنه أخلد إلى الأرض، وكما يُقال: “الناس رجلان: رجل نام في النور ورجل استيقظ في الظلام”. بيد أن انحراف الأمم السابقة عمّا أُرسل إليهم قد ختمه الله برسالة إسلامية خالدة تكفّل بحفظها، إلا أن انحراف المسلمين أنفسهم يشكّل افتراءً على الإسلام الذي قد يوصم لانحرافهم بما ليس فيه. يقول الغزالي: “إن التاريخ سجَّل هزائم كثيرة للطوائف التي تُسمى رجال الدين”، وما أحدثوا في فقه النصوص من فوضى تعرض الدين في قالب مشوّه، فما كانت هزيمتهم تحيق بالدين، إنما جاءت كانتصار للدين وتأصيل للفطرة على “الغباء والجمود والنفاق”.
ينبّه الغزالي في موضوع (جدد حياتك) على أن تمنية النفس بالتحسّن في الحال والتحوّل في المكان وإقران الصفحة الجديدة من الحياة بموعد مع أقدار مجهولة ليس سوى ضرب من التسويف! وعلى الرغم من استشعار القوة مع هذا التسويف وبالنشاط بعد الخمول، فهذا في حقيقته شعور واهم ما يلبث أن يؤول إلى انحدار أشد وأهوى، إذ أن “تجدد الحياة ينبع قبل كل شيء من داخل النفس” .. فهذه النفس التي بين جنبات الإنسان، وحاضره الذي يحيا فيه، والظروف المحيطة به بحلوها ومرّها، هي فقط من ترسم له طريق المستقبل. وفي موضوع (عش في حدود يومك)، يرى الغزالي البعض وهو مستغرق في خط لا ينتهي من التفكير المسترسل الذي لا يقطعه سوى وحوش الوساوس، والتي ما تلبث أن تتحول إلى هواجس وقلق وهموم جاثمة، وذلك يُعدّ من الأخطاء التي يغفل فيها المرء عن حاضره لينوء بأعباء المستقبل. وبينما ينصح (د. أوسلر) طلبته في جامعة (ييل) بأن يبدؤوا يومهم بدعاء مأثور عن السيد المسيح يقول فيه: “خبزنا كفافنا أعطنا اليوم”، فقد ورد عن ابراهيم الخليل دعائه في كل صباح يطلع عليه: “اللهم إن هذا خلق جديد فافتحه عليّ بطاعتك واختمه لي بمغفرتك ورضوانك وارزقني فيه حسنة تقبلها مني وزكها وضعفها لي وما عملت فيه من سيئة فاغفرها لي إنك غفور رحيم ودود كريم”، وهو به قد أدى شُكر يومه. غير أن البعض وهو لا يستشعر الآلاء العظيمة التي انغمس بها من طمأنينة وسكينة وسلامة في نفسه وأهله، يسخط على حرمانه من الثراء، وهو بهذا يكون قد غمط واقعه وأتلف دينه ودنياه. غير أن العيش في حدود اليوم لا يعني تجاهل المستقبل والتخطيط له، بل إن هذا يُعدّ من رجاحة العقل، إنما الفارق هو بين “الاهتمام بالمستقبل والاغتمام به”. ويتساءل الغزالي بدوره ويجيب قائلاً: “أتدري كيف يُسرق عمر المرء منه؟ يذهل عن يومه في ارتقاب غده، ولا يزال كذلك حتى ينقضي أجله ويده صفر من أي خير”.
ثم يتساءل في موضوع (الثبات والأناة والاحتيال) عن ردة فعل المرء الذي تداهمه شدّة تهدد كيانه كله، ما هو صانع؟ أيقف شامخاً مطمئناً أم يدعها تهوي به؟ يجيب كارنيجي بخطة عملية ثلاثية، هي: أولاً: تحديد أسوأ ما قد يصيبه، ثانياً: الاستعداد للتقبل، ثالثاً: المواجهة ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه. إن هذا يتفق وقوله ﷺ: “إنما الصبر عند الصدمة الأولى”، وكما قال الفيلسوف الصيني (لين يوتانغ): “إن طمأنينة الذهن لا تتأتى إلا مع التسليم بأسوأ الفروض” وهو ما يؤكده علم النفس الحديث من أن التسليم يحرر من القيود، وكلما بقي المرء يقظاً لا يستبعد وقوع النوائب ويقلّب وجوه الآراء ليختار أحكمها “فإن النجاح لن يخطئه”. والغزالي بهذا ينبّه على الفرق بين التسليم واللامبالاة، فيقول: “إذا وجدت الصبر يساوي البلادة في بعض الناس فلا تخلطّن بين تبلّد الطباع المريضة وبين تسليم الأقوياء لما نزل بهم .. وأول معالم الحرية الكاملة ألا يضرع الرجل لحاجة فقدها”. وإن الإيمان الحق هو ما يشدّ من عود المرء فلا يهزّه ريح، وإن صبر المرء على فجاءة النوازل لا يبرره سوى نفس أبية تهوّن كل فقد. وشتّان بين نظرة المؤمن وغير المؤمن، فإذا تصوّر أحد الماديين الحياة من التفاهة كصرصار يموت من ضربة عابرة يعود بها إلى العدم ويذهب طي النسيان، فإنها تُصبح عند المؤمن كذكرى حافلة بعد أن ينتقل إلى حياة أخرى أجلّ وأصدق وأكثر وعياً. ويحصر الغزالي في موضوع (هموم وسموم) ما أورده كارنيجي من الإحصائيات التي يظهر فيها بني جلدته الأمريكان مرضى للقلق، تتلاعب بهم علل عضوية وعصبية ونفسية وعقلية، وفي مراحل عمرية متفاوتة لا يسلم منها حتى فئة الشباب، وقد تم تصنيف القلق بالقاتل الأول في أمريكا، وكل هذا سببه اللهاث المحموم نحو إحراز ما أمكن من المال ومتع الحياة الدنيا. ويتساءل “أهذا هو ثمن النجاح؟ هل يعد ناجحاً ذاك الذي يشتري نجاحه بقرحة في معدته ولغط في قلبه؟ وماذا يفيده مرضه إذا كسب العالم أجمع وخسر صحته؟”. ثم يستتبع الغزالي هذا التساؤل بحكمته ﷺ: “إن هذا المال خَضِر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع”.
لا يجد الغزالي في موضوع (كيف نزيل أسباب القلق) مظلوماً تواطئ الناس على بخسه وتراخوا عن نصرته مثل (الحقيقة)! وإن هذا المظلوم له من العاملين به والعارفين لقدره القلة من الناس. وعن هؤلاء القلّة يقول: “والحق أن الرجولات الضخمة لا تُعرف إلا في ميدان الجرأة”. فكم من دين تأسس على خرافة وأساطير وكم من سلطة حكّمت الهوى وأحالت الخير شرّا. فيقول: “على أن الاهتداء إلى الحق والثبات على صراطه يحتاج إلى جهد ودأب، ويحتاج كذلك إلى استلهام طويل من عناية الله. وقد كان رسول الله إذا حزبه أمر جنح إلى الصلاة يضم إلى عزيمته وجلده حول الله وطوله”. غير أن السكينة في تلّقي الحقيقة مهما كانت وضبط النفس حول ما قد يشوبها من شكوك لهو مطلب أساسي في الوقوف على الحقيقة الدامغة ولا شيء غيرها، ومن ثم التصرف بحزم وإنفاذ القرار بعزم خالص. ويعرّف الغزالي العلم في موضوع (علم أثمره العمل) بأنه إدراك وقواعد وملكة، فالإدراك هو تصّور مجرّد للأمور، والقواعد هي المبادئ والقوانين، والملكة هي الخبرة المكتسبة، غير أن الأخيرة هي ثمرة الإدراك الوافر وإعمال القواعد معاً. وبعيداً عن أي مفهوم نظري، فإن الدين منهجاً تهذيبياً في الإيمان والأخلاق والسلوك والعمل، إذ لا تكمن الفائدة المرجوة منه في تداوله بين الألسن وحفظه في الذاكرة، فلا بد من العمل به. فهذا برنارد شو ينهى عن التلقين قائلاً: “إذا لقنت إنساناً شيئاً فلن يتعلم أبداً”، وكان أحد التابعين يقول: “كنا نستعين على حفظ أحاديث رسول الله بالعمل بها”. فالقلوب يُحيها العمل بالمعرفة، وأي علم تحصّل عن طريق العمل فهو الملكة التي تبعث على الاستنارة. ويضرب مثلاً في الصلاة التي تبدأ بالدروس ومحاولات إقامتها وتنتهي بالخشوع والتسامي والإخلاص بعد الإقبال وطول الإتقان لشكلها وموضوعها. وينقل عن أحد المدراء أسلوبه الإداري في التعاطي مع المشكلات التي يعرضها عليه فريق عمله بين حين وآخر، إذ كان قد فرض عليهم قبل عرض المشكلة عليه تقديم إجابات رسمية عن أربعة أسئلة، وهي: (ما المشكلة، ما منشئها، ما هي الحلول الممكنة، ما هي أفضلها)؟ وهو الأسلوب الذي كان يجده الموظفين قد حلّ ثلاثة أرباع المشكلة قبل عرضها عليه، فلم يجدوا داع لمعونته، وبهذا تقلّص الوقت المخصص للنقاش وطال وقت العمل وحقق أفضل الإنجازات. ثم يحذّر الغزالي من العلم دون العمل، حيث إن مجرد “تعشّق الكمال” عادة لا تتجاوز حدوده طيب الحديث عنه، وهو السلوك الذي كرهه الله لعباده لما يحوطه من شبهة رياء وادعاء، فيقول عزّ من قائل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ”.
يحذّر الغزالي كذلك في موضوع (آفات الفراغ) من البطالة التي ليست سوى مرتعاً للرذائل ومجلبة للفساد والفناء، وكيف أن العاطلين في حقيقتهم موتى في الوقت الذي يكون فيه العمل رسالة لكل حي. وقد نبّه النبي الأكرم ﷺ عن الغفلة في ظل تواتر نعمتي الوقت والعافية إذ قال: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ “، لذا فإن أفضل ما يصون حياة الإنسان منهجاً يملأ وقته، فلا يتخلله فراغ يتسلل فيه الشيطان بوسوسة أو غواية. ويضرب في المصباح الكهربائي مثلاً مستعيناً بعلم الطبيعة، إذ أن بمجرد إحداث ثقب صغير في مصباح ما فإن الهواء يندفع فيه دفعاً تلقائياً لتعبئة المساحة الخالية “كذلك تسرع الطبيعة إلى ملء النفس الفارغة” لكن بمشاعر من خوف وقلق وغضب وحسد وغيرة “فهي تندفع بقوة بدائية عنيفة متوارثة من عهد الغابة”، وهي من العنف ما تبدد استقرار العقل والسلام الداخلي. ثم يقرّ الغزالي بحقيقة مؤلمة مفادها أن الفراغ الذي يعاني منه الشرقيين يدّمر كل طاقة إبداعية وموهبة تحت ركام التجاهل والاستهانة كما في المعادن النفيسة في مجاهل المناجم، ويقول: “وعندي أن العلة الأولى لتخلّف الأمة العربية والشعوب الإسلامية ما غلب على أحواله النفسية والاجتماعية من قعود واستكانة وتقاعد”. لذا فهو يرى استحالة أن تحصد هذه المجاميع الغفيرة أي نجاح دنيوي وأي فلاح أخروي ما لم تُغير أساليبها في الحياة وتمحو من ميادينها كل شرور البطالة والفراغ. ثم ينتقل إلى موضوع (لا تدع التوافه تغلبك على أمرك) وهو يرى المؤمن يتهيّب الكبائر فتردعه عن اقترافها، غير أن منهم من لا يبالي بصغائر الذنوب حتى إذا تراكمت عليه أهلكته! ويقرّب الصورة برجل تحاشى تناول السم بجرعة كبيرة لكنه دأب على تناوله بجرعات صغيرة في ماء ملوث أو طعام مكشوف. لذا، فقد أهاب النبي الأكرم ﷺ بأمته من اقتراف الصغائر وأوصاها بأن تتطهر حيناً بعد حين من آثارها، فقال: “إياكم ومحقّرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يُهلكنه”. وينقل كارنيجي عن (الأدميرال بيرد) عندما قاد معسكراً في القطب الجنوبي في درجة حرارة تنخفض إلى الثمانين تحت الصفر، وبدلاً من الانتباه إلى الأخطار المحدقة، فقد كان رجاله يتخاصمون لأتفه الأسباب، كأن يتعدى أحدهم على المساحة المخصصة لنوم رفيقه بقدر بوصات أو أن يتقزز الآخر من رفيق آخر له يمضغ الطعام ثمان وعشرون مرة، فيعقّب قائلاً: “ولست أعجب لهذا، فإن صغائر كهذه في معسكر قطبي يسعها أن تسلب عقول أشد الناس دربة على الطاعة والنظام”. وعلى الرغم من أن الله عز وجل يغفر اللمم من الذنوب ويتجاوز عن الصغائر لكل مؤمن يسعى إلى كمال إيمانه، غير أن البعض يقيم الدنيا ولا يقعدها لسيئة وقع عليها في سلوك شخص ما رغم ما هو عليه من شمائل الأخلاق. وعلى هذه الحقيقة المؤسفة يصرّح النائب العام في نيويورك (فرانك هوجان) بأن نصف القضايا التي يتم عرضها على محاكم الجنايات تقوم على أسباب تافهة “كجدال ينشأ بين أفراد أسرة، أو من إهانة عابرة او كلمة جارحة أو إشارة نابية”. إن الحل يكمن في “صقل مرآة الذهن” فلا تلتقط سوى صوراً حقيقية من أروقة الحياة لا تشوبها شوائب، ومن ثم وضع الصورة في نطاقها الأكثر رحابة بحيث لا يتم الحكم عليها بمنأى عن الصور الأخرى، ولا لحظة شر بمنأى عن جبل من الخير.
يؤكد الغزالي في موضوع (قضاء وقدر) على أن المؤمن وهو يقرّ بأن مقاليد السموات والأرض بيد الله وحده كفيل ببث أعظم مقادير الطمأنينة في قلبه، إذ مهما تقلبّت الأحوال واضطربت الأحداث فإنها تحت مشيئة الله العليا. يقول عز وجل: “وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ”. وهذا يفسّر ركون المؤمن إلى ربه بعد أن أدى واجبه على أكمل وجه، فمن توكّل عليه وحده استراح، وليس للقلق معنى في أمور تخرج عن نطاق الإرادة البشرية، وإن كان للمرء تقريع نفسه على تفريط ما استوجب عليه سوء، فإن القدر الذي وقع ولم يطلّع عليه من قبل لا يستلزمه ندم، وهو بهذا لا عليه قلق أو تربّص أو ريبة. غير أن كثير من الناس لا يفقه هذه الحقيقة سواء جهلاً أو جحوداً، فيباشر أحدهم أعماله وهو يحمل هموماً مقيمة لا تقتصر على ما فات وحسب بل على ما قد يرميه به المستقبل لاحقاً، وهو الأمر الذي يتم استغلاله بسوء كما أوضح كارنيجي من خلال المثال الذي ضربه في شركة (لويد) العالمية للتأمين، فقد حققت أرباحاً طائلة خلال المائتين عام السابقة، وستحقق، طالما هواجس الغيب والخوف من المستقبل والخسائر المتوقعة والوهن من تحملّها جميعاً تثقل كاهن البشر، فيقول: “لكن كثيراً من الرجال الناضجين لا تقل مخاوفهم سخفاً عن مخاوف الأطفال والصبيان، وفي استطاعتنا جميعاً أن نتخلص من تسعة أعشار مخاوفنا تواً لو أننا كففنا عن اجترار خواطرنا، واستعنّا بالحقائق المدعومة بالإحصاء، لنرى إن كان هناك حقاً ما يبرر تلك المخاوف”. وليس خيراً من وصية النبي الأكرم ﷺ إذ قال: “ارض بما قسمه الله لك تكن أغنى الناس”. أما في موضوع (بالحق أنزلناه وبالحق نزل) يرى الغزالي أن الإسلام يعنى بالجانب العقلي من ناحية تنظيم الأفكار التي تنتظم بها مقدمات الأشياء فتنتج الصواب وتحقّ الحق، بينما يعمل في الجانبين النفسي والاجتماعي كأداة لتنظيم المشاعر على أسس من الإيثار والأخوّة والفضيلة ونبذ ما سواها من رذائل. وهو بهذا يمهّد السير نحو الهداية وطريق الحق ومسعى الكمال، لهذا، لا تُصبح الغاية من العبادات المفروضة تقمّص صوّرها واعتياد حركاتها وسكناتها، بل كل ما يعزز إدراك العقل ويقرّبه أكثر فأكثر نحو الصواب، وما يساعد على إحكام الأهواء والسير في الحياة بإحسان من غير دنايا أو مظالم. وهو المقصد في قوله تعالى: “فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ”. غير أن طبيعة الإنسان تحيد به في بعض الأحيان نحو نزوات وشهوات، وليس الخوف من هذه النزعات سوى في مغبّة الاسترسال فلا تلبث حتى تطرحه في مهالك لا يعود بعدها سالماً. يقول ابن المقفع: “المؤمن بخير ما لم يعثر، فإذا عثر لجّ به العثار”. والحل هو أن يحرص المؤمن على ألا يلج هذه اللجاجة فإن وقع فعليه الاستدراك سريعاً ومجاهدة النفس ألا يعود أبداً.
قبل الختام، ومع هذه المفارقة في توفيق المبادئ الإسلامية على يد أحد علماء الإسلام بمنهج حياة دعى إليه مفكر أمريكي لا يعتنق الإسلام ديناً، استحضر قول الإمام محمد عبده الذي تخرّج في الأزهر الشريف وتقلّد منصب مفتي الديار المصرية حينما قال قولته الشهيرة كخلاصة انطباع اتخذه عن واقع عاصره: “وجدت بالغرب إسلام ولم أجد مسلمين ووجدت بالشرق مسلمين ولم أجد إسلام”.
ولا أطيب مسك للختام من كلامه عز وجل في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بيديه ولا من خلفه: “فِطرةَ اللهِ التي فَطَر النَّاسَ عَلَيْهَا”.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 27 ابريل 2022 – جزء (1) صفحة (10):
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/04/5104.pdf
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 28 ابريل 2022 – جزء (2) صفحة (10):
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/04/5105.pdf
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
أنشر هذه المقالات في شهر مايو 2022 والذي يصادف عيد الفطر المبارك 1443
عيد سعيد
وكل عام والجميع بخير
همى الغيث
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(9)
كتاب/ التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور
المؤلف/ د. مصطفى حجازي
دار النشر/ المركز الثقافي العربي – بيروت
الطبعة/ 14 – 2016
مبحث في ملامح المقهور النفسية وألوان دفاعه
كتاب قد يُصنّف ضمن علم اجتماع الفضائح، والذي يعرّي ما يعتمل في باطن إنسان المجتمعات النامية من غصص وقهر وكبت، وهو متوارٍ تحت أعراف وقوانين وشرائع دينية وألوان من قيود أخرى ما أنزل الله بها من سلطان. إنه الواقع لا محالة! فالمجتمعات الشرقية تعيش في استسلام شبه متناه وهي ترزح تحت سطوة إقطاعية مستبدة تربع على عرشها زمرة من طغاة تستفرد بالقضاء والقدر كآلهة شر، ويخضع الأفراد لجبروتها خانعين كأمة من المقهورين، قد أبلسوا من رحمتها، لا حول لهم في ذلك ولا قوة. بيد أن المعضلة لا تكمن في الغفلة عن تناول التخلف بالبحث والدراسة من جانب التنمويين، ولا في تجاهل الساسة عن الوجود الفريد لهكذا نمط إنساني له تفاعلاته العقلية والنفسية، بل في التأثير الفعّال للإنسان المتخلف ذاته نحو تعزيز هذه الصيرورة وترسيخ أركانها ومقاومة أي بادرة نحو التغيير، في إصراره بالمحافظة على توازنه النفسي الذي أصلّت له في الأساس تنشئة بيئة اجتماعية يسودها التخلف، تشترك فيها قوى طبيعية غيبية في بسط ممارساتها الاعتباطية عليه وتشكيل الطابع العام لتركيبته النفسية، وقد أضافت له قهراً مضاعفاً.
وبينما يعرّف د. حجازي كتابه بأنه (مدخل)، فهو يأتي بمثابة مبحث متكامل يتعرّض فيه بموضوعية إلى تسعة مسائل يحدد من خلالها المشكلة والحجة والأعمال المقترحة، تسترسل من خلال قسمين رئيسيين. (الأول: الملامح النفسية للوجود المتخلف)، وفيه يتطرق إلى تحديد وتعريف السيكولوجية المتخلفة ضمن إطارها النظري، لينتقل إلى سرد الخصائص النفسية للتخلف ووصف العقلية المتخلفة والحياة اللاواعية التي تُعد أحد سماتها. (الثاني: الأساليب الدفاعية)، ويتعرّض فيه إلى الأشكال المتعددة التي تتخذها، وتظهر أساساً في: الانكفاء على الذات، التماهي بالمتسلط، السيطرة الخرافية على المصير، العنف، ثم وضعية المرأة التي تظهر أشدها وضوحاً وبؤساً.
أما عن الباحث، فهو د. مصطفى حجازي، كاتب لبناني وعالم نفس وأستاذ أكاديمي حاصل على درجة الدكتوراة في علم النفس من جامعة ليون في فرنسا، وله العديد من الأبحاث العلمية، وقد بدأ إصداراته الفكرية بالكتاب الذي بين أيدينا عام 1981، وهو الكتاب الذي لا يزال محط اهتمام ونقاش ومراجعة حتى الوقت الحالي. وله في نفس الحقل كتاب/ العصبيات وآفاتها: هدر الأوطان واستلاب الإنسان. وكتاب/ الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية.
تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الرابعة عشر للكتاب الصادرة عام 2016 عن المركز الثقافي العربي في بيروت، والتي أعرض من خلالها أبرز ما جاء في مآزق الإنسان المقهور، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:
على الرغم من تسليط الضوء على الفئة الأكثر قهراً في المجتمع المتخلف تحت سلّم السطوة والخضوع، يعتقد د. حجازي أن الفئة التي تبدو أكثر حظاً لا تخلو أيضاً من قهر، مع اختلاف درجة الحدّة. يقول: “فبينما يتماهى الفلاح بسيده ويشعر بالدونية تجاهه، نرى السيد يتماهى بدوره بالمستعمر أو الرأسمالي الأوروبي ويشعر بالدونية نفسها تجاهه”. ثم يتطرق وهو يتحدث عن التخلف العقلي إلى طابع “الخصاء الذهني” الذي يتلبّس الإنسان المتخلف اجتماعياً كحالة ضعف عقلية زائفة. ففي حين يتشكّل هذا الخصاء عموماً كعجز عن تأكيد الذات أمام العالم في هيئة مقاومة الفهم، يأتي هذا الخصاء اجتماعياً في هيئة رضوخ الإنسان المتخلف لأساطير قوى الطبيعة وسطوة أصحاب السلطة، فيبدو المتخلف دائم التردد في الاقبال على أمر ما خشية الفشل، أو قد يصرّح بعدم قدرته عليه قبل بذل أي محاولة، بل قد يشطّ البعض ويصدر أحكاماً تعسفية على هذا الأمر متبجحاً بموهبته السريعة على الفهم. ويقول: “يتذبذب الإنسان المتخلف ما بين الشعور الشديد بالعجز عن استيعاب العالم، وبين طغيان مشاعر السيطرة على الواقع من خلال الحذق (الفهلوة) الذي يعتدّ به الجمهور كوسيلة مفضلة للفهم”.
ومن ملامح المجتمع المتخلف ما يطلق عليه د. حجازي بـ “التوتر الوجودي العام”، حيث الاستنفار النفسي العام لأي صراع محتمل! إذ ما يلبث اثنان أن يتحاورا حتى يختلفا في وجهات النظر، لتحلّ السباب وشتائم الأعراض محل الجدال الموضوعي، وحيث تطغى العاطفة الانفعالية على كل ملكات النقد والمنطق والعقلانية. يستزيد فيقول: “وأحياناً ينفذ التهديد باستخدام العضلات أو السلاح بسهولة مذهلة في فورة غضب. ذلك أن هناك إحساساً دفيناً بانعدام فعالية اللغة اللفظية وأسلوب الاقناع، فيتحول الأمر بسرعة إلى الحسم السحري (العضلي أو الناري) من خلال الإخضاع”. يؤمن الإنسان المقهور بطغيان قوى خارقة للطبيعة تتلاعب في مصيره، كتلبّس الأرواح والجن والعفاريت، وتحكّمها في فرص الخطوبة والزواج والعلاقة الجنسية والإنجاب، بالإضافة إلى إصابات العين القاتلة وطاقة الحسد وغيرها من شرور الماورائيات. لذا، يسعى هذا الإنسان جاهداً اتخاذ ما يلزم من تدابير وطقوس تكفيه شرورها وتضمن له نوعاً من التحكم في مصيره، كالاستعانة بخدّام المقامات وتحضير جلسات الزار، وتخبئة المولود، وإخفاء الأثاث، والتكتم على حجم الثروة، وإفساد كل مظهر جميل. يخلص د. حجازي بقوله: “ليس هناك إذاً أكثر تضليلاً من إلقاء المسئولية على الكائنات الخفية ثم البحث عن ذلك الحل من خلال مختلف ضروب الشعوذة”.
أما عن المرأة في المجتمعات المتخلفة، فقد حدّث د. حجازي عنها ولم يتملّكه حرج، فهي أفصح النماذج تعبيراً عن الوجود الإنساني المتخلف في كافة أوجهه، لا سيما في عجزه ونقصه وتبعيته ورجعية تفكيره، والذي يظهر جلياً في تغلّب عاطفة المرأة وإنكار ذاتها وإحلال الخرافات محل التفكير الجدلي. تظهر المرأة عادة بين نقيضين، حيث تتفاوت مكانتها لدى الرجل في المجتمع المتخلف: “بين أقصى الارتفاع: (الكائن الثمين، مركز الشرف الذاتي، رمز الصفاء البشري الذي يبدو في الأمومة)، وبين أقصى حالات التبخيس: (المرأة العورة، المرأة رمز العيب والضعف، المرأة القاصر، الجاهلة، المرأة رمز الخصاء، المرأة الأداة التي يمتلكها الرجل مستخدماً إياها لمنافعه المتعددة)”. يستطرد ويقول: “في الحالتين تُستخدم المرأة كوسيلة للتعويض عن المهانة التي يلقاها الرجل المقهور اجتماعياً، وللتعويض عن قصوره اللاواعي بإسقاطه على المرأة “. وهي في العادة محل ترقيع لخرق الكائن مسلوب الرجولة. فيقول: “كلما كان الرجل أكثر غبناً في مكانته الاجتماعية، مارس قهراً أكبر على المرأة”. ثم يؤكد على أن استمرارية شحن الرجل بالقدرات أو بإيهاماتها إلى الحد الذي يتحول فيه إلى “أسطورة الكفاءة”، تؤدي إلى إسقاط كل صور الضعف والهوان على المرأة، والتي تلعب بدورها “دور الكائن القاصر التابع الذي يحتاج إلى وصي”. غير أنها تصبح في موقع أسوأ بكثير عند الأوساط الكادحة وما دونها، حيث تسود القاعدة التي يعوّض فيها الرجل كل شعور بالقهر والمهان من خلال دور السيد، وممارسة مختلف أشكال الإخضاع والاستعباد والاستغلال على المرأة، “ويحولها إلى أداة له، تخدمه، تنجب له الذرية التي تعزز قوته الذكورية، فتتحول إلى وعاء لمتعته بشكل أناني لا يراعي حاجاتها ورغباتها. تموت نفسياً كي يستمد هو من هذا الموت وهم الحياة، تُسحق كي يستمد هو من هذا الانسحاق وهم تحقيق الذات”. إنه باختصار يمارس عليها وعلى جميع الأصعدة استغلالاً تاماً تهرّباً من شعور الهوان المصاحب لاستغلال المتسلط عليه. يستمر د. حجازي ليعرض أقصى درجات القهر التي يمارسها المجتمع في تنكّره لها عند مقدمها للحياة، وفي هذه الأوساط تحديداً، إذ يقول: “فهي تُستقبل حين تولد بالتذمر والتبرم والضيق، إذا لم تستقبل بالرفض الصريح. وهي توضع كطفلة في مرتبة ثانية أو هامشية بالنسبة للصبي الذي يعطى كل القيمة، وهي تتحول إلى خادمة للأخوة والأب، حين تستنزف طاقة الأم، وهي تستخدم كأداة لتمرّس أخوتها ببسط النفوذ الرجولي من خلال الوصايا وبزعم الحماية الوهمية لها. وعليها تنصبّ كل الضغوط وتفرض كل القيود في طور البلوغ. وتتابع مسيرتها متوجهة نحو مصيرها كأداة للمصاهرة يباع جسدها لقاء تغطية أعباء نفقاته ولقاء مبلغ من المال من الزوج كي يتخذ منه أداة لمتعته ووعاء لذريته وجهازاً حركياً يقوم على خدمته. أما نفسها وكيانها فيفرض عليهما موت معنوي بطيء”.
إن المرأة في تكوينها البيولوجي كأنثى لا تختلف عن الذكر، بل إن تكوينها هو الأكثر متانة ومناعة، غير أن التبخيس الجسدي في لغته وحركته أدى إلى ارتداد طاقته داخلياً على شكل مازوشية، تفجّر فيها المرأة عدوانها على ذاتها، والذي قد ينطلق خارجياً على هيئة ممارسات تشي بالحقد والحسد والكيد والدسيسة. تظهر هذه المرأة كذلك حبيسة المنزل، كصورة من صور حرمان التعاطي مع واقع المجتمع الذي يزخر بفرص التدريب الإنساني الحي، فضلاً عن التجهيل المتعمد الذي يسمح بتسلّط الخرافة على حساب تنمية ملكة التفكير لديها، والتصرف بحكمة وعقلانية. إنها أيضاً في المجتمع العشائري جسد يُقتل بالمصاهرة والإنجاب، وعقل يذهب طي النسيان. يقول د. حجازي في مرارة: “قيمتها كلها .. شرفها كله يركّز في عفافها الجنسي المتمثل سطحياً بغشاء البكارة. شرفها يتلخص في صفة تشريحية كما تقول د. نوال السعداوي، قد يولد بها الإنسان أو لا يولد”. إنها ليست امرأة إذا ثُبت عليها صفات النبوغ والتفوق والذكاء، إذ يعتبر المجتمع المتخلف صفات كهذه حكراً على الرجال فلا تمت للأنوثة بصلة. عندها -إن كان لزاماً- تصبح المرأة (رجل) أو (أخت رجال)، كحرص لنسب كل مظهر قوة للرجولة وطمسها أنثوياً. هي كذلك تتساوى مع أولئك العمّال الخاضعين لأسيادهم من ذوي رؤوس الأموال، حيث يتم غرس قيم العفة والزهد والطاعة وتبجيل صاحب السلطة والاستماتة في الدفاع عنه، في حين يُتخم السيد بأصناف النعم وقد أبيحت له كافة، مع قيم الجشع والتملك والإفراط في كل شيء. لكنها تستلب كيانها الأنثوي بيديها حين تثور على العبودية المفروضة عليها بطريقة تحاكي فيها الرجل كنموذج للتحرر والانطلاق في الحياة! إنها محقة حين ترفض دورها كخادمة أو كآلة للتفريخ أو كجسد للمتعة، لكن قد ينحى هذا الرفض نحو إنكار حاجاتها البيولوجية أو صفاتها الأنثوية، أو بالإبقاء على صفاتها الأنثوية من غير حميمية.
وبعيداً عن “الاستلاب الجنسي” الذي هو أشد قهراً مما هي عليه في “الاستلاب الاقتصادي”، فإنها تواجه مأساتها الكبرى في “الاستلاب العقائدي”، إذ تقنع من خلاله بتفوق الرجل عليها وبدونيتها أمامه، وتقبل من ثم بالرضوخ تحت وطأته. إنها على يقين تام بأنها كائن “قاصر، جاهل، ثرثار، عاطفي، لا يستطيع مجابهة أي وضعية بشيء من الجدية والمسئولية وبالتالي لا تستطيع الاستقلال وبناء كيان ذاتي لها”. في هذا النوع من الاستلاب يستفرغ الرجل عليها بلوثة من أساطير الأولين التي تحمّل حواء إثم الخطيئة الأولى “بضعفها واحتيالها ومكرها وغيّها. حواء مجسدة الآثام والشرور ومصدر كل غواية”. وفي نفس الاستلاب، تظهر كم هي متضخمة النرجسية حين تتمسك بوظيفة الأمومة كحصن أوحد تحظى تحت سقفه بشيء من القداسة، حيث تشعر بأهمية جسدها الخصب المرغوب به دوماً، والمتكفّل بالإنجاب والحضانة والرعاية بالذرية ووالد الذرية. ينتج عن تضخيم قيمة الأمومة تلك خاصية التملك الأبدية، حيث يرتبط الصبي بأمه رباطاً قلّما يتفكك عند كبره، والذي قد يصبح به تابعاً لزوجته خاصة مع تلك التي تتقن لعب دور الأم معه.
أخيراً، إنه كتاب قد يواجه فيه أحدنا نفسه -وقبل الجميع- رزايا قهره وضعفه وخنوعه وتخلفه بموروثه الاجتماعي المسموم، غير أن أشدنا بؤساً هو حقيقة ذلك المغبون الذي تجرّع السموم كعدل وحق مستحق وما علم أنها فُرضت عليه قسراً وجوراً، فبات إنساناً مقهوراً من حيث لا يدري!
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 11 مايو 2022 – صفحة (10):
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/05/5109.pdf
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(10)
كتاب/ الرحلة الداخلية
المؤلف/ أوشو
المترجم/ عبدالوهاب المقالح
دار النشر/ دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع
الطبعة/ 1 – 2015
إبحار في أعماق النفس البشرية
كتاب غزير مثقل بلآلئ الحكمة، يُبحر في أعماق النفس البشرية متخذاً الجسد مطية لمغامرة العوم تلك ورحلة التأمل الروحي. تسترسل الرحلة على هيئة أحاديث عفوية أدارها الحكيم الهندي أوشو مع مريديه، في إحدى مراكز التأمل الواقعة في مدينة (كوجرات) بالهند.
إنه أوشو .. أو تشاندرا موهان جاين (1931 : 1990) الذي تنقل شبكة المعلومات العالمية عنه أنه ولد في الهند البريطانية ودرس الفلسفة ودرّسها في الجامعات المحلية، وتدرج من ثم في العلوم الصوفية ليُصبح (غورو) أو معلم روحاني فاقت شهرته حدود وطنه، ليصل إلى العالمية ويُلقب بـ (زوربا البوذي)، إشارة إلى توجهاته الانفتاحية رغم دعوته الروحية!. وإن له من الإصدارات في المجال الروحي ما تتصدّر الطليعة على الدوام رغم ما تموج به الساحة الفكرية من إصدارات أكثر حداثة، أذكر منها على سبيل المثال: كتاب المرأة: احتفالاً بروحية المرأة / ماذا الآن يا آدم؟ كتاب عن الرجال / النضج: عودة الإنسان إلى ذاته / الحرية: شجاعتك أن تكون كما أنت / لغة الوجود: ما وراء الحياة والموت / سيكولوجية الاستنارة والأجساد السبعة / المركب الفارغ: لقاءات مع اللاشيء / التأمل: فن النشوة الداخلية.
تعرض صفحة المحتويات ثمانية فصول رئيسية بالإضافة إلى المقدمة وكلمة المترجم والتعريف بالحكيم، حيث يبدأ حديثه في الكتاب عن (1. البدن: الخطوة الأولى) ليتفرّع إلى كل من (2. الرأس، القلب، السرّة) ومن ثم يخصّ حديثه عن (3. السرّة: مستقر الإرادة)، ويستمر حتى يؤكد على أهمية (4. معرفة العقل) وماهية (5. المعرفة الحقة)، التي تقوده إلى التوصية بـ (6. لا تصديق، لا تكذيب)، وإلى الحاجة نحو (7. ضبط القلب)، ليخلص الحكيم في نهاية الرحلة إلى حقيقة أن (8. ليس للحب “أنا”).
تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 2015 عن (دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع)، والتي جاءت عن ترجمة مباشرة للكتاب من لغته الأصلية (The Inner Journey – By: Osho) وقد عني بها (عبدالوهاب المقالح) وهو أكاديمي يمني حاصل على درجة البكالوريوس في اللغة العربية من جامعة صنعاء، وماجستير في التعليم الابتدائي من أمريكا، وفي تعليم اللغة الإنجليزية من بريطانيا. يعمل في سلك التدريس الجامعي، بالإضافة إلى إسهاماته في ترجمة العديد من الأعمال الأدبية العالمية إلى اللغة العربية عن اللغة الإنجليزية، مثل (الملحمة الهندية: المهابهاراتا).
ومن شلال الحكمة الذي ارتوى به هذا الكتاب حتى الثمالة، أنهل غيض من فيض، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
إن العقل هو زهرة نبات الإنسان والتطور النهائي في جسده، إلا أنه ليس الجذر، بل الروح. يقول أوشو: “بالنظر إلى النبات، تتبدى الزهور أهم جزء فيه. وبالطريقة ذاتها يتبدى لنا أن العقل في الإنسان هو أهم جزء فيه”. وفي حديثه عن الجسد، يعتقد أن المنغمسين في الملذات وأولئك المتنسكين في العبادة على حد سواء، قد عذبوا الجسد كل على طريقته أذىً بالغاً. أما في حديثه عن الروح، فيرى أن روح الإنسان مرتبطة بالسرة .. لا بالقلب ولا بالعقل! فكما أن السرة هي مركز الجسد، فهي أيضاً مركز الحياة، حيث يولد بها الإنسان، وبواسطتها تفنى حياته. إنها أيضاً البوابة التي يدخل منها أولئك المهتمين بالحقائق الروحية. وحين ينتقل في حديثه من الجسد إلى العقل، يؤكد على أن العقل حتى يسترخي، لا بد أن يسترخي الجسد أولاً. حينها: “ستشرع العصافير في الغناء، وستسمعون صوت الطاحونة في مكان ما، وفي مكان آخر ربما نعب الغراب أو صاح الديك، وفي مكان آخر ثان ستسمعون أصواتاً أخرى”. هكذا يُصبح العقل كلما استرخى، أكثر يقظة وأكثر حساسية وأكثر استشعاراً لكل ما هو محيط به. كذلك، يُكمل العقل في النوم ما لم يتمكن من إكماله في الصحو، فإن كان الإنسان غاضباً من أحد ما ولم يتمكن من تفريغ شحنة غضبه، فرّغها في منامه، وذلك حتى يستعيد العقل حالته الصحية. لهذا، يعتبر أوشو أن: “الليل هو مرآة النهار. أياً كان ما يحدث في العقل خلال النهار فإنه يتردد كالصدى في الليل”. لا عجب إذاً أن يرى الحكيم نمط التعليم التقليدي السائد في العالم وهو يقود وعقل الإنسان إلى الجنون! ففي بلد مثل أمريكا، تشير الإحصائيات إلى تصاعد حالات الجنون رغم تصنيفها بالأرقى تعليماً والأكثر تحضراً.
لا يغفل الحكيم في وصاياه عن الحثّ في الاستمتاع بالحياة من غير أي منغصّات، فيورد في هذا المعنى حكاية معبّرة، إذ يتنزه السيد المسيح مع حوارييه في حديقة ما، ويخبرهم كم هي تلك الأزهار الجميلة تنعم بالبهجة في اللحظة الراهنة، رغم أنها لا تعلم إن كانت ستنعم بمثل هذا اليوم المشمس غداً أم لا! هنا، يعقّب الحكيم قائلاً في نبرة استهجان: “الإنسان وحده هو الذي يقوم اليوم بالترتيبات للغد ولبعد غد. وثمة أناس يعدون للكيفية التي ينبغي أن تكون عليها قبورهم”. وفي نفس المعنى، يحذّر الحكيم من التهاون في الأخذ بالأسباب الحيوية من أجل الاستمتاع بحياة أفضل، إذ يجزم بأن أولئك الذين يحذّرون من النوم ثمان ساعات يومياً بحجة ضياع ثلث العمر في النوم، هم خاطئون، حيث إن الحرمان من النوم يُعتبر أسهل وأرخص طرق التعذيب. وقد تنبّه إليه قدماء الصينيين حين كانوا يصنعون ذلك بمساجينهم، وذلك من خلال قطرات ماء تُسكب ببطء فوق رؤوسهم .. قطرة قطرة، إذ يعلو صراخ الواحد منهم بعد مرور سويعات من التعذيب، ولا يجد بد من الاعتراف عند بلوغه ذلك الحد، حتى يقضي نحبه بعد أيام! يسترسل أوشو فيقول: “ولو أن رجلاً ينام كما ينام الطفل فإنه قد لا يموت، لأن الموت سيكون صعباً. الموت يحتاج إلى نوم أقل فأقل، والحياة تحتاج إلى نوم عميق. وهذا هو السبب في أن نوم المتقدم في السن يتناقص شيئاً فشيئاً في حين ينام الطفل نوماً أطول”.
وللماء كذلك عند الحكيم شأن آخر! إذ يتدفق الماء من خلال عشرة ينابيع التي قد تنقسم إلى مائة ينبوع إن حاول أحدهم منع تدفقها. لقد تغذّى الإنسان في صغره على كبت الأفكار الخاطئة، والتي لا بد أن تفتح قنوات أكثر تعقيداً للخروج إلى السطح بعد أن أصبحت أشدّ قبحاً وعنداً. يعلّق أوشو في استفزاز على هكذا كبت من خلال مشهد تصوّري يصف فيه كل ممنوع بأنه لا محالة مرغوب: “أصرّ عقله ألا تكون القرود موجودة ولذلك جاءت القرود. وكلما حاول عقله أن يتخلص من القرود، ظهرت له .. كلما حاول أن يفرّ منها لحقت به! أن تحرم يعني أن تجذب .. أن ترفض يعني أن تستدعي .. أن تمنع يعني أن تغري”. والعقل الإنساني العجيب يتطلب جهداً في كثير من النواحي، إذ أن مواجهة العقل تتطلب ألا يكترث الإنسان بما يقول الناس عنه أو كيفما يبدو لهم، بل يحتاج ذلك الإنسان لأن يتفرّد في وحدته مع عقله ويفتحه على مصراعيه. ويؤكد أوشو: “إن هذا فعل من أفعال الشجاعة”. وفي هذا يكشف الحكيم جانباً آخر من ضعف الإنسان الوجداني، إذ يهاب الإنسان عادة فكرة المكوث وحيداً، خشية على نفسه من نفسه، أو بالأصح من نفسه الحقيقية، فتراه يقضي الأربع والعشرون ساعة من يومه في المحادثات أو مطالعة الصحف أو سماع المذياع. يقول أوشو في مواجهة ذاتية: “الإنسان يخشى من الوحدة لأنه في وحدته سيتبين انعكاسات حالته الحقيقية .. سيجد نفسه وجهاً لوجه مع ذاته. وهذا أمر مخيف، أمر يدعو إلى الذعر! وهكذا، فمنذ أن يستيقظ صباحاً حتى يأوي إلى فراشه مساءً يواصل الاستعانة باي وسيلة للهروب من نفسه، فلا يضطر لمقابلتها. إنه يخشى أن يجد نفسه وجهاً لوجه مع نفسه”.
وللختام بمسك، أعرض صورة للحكيم الهندي وهو يُحدّث عن الخالق في قول مثقل بالإيمان الخالص، إذ يقول فيه: “ليس اعتباطاً أن الله في العالم أجمع يُدعى (الأب) .. ليس اعتباطاً أن الله صُوّر في صورة الأب. وإذا ما كانت خبرات الطفل الأولى في حياته تتسم بالثقة والامتنان والاحترام لأمه وأبيه، حينئذ فقط ستتطور هذه الخبرات نحو الله .. وإلا فلا”. وأختم على لسان الحكيم في أعذب ما قاله عن العشق الإلهي وأخلصه، وهو يحدّث بلغة صوفية لا بد وأن تتناغم مع دواخل كل من لمس قلبه ذلك العشق .. مهما كان الاعتقاد أو العرق أو اللغة، إذ يقول: “الصلاة من دون حب صلاة زائفة .. فارغة .. بلا معنى! من دون حب لا قيمة لكلمات الصلاة على الإطلاق .. ومن دون حب، ما من سالك في الرحلة نحو المقدّس سيكون قادراً على بلوغ غايته”.
ما أحيلاها صلاة .. وليس مستغرباً أن تأتي الحكمة على قلوب يظنّها بعض المغرورين (على غفلة) .. “أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ”.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 18 مايو 2022 – صفحة (10):
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/05/5114.pdf
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(11)
كتاب/ المخ ذكر أم أنثى؟!
المؤلف/ د. عمرو شريف و د. نبيل كامل
تقديم/ د. أحمد عكاشة
دار النشر/ نيو بوك للنشر والتوزيع
الطبعة/ 8 – 2011
عقل الذكر وعقل الأنثى .. لا امتياز لأحدهما على الآخر
كتاب غزير علماً وفكراً وإيماناً، يسلّط الضوء على الكثير من الحقائق العلمية التي تكشف عظمة الخالق في إبداع خلق الزوجين الذكر والأنثى، ويُنهي ذلك الجدل البيزنطي السمج حول امتياز أحدهما على الآخر. رغم هذا، وعلى نفس الوتيرة العلمية والموضوعية، يبشّر الكتاب بمستقبل أنثوي واعد حين استفاض في إنصاف الأنثى على طول صفحاته، من خلال التأكيد على ما تتميز به من استعدادات فطرية، وملكات أخلاقية، ومنظومة سلوكية، تنمو جميعاً بنموها في مختلف مراحلها العمرية. إنه بالتالي يعمل على تبرئة الأنثى من كل الدعاوي المغرضة في الانتقاص من قدراتها العقلية لصالح عقل الذكر الذي أكدّ الكتاب تفوقه على الأنثى بشكل أكبر في جوانب، مقابل تفوق عقلها عليه بشكل أكبر في جوانب أخرى. كل هذا من خلال معلومات وأبحاث ودراسات علمية، لا من خلال حملات مشحونة بالتطرف الجندري، لا سيما وقد جاء الكتاب رجولياً بالثلاثة، من حيث مؤلفي الكتاب والمقدم له، فضلاً عن كونهم جميعاً من أهل الاختصاص! فلا شبهة لشعارات النسوية، ولا للعاطفة سبيل، ولا للتحيز مكان. يقول المقدم للكتاب: “لا جدوى من الهروب! المرأة تغيرت، جسدياً ونفسياً والأخطر عقلياً، بعد أن أكدت الأبحاث الأخيرة أن عقل المرأة مختلف عن عقل الرجل. إن التحدي الحقيقي الذي يواجهه إنسـان هـذا العصر ليس اكتشاف كواكب مجهولة، ولا أقماراً غامضة تجوب الفضاء الفسيح، ولكن اكتشاف قدرات الإنسان الخفية وأخطرها العقل، وخاصة عقل المرأة”. لا يفت المقدم مع هذا الإقرار من الإشارة إلى عظيم صنع الله، فيقرّ مجدداً “إن كتاب «المخ ذكر أم أنثى» رحلة في أشد العوالم غموضا، ألا وهو المخ .. وفي أثناء إبحارنا مع المخ تتجلى عظمة الخالق”.
وعن المؤلفين، فهما: د. عمرو شريف، أستاذ ورئيس سابق لقسم الجراحة بكلية الطب في جامعة عين شمس، وله عدد من المؤلفات العلمية والفكرية والدينية، ود. نبيل كامل، خبير في برامج التنمية البشرية. أما المقدم للكتاب، فهو أ. د. أحمد عكاشة، أستاذ الطب النفسي في كلية الطب بجامعة عين شمس، ورئيس مركز بحوث الصحة النفسية لمنظمة الصحة العالمية، ورئيس اتحاد الأطباء النفسيين العرب، وله العديد من المؤلفات في الطب النفسي والأبحاث العلمية المنشورة محلياً وعالمياً.
يفتح الكتاب مصراعيه على بابين رئيسيين، يفتحان بدورهما ثلاثة عشرة نافذة في فصل تلو الآخر، بالإضافة إلى صفحات الإهداء والمقدمة في البداية، وحصاد الرحلة في الختام مع الملاحق والمراجع. كم كان جميلاً أن يستهل إهداء الكتاب إلى “بناتنا وأزواجهن” قبل الجميع، والذي ينتقل بدوره إلى (الباب الأول: الذكورة والأنوثة)، فيبدأ بعرض مجموعة من (تأملات وتساؤلات) في الفصل الأول، لينتقل إلى الفصل الثاني والذي يعرض فيه (العلماء وهم يجيبون على عدد من المفاهيم الأساسية)، ومن ثم عرض (ملامح وسمات التعاطف والتنظيم) في الفصل الثالث. وفي حين يدور النقاش في الفصل الرابع عن (التنشئة أم الفطرة؟) يتطرق الفصل الخامس إلى (إكسير الذكورة)، بينما يتعرض الفصل السادس إلى (إكسير الأنوثة)، ومن ثم ينتقل الحديث في الفصل السابع عن (أمراض تكشف الحقيقة)، ويختم الفصل الثامن بموضوع وتساؤل عن: (الجينات والمخ .. ثم ماذا بعد؟) ثم يفتح الكتاب (الباب الثاني: تطبيقات على الجنوسة) مبتدئاً بالفصل التاسع في إيحاء عن (الجنس بين شهريار وشهرزاد)، ومن ثم ينتقل إلى الحديث في الفصل العاشر عن الذكر والأنثى باعتبارهما (شريكان في مؤسسة الأسرة)، الفصل الذي يقود بدوره للحديث عمّا (بين الأمومة والأبوة) في الفصل الحادي عشر، ليوجه لهما نداءً في الفصل الثاني عشر بـ (أيها الآباء .. أيتها الأمهات: ستحصدون ما تزرعون)، ليخلص في الفصل الثالث عشر بالتوصية حول (القدرات والاهتمامات والعمل).
تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثامنة للكتاب الصادرة عن (نيو بوك للنشر والتوزيع) عام 2011، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما سيلي في الأسطر القادمة. وقبل البدء، لا بد من التنويه على أن مادة الكتاب جاءت علمية صرفة معززة بالملاحق والمراجع وبمنهجية تراتبية في العرض والتقديم، وباستخدام لغة مباشرة تخاطب القارئ غير المختص، فضلاً عن النصائح الثمينة المقدمة للأزواج، وجملة القيم الأخلاقية والدينية والاجتماعية التي اكتسى بها إلى جانب المادة العلمية. وهو في هذا يسعى إلى إبطال الشعارات التي تعظّم الجنس الذكري على حساب نظيره الأنثوي، علمياً وموضوعياً.
يقرّ علم التشريح بتشابه مخ الرجل ومخ المرأة فسيولوجياً، مع فارق الحجم لصالح الرجل والذي يُبرر بصغر حجم جمجمة المرأة في العادة. غير أن الحجم لا يقرّ درجة الذكاء بالضرورة، إذ أن الفيل ليس بأذكى من الإنسان رغم كبر حجم المخ عنده، كما لم يثبت التشريح وجود أي فرق بين مخ أينشتاين ومخ أي متخلف عقلي، وقد تم تشريح مخه بعد وفاته بموافقة مسبقة منه. إن الفارق هنا يكمن أساساً في مستوى أداء الخلية العصبية للمخ. كذلك، يرفض الكتاب اعتماد كلّاً من “العوامل التربوية” وما تقوم عليه من موروثات ثقافية وأعراف اجتماعية، و “الفروق الكيميائية” المتمثلة في الهرمونات الجنسية، في تفسير الاختلافات الفكرية والنفسية والسلوكية بين الإناث والذكور، تفسيراً قاطعاً. وعن تفاوت درجة العاطفة والمنطق بين الجنسين، يذكر الكتاب: “أن الرجل عندما يحب يحب بلا منطق، وعندما يمنطق الأمور فإنه يمنطقها بلا عاطفة. في حين أن المرأة تمنطق الأحداث بعاطفية، وفي قمة عواطفها لا تتخلى عن المنطق”.
وفي مقارنة سريعة حول: (المشاعر والتعبير): يعاني الرجل من قصور نسبي في التعبير عن مشاعره بالكلمات، حيث تقع قدرات الإدراك بالأمور الشعورية لديه في النصف الأيمن من الدماغ، بينما تقع قدرات التعبير اللغوي لديه في نصفه الأيسر. أما المرأة فتتوزع القدرتين في كلا الفصين، مما يفُسر المهارة اللغوية لا سيما الفورية لديها. (عملية التفكير): أثناءها، تظهر “الخلايا العصبية” المسئولة عن معالجة المعلومات أعلى بمعدل ست أضعاف عند الرجل عن المرأة، في حين تظهر “المحاور العصبية” المسئولة عن تبادل المعلومات أعلى بمعدل عشر مرات عند المرأة من الرجل. (الاستجابة للمحفزات): أن “الجهاز الحوفي” المسؤول عن الاستجابة العضلية هو أكثر نشاطاً عند الرجل من “التلفيف الحزامي” المسؤول عن الاستجابة النفسية والذي هو أكثر نشاطاً عند المرأة. يُفسر هذا تجاوب المرأة مع الاستفزازات لغوياً، واستخدام الرجل لقبضته في مواجهتها. (الحواس): تتفوق المرأة في حاسة السمع وحاسة البصر وحاسة التذوق وإحساس الجلد عن الرجل. فمن بين عشرة مطربين ينبغ رجلان فقط ويكون المتبقي من نصيب المرأة. كذلك، تبصر المرأة الألوان ذات الموجات الأطول وتعلو كفاءة الحاسة لديها في الظلام، كما أنها الأكثر استجابة للأطعمة المرة والحلوة، ويتحمل جلدها أيضاً أقصى درجات الألم.
(المكان: فناء المدرسة – الزمان: سن العاشرة) .. وبينما يجوب الأولاد الفناء ذهاباً وإياباً مصحوباً بصراخ بل وعنف حال خلافهم يصل عادة إلى حد التشابك بالأيدي، تجتمع البنات في مكان ما على طرف الفناء يتبادلن الحديث والحقائب أحياناً. وإن وقع خلاف ما بينهن، فلا يتجاوز حسمهن له استخدام تقنية النقاش أو الصياح. يقع أحد الأولاد على الأرض أثناء اللعب باكياً، فلا يأبه به أحد بل قد يعمد الأولاد إلى إزاحته جانباً من أجل الاستمرار في اللعب، أما لدى البنات فتتوقف اللعبة بأكملها، حيث يهرعن جميعهن نحو تلك التي سقطت لمساعدتها والتخفيف عنها. وفي الحديث عن الجنسين في تنشئتهم المبكرة، يتطرق الكتاب للحديث عن هندسة الكيبوتس الإسرائيلية وفشلها في خلق جيل ذو جنس أحادي من خلال محاولة منح فرص متساوية للجنسين بما يُطلق عليه “البيئة التربوية المتماثلة”، حيث تأبى الطبيعة البيولوجية إلا أن تنتصر!. تقول النتيجة: “لقد فشلت كل محاولات السياسيين في استخدام «الهندسة الاجتماعية» داخل الكيبوتسات من أجل خلق يوتوبيا بالمفاهيم الذكورية (مجتمع يرى أن السعادة تتحقق إذا تبنى الجميع -ذكورًا وإناثاً – قيم التحدي والتفوق المادي). كما قدموا لنا البرهان على أن عقول الذكور والإناث مختلفة بالفطرة وليس بالتنشئة، وأن الأولاد والرجال يعيشون غالباً في عالم الأشياء من خلال عقول تنظيمية، بينما تعيش البنات والنساء في عالم الإنسان والعلاقات من خلال عقول تعاطفية”.
إن الأمومة انتصار أزلي، وعندها، يفرّق الكتاب بين الأمومة والأبوة فيقول: “هل تخيلت في يوم من الأيام أن الرجل يمكن أن يتحمل أعباء الأمومة بدلاً عن زوجته؟ وهل لاحظت أن العلاقة بين الأم وطفلها علاقة تبادلية خاصة، حتى إنه لم يحدث في تاريخ معظم المجتمعات البشرية أن نجح الرجال في القيام بدور الأمهات مهما كانوا حريصين على ذلك ومهما كانوا معطائين، حتى وإن قاموا بتقديم وجبة الرضاعة أو تغيير الحَفاضَات؟ بل لقد فشلت محاولات علماء الاجتماع في جعل الطفل أكثر قبولا لرعاية أبيه بدلاً من رعاية أمه، ويُعتبر قيام الأب بتربية أطفاله بعد فقد الأم استثناءً من هذه القاعدة”. بالإضافة إلى هذا، يذكر الكتاب أن إحصائيات الطوارئ تسجل نسب إصابات أعلى للأطفال في الأوقات التي كانوا فيها تحت رعاية آبائهم، بالمقارنة مع الحالات التي كانوا فيها تحت رعاية أمهاتهم.
ختاماً، لم تعد صورة المرأة النمطية في ضعفها وانكسارها وخوفها هي المرتقبة، بل إنها: “صورة قد تدخل قريباً أرشيف الذكريات”. إذ تشير الأبحاث العلمية إلى (قوة المرأة الجسدية)، تشهد لها الأرقام القياسية المسجلة في الدورات الأولمبية، و (قوتها النفسية والعصبية) إذ تمكنت من اختراق الفضاء مع الرواد الرجال، نداً بند.. وتتوالى إنجازاتها.
أخيراً وليس آخراً: يختلف الجنسان .. نعم! لكنه اختلاف يدعو إلى التجاذب لا التنافر .. كقطبي مغناطيس في المجال الفيزيائي، أو كما يقول الشاعر الشاب مريد البرغوثي في قول أكثر عذوبة: جديلة طرفاها العاشقان فما تراهما افترقا إلا ليلتحما .. في ضمّة تُرجع الدنيا لسنّتها كالبحر من بعد موسى عاد والتأما.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 25 مايو 2022 – صفحة (10):
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/05/5118.pdf
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
أنشر هذه المقالات في شهر يونيو / حزيران 2022
همى الغيث
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(12)
كتاب/ مذكراتي في سجن النساء
المؤلف/ د. نوال السعداوي
دار النشر/ دار الآداب للنشر والتوزيع
الطبعة/ 1 – 2015
لكلمة الحق ضد الطغيان ثمن يُستوفى خلف القضبان
لا تفاجئ د. نوال السعداوي قراءها كثيراً! ففي جرأة وصدق وبلاغة وبيّنة معتادة، ينقل قلمها الرشيق كرشاقة قامتها، في تدفق سلس متناغم، صوراً لأحداث عاصرتها بين أنماط بشرية وحشرات زاحفة وطعام رديء وأجواء رمادية، ومشاعر اختلطت فيها الرهبة من المجهول، والإصرار على المواجهة، والحفاظ على روح متّقدة .. خلف القضبان! بلا ادعاء، بلا تهمة، وبلا قاض، استقطعت أوصالاً من شبابها آنذاك.
إنها إذاً د. نوال السعداوي (1931 : 2021) الرائدة في مجال حقوق الإنسان، وحقوق المرأة على وجه الخصوص. تخرجت في كلية الطب جامعة القاهرة عام 1955 وحصلت على بكالوريوس الطب والجراحة. وبالإضافة إلى ممارسة مهنة الطب، تقلّدت مناصب مرموقة في بلادها، كمنصب الأمين العام لنقابة الأطباء، ومنصب المدير العام لإدارة التثقيف الصحي في وزارة الصحة، ورئاسة تحرير مجلتي الصحة والجمعية الطبية، وساهمت في تأسيس الجمعيات الحقوقية، كما حصدت جوائز عالمية، وتُرجمت أعمالها العلمية والفكرية والروائية إلى أربعين لغة. تشرّبت قيم الصدق والحرية والاعتداد بالذات منذ طفولتها، حيث ناضل والدها ضد الاحتلال البريطاني وشارك في الثورة الشعبية ضد سياستها في مصر عقب الحرب العالمية الأولى، حتى تم معاقبته بتعطيل ترقيته لسنوات بعد نقله إلى قرية صغيرة، وقد كان مسئولاً في وزارة التربية والتعليم آنذاك. لا عجب إذاً أن يتم زجّها في سجون الرئيس المصري الراحل أنور السادات عام 1981 ضمن حملة استهدفت مجموعة من الأدباء والكّتاب والصحفيين، تحت شبهة نشر الآراء التحريضية ضد الوطن ورموزه .. وقد قالت في مذكراتها عن قيمة الإنسان: “إن كل شيء أجنبي أصبح أعلى قيمة من أي شيء مصري .. حتى الإنسان”.
تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 2015 عن دار الآداب للنشر والتوزيع، يتخللها اقتباسات ثورية من مأثور قول الطبيبة الأديبة، كثورتها الباقية ما بقيت الحياة (مع كامل الاحترام لحقوق النشر). وبينما يُدرج الكتاب تحت أدب السير الذاتية، وأدب السجون كذلك، أياً كان، فقد جاءت خواطر الطبيبة بين سطور مذكراتها تنمّ عن حسّ وفكر، وعن جمال وفلسفة، لطالما آمنت بها ووصمت بها .. اكراماً تارة، واتهاماً تارة أخرى!. إنها تفاصيل قاسية لا تخلو من تفاؤل، تسردها منذ لحظة اعتقالها إلى ما بعد إطلاق سراحها، يعيشها القارئ في كل لحظة، بما تحملها من قهر واستعباد، وبما يتخللها من ابتسامات وقفشات، وبما يغلفّها من تحدٍ وأمل، تحلّت بها الطبيبة .. السجينة السياسية، مع قريناتها السجينات السياسيات والسارقات والداعرات والقاتلات، والشاويشات أيضاً. وعن تلك التفاصيل أتحدث كما يلي:
تعرض د. السعداوي في الجزء الأول من مذكراتها (القبض) حادثة الاعتقال، إذ قام عناصر من الشرطة باقتحام شقتها، وهي وحيدة، في أحد أيام سبتمبر من عام 1981، وجرّها عنوة إلى سجن القناطر الخيرية، بلا تهمة واضحة وبلا أذن مكتوب، بل هكذا! بحسب أوامر عليا صادرة من الرئيس السادات، ضد الطائفيين والمتآمرين في البلاد. وعن أثر الذل تقول: “الناس من خوف الذل في ذل”. أتى الجزء الثاني (السجن) مفصّلاً، إذ تطرقت د. السعداوي لحياة السجن اليومية مع بقية النزيلات، من خلال ما كنّ يستمتعن به من رياضة وفلاحة ودردشات متفرقة، ومن صراعات مختلفة، كالروائح العفنة، والحمام ذو الباب المشروخ، وخبز الفطور المحشو بالحشرات، والغبار والدخان، والأسرّة المتهالكة، وصراصير الليل. تقول عن شعور الخواء الذي لازمها ذات صباح: “أعظم صفات الإنسان أنه ينسى! وهل كنت أحيا في السجن دون أن أنسى”؟. ثم يأتي الجزء الثالث (اختراق الحصار) ليبرز شخصية د. السعداوي الثائرة أبداً، ومحاولاتها التي نجحت في التواصل مع عائلتها، وتهريب مقالاتها وخطاباتها، وتوكيل محامٍ لها، وطمأنتهم لها بتظاهر العالم معها رغم اضطهاد بلدها لها. ومن الطريف أنها كانت تمكث تحت جنح الظلام، إما في المرحاض أو تحت غطاء الفراش لتكتب تلك المقالات المهرّبة على ورق تواليت، وبقلم كحل تم تهريبه لها من عنبر الدعارة المجاور. وعن التأقلم تقول: “ربما لا يشعر الإنسان بالخطر إلا وهو خارجه، فإذا ما أصبح في قلب الخطر صار جزءاً منه ولم يعد يشعر به”. يسفر الجزء الرابع (الخروج للتحقيق) عن سبب الاعتقال، والذي عاد إلى محاضرة ألقتها د. السعداوي بين زملائها في جامعة عين شمس، قبل عشرة أعوام قبل الاعتقال، في عام 1972 تحديداً، إذ زعم التحقيق تحريض د. السعداوي على الثورة والتمرد آنذاك، رغم تفنيدها وإصرارها على أن المحاضرة عُقدت من أجل نقاش علمي بحت! لم تُخف د. السعداوي شكوكها في أن اعتراضها على معاهدة كامب ديفيد التي أبرمها السادات مع نظيره رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغن عام 1971، كطرف رئيسي فيها، كان هو السبب الحقيقي وراء اعتقالها. وعن انتظار الإفراج وهي بين زنازين المعتقل تقول: “لا يموت الانسان في السجن من الجوع أو من الحر أو البرد أو الضرب أو الأمراض أو الحشرات، لكنه قد يموت من الانتظار. الانتظار يحوّل الزمن إلى اللازمن، والشيء إلى اللاشئ، والمعنى إلى اللامعنى”. تصف د. السعداوي في الجزء الخامس (موت السادات) الفرحة العارمة التي اجتاحت أجنحة السجن عند إعلان الخبر، حيث خلعت المنقبات جلابيبهن مع نقابهن وشاركن السجينات الأخريات رقصهن وهتافهن، وذلك بعد حالة من الوجوم والقلق والترقب وهن يسترقن السمع للمذياع الصغير المهرّب خلسة، مما اضطرها للاختباء عن أعين الشاويشات في الحمام المتهالك لمدة ثلاث ساعات والمذياع ملتصق بأذنها، وأنفها قد أزكم من عفن حفرة التصريف الطافحة بين قدميها. في الجزء السادس والأخير (الذي جاء بلا عنوان)، تسترجع د. السعداوي ذكرى مؤلمة نقلتها من شقتها، إلى سجن القناطر، إلى المدعي العام، إلى قصر الرئاسة، ثم إلى بيتها من جديد .. حيث تولد من جديد! لا تنسى ما حيَت تواريخ ثلاث حُفرت في ذاكرتها، هي: 6 سبتمبر يوم الاعتقال، 28 سبتمبر يوم الجلسة عند المدعي العام، و6 أكتوبر يوم الافراج. تعود د. السعداوي إلى السجن مرة أخرى، لكن للزيارة، حيث يأخذها الشوق لملاقاة رفيقات السجن اللاتي لم يزلن حبيسات وقتئذ. وعن لحظات من مرح عاشتها وزميلاتها النزيلات تقول: “لم تكن بدور تدخل المرحاض إلا ونراها تقفز آخره قبل أن تكمل مهمتها صارخة: صرصار!. ما أن نسمع صرختها حتى نجري إليها وفي يد كل منا شبشبها شهرته في يدها كالسيف استعداداً لضرب الصرصار. وفي يوم سمعنا صرختها وهي جالسة في الحوش، وظننا أن صرصاراً هجم عليها، وخلعنا الشباشب وتأهبنا للمعركة لكننا لم نر صرصاراً وإنما رجل. لم تكن مرتدية النقاب وأفزعها أن يلمح رجل شعرها العاري، وقفزت من الحوش إلى العنبر في خطوة واحدة وأخفت شعرها ووجها تحت النقاب. أصبحنا من بعد، كلما سمعنا صرختها وقبل أن نخلع الشباشب نسأل: صرصار أم رجل”؟.
تُلقي د. السعداوي الضوء على نماذج من أخلاقيات السجينات المتأرجحة بين التشدد الديني والانحلال الخُلقي، فمن السجينات من انتقبن وتلين القرآن ليل نهار، وقد تشبعن بكل ما من شأنه تحقير المرأة والحطّ من قدرها كإنسانة في المقام الأول. ومن السجينات من قتلت زوجها وقطعته إرباً إرباً بعد أن وجدته مستلقياً فوق ابنتها ذات التسع سنين، بعد عودتها المفاجأة من عملها اليومي في فلاحة الأرض إلى دارها، حيث يقبع زوجها آكلاً شارباً نائماً شاخراً ليل نهار. ومن السجينات مومسات كن يتبجحن في إسفاف، وقد شوهدن يتحرشن بطبيب السجن الذي كان يتعاطى معهن في نشوة، عُرف بها. تقول وهي تتطرق في حديثها عن بعض أوجه الجهل والتخلف والهوان التي شهدتها في مجتمعها: “لا زال كثير من الرجال والنساء في بلادنا يؤمن أن وجه المرأة عورة! أما الثورة، فهناك من يؤمن أيضا بأنها كوجه المرأة .. تحتاج إلى حجاب يغطيها”. لكنها تعود لتنتصر لقضيتها التي آمنت بها، فتقول عن نصف المجتمع: “إذا النساء حرُمن الحرية فلا يمكن أن تكون هناك ثورة. هل تتحقق الثورة في مجتمع يكبّل نصفه بالقيود”؟ وبين ثنايا المذكرات، تعود د. السعداوي بالذاكرة أدراجها، مسترجعة ملامح من طفولتها بين أم شمّاء أبيّة تثور لكرامتها، وأب حرّ مناضل يلعن الإنجليز .. بساطة جدتها لأبيها في الريف، وأبهّة جدتها لأمها في الترف. ورغم اقتضاب الكلمات، فقد أثارت د. السعداوي قدر من الشجن في رثاء والدتها ولحظات احتضارها التي لا تُنسى.
وأختم بمقولة للطبيبة الأديبة في الإرادة الحرة، وقد عاشت على مبادئ لا تحيد عنها، وواجهت ما واجهته في سبيلها، وماتت عليها: “هل يمرض الإنسان بإرادته؟ نعم، وأحياناً لا! إلا أن الإنسان قد يمرض، بل قد يموت بإرادته. والعكس أيضاً صحيح .. قد لا يمرض الإنسان وقد لا يموت بإرادته”.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 1 يونيو 2022 – صفحة (10):
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/06/5123.pdf
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(13)
كتاب/ قصة الطب ودور الطبيب: إظهار لجمال النفس وانتصار للحياة
المؤلف/ د. جاسم الدوري
دار النشر/ دار الشروق للنشر والتوزيع
الطبعة/ 1 – 2016
ثنائية العلم والأخلاق في مهنة الطب
يولد الإنسان عادة وقد حباه الله بنعمة الصحة، التي قد يُغبن فيها ما لم يوفِ حقها في الحمد وحسن الاستغلال. بيد أن قدر الإنسان يفرض مواجهة تحديات الحياة التي قد يوقف المرض عجلتها، وما يخلّف من آثار صحية ونفسية واجتماعية، تتطلب إحاطتها برعاية وحب ونبل يمنحها أبطال مهنة الطب، ويتقبّلها ويتجاوب معها المريض .. في تحدٍ يعيد للجسد عافيته، وللنفس جمالها، وللحياة الانتصار. إن هذا الكتاب يوجّه حديثه للعاملين في المجال الطبي من مهنيين في المقام الأول، وللإداريين كمساهمين فاعلين في تلك المنظومة الصحية، ويقدّم إهدائه للمريض الذي يُدين له المؤلف بالفضل في قوله: “إلى المريض .. المعلم الأول للطبيب”، والذي حسب تعبيره الآخر: “لولاه ما تعلمنا”.
يأتي الكتاب كعصارة علم وعمل انخرط فيهما المؤلف في سن مبكّرة حتى تقاعده عام 2014. إنه د. جاسم الدوري، المولود في قضاء الدور- محافظة صلاح الدين عام 1950، والذي تخرّج في كلية الطب من جامعة بغداد عام 1974، وعمل من ثم طبيباً في المستشفيات العراقية حتى عام 1982، حيث غادر إلى المملكة المتحدة لاستكمال الدراسات العليا، فحصل على عضوية كلية الأطباء الملكية عام 1984، وعمل في المستشفيات البريطانية التي استمر يتدرّج فيها على السلم الطبي، حتى أصبح استشارياً في الطب الباطني.
تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 2016 عن (دار الشروق للنشر والتوزيع)، والتي تشتمل على بعض الاقتباسات، بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر). وعلى الرغم من مادة الكتاب العلمية، فقد جاءت بلغة رجل الشارع، وبأسلوب لطيف يساعد القارئ على طي جلدته الأخيرة من غير فاصل زمني بعد قلب جلدته الأولى. يعرض فهرس الكتاب أربع فصول رئيسية يتفرّع عنها مواضيع ذات صلة، فيبدأ (الفصل الأول: قصة الطب وفنه) بالحديث عن الإسلام كدين يحض على الاخذ بالأسباب من أجل وقاية الجسد، حيث يؤكد د. الدوري على أن “الإسلام دين الوقاية”، فالحفاظ على الجسد نظيفاً، وتجنيبه المحرمّات من شرب للدخان وتعاطٍ للخمور وممارسة علاقات غير شرعية، تقيه من أمراض القلب والرئة وأنواع السرطان المختلفة. يستشهد في هذا بحديث النبي الأكرم ﷺ: “إِن الله أنزل الدَّاء والدواء، وَجعل لكل دَاء دَوَاء، فَتَدَاوَوْا، وَلَا تداووا بِمحرم”. يشير من ثم إلى البناء الحالي لعلوم الطب الحديث، حيث يقوم على الأساس الذي وضعه العلماء السابقون، مؤكداً بأنه علم لم يتوقف يوماً. ففي “دولة العلم والثقافة”، قام العباسيون بإبداع أنظمة دقيقة في ممارسة مهنة الطب والحفاظ على الصحة العامة، وقد كانوا “أول من قام بالتلقيح ضد الجدري بوضع قشور بثور المرض في جروح صغيرة في جلد الصحيح”. يستمر د. الدوري بعد ذلك في اطراء علماء الإسلام الأوائل، كالنطاسي والبيروني والرازي وابن النفيس وابن سينا، ويخص “جراح قرطبة الشهير أبو القاسم الزهراوي” فيقول وهو: “المكنى (شيخ الجراحين) و (أبو علم الجراحة الحديثة)، مؤلف (التصريف لمن عجز عن التأليف) ذي الثلاثين مجلداً الذي ضمنه خبرته وإبداعاته في طرق الجراحة المختلفة وآلاتها المتعددة، ولا يزال بيته قائماً في قرطبة الأندلس يزوره السائحون”. ينتقل بعد ذلك للحديث عن الخدمات الصحية الوطنية التي تعمل عليها المؤسسات الطبية في بريطانيا، ويختم الفصل بإلقاء الضوء على أمراض اندثرت وأمراض أخرى ظهرت للعيان.
أما في (الفصل الثاني: الطبيب خادم الفن) فيتطرق فيه د. الدوري إلى الجراحة كذوق ورسم، وإلى الطب كفنّ، والطبيب كخادم لهذا الفن، يصفه فيلسوف الطب الأول أبو قراط بأنه: “له ثلاثة أضلاع: المرض والمريض والطبيب. فالطبيب خادم الفن، وتعاون المريض مع الطبيب كفيل بالقضاء على المرض”. ثم يخصّ حديثه عن الممرضة كركيزة أساسية في مهنة الطب، وما يجمعها مع المريض من علاقة وشيجة لا يحظى بها الطبيب المعالج عادة! فيقول قولاً عذباً في حقها، إذ: “إنها حقاً نعمة ربانية أن تختص المرأة بالتمريض لرقة طبعها وحنوها. وهي لا تقل عن الطبيب شأناً إذ أن هدفيهما رعاية المريض”. ويضرب الأمثلة التاريخية في نسيبة الأنصارية يوم أحد، حين طببت الجرحى وأصبحت بهذا العمل أول ممرضة في الإسلام. والإنجليزية فلورنس نايتنجيل التي ابتدعت نظام الرقابة الصحية، وقللت من عدد وفيات الجرحى أثناء حرب القرم. ثم يقول في جرأة: “أما النظرة الدونية لهذه المهنة الإنسانية الراقية فقد جاءت من الثقافة الذكورية الهابطة والعادات الجاهلية البالية التي لا تقيم وزناً للحياة، وتهين المرأة صانعة الحياة وراعيتها. المرأة شقيقة الرجل، التي جعل الله من خلقها الرعاية والحنان والحب غير المشروط، وجعل من أهم مسئولياتها رعاية الأسرة وإدارة البيت، فحيث حلّت المرأة حل النظام والنظافة والسلوك المهذب، وهذه لعمرك هي موجبات الطب حقاً”. ومع هذا الرأي الإنساني قبل أي وصف آخر، لا عجب أن يأتي تعليق د. الدوري صريحاً في قوله: “الرجال أكثر حساسية”، عند معاينته حالة إحدى قريباته التي أصاب بشرة وجهها طفح جلدي وأصابها القلق جرّاء ذلك “لما للنساء من حساسية تجاه الشكل والمظهر”. ينتقل بعد ذلك إلى عرض واجبات الطبيب ومسئولياته، وآثامه أيضاً .. حسب تعبيره، والتي يعدد منها تسعة، وإلى التأكيد على أن التقصير في أداء المهام ورفع الشكاوى، يُعد بمثابة أداة للتطوير والتعلم واستخلاص الدروس، بالإضافة إلى جوانبها الأخلاقية من تقديم الاعتذار والتعويض المناسبين، باستثناء هتك أسرار المريض وهدر كرامته التي عدّها جريمة لا تغتفر، حيث يختم بها الفصل من خلال التركيز على أخلاقيات مهنة الطب وفضائل الطبيب، فيحدد عشر خصال أخلاقية لا بد وأن يتحلى بها، هي: “الرعاية والاهتمام، الرأفة والرحمة، الاتصال الفعال، التعاون والتنسيق مع فريقه الطبي، الكفاءة في العلم والمهارة، التحليل النقدي والتحليلي، الجمع بين الثقة والتواضع، آمراً .. ذو خصال قيادية، الاستمرار بالحصول على آخر العلوم والمهارات، حصر ممارسته بخبرته واختصاصه”. وبناءً على هذه الخصال، ينأى المؤلف بمهنة الطب أن تزاول مهنة الإتجار، من خلال شركات التأمين ومندوبي الأدوية وموردي الأجهزة والمعدات، إذ “لا يحق للطبيب تسخير هذه المهنة المقدسة للكنز والطمع وتحويلها من مهنة علاج العلة ومعرفة الأسباب إلى حرفة لجمع المال والاكتساب”.
وفي (الفصل الثالث: معلم الطبيب الأول .. المريض)، يتحدث د. الدوري بلغة وجدانية عن بعض قصص النجاح التي تشكّل أعظم متع الطبيب، وعن انفراج الهم، والأمل الذي يعقب اليأس، وكيف أن المرض النفسي هو في حد ذاته كرب عظيم، والتقمص العاطفي الذي يعتمده الطبيب في علاجه .. فيسرد عدد من الحالات الواقعية التي تتراوح بين الفرح والترح، وبين ما كان كقضاء إلهي وما نجم عن إهمال بشري! لم يكن المؤلف -وهو طبيب- أن يكشف ما ينبغي ستره، فقد استخدم أسلوب الترميز وهو يتطرق لتلك الحالات! أذكر منها حالة الشابة التي فقدت طفلها البكر أثناء الولادة، بسبب حماقة طبيب التوليد، والإهمال اللاحق له، مما أدى إلى تعرضها للنزف الحاد حتى الموت، فإذا بالمنزل الذي تزيّن منذ سويعات للفرح المرتقب، يتحول إلى سرادق عزاء! وذاك الذي أصابه (العجز الجنسي) فأنهكه الهمّ، فمنع عنه الطبيب المعالج دواء الضغط واستبدله بآخر، وودعه ليعود إليه بعد ثلاثة شهور متهللاً .. شاكراً له (إعادة رجولته). ولأن الشيء بالشيء يُذكر، يأتي المؤلف على ذكر السيدة الإنجليزية جوان، وهي “متقاعدة في الستين من عمرها، تعمل متطوعة في المستشفى، تتحدث إلى المرضى العاجزين وكبار السن لتخرجهم من وحشتهم ووحدتهم، ثم تدفعهم بالكرسي المتحرك لإيصالهم إلى عيادة الأطباء وتنتظرهم إلى بعد انتهاء الاستشارة الطبية، لتأخذهم إلى قسم الأشعة أو المختبر وغيرهما، ثم تقوم بتوديعهم عند المغادرة. سألتها يوماً لم تفعلين ذلك؟ قالت: بهذا العمل أحس بسعادة في قلبي، وأؤدي واجبي تجاه قومي، وآمل أن أجد من يخدمني إذا صرت إلى ما صاروا إليه”.
ينتهي الكتاب مع (الفصل الرابع: علاقة الطبيب بالمريض) بتسليط الضوء على الاستشارة الطبية كفن آخر، مع توضيح هدفها ووظيفتها، ومن ثم عرض الخطوات اللازمة في إفشاء الخبر السيء للمريض وقد رتبّها د. الدوري بخمس خطوات رئيسية. ينتهي الفصل بجملة من الاقتراحات العملية للتطبيق في القطاع الصحي، سواء عن طريق الكادر الطبي أو الإداري .. والمرضى كذلك!. ويقتبس المؤلف من البروفيسور دونالدسون المستشار الأول للحكومة البريطانية في الصحة العامة قوله: “كل البشر خطاؤون، لكن لا يمكن الصفح عمّن يغطي خطأه، ولا نقبل عذراً لمن لا يتعلم منه”.
يختم د. الدوري كتابه القصير بالدعاء المأثور: “اللهم رب الناس أذهب الباس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما” .. وبدوري أختم بالدعاء الذي أحافظ عليه: “اللهم ابعد عني شر ما يؤذيني .. ولا تحوجني لطبيب يداويني”.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 8 يونيو 2022 – صفحة (10):
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/06/5128.pdf
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(14)
كتاب/ الغابة
المؤلف/ د. مصطفى محمود
دار النشر/ دار المعارف – القاهرة
الطبعة/ 7 – 1997
رحلة عميقة الأثر عمق الأدغال الأفريقية
هناك في الغابة .. تنصهر كل اختلاجات النفس البشرية لتظهر في أصدق ما جُبلت عليه من فطرة وسجية وعفوية، فلا نفاق ولا عدوان ولا كبت ولا طمع، إلا من قوانين ضمنية تعمل عمل الدساتير الرسمية في المجتمعات المدنية. تلك الغابة في القارة السوداء التي ما أن وطأت قدما الرجل الأبيض تربتها حتى عاث فيها الفساد، من ترويع للنفوس ونشر للذعر وفتك بالأبدان مع ما حمل من أمراض كالسل والزهري والسيلان لم تعرفها القارة من ذي قبل، ضمن ما حمل لها من بنادق وراديوهات وسيارات وأقلام تكتب بطلاسم بدت شيطانية للأفارقة، ومن تبشير بديانة غريبة تتوعد بجحيم أخروي في حال ارتكاب إثم ما، بدل الرب الغفور الرحيم الذي كانت تؤمن به!.
تُعد رحلة د. مصطفى محمود إلى (الغابة) من أمتع ما قدّم ضمن إصداراته الغزيرة علمياً وفكرياً وفلسفياً وسياسياً واجتماعياً وأدبياً، رغم قصرها واقتصارها جغرافياً على الأدغال الأفريقية. فبعد أن يصف مشاهداته وهو في (الطريق إلى الغابة) ماراً بالسودان، يتحدث بإسهاب عن بعض القبائل الأفريقية، وهي: الماو ماو، النيام نيام، الشيلوك، الدنكا، النوير، الباري، اللانجو، البونجو، الدوبي، ويختم رحلته بكلمة مؤثرة في (وداع الغابة). إنه إذاً الطبيب والأديب والفيلسوف المصري (1921 : 2009)، المتفرد في طرحه بأسلوب يجمع بين العمق والبساطة، سواء من خلال أعماله المكتوبة أو المرئية كما في برنامجه الشهير (العلم والإيمان). تذكر شبكة المعلومات إطلاق اسمه على كويكب تكريماً وتخليداً له.
تعتمد هذه المراجعة على الطبعة السابعة للكتاب الصادرة عام 1997 عن (دار المعارف) في القاهرة، والتي تشتمل على بعض الاقتباسات، بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر): مع إقلاع الطائرة إلى القارة السوداء، تراود د. محمود خاطرة عن المدينة والمدنية التي أتت بها، والتي لم تكن سوى وجه آخر للمرض، إذ يقول: “المرض المزمن الذي أصبح له ألف اسم واسم .. القرحة .. القولون .. الأملاح .. السكر .. الضغط .. الكبد .. الذبحة .. الأرق .. القلق .. وهو مرض واحد اسمه الحقيقي .. المدينة”. وعند الهبوط في دار السلام، تستقبله وجوه سوداء باسمة مرحّبة تعلوها طرابيش حمراء، تقول: “كريبو مرحب”. يحمل أهالي تنجانيقا المسلمون أسماء عربية، ويتحدثون باللغة السواحلية التي تمتزج بالكثير من الكلمات ذات الأصل العربي، فهم على سبيل المثال: “يسمون الصحون هناك صحاني، والقهوة كاهاوا، والماء ماجي، والسمك سماكي، والكبريت كبريتي، والسفر سفاري”. يلتقي هناك بخبير الغابة الأمريكي الذي يحدثه عن “حكمة الحيوان وعن النظام الدقيق السامي الذي يسود الطبيعة الحية”. فالتماسيح التي تكاثرت بشكل ظن معه الأهالي أنه يهدد الحياة البرمائية، أدى إلى رواج حرفة صيد التماسيح لديهم والاتجار بجلودها، حتى فقدوا غذائهم الطبيعي من سمك التيلابيا في البحيرات! لقد انقض سمك القط على سمك التيلابيا بعد أن أصبح حراً مع صيد التماسيح، والتي كانت تتغذى عليه.
ينتقل د. محمود إلى قبائل (الماو ماو) التي يخصّها بحديث مستفيض، فهي تعتبر من أكبر قبائل الغابات الاستوائية، وتتمركز تحديداً في هضبة كينيا. ففي العقيدة، هي أقرب للأديان السماوية في اعتقادها بإله واحد أحد لم يلد ولم يولد وليس كمثله شيء، مع طقوس معينة في تقديس الآباء والأجداد، بينما يتولى الأخيار منهم مهمات التنبؤ وكشف الغيب. أما من الناحية الاجتماعية، فتحكمهم أنظمة عرفية تشمل معاشهم اليومي، وأعمالهم، وصناعتهم، وزراعتهم، وأطعمتهم، وأزيائهم، وعلاجاتهم، وأعمالهم السحرية لجلب الحبيب ودرء الشرور وإنماء الزروع، بالإضافة إلى طقوس الطهور، وعلاقات ما قبل الزواج، والزواج بما فيها من تقليد خطف الزوجة، وتعدد الزوجات حسب طلب الزوجة، ومعاشرة الزوجة لضيوف زوجها، والعقم الذي يعرض فيه الزوج زوجته على رجال آخرين أملاً في حملها، والطلاق الذي لا يتم سوى في حالة العقم الذي لا يرجى شفاؤه، أو في حال إهمال البيت وتربية الأولاد. تتشابه أسطورة نشأة القبيلة بقصة آدم وحواء! فتذكر أنه حين كانت الأرض خواء خلق الإله (موجاي) ابتداءً (جيكويو) وأسكنه الهضبة الخضراء، ثم بعث له بالحورية الجميلة (مومبي) لتكون شريكته في تلك الجنة، حتى حين تزوجا وأنجبا من الذرية تسعة بنات جميلات، ضاق بجيكويو الحال، فركع للإله وقدم له القرابين الذي استجاب له وبعث له تحت شجرة تسعة من الشباب كالأقمار في الجمال والبهاء، فتزوجوا من بناته، وأسسوا لعشائر الجيكويو التسع التي تفرّعت منها قبائل الماو ماو المعروفة إلى الآن. ثم يقول قولاً عظيماً، إذ: “تقول الأسطورة إن القبيلة كان اسمها في البداية قبيلة مومبي تكريماً للأم التي حبلت فيها، ولكن هذا التكريم كان نتيجة طغيان نساء القبيلة. فقد اعتبرت كل امرأة نفسها أنها الأصل في القبيلة، وأنها هي التي أنجبت رجالها، وأقامت من نفسها حاكمة، واتخذت لنفسها عديداً من الأزواج تتحكم فيهم وتسوقهم إلى العمل في الحقول، وثار الرجال وجمعوا كلمتهم. وذات يوم وبينما كان النساء كلهن حبالى ضعيفات غير قادرات على الحركة، قلب الرجال نظام الحكم واستولوا على السلطة. ومن ذلك اليوم تغير اسم القبيلة من أبناء مومبي إلى أبناء جيكويو، ولم يبق من حكم النساء القديم إلا أثر رمزي هو أسماء العشائر التسعة التي ظلت تتسمى بأسماء بنات الجيكويو التسع. وانتهى نظام تعدد الأزواج ليبدأ نظام تعدد الزوجات، ولكن المرأة ظلت موضع احترام ومهابة، والأم ظلت لها قداسة. وإلى الآن ما زال سب الأم عند الماو ماو جريمة لا تغتفر، والأم التي تطعن في السن عندهم تصبح لها مكانة روحية عظيمة، وتتزعم المحافل الدينية”. أما امرأة الغابة “لم تكن أبداً سجينة البيت قليلة الحيلة كما هي عندنا، وإنما كانت دائمة عاملة، كتفها بكتف الرجل في كل مكان، وحرة اقتصادياً مثله” وهي التي تنفق على أسرتها “لأنها هي التي تزرع الحقل وتجمع المحصول وتحمله إلى محطات التسليم وتأخذ ثمنه”.
جاء الفصل الخاص بـ (السودان) شائقاً في عرض جانب من ثقافة المجتمع السوداني، فضلاً عن خيراته وكنوزه المطمورة في باطن الأرض. فأرض السودان هي الأرض التي يتفاوت عليها الطقس ما بين جفاف قاس وصقيع لا يرحم، كما يتفاوت عليها الجنس البشري من ساميين وحاميين وزنوج بخليط ألوانهم، الباهت كالقمح والأسود كالأبنوس، وبتقاطيع أوروبية دقيقة وثانية عربية أصيلة وأخرى بملامح زنجية غليظة. تأتي كل الإحصائيات بالألف والمليون .. الثروة الحيوانية، أنواع الطيور، الأراضي الزراعية، مساحات المدن، الأمطار في المتر المكعّب .. ماعدا “التعداد البشري” الذي لا يتفق ومتاهة أرض السودان. “والنتيجة أن ثروات السودان كلها ما زالت مكنوزة في التربة وفي الماء وفي الغابة بلا تشغيل! لا توجد الأيدي الكافية لاستخراجها، والأيدي القليلة الموجودة يشلها الحر اللافح وترهقها المسافات الطويلة بلا طرق وبلا مواصلات سريعة”. وفي مقارنة بين المصري والسوداني، فإن السوداني أكثر ثقافة “وأكثر عكوفاً على القراءة والاطلاع، وأكثر جدية في قراءته”. وكذلك: “السوداني لا يهرّج كالمصري، بل هو على العكس مهذب جداً، وإذا سألت أحد السودانيين خدمة تسابق عشرة إلى تلبيتك”. وبعد الوصف الذي يكاد يتصبب معه القارئ عرقاً عن حرارة الجو، فإن المنظر العام الذي يمكن مشاهدته أكثر هو “موائد البيرة والشلل التي تلتف حولها في دوائر وتكرع الزجاجة بعد الزجاجة”. ويُبرر لهذه العادة بأنها “بديل طبيعي لعدم وجود الاختلاط ولقلة النوادي والسينمات وأماكن السهر ولشدة الجفاف”. وفي مقارنة أخرى بين مدينة الخرطوم و (أخواتها)، في الشمال نحو مصر وفي الجنوب نحو الغابة، فهي “تخنق نفسها بالثوب وتغطي مواطئ الفتنة حتى المنكبين وتقيم سداً منيعاً بين نسائها ورجالها .. لا متنفس فيه ولا اختلاط أو عاطفة أو علاقة إلا برخصة وبطريقة غير مشروعة”. ينتج عن هذا الكبت أرض بوار وموارد مهدرة. “والمرأة في الخرطوم حبيسة البيت خوفاً من أن تحمل في الحرام! أي حرام؟ إن هذا العطل الذي تعيش فيه هو الحرام .. إن الثمار تصرخ منادية على من يقطفها، والأرض الخلاء تصرخ منادية على من يعمّرها، وكل شبر فراغ يتضرع إلى كل أنثى لكي تحمل وتلد”. وبينما كانت خطة الاستعمار في فصل جنوب السودان هي ضمه للأراضي التي يسيطر على خيراتها، جاء تبشير القس سترانيتو ومطالبته لبابا الفاتيكان والأمم المتحدة بفصل الجنوب، بحجة الاضطهاد الديني الذي كان يشعل الحرب الأهلية بين أبناء السودان. رغم هذا “لم يفعل المبشر الإسلامي شيئاً يذكر، وكان همّ الشيخ الذي يُبعث إلى هذه المجاهل الجنوبية أن يسأل عن مرتبه، ويطمئن أولاً على تسهيلات السكن والأكل والشرب والتحويش التي ستتوفر له”.
يثير د. محمود الانتباه في مقارنة نقاء النفس البشرية عند ساكن الغاب مع نظيره رجل الحضارة! إذ يتولد الكبت ويتغلب الشك وتعلو الأنا، وما يتبع كل ذلك من فساد أخلاقي يتفشى كلما ازداد ذلك (المتمدن) علماً -أو كما يدعي- في حين تسود ثقافة الحرية الشخصية واحترام الآخر عند (المتخلف) في البراري، كما ينظر إليه. وعن التضاد بين تلك القيم الزائفة والحقيقية، ونعرة الرجل الأبيض كسيد ضد الرجل الأسود كعبد، يشير د. محمود إلى الاستعمار في قول فضائحي: “وراح المستعمر يتبجح في كل مكان بأنه ينشر المدنية في مجاهل لا تعرف مدنية، وينشر بين متوحشين ليس في حياتهم قِيم ولا أخلاق. والحقيقة أنه أخذ الكثير من قيم هؤلاء المتوحشين وعاداتهم وأدخلها في حضارته! تعلّم منهم شرب الشاي والكاكاو والقهوة، وأخذ منهم عادة التدخين وشرب الغليون، ولطش الفنون الأفريقية التشكيلية والموسيقى الأفريقية وإيقاعات الجاز والرقص، وأخذ عادة العري وجعل منها فناً وفلسفة، وأنشأ نوادي للعراة في أكثر عواصمه تقدماً، وأخذ الحرية الجنسية من المجتمع البدائي لتغدو بعد ذلك سمة من سمات أرقى مجتمعاته، وأصبحت (الأومباني ناجويكو) من تقاليد البنات والأولاد في المجتمع الأمريكي، يمارسونها قبل الزواج ويسمونها في بلادهم (Huyying and Necking). والحرية الجنسية ذاتها أصبحت نظرية ينادي بها فلاسفة أمثال فرويد. والسحر والمعارف الغيبية والأرواح، أصبح لها كرسي في أرقى الجامعات الأوروبية. لم يكن الأفريقي متوحشاً ولم تكن حضارته بربرية متأخرة. والحق أن هذه البربرية احتوت على الكثير من اللمحات التي فاتت على الرجل الأبيض صاحب العلم والنور والعرفان. كان اتصال الغرب بالشرق في أفريقيا تزاوجاً متبادلاً، فقد أعطى الأفريقي كل شيء .. أرضه وبلده وجسمه وروحه، وكان المستعمر شحيحاً جداً يعطي بالقطارة. احتفظ لنفسه بأسرار العلم والصناعة والمعارف العلمية. واكتفى بنشر اللغة الإنجليزية، وتوزيع نسخ من الإنجيل”. إن أولئك البدائيين حينما أطلقوا العنان لصوت الطبيعة يعتمل في دواخلهم واتحدوا معها خارجياً، جادت عليهم: “ونتيجة لهذه الحياة المفعمة بالبراءة، انتفى الشعور بالهم والخوف من المستقبل، وانتفى الحزن والقلق. والنتيجة أنك لم تكن تجد في الغابة الوجوه النكدة المربدة بالهموم، ولا الوجوه الكشرة العكرة التي نراها في المدينة، وإنما كنت ترى وجوهاً ضاحكة بسامة فياضة بالمرح، وتشاهد حلقات يومية من الرقص والغناء، وترى الدعابة والرقة وحب الغرباء، وتلمس الطبيعة المسالمة”.
وأختم بوصف د. محمود الرهيف وهو يودع الغابة التي لمسها بكل حواسّه، إذ ليس الخبر كالعيان. فيقول: “إنها الغابة .. ولا يمكن أن توصف الغابة .. إن أي وصف يزري بجلالها .. إن أشجارها لا تشبه ما نرى من أشجار في الشوارع والحدائق .. أشجارها سوامق .. فيها عنفوان وشموخ وزعامة .. وأزهارها محتقنة دموية .. وأوراقها ريانة .. وأمطارها عاتية مكتسحة .. وضبابها كثيف متراكم جياش .. إنها مثل نهر متمرد يكسر حواجزه وجسوره .. لا .. لا يوجد وصف يحيط بها، فهي ليست مجرد شكل أو صورة تشاهد، وإنما هي إحساس، مذاق، طعم، رجفة في القلب. وقد شعرت بتلك الرجفة الغامضة وأنا أتنقل بين الشجر، وأتسمع ذلك الخرير ينبعث من مئات الجداول والشلالات الصغيرة التي يعربد فيها الماء والثلج منحدراً من القمم”.
ختاماً وفي كلمة حق، لا يزال د. مصطفى محمود بأصالة فكره وصدق منهجه، كالذهب الذي لا يخفت بريقه، وهو المفكر الغائب-الحاضر! فيمضي الزبد جفاء، ويبقى الذهب يترامى شعاعه وإن مضى الدهر .. رحمه الله.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 15 يونيو 2022 – صفحة (10) جزء1:
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/06/5133.pdf
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 19 يونيو 2022 – صفحة (10) جزء2:
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/06/5135.pdf
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(15)
كتاب/ الطب النفسي
المؤلف/ د. عادل صادق
دار النشر/ دار الصحوة للنشر والتوزيع
الطبعة/ 2 – 2015
المرض النفسي .. داء العصر
قد يكاد يبدو حقيقة أن المرض النفسي هو سمة العصر، إذ قلما يوجد شخص ما لا يعاني اضطراباً نفسياً بشكل أو بآخر! كيف لا وقد خُلق الإنسان في كبد، ويأتي اعتوار نفسه صورة من صور مكابدته في هذه الحياة، كما قال أبو العلاء المعري من قبل: “كل من لاقيت يشكو دهره .. ألا ليت شعري هذه الدنيا لمن؟”. غير أن د. عادل صادق يؤكد على أن الحب هو الدواء الناجح لأي مرض كان، وهو يقول في مقدمة كتابه: “تهوي النفس مريضة إذا مات الحب في خلاياها”. فالحب هو جوهر الحقيقة .. جوهر الخلق .. جوهر المرض والشفاء.
كتاب وإن كانت مادته علمية محضة، فهو من الشاعرية بمكان عندما يبدأ بالحب وينتهي به، حيث يلخّص د. عادل صادق كعادته المعلومة العلمية بلغة واضحة وبأسلوب أدبي رفيع يخاطب عقل وروح القارئ معاً، وهو يسرد عدداً من أكثر الأمراض النفسية والعقلية شيوعاً، فيتحدث ابتداءً عن معنى الطب النفسي وتصنيفات الأمراض التي تُلحق به، مثل: القلق، الهيستيريا، الاكتئاب، الفصام، الوسواس القهري، وهي التصنيفات التي تقود للحديث عن المرض عموماً وعن أعراضه، مثل: الأمراض النفسجسمية، الأمراض العقلية العضوية، الأمراض النفسية والعقلية المصاحبة للحمل والولادة والرضاعة، اضطرابات الشخصية، الاضطرابات الجنسية، طب نفس الأطفال، والطب النفسي الشرعي.
إنه إذاً د. عادل صادق (1943 : 2004). تعلّم وتخرج في كلية الطب عام 1966 نزولاً على رغبة والده، رغم ميله نحو الأدب والفن الموسيقى، ثم حصل على درجة الدكتوراة في الأمراض العصبية والنفسية عام 1973، وعمل أستاذاً للطب النفسي والأعصاب بكلية طب عين شمس. شغل مناصب أخرى منها رئيس تحرير مجلة الجديد في الطب النفسي، وأمين عام اتحاد الأطباء النفسيين العرب، وافتتح عام 2000 مستشفى يحمل اسمه لعلاج الإدمان والأمراض النفسية لا يزال يحظى بشهرة واسعة على امتداد الشرق الأوسط. عُرف بالنبوغ منذ صغره وبدماثة الأخلاق وإخلاصه للعمل وسعيه الحثيث نحو رفع وعي المجتمع بالمرض النفسي وسبل علاجه، وذلك من خلال مؤلفاته وأبحاثه التي تجاوزت الثلاثين إصدار، والتي أهلّته عام 1990 للحصول على جائزة الدولة في تبسيط العلوم.
تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثانية للكتاب والصادرة عام 2015 عن دار الصحوة للنشر والتوزيع، وهي تستلهم من كنوز الطبيب المعرفية ما يبعث على الأمل، وتقتبس منها نزراً يسيراً بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، كما يلي:
أنت إنسان، إذاً أنت حر .. يقول د. صادق في فلسفة وجودية عن هذا المعنى: “إرادة الإنسان الواعية هي التي تستجلب أي فكرة ليعمل فيها العقل، وهي أيضاً التي تطرد أية فكرة يرفضها العقل .. أنا إنسان، معناها: أنا حر في تفكيري، وعقلي حر فيما يفكر”. يحدد بعد ذلك حباً ثلاثياً لهذا الإنسان لا ينفرط: حبه لخالقه، حبه لنفسه، وحبه للناس .. بحيث تتفكك النفس إذا أصيب حب أحد منها، ففقدان حب الإله يُفقد الحياة الهدف، وفقد حب النفس يُفقد الذات القيمة، وفقد حب الناس يُفقد الوجود المعنى. وفي حديثه عن هذا الإنسان مجدداً وعن مخالطته، يحذّر من أن وجود مريض نفسي في الأسرة قد ينذر باحتمالية إصابة أفراد الأسرة الآخرين بالمرض نفسه، أما المجتمع فيعاني مادياً ومعنوياً من الإنسان المتبلّد عاطفياً ذو النزعة الأنانية والعدوانية واللامبالية بمشاعر الآخرين. غير أنه لا ينكر أن للثقافات دور في تحديد الاضطرابات المرضية، لا سيما الجنسية. فالمثلية الجنسية في المجتمع الأمريكي تًعتبر حالة طبيعية غير مرضية طالما أن صاحبها متصالح معها ومتوافق سلوكياً، غير أنها تُعتبر سلوكاً مرضياً شاذاً تستلزم العلاج في مجتمعات أخرى. ومن ناحية أخرى، وهو في كونه إنسان، فإن جلد الإنسان هو نافذة جسده، فأي اضطراب داخلي لا بد وأن يطفح على السطح، على هيئة بثور أو أكزيما أو تساقط للشعر في الحالات الانفعالية المؤقتة، أما في الحالات المزمنة أو الحادة كالاكتئاب، فقد تنعكس بشكل أقوى على هيئة بهاق أو صدفية.
يتوسع د. صادق في حديثه عن القلق النفسي، فيؤكد أولاً أنه لا علاقة للقلق النفسي بالمرض العقلي، إذ يكون معه المريض واعياً لطبيعة حالته، مدركاً لمرضه ولحاجته للعلاج، ولا تتأثر شخصيته ولا سلوكه بهذا القلق. وهو إذ يؤكد على وعي هذا الإنسان، فإنه يصرّ على أنه لا يأس مع الحياة، فيعقّب في قول واقعي تفاؤلي: “وإذا تطلّع الإنسان إلى ماضي حياته لوجدها سلسلة متعاقبة من حالات القلق، تقل وتزيد تبعاً لأحداث الحياة، ولكنها أبداً لم تتركه، ولكن ذلك لم يتعارض مع استمتاعه بالحياة، بل إن لحظات الاستمتاع الحقيقية كانت تلك التي تعقب قلقاً حاداً”. ثم يعود ليتحدث عن القلق كمرض نفسي من جديد، حيث يأتي الصداع النصفي كنتاج للطموح، واليقظة، والتفاني .. الصداع الذي يصفه بقوله: “أن هذا النوع من الصداع يصيب نوعية معينة من الناس الذين يتسمون بالقلق والتوتر والاجتهاد والوسوسة والضمير المتيقظ والطموح والفناء في العمل، ولهذا فهم معرضون أكثر من غيرهم للتوتر والقلق والانفعال، وهذا يؤدي الى اضطراب في تمدد الشرايين الذي هو السبب المباشر في الصداع النصفي .. ويلاحظ هؤلاء الناس أنهم يتعرضون لنوبات الصداع حينما يتعرضون لأزمات نفسية أو مواقف تستدعي التحفز والقلق”. وهناك من الإيجابيات ما تقود إلى اضطراب ما، فقيم مثل (الدقة، النظام، الأمانة، تأدية الواجب، احترام القانون) كلها مزايا يتحلى بها صاحب (الشخصية القهرية) الذي يتصف من ناحية أخرى بـ (الصلابة، الغلظة، العند، اللامرونة). وعلى النقيض من هذه الحدّية في هكذا صفات، هنالك نمط شخصي آخر! إن قلبه مفعم بالحب لا يبوح به، وخياله مزدحم بنجوم تحمل أحلاماً لا يقوى على تحقيق أصغرها. يتحاشى الاختلاط بالناس ويضطرب إذا ما اضطر إلى ملاقاتهم، وهو الذي قد يكون أكثرهم مالاً أو أغزرهم علماً أو أزكاهم خلقاً .. هادئاً، مسالماً، بعيداً أشد البعد عن العدوانية .. يهوى القراءة أو الرسم أو عزف الموسيقى أو أي هواية يكون فيها وحيداً .. إنه (الانطوائي) والذي من صفاته تتركب (الشخصية الفصامية). يضيف د. صادق شخصية أخرى، هي (الشخصية الهستيرية). إنها شخصية تهرب من المسئولية، أو من الاعتراف بالخطأ، أو من نقطة الضعف، أو من خزي الهزيمة، فتظهر على هيئة أعراض هستيرية، يعرضها هذا المثال الحي: “بعد أن أكدّ لها الأطباء سلامتها وخلوها من أي عائق للحمل اضطر زوجها أن يعرض نفسه على الأطباء الذين أكدوا استحالة أن ينجب .. ومنذ ذلك الحين والألم يمزق أسفل ظهره! النتيجة: لن يستطيع مزاولة الجنس مع زوجته بسبب آلام الظهر. المعنى: الهروب من العلاقة الجنسية وتغطية عجزه الجنسي الذي أصابه بعد ان اكتشف أنه غير قادر على الانجاب”.
ويبقى الإيمان بالله ينير بصيرة المؤمن بحكمته جلّ وعلا، وهو في أحلك الظروف.
وللختام بمسك، أقتبس في هذا المعنى الروحاني ما جاد به د. عادل صادق (رحمه الله) وقد خبر الحياة كطبيب نفسي ظل شبح الاكتئاب يطل أمامه في بعض الأحيان كمرض مبهم لا يعرف له حكمة، حيث قال: “ولا أتصور إنساناً يدرك بعمق وفهم معنى الحياة إلا إذا مر بتجربة اكتئاب .. ولا أتصور فناناً مبدعاً خلّاقاً يستطيع أن ينسج ألحاناً أو ألواناً أو كلمات تعبر عن الإنسان وحياته بصدق إلا إذا مر بتجربة اكتئاب .. إن المرور بتجربة اكتئاب والخروج منها يكسب الإنسان وعياً جديداً”.
حقاً .. رب ضارة نافعة!.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 22 يونيو 2022 – صفحة (10):
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/06/5138.pdf
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(16)
كتاب/ الأندلس: بحثاً عن الهوية الغائبة
المؤلف/ خوليو رييس روبيو (المجريطي)
ترجمة/ غادة عمر طوسون، رنا أبو الفضل
دار النشر/ المركز القومي للترجمة – القاهرة
الطبعة/ 1 – 2014
العودة إلى أندلس الماضي .. للتبصّر، ولاستشراف مستقبل أكثر تعايشاً
كتاب يلّفه الإبهار وهو يجمع في شمولية بين التاريخ والدين والحضارة والسياسة والقانون، قد عمد فيه الكاتب جاهداً إلى سبر أغوار الماضي الذي ترعرع فيه وطنه الأسباني تحت ظل الخلافة الإسلامية، الماضي الذي يقوده في استبصار نحو تسليط الضوء على الحاضر بتحدياته المحلية والدولية، ومن ثم استشراف المستقبل في رؤية أكثر تعايشاً. ومما يرفع من قيمة الإبهار، التمجيد الذي حظيت به الحضارة الإسلامية في الأندلس بقلم الكاتب غير المسلم، وهو يدين لها بالفضل الكبير لما هي عليه اسبانيا الحالية، وهو الأمر الذي أضفى على الكتاب روح المصداقية والحيادية والإنصاف. ومما يمعن في هذه الروح التوقيت الذي وضع فيه الكاتب كتابه هذا، حين كان الإسلام يواجه هجمات مغرضة في دعاوى إرهاب وتخلّف، حيث يتصدى لها منكراً، بل وموضحاً وجهة النظر الأخرى.
لذا، ينجح الكاتب (خوليو رييس روبيو) في توجيه كتابه إلى أصحاب الفكر الموضوعي، ويدعو من يهوى العودة إلى الماضي، لا للبكاء على الأطلال، بل للاستبصار ولاستقراء التاريخ وإنصاف ذوي الحقوق. فيحاول -وهو رجل القانون- الاستفادة قدر الإمكان من الماضي بما يحوي من عبر ودروس، ابتداءً من الاعتراف بالفضل وردّه لأصحابه، ثم إسقاط الدروس المستخلصة على الحاضر بغية الخير العام. لذلك، يطالب بسنّ القوانين، ومن ثم العمل على تحقيق مستقبل واعد في إطار تحالف مشترك، وكل ذلك من خلال الدور المحوري لبلاده أسبانيا الذي يدعوه إلى تفعيله رسمياً.
وعلى الرغم من تخصص الكاتب في علم القانون، إلا أن له عدد من المؤلفات في التاريخ الأندلسي، ولقد كانت لفتة كريمة منه أن يتلقب بـ “المجريطي” نسبة إلى “مجريط”، الاسم العربي لمدينة (مدريد) فترة الحكم الإسلامي (91-795 هـ / 711-1492 م).
تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى لترجمة الكتاب الصادرة عام 2014، عن المركز القومي للترجمة في القاهرة، والتي عنيت بها كل من (غادة طوسون و رنا أبو الفضل)، وقد جاءت مباشرة عن لغة الكتاب الأصلية ( Al-Andalus: en busca de la identidad dormida – Autor: Julio Reyes Rubio Al-Mayriti ). ومن محاور الكتاب الثلاثة (الماضي والحاضر والمستقبل)، أسرد في مقتطفات ما جاء في فصول الكتاب العشر، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
يتطرق المجريطي ابتداءً إلى الخلفية التاريخية التي شكلّت أسبانيا الحالية. فعلى الرغم من العلاقات الوطيدة التي جمعت بين أسبانيا في الماضي، بحكم موقعها الجغرافي، وبين شعوب الأمم المختلفة كالفينيقيين واليونانيين والقرطاجيين والونداليين والجرمانيين، إلا أنها لم تترك أثراً كما فعل الغزو الروماني والفتح الإسلامي .. أثراً لا يُمحى عن هويتها. فبينما ورثت أسبانيا عن روما اللغة اللاتينية ونُظم أدبية وفنية ودينية وقانونية وسياسية، فقد انصهرت في ثقافة إسلامية موّحدة على اتساعها من الهند شرقاً حتى الشمال الأفريقي غرباً. يقول الكاتب معقّباً: “لقد شكل هذا التراث الثقافي لكلتا الحضارتين جزءاً من هويتنا المزدوجة”، وهي الهوية التي جاء الكتاب بهدف البحث عنها. وعلى الرغم من أن السيطرة العربية آنذاك كانت سمحة مقارنة بالسيطرة الرومانية، إلا أن التعصب الديني الذي أجج أوراه الصليبيون في العصور الوسطى قد جعل كل فضل أداه المسلمون في أسبانيا ولمدة ثمانية قرون يُنسى وبإجحاف متعمد! يُكمل المجريطي وهو لا يزال يشير إلى الهدف من وضع الكتاب: “وبمجرد طرد آخر الممالك الإسلامية من إسبانيا بعد سقوط غرناطة، بقي أثر لا يمحى لهذه الحضارة المميـزة من خلال المظاهر الفنية والأدبية واللغوية والثقافية التي ورثناها عنهم”. لذلك “فعلى إسبانيا أن تستيقظ من هذه الفترة الطويلة من السبات، التي امتدت منذ 1492 م حتى وقتنا هذا، وأن تستعيد هـذه الهوية الغائبة. عبر سلسلة مـن الإجراءات، يجب أن تعود إسبانيا إلى المصير الذي منحه الله لها دون أن تتنازل عن كينونتها ولا عن المسئولية المنسوبة إليها، وذلك لثروتها متعـددة الثقافات، فعليها أن تكون الحكم والوسيط للتفاهم بين الشرق والغرب”. وهو يتطلع كذلك لتوجيه عقول الساسة في العالم نحو تحقيق السلام بين كلتا الحضارتين، دينياً أو أخلاقياً، وهو أمر لو تم تحقيقه لعمّ النفع في الوقت الحاضر وفي الأجيال القادمة، ولأستحق كتابه كل ما رافقه من عناء.
يوضح الكاتب قبل البدء أيضاً إنه اعتمد في طرح الفكر العقائدي الإسلامي في كتابه على جهود الشيخ أبو الأعلى المودودي في تفسير القرآن الكريم وتحليل نصوصه، بموضوعية واحترام كبيرين لتعاليمه وللتقاليد الإسلامية، منحّياً في ذلك أي رأي أو شعور خاص. وهو في هذا لا يستبعد إثارة الجدل بين طبقات المجتمع الأسباني على اعتبار أن عمله هذا ما هو إلا انحرافاً، إذا تم تناول كتابه بعيداً عن الموضوعية كفتح إسلامي جديد.
يتحدث الكاتب في الفصل الأول الذي جاء كمقدمة عن الظروف التي كانت تسود شبه الجزيرة الأيبيرية والتي مهّدت للفتح الإسلامي، وتحديداً الحروب الأهلية التي دارت رحاها في المجتمع القوطي في ظل تفاوت طبقي مرير بين طبقة النبلاء وطبقة العبيد، الظروف التي لم تخف على المسلمين في الجانب المقابل للساحل الأندلسي ودفعتهم من ثم إلى شنّ الهجوم العسكري عام 710م بقيادة القائدين موسى بن نصير وطارق بن زياد. ويذكر تاريخ شبه الجزيرة الأيبيرية قبائل (الوندال) التي احتلتها لفترة لم تدم طويلاً بعد أن تم طردهم من قبل القوط، وهي القبائل التي اشتق العرب منها اسم (الأندلس). وبينما يفرد الكاتب الفصل الثاني (الأندلس والحضارة العربية: ماض مشترك) للحديث عن أثر الحضارة الإسلامية في الأندلس والتي مهدّت فيما بعد لقيام نهضة أوروبية شاملة في كافة ميادين الحياة، يشير في الفصل الثالث (رسالة النبي محمد: القرآن ومبادئ الإسلام)، بإجلال إلى النبي محمد ﷺ، ويسرد رحلته الشاقة في الدعوة وما عاناه مع قومه الذين كذّبوه. وهو يتحدث كذلك عن الوحي الإلهي وأول لقاء للنبي محمد ﷺ مع جبرائيل عليه السلام، ودعوته بـ “اقرأ”. ويقول: “أعلن محمد صلى الله عليه وسلم أن مهمته هي إبلاغ الناس القرآن أو الوحي الإلهي. ويمكن تعريف القرآن على أنه (تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ)”. ومن هنا يتطرق إلى ما احتوى عليه القرآن الكريم من مواعظ وتعاليم وحكم وأخلاق في كافة نواحي الحياة، وهو يتعرض في استفاضة عن كل ركن من أركان الإسلام، بالإضافة إلى شرح مختصر للمذاهب السنية الأربع، فيُشير إلى الإمام القرطبي بـ “كاتبنا العظيم للأحاديث”، ويتطرق إلى شعراء العرب، وقصص التراث العربي، والنوابغ من علماء الأندلس، كما يتحدث عن أثر الحديث والفقه في التراث الاسباني.
أما في الفصل الرابع (الأندلس والفتح، وخلافة قرطبة، وممالك الطوائف، والغزوات الإسلامية، ومملكة غرناطة) فيتحدث عن الفتح العربي-الإسلامي للأندلس ووضعها إبان هذا الفتح، وما تعاقب على حكمها من أمراء وخلفاء مسلمين، ثم استقلالها فيما بعد عن الإمبراطورية الإسلامية في المشرق، معرّجاً على ملوك الطوائف ودولة المرابطين ومن بعدها دولة الموّحدين، انتهاءً بدولة بني الأحمر التي تداعت على إثرها بلاد الأندلس عقب سقوط مملكة غرناطة آخر معاقل المسلمين، عام 1492م. يقول عن الحضارة التي أسسها المسلمون: “في هذا الإقليم تشكلت حضارة أشعت بضوئها على الغرب والشرق لكونها منطقة التقاء وتقابل ثقافي وبشري، نسيتها أوروبا، لكنها بقيت دائماً في الذكرى الخالدة للعالم الإسلامي”. ثم ينتقل إلى الفصل الخامس (اسبانيا الإسلامية: التراث الأندلسي)، ليذكّر كيف كانت اللغة العربية في الأندلس مرادفاً للعلم والذوق الرفيع، ومحط إقبال جميع أطياف المجتمع لتعلمها والتحدث بها، دون اللاتينية. وهو بهذا يؤكد على أثر اللغة العربية في اللغة الاسبانية كما يظهر في خمسة آلاف كلمة عربية متداولة في (الإسبانيول)، والتأثير العربي بشكل عام في كل ما هو اسباني. فيقول: “ظلت هذه الحضارة باقية في اسبانيا لمدة ثمانية قرون. ورغم أن حرب الاسترداد بدأت من المراكز المسيحية فقد تعايشوا مع المسلمين لفترة طويلة في وقت كانت فيه العادات والتقاليد والفنون واللغة الموجودة في اسبانيا المسيحية غير أصيلة، وكان لها جذور مسلمة”. لذلك، وتماشياً مع هدف الكتاب الذي أصرّ عليه، يطالب بإدخال اللغة العربية في مناهج التعليم، والدين الإسلامي كمصدر للقانون.
يفسح المجال في الفصل السادس (الأدب العربي: مقدمة، الأدب الجاهلي والأدب الإسلامي: القرآن، والأدب العربي، والانحدار والنهضة) ليعرّج على الأدب العربي، ابتداءً من عصر الجاهلية وحتى خروج المسلمين من الأندلس أواخر القرن الخامس عشر. وعندما ينتقل إلى الفصل السابع (القانون في الإسلام: مصادر القانون الإسلامي والعلوم الشرعية في القانون الإسلامي، التراث الإسلامي في العلوم التشريعية الإسبانية)، يتناول الشريعة الإسلامية من حيث مصادرها ومدى تأثيرهـا في القانون الإسباني، ويتطرّق في هذا إلى “قوانين مسلمي الأندلس” التي استمر العمل بها في القضاء الأندلسي حتى نهاية الوجود الإسلامي في شبه جزيرة أيبيريا. أما في الفصل الثامن (اسبانيا حلقة الوصول بين الشرق والغرب) فيدعو بلاده اسبانيا للاستيقاظ من السبات الذي بدأ مع سقوط غرناطة عام 1492، لتسترد هويتها، وتلعب دورها المحوري المتمثل في التعدد الثقافي الذي يحظى بها تاريخها، لا سيما أمام التراجع الأخلاقي الذي يستشري في الغرب، وضرورة إعادة التوازن الروحي والأخلاقي والذي لن يتكفل به بحق سوى دين الإسلام.
يظهر المجريطي في الفصل التاسع (التحكيم الدولي: حلول سلمية للصراعات الناتجة عـن إلتقاء كلا العالمين، الجهاز التحكيمي، عناصر تشريعية دولية، المنهج التحكيمي والنصاب القانوني في الاتفاقيات) وهو يناضل عن دول العالم الإسلامي عموماً، ويطالب الدول الغربية بعدم التدخل السياسي والاجتماعي فيها، وهو يسلط الضوء وبقوة على القضية الفلسطينية، ويطالب الدول الغربية بإيقاف التدخل العسكري لصالح إسرائيل. يعرض عدد من الحلول السياسية والقانونية لإنصاف المسلمين والتعايش بسلام بين الشرق والغرب، فيطالب بـ: “الاعتراف الضمني بالإسلام ديناً حقيقياً يقف على قدم المساواة مع المسيحية، مع الإلغاء النهائي لمصطلح كافر الذي يستخدم في القانون الكنسي لتسمية المسلمين”. وهو في حديثه عن هوية بلاده المزدوجة الشرقية-الغربية، يجعل له دوراً مستقبلياً في تحقيق التوافق والتكامل بين الحضارتين، من خلال (التحكيم الدولي لحل المنازعات) الذي نادى به. ينبّه وهو يختم كتابه في الفصل العاشر (الروابط التاريخية بين الشرق والغرب: أصول السلوك أجل تحقيق التوافق والاندماج والمودة في علاقة الشرق بالغرب) على ضرورة التعايش في خضم الحملات المفتعلة حول الإسلام، وذلك من خلال التركيز على التاريخ المشترك بين الغرب والشرق لا سيما ما يظهر في تاريخ الفتح الإسلامي للأندلس أوائل القرن الثامن، والحملات الصليبية نحو الشرق، والتاريخ العثماني-الأوروبي، حيث يرى أن لبلاده الدور المستقبلي الفاعل في تحقيق التكامل بينهما.
كمأخذ، يسرد الكاتب بعض المعلومات التاريخية غير الصحيحة، كالزعم بنشوب خلاف بين القائدين العظيمين موسى بن نصير وطارق بن زياد سببه الغيرة، واستمداد النبي محمد ﷺ لتعاليم السيد المسيح عليه السلام، من بحيرى الراهب. من ناحية أخرى، جاء اختيار غلاف الكتاب وعنوانه موفقاً، فبينما يحمل الغلاف صورة (بهو السباع) في قصر الحمراء، يحمل العنوان صيحة الكاتب المجريطي التي تطالب حكومته باستدعاء (هويتها الغائبة) المزدوجة ازدواجاً لا ينفك بين الإسلام والمسيحية، واللتان تقاسمتا الأرض ماضياً وحاضراً.
ورغم موضوعية الكتاب فهو لا يخلو من شجن .. لذا تجدني أختم ببيت من نونية أبي البقاء الرّندي التي نظمها في رثاء الأندلس بعد سقوط آخر معاقلها: (أعندكم نبأٌ منْ أهلِ أندلسٍ .. فقدْ سرى بحديثِ القومِ ركُبانُ). وعندما زرت إقليم أندلوسيا، شاهدت التاريخ ماثلاً وعلمت بالنبأ .. وليس الخبر كالعيان!
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 29 يونيو 2022 – صفحة (10) جزء1:
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/06/5143.pdf
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 30 يونيو 2022 – صفحة (10) جزء2:
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/06/5144.pdf
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
أنشر هذه المقالات في شهر يوليو / تموز 2022
همى الغيث
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(17)
كتاب/ النباهة والاستحمار
المؤلف/ د. علي شريعتي
دار النشر/ دار الأمير للثقافة والعلوم
الطبعة/ 2 – 2007
…
الفكر الحر عندما يكشف عن عورة الفكر الرجعي
كتاب وجيز في طرحه، عميق في مضمونه، مثير للجدل عند مناقشته، وقاتل عند محاولة تطبيق ما جاء به! قد يكون مدعاة للعجب، أن يسبق د. علي شريعتي (1933 : 1977) أوانه وزمانه، لا سيما في وقت طغى على الشرق الإسلامي ثقافة الجهل المقدس أو كما وصمه هذا النابغة بـ (الاستحمار)، فكان كمن يسبح عكس التيار حينها، غير أنه ليس من دواعي العجب على الإطلاق أن يتم اغتياله غدراً، وإن يتم تغليف الحادثة بموت مفاجئ ناجم عن أسباب صحية، فذلك من لوازم ثقافة (الاستحمار) السائدة آنذاك، والتي لا تزال حاضرة في الوقت الحالي في كثير من الوجوه! فمع النهج المتفرد الذي سار عليه د. شريعتي في تجديد الخطاب الديني، وطرح قضايا الإسلام المعاصرة من منظور حداثي قائم على أسس علم الاجتماع الذي حمل إجازته من جامعة السوربون في فرنسا، فقد كان هذا مدعاة لالتفاف جمهرة الشباب حوله ممن وجدوا فيه ضالتهم، وقد كانوا معاصرين لزمن تخبّطوا فيه بين ثقافتي الشرق والغرب، وبين أبعاد الفلسفة وجمود الدين. غير أن هذا النهج التوعوي الذي أشعل ثورة فكرية عارمة في النصف الثاني من القرن المنصرم ضمن ما أثاره من قضايا، قد أثار بدوره غضب أصحاب السلطة الديكتاتورية، فكان ما كان من مؤامرة تصفية المفكر وفكره. وفي شهادة للمفكر العراقي عبدالرزاق الجبران، فإن الإصلاح الذي نادى به د. شريعتي ارتكز على بناء الذات الإنسانية من منظور إسلامي-سياسي-اجتماعي، يتأتى من خلال استعراض التاريخ الإنساني. وعن (جدلية الصراع) القائمة، فقد استحدث فلسفة يتواجه فيها طرفان (هابيل-قابيل)، ففي حين مثّل هابيل (الناس)، مثّل قابيل (السلطة)، وقد ارتكز هذا الطرف على ثالوث (فرعون-قارون-بلعم بن باعوراء) في رمز للسلطة السياسية والاقتصادية والدينية على التوالي. ومن شرارة تحالف هذا الثالوث، اندلع الاستعباد أو ما أسماه المفكر بـ (الاستحمار) على مرّ التاريخ الإنساني.
تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثانية للكتاب الصادرة عام 2007 من (دار الأمير للثقافة والعلوم)، عن ترجمة مباشرة إلى اللغة العربية من أصلها الفارسي (خود آكاهي استحمار). وعلى ما يبدو، تشترك الثقافتان في استخدام البهيم المشار إليه كمضرب مثل في الغباء، غير أن ترجمته إلى اللغة الإنجليزية استخدمت كلمة (الجهل) كمرادف ألطف للمعنى، بـ (Intelligence and Ignorance). وقبل البدء، يحرص د. شريعتي على توضيح دور الفيلسوف، إذ يعتقد بأن الفكر الإسلامي قد حمل في بعض مراحله مفهوماً فلسفياً مغلوطاً تمركز حول الذات الإلهية والغيبيات حصراً، وأهمل الإنسان ومبحث الوجود، فلا يُفهم الإسلام إلا فهماً صوفياً بعيداً عن مقاصده في خلق الإنسان، فكأنما خُلق الإنسان للدين وما خُلق الدين للإنسان، مما أردى الإسلام في جمود فكري وانتكاس حضاري على مدى قرون. من قلب هذا الصراع، عمد د. شريعتي إلى خلق مسئولية الفيلسوف كصاحب للنظرية الاجتماعية التي تستشف سنن التاريخ وتقف على فلسفة وجود الإنسان، وتسقطها على السياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب. لذا، “كان الأنبياء أعظم الفلاسفة” كما ارتأى. ومن الكتاب الذي عكس رؤية فكرية فطنة ضمنّها الفيلسوف في شرح موضوعي مستفيض، أسرد مقتطفات كما يلي وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
في استهلاله عن مفهوم (النباهة والاستحمار)، يقسّم د. شريعتي (النباهة) إلى قسمين: (فردية) و (اجتماعية)، تصبّان في انتماء الفرد لمجتمعه وشعوره بالمسئولية وارتباطه به في مصيره التاريخي، أي كما أطلق عليه بـ “الوعي الوجودي”، ليأتي (الاستحمار) بكل ما من شأنه سلب هذا الوعي وتضليل مسار “النباهة الإنسانية”. ثم يستطرد ليقسّم من جديد اتجاهين رئيسين لتحقيقه هما: (التجهيل) و (الإلهاء)، فيعمد الأول إلى تجهيل العقول وصرفها عن قضايا المجتمع المصيرية، ويلهي الثاني الفرد بحقوقه الشخصية عن حقوق المجتمع الكبرى. ثم يبدأ د. شريعتي حديثه عن موضوع (الأنا والمصير) على الرغم من قناعته بأنه موضوع يُختم به النقاش لا يُبدأ به! إذ يرى أن أساسه وزبدة حديثه فكري أكثر مما هو علمي، فالأفكار من طبيعتها التغير وهي تخضع للوعي والنقاش، بعكس العلوم المعيارية الخاضعة للتفسير العلمي الصرف. وفي هذا الصدد يشير إلى النتيجة العكسية التي قد ترتد مع تضخم الأنا لدى طبقة المثقفين المصاحبة لشعور الاكتفاء العلمي، حيث يبقى العالم منهم جاهلاً ما لم يصاحبه وعي فكري وحس عال بالمسئولية تجاه مجتمعه وتحدياته التاريخية المستمرة. وعلى الرغم من قناعته كذلك بأن: “الدين الذي هو فوق العلم يعتبر الإنسان ذاتاً أرقى وأشرف من جميع المظاهر الطبيعية”، فإنه يستطرد ليؤكد أن ما عناه بالدين ليست السنن الموروثة والعادات المتحجرة التي تم تناقلها عبر السلف في إطار شرعي تقليدي مشكوك في أصالته وفي قدسيته، والتي باتت لا عقلانية عند أبناء الجيل الجديد المستنير، بل ما عناه هو “دين المعرفة والتنبه”. يدعوه هذا الرأي من ناحية أخرى للخوض في أصل الإنسان كصانع للحياة، ففي حين يشير إلى الفلسفة الوجودية التي لا تقرّ بوجود إله، يرى أنها تشترك والفكر الإسلامي في “أصالة الإنسان”، إذ كان جان بول سارتر يعتقد أن الإنسان هو رب نفسه وصانع مصيره وبيده مقاليد الطبيعة يسخرها في خدمته، وقد جاء الإسلام من ذي قبل ليعلّي شأن الإنسان، حيث اصطفاه الله وكرّمه وأسجد له ملائكته واستخلفه في الأرض وسخّر له قوى الكون. فلا أكرم من اسباغ روحه جلّ وعلا في ذاته ليغدو عاقل وخالق ومختار ذو إرادة حرة، ومغيّر لذاته ولمصيره.
رغم ما سبق، يثير هذا الإنسان المختال فخراً -والذي يكاد أن يخرق برأسه عنان السماء ليصل إلى الله- عجب د. شريعتي، حين تحوطه المغريات والملذات والتحديات فيتردى إلى مستوى أحطّ فيه من قدر الكلب، يشبع فيه نفسه اللاهثة على حساب القيم الإنسانية. فيقول نصاً: “وهكذا نجد الإنسان في حياته اليومية متجهاً إلى خارجه دائماً، ومقبلاً على ما يوفر له لذائذه مائلاً نحو شهواته. ونجد (أنا) تلك (الأنا) التي هي من الله تهبط من العرش إلى حضيض الأرض، فتنغمس كالدودة في الماء المتعفن بالقذارات وتهش للجيفة”. لا يقف الحد عند هذا المقام، إذ قد يثير د. شريعتي الجدل في رأيه عن التمرد كما جاء تحت عنوان (هزة) في كتابه، حيث يرى أن قيمة الإنسان تبدأ مع قدرته على الرفض، كما فعل من قبل أبو البشر آدم، فلولا “لا” لكان مجرد ملاك “لا ميزة له” سجد لبشر آخر اصطفاه الله بدلاً عنه! مع هذا التمرد، حظي بشيء من صفات الألوهية حيث أصبح خليفة الأرض، غير أنه قد يخسر تلك الصفات من أجل إشباع لذة دنيوية. على هذا، يستنتج د. شريعتي أنه من الصعب التخلي عن لذائذ التمرد وقد أسفرت عن نباهة وأخلاقيات، إلا أن درجة اللانباهة والغفلة والتسويف التي قد ينغمس فيها الإنسان لاحقاً، لا يوقظها سوى العقاب. وفي هذا المفهوم، وفي لفتة قيّمة من التاريخ، يستنبط د. شريعتي مدى الوعي والجسارة والجرأة التي تحلّى بها الرعيل الأول في صدر الإسلام لا سيما عصر الخلفاء الراشدين، حيث كانوا يهرعون إلى الصلاة وإلى محاسبة أنفسهم بعد إقامتها. وتبلغ درجة الوعي الاجتماعي أوجها حين تصدى أحد الصحابة للخليفة عمر -فاتح الأمصار وقاهر الأباطرة- وهو فوق المنبر، ليحاجّه على قطعة قماش اشتبه على أنها زائدة في سهمه عن أسهم باقي الصحابة، وذلك حينما وُزعت عليهم الكسوة بالتساوي كما كان مفترضاً. برر عمر تلك الزيادة بطول قامته حيث تبرع ابنه بسهمه له، والذي أتى شاهداً على رأس القوم في ذلك الموقف العصيب.
يستعين د. شريعتي بالتاريخ مرة أخرى، ولكن على النقيض، ليشير إلى الليالي الملاح التي كتب لها القدر أن تتواصل لبني العباس في مناسبة زواج البرمكي بالعباسة، وقد تراكم بعدها أكوام فضل الطعام في المدينة لتجتمع عليها السائبة من الحيوانات والطيور، وتشكل خطراً بيئياً وقتها، الخطر الذي استدعى استئجار عمّالاً لرميها خارجاً. وعلى الرغم من أن مدينة بغداد كانت مركز الإشعاع الحضاري الإسلامي آنذاك، إلا أن شيوخها وعلمائها ومفكريها لم يعيبوا هذا الترف والسرف، بل قد تراهم اجتمعوا في زاوية أحد الدواوين يناقشون قاعدة نحوية جديدة، أو كتاب في الطب يسعون إلى ترجمته. لقد طغت الحركة العلمية على الوعي الاجتماعي إلى الحد الذي مهّد للتتار دخول المدينة، فخضع الجميع واستكان حين فقدوا وعيهم الجمعي، ولم ينفعهم لا علم ولا أدب ولا حضارة. بعد ذلك، يبدع د. شريعتي أيما ابداع عندما يتجرأ ليفضح ما أسماه بـ “الدين الاستحماري”. فمع مضي زمن الأنبياء العظيم، ابتليت الأمم بأدعياء من شيوخ وقساوسة ورهبان ومتصوفة اتخذوا من الأديان مطية لإستحمار أتباعها. بيد أن هؤلاء الأشقياء قد نالوا من الحصانة والمزايا الشيء الكثير تحت سلطة الثالوث (فرعون-قارون-بلعام) في تنفيذ أجنداتهم التي تصب في صالح تلك السلطة، فتأتي مواعظهم الحانوتية لتزّهد الناس في دنيا فانية وتمنّيهم بأخرى باقية، فيستغنوا بما في أيديهم للثالوث. يضرب هذا الدين المستحمر أتباعه بحجرين، فيضمن الحجر الأول استكانة الفرد منهم أمام سطوة الظلم والقهر والفقر، مستلهماً الصبر في التضرع واستدعاء روح العباس والأولياء الصالحين، بينما يضمن الحجر الثاني التمكين للظالم في التكفير عن ظلمه، ليس برد الحقوق إلى أصحابها، بل بكلمات يتمتمها سبع مرات نحو القبلة، فيحظى بالمغفرة والرحمة والشفاعة، ولو بلغت ذنوبه عنان السماء وتساوت بعدد قطر الأمطار ومياه البحار .. هكذا في لمح البصر. ثم يضرب مثلاً حياً من مجتمعه بما أسماه (الإيهام) .. إنها السياسة القديمة-الحديثة! فمن أجل صرف أذهان الشعب الإيراني عن قضية شركة النفط المحلية في فترة ما من القرن الماضي، تم افتعال عشرين معركة أهلية، كما شهدت من قبل حركة الاستعمار الغربي في القرن السادس عشر الميلادي ظهور سبعة عشر نبياً في الشرق، لشغل المسلمين في صد ادعاءاتهم! حقاً، تعددت الغايات والاستحمار واحد.
ختاماً، لا بد لهذه الرؤية الفذّة أن تواجه من حسد ذوي النقص على ما هم عليه من جهالة متأصلة تغذيها الأعراف الاجتماعية والمواريث الدينية، وهي مواجهة تؤكد بدورها أنها نباهة حقيقية لا زيف فيها، أو كما آمن د. شريعتي ودعى بقدرة الوعي على تغيير واقع الإنسان إن شاء، حين قال: “… فالإنسان الواعي يمكن أن يكون قوياً إلى حد يسيطر على مصيره. من هو ذاك الإنسان؟ إنه ليس نابليون القوي الذي يعبر عن نفسه وسجنه في جزيرة سانت هيلينا: كأني خشبة صغيرة ضعيفة تلعب بها الأمواج كيفما شاءت .. (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ). نعم، إذا غير الإنسان ذاته وطبيعته فإنه قادر على تغيير مصيره ومصير تاريخه، ولا يرتبط هذا بالجسم والمال والمقام، والذي يبقى للفرد إنسانيته فقط”.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 6 يوليو 2022 – صفحة (10) جزء1:
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/07/5148.pdf
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 7 يوليو 2022 – صفحة (10) جزء2:
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/07/%D9%A5%D9%A1%D9%A4%D9%A9.pdf
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(18)
كتاب/ لا سكوت بعد اليوم: مواجهة الصور المزيفة عن الإسلام في أميركا
المؤلف/ بول فندلي
دار النشر/ شركة المطبوعات للتوزيع والنشر
الطبعة/ 2 – 2001
…
دفاع صادق عن الإسلام بقلم سياسي أمريكي
في تحليل موضوعي للصورة النمطية الشائعة عن الإسلام والمسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية، وكمحاولة جريئة للتصدي للزيف الممنهج حولهما، في أمريكا وفي العالم أجمع، يقدّم السياسي المحنك (بول فندلي 2019 : 1921 Paul Findley) العضو في الكونجرس الأمريكي، عصارة خبرته، في حيادية، ومن خلال معايشة واقعية لأفراد مسلمين وغير مسلمين داخل المجتمع الأمريكي وخارجه.
يعرض الكتاب جانباً من سيرة الكاتب الذاتية والذي يُعتبر جزءاً لا يتجزأ منه، حيث يتطرق إلى رحلته الأولى نحو مجاهل ديار العرب في مهمة رسمية، والتي كانت بمثابة استهلال لرحلة استكشافية طويلة خاضها فيما بعد للتعرف على الإسلام وأتباعه عن قرب، حتى يأتي هذا الكتاب كثمرة لتلك الرحلة. لقد قصد عدن، عاصمة الجمهورية اليمنية الديمقراطية الشعبية عام 1974، للوساطة في قضية أحد الناخبين في ولاية إيلينوي، والذي تم اعتقاله بتهمة تجسس بدت ملفّقة آنذاك. لم تكن رحلته الاستكشافية التي تلتها أقل شائكية، فقد أخذ الكاتب على عاتقه مهمة تعريف المجتمع الأمريكي بالأقلية المتنامية بين أطيافه المتنوعة، والتي تدين بدين لا يختلف عن المسيحية في إعلاء مبادئ الرحمة والمساواة وكرامة الإنسان، والعمل على إزالة كل لبس يحوط به. لقد تبنى في سعيه هذا مناصرة القضايا العربية لا سيما الفلسطينية، الأمر الذي تصدى له اللوبي اليهودي المتنفّذ في الكونجرس الأمريكي بلا هوادة. لم يلتزم الصمت بعد ذاك النضال، بل قرر أن يُسمع العالم صيحته المدوية من خلال كتابه الذي أعدّه للنشر قبيل أحداث 11 سبتمبر 2001، والتي لا يزال يتردد صداها بعد رحيله عن عالمنا عام 2019.
يزخر الكتاب بالعديد من القضايا القديمة-الحديثة والأمثلة الحية الداعمة لها، تظهر من خلال ثلاثة عشر فصلاً، هي: النسب الخفي / غرباء في وسطنا / الإرهاب والافتراء / عامل “طالبان” / هذه حقائق نؤمن بها / سواسية كسنيّن من أسنان المشط / ربط مزيف بالإسلام / ردم الهوة / الطلاب يرشدون إلى الطريق / كسر جدار الصمت / الطريق إلى النجاح الحزبي / تصويت الكتلة الانتخابية الإسلامية / المضي في التحدي. تكتفي هذه المراجعة بتناول الفصول من الأول إلى السابع، وهي تعتمد على الطبعة الثانية للكتاب الصادرة عام 2001 من (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر)، عن ترجمة مباشرة إلى اللغة العربية من الكتاب الأصلي (Silent No More: Confronting America’s False Images of Islam)، والتي تشتمل على بعض الاقتباسات، بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
مع المقدمة (رحلة غير متوقعة)، ومع مخيلة الكاتب التي لا يزال يمثل فيها بشاعة التمييز العنصري الذي عانى منه اليهود في أمريكا في الماضي القريب، وزيارته وزوجته مدينة (كيب تاون) عام 1989 بدعوة من الداعية (أحمد ديدات) لأجل المشاركة في خطاب عام، ومخالطته للجالية الإسلامية وغيرها من جاليات الديانات الأخرى، قد مثّلت جميعها دافعاً كبيراً للكاتب في وضع هذا الكتاب، وفي اتخاذ موقفاً احتجاجياً صارماً في مبنى الكابيتول ضد سياسة بلاده في الشرق الأوسط فور عودته من مهمته في اليمن. يقول عن هذا الاحتجاج: “وطالبت الحكومة الأمريكية بإلحاح بوقف تقديم المساعدات كافة إلى اسرائيل حتى تكف عن انتهاك حقوق الإنسان الفلسطيني، وتوقف الهجمات العسكرية ضد لبنان”. لقد دفع الكاتب ثمن احتجاجاته العارمة التي امتدت إلى ثمان أعوام، معارضات قوية في مبنى الكابيتول، انتهت بسقوطه في حملة الانتخابات عن ولاية إيلينوى. ثم يكمل على نفس الوتيرة ليلقي الضوء على بعض الصور النمطية المأخوذة عن المسلمين، والتي تُعتبر “العائق الأكبر أمام الانسجام والتعاون بين الديانات والثقافات، فهي تربط الإسلام بالإرهاب والتعصب، واستعباد المرأة، وانعدام التسامح تجاه غير المسلمين، والعداء للديمقراطية، وعبادة إله غريب وانتقامي”. لكنه شخصياً يقرّ بعالمية الدين الإسلامي الذي يشمل جميع البشر على أسس راسخة من القيم. فيقول وهو لا يزال في المقدمة: “وتعلمت في مراحل لاحقة من مسيرتي أن الإسلام مثل المسيحية واليهودية متأصل في السلام والانسجام والمسئولية العائلية واحترام الأديان والتواضع والعدل لكل البشر، تحت رحمة إله واحد. إن الإسلام دين عالمي متعدد الثقافات، ومتعدد الأعراق، يدعو إلى الأخوة والمساواة بين الناس جميعاً، بغض النظر عن العرق أو الجنسية أو العقيدة الدينية”. ثم يتحدث عن انطباعاته في قول صاف: “إنني إذ أتذكر، أدرك أن عدن كانت أول محطة لي في استكشاف العالم الإسلامي. وفي المحطات التالية التي توقفت فيها، فتحت عيني على ثقافة مستندة إلى الشرف والكرامة وقيمة كل انسان، علاوة على التسامح وطلب العلم، وهي معايير عرفت فيما بعد أنها متأصلة عميقاً في الدين الإسلامي. إنها أهداف كانت ستلقى استحسان أجدادي المسيحيين”. ثم يستمر ليوضح أنه عل الرغم من تلك المبادئ الأساسية والمشتركة بين الأديان الابراهيمية “يواجه المسلمون مصاعب يومية في مجتمع أميركا المسيحي في غالبيته. إن معظم الأميركيين لا يعرفون أي مسلم، وما زالوا غافلين عن وجود المسلمين المتنامي بوتيرة سريعة في الولايات المتحدة، ولم يناقشوا يوماً الإسلام مع أي شخص مطلّع على هذا الدين، ولم يقرأوا يوماً آية واحدة من القرآن الكريم، وتنبع أغلب تصوّراتهم عن الإسلام من الصور السلبية المزيّفة التي تظهرها التقارير الإخبارية والأفلام والمسلسلات التلفزيونية والحوارات في الإذاعة والتلفزيون”.
وعن إيمان المسلمين المطلق بميلاد السيد المسيح المعجز، يعترف القس (مونكيور كونوي) على مضض في اجتماع تم عقده بحضور ممثلين من الديانات المختلفة في كلكتا، وبعد أن أدلى ممثل المسلمين برأي الإسلام القاطع فيه، بأن: “المسلمون ليسوا مسيحيين إلا (أنهم) الوحيدون في الشرق الذين يؤكدون حرفياً صحة المعجزات كافة التي تُنسب إلى المسيح في الأناجيل أو في فقرات من الكتاب المقدس لها صلة بميلاده، ومن النادر أن تجد متشككاً بينهم”.
في الفصل الأول الذي جاء بعنوان (النسب الخفي)، يتحدث عن جهل المجتمع الأمريكي بدين الإسلام واتباعه، حيث يحمل الكثير من المفاهيم المغلوطة التي لا تشي سوى ببربرية أولئك القوم الذين يُدعون بـ (المحمديين). فينقل عن معلمتهم والتي رغم تصورها المشابه كانت “عطوفة”: “إن شعبا أميّاً وبدائياً وميّالاً إلى العنف يعيش في مناطق صحراوية في الأراضي المقدسة، ويعبد إلهاً غريباً”. ثم يكمل: “وما زلت أذكر من طفولتي المبكرة أنها كانت تسميهم (محمديين) وتواظب على تكرار قولها (إنهم ليسوا مثلنا)”. يسترجع ذكرى هذا الحديث مع مشهد يظهر فيه هو وأقرانه وهم يلهون في تل من الرمل، يغرسون فيه “أشكالا مصغرة لأشجار النخيل والجمال والخيم والبدو”. يعترف الآن بأن تعليقات معلمتهم تلك قد حفرت في ذاكرته صورة “عن المحمّديين كأناس غرباء جهلة ويضمرون الأذى للآخرين”. لكنه يلتمس العذر لما كانت عليه تلك الصورة من تضليل، فيقول: “كانت معلّمتي مثلها مثل العديد من الأميركيين اليوم، تكرّر ببراءة الأضاليل التي اكتسبتها من أناس آخرين يفتقرون إلى المعرفة الوافية. فقد كانت تردد في صفنا ما كانت تعتقد أنه الحقيقة، بما في ذلك التسمية المغلوطة (المحمديون). لا أظنّها تعمدت تقديم معلومات مضلّلة أو الافتراء على الإسلام، كانت بكل بساطة تفتقر إلى الحقائق شأنها شأن المعلّمات الأخريات والقس الذي ترأس أبرشيتنا”. يذكر الكاتب أنه لم يتيقن من سبب رفض المسلمين لتسميتهم بـ (المحمدين) حتى بلوغه سن السابعة والسبعين “وقد شرح هذا السبب (أندرو باترسن) الكاتب الذي اعتنق الإسلام قائلاً: إنها تشي بسوء فهم عميق للإسلام، وتوحي بأن المسلمين يعبدون النبي محمداً كإله. إنهم يبجلون محمداً ويجلّونه كآخر رسل الله، غير أنهم لا يعبدونه. وفي الحقيقة أن الإيمان بإله واحد يحتل المرتبة العليا من أركان الإسلام الخمسة”. يعزو الكاتب اعتقاد المسيحيين بتأليه النبي محمد لدى المسلمين لما يقوم عليه الدين المسيحي -رغم تصنيفه عالمياً كدين توحيدي- على الثالوث المقدس.
ثم يضيف الكاتب فوق الجرح ملح حين يذكر ترتيلة (إلى الفرسان في الأيام الخوالي) التي كان يُفتتح بها المراسم العامة، والتي كانت تشيد بالفرسان المسيحيين الصليبيين في الأراضي المقدسة وهم يعملون سيوفهم في رقاب المسلمين الأبرياء، وقد تخلوا عمّا ينادي به كتابهم المقدس من تسامح ورحمة وعدل، واستطابوا سفك الدماء. ينقل الكاتب تعليقاً لأحد الصليبيين عن “المشهد الدموي في القدس” حيث “طاف رجالنا شاهري السيوف في أرجاء المدينة. لم يبقوا على أحد حتى أولئك الذين التمسوا الرحمة. وخاضت الخيول في الدماء حتى ركبها، بل حتى اللجام. كان ذلك حكماً عادلاً ورائعاً من الله”. ثم يسترسل في ذكر المجازر التي تغنت بها الترتيلة فيقول: “ولم تقتصر المجزرة على القدس، فقد أقدم الصليبيون وهم يبحثون عن الوثنيين والملحدين على قتل مسلمين ويهود وحتى مسيحيين آخرين في أنحاء الشرق الأوسط ولا سيما في أنطاكية والقسطنطينية”. لكن “وبالمقابل، لم تسفك أي دماء في الفترات الثلاث المنفصلة التي سيطر فيها المسلمون على القدس”.
ينتقل الكاتب في الفصل الثاني والمعنون بـ (غرباء في وسطنا) إلى الحديث عن أوائل المسلمين الذين قدموا إلى قارتهم أرقّاء سود مكبّلين بالسلاسل، وقد شحن التجّار البيض بعض منهم إلى الكاريبي، وفرّقوا البعض الآخر على المستعمرات البريطانية حول العالم. فيقول في لحن يشوبه العار: “يُقدّر أنه عبر السنين وفي أحد أسوأ الفصول المخزية في تاريخنا، استُرقّ على نحو دائم في الولايات المتحدة ما يقرب من عشرة ملايين إنسان، كان زهاء 25% منهم من المسلمين أرغموا على التخلي عن دينهم”. ثم يسترسل ليتحدث عن المسلمين الآخرين الذين قدموا طواعية إليهم، فيقول في نبرة عزة: “وتشير وثيقة قديمة إلى أن البحارة المسلمين قَدِموا إلى أميركا الشمالية في عام 1178، أي قبل ثلاثة قرون من رحلة كولمبوس الأولى”. ويتحدث في نفس الفصل عن الملاكم الأمريكي (محمد علي) كرمز إسلامي بارز، والذي اختار النهج المعتدل خلاف ما كانت تسير عليه منظمة أمة الإسلام من “عقائد انفصالية عنصرية” والتي انفصل عنها فيما بعد. وبالإضافة إلى لقبه كـ “رياضي القرن” فإنه “يشتهر أكثر من ذلك بشجاعته الهادئة في ظل الضغط السياسي. يلقى محمد على تقديراً كبيراً لصراحته المتسمة بالشجاعة عندما يتحدث في المسائل العامة، ولتمسكه بقناعاته، وقد كلفه ذلك غالياً في مهنته كرياضي”.
ومع انتقال الكاتب إلى الفصل الثالث الذي حمل عنوان (الإرهاب والافتراء) وهو يشي بخطورة ما يحمل من تطرف فكري ضد المسلمين في المجتمع الأمريكي، يورد حادثة وقعت في يوليو عام 1999 في ولاية نيوجيرسي كان بطلها (ريجينالد كوري) حين اقتحم بنكاً وادعى “تحت وطأة الحاجة إلى المال لشراء الهيرويين أنه مسلم، وسلّم أمين صندوق أحد البنوك ورقة كتب فيها: (بسم الله. في حوزتي قنبلة، وأنا راغب في الاستشهاد في سبيل قضية الإسلام. ضع كل المال في الحقيبة ولا تكن بطلاً). فما كان من أمين الصندوق المرتعب إلا أن أطاعه بسرعة، ثم ما لبثت الخدعة أن كُشِفت إثر اعتقال كوري”. يستطرد الكاتب ليتحدث مناضلاً عن الإسلام وكأنه أحد اتباعه، وقد عرّى الازدواجية العالمية في تعاطي الحوادث الإرهابية ما بين المسلمين وغير المسلمين، والتي يعتبرها من أخبث صور تنميط الإسلام، فحيثما يُذكر الإسلام يُذكر الإرهاب. يقول: “هناك العديد من المنافقين بين قادة المسيحيين، لكن الإسلام بخلاف الأديان الأخرى يُربط في الأخبار والتقارير والمقالات بالعنف باستمرار، في حين أنه نادراً ما تُذكر ديانة الفاعلين عندما تُرتكب أعمال مروّعة على أيدي أناس ينتمون إلى ديانات أخرى. فالتقارير الإخبارية لم تُشر إطلاقاً إلى المذابح المرتكبة ضد ألبان كوسوفو بأنها أعمال قتل ارتكبها الصرب الأرثوذكس، وأن البورميين يُقتلون بأيدي البوذيين، وأن الفلسطينيين يُقتلون بأيدي اليهود. فالجناة يُحددون روتينياً بهويتهم القومية وليس بانتماءاتهم الدينية، إلا عندما يكونون مسلمين. إذ لا يُنظر إلى مرتكبي العنف المسيحيين بأنهم يشوهون سمعة المسيحية، ولكن إذا ارتكب مسلم إثماً فإن هذا الإثم يُصور كعنصر من عناصر الخطر الإسلامي الداهم على أميركا. وعندما نقف لنتأمل في حقد الدولة اليهودية التي تغزو لبنان وتقتل الألوف، والتي تقصف بيوت الفلسطينيين وتقتلعهم من وطنهم، فإننا نقاوم مغريات التفكير أن العنف والتعصب من دعائم اليهودية. لا ريب في أننا نجد هنا مكيالين يُكال بهما، حيث يُلقى اللوم على الإسلام في النزاعات الدولية”.
ثم ينتقل الكاتب إلى الفصل الرابع (عامل “طالبان”)، فيعرض مشهد عمّ فيه الاستياء العالمي مداه “عندما أمرت طالبان بتدمير تمثاليّ بوذا العملاقين المحفورين في الصخر قبل زمن طويل من ظهور الإسلام. وتُعد أفغانستان أحد المواقع الأولى للديانة البوذية. وللتمثالين قيمة تاريخية لا تضاهى في علم الآثار”. وفي حين ثارت المظاهرات المنددة، عبّر القادة المسلمين عن أسفهم مؤكدين على أن الإسلام وإن كان “يعارض تصوير شخصياته الدينية ويعارض عبادة الأصنام، ولكنّه لا يصفح أبداً عن تدمير رموز الديانات الأخرى”. وبينما يصّرح الكاتب بأن طالبان نظام “غير إسلامي” من عدة وجوه، لا سيما اقتصاده القائم في الدرجة الأولى على انتاج الهيروين، حيث “تشكل المخدرات أكبر مصدر دخل من صادرات أفغانستان”، يورد ما جاء في كتاب/ طالبان لمؤلفه (بيتر مارسدين) من صور التمييز ضد المرأة في المجتمع الأفغاني، من خلال أنظمة رسمية “تشكل انتهاكاً صارخاً لتعاليم الإسلام” وُضعت موضع التنفيذ، تحديداً في كابول والمناطق الخاضعة تحت هذا النظام. منها: “ممنوع على النساء مغادرة بيوتهن إلا برفقة رجل حتى في حالة طوارئ تتطلب الاستعانة بطبيب أو الانتقال إلى مستشفى / ممنوع أن يقوم طبيب بمعالجة النساء إلا نادراً رغم النقص الحاد في عدد الطبيبات / ممنوع عمل المرأة خارج البيت إلا في عدد من أنواع الأعمال يحدّدها “طالبان” / على المرأة عندما تكون خارج بيتها أن ترخي برقعاً يحجب وجهها / المدارس الحكومية للذكور فقط فلا وجود لمدارس البنات إلا على الورق” بالإضافة إلى: “يجب على كل الذكور الإلتحاء وإقامة الصلوات الخمس في المسجد يوميا في مواقيتها / أجهزة التلفزة محرمة بموجب القانون”
أما الفصل الخامس الذي حمل عنوان (هذه حقائق نؤمن بها)، فقد تطرق فيه الكاتب إلى لقائه مع الداعية (أحمد ديدات) رئيس المركز الدولي للدعوة الإسلامية، في جنوب أفريقيا، وتقاسمهما محاضرة ألقياها أمام حشد كبير من الناس. قام الداعية “بتقديم صورة عن الحكم الإسلامي مغايرة تماماً لتلك التي أبرزتها بعد سنوات تقارير وسائل الإعلام عن طالبان في أفغانستان”، وقد أخبره الداعية أنه دبّر عرض نسخاً من كتابين للجمهور. كان الأول كتابه (من يجرؤ على الكلام)، أما الثاني فكان “نص دستور الحكومة العالمية” حسب تعبير الداعية. أثار هذا فضول الكاتب وتساؤلاته الذي كان “مهتماً منذ زمن بعيد بالمنظمات الدولية التي من شأنها حماية حقوق الإنسان وإحلال السلام في العالم. فمن ألف الكتاب؟ وأي شكل من أشكال الحكم يقترح؟” فيقول: “تعجّبت من أن يكون في وسع الحكومة الجديدة المقترحة أن تنجز ما قصّرت عن إنجازه الأمم المتحدة، ومنظمات دولية أخرى”. حتى يفاجئ الكاتب بأن الدستور المعني لم يكن سوى (القرآن الكريم)، وقد جاوز مبيعاته مبيعات كتابه المذكور في نهاية المحاضرة. واستكمالاً للتصورات حول الإسلام والمسلمين، يستمر الكاتب في الفصل الخامس بعرض آراء بعض الأمريكيين البارزين المتفاوتة. فبينما يشير (رالف بريبانتي) إلى الحروب الأهلية الدائرة بين المسلمين أنفسهم، إذ “من السخرية القاسية أن يجد المسلمين أنفسهم مُبتلين بصراع إسلامي-إسلامي في الفترة التي أصبحوا فيها متحررين من السيطرة الاستعمارية”، تنقل (إبريل زوشيت) عن المسلمين إيمانهم بالديمقراطية الأمريكية كمبدأ أساسي يقوم عليه الإسلام، إذ تقول: “إن معظم المسلمين لا يرون أن الديمقراطية ابتدعتها وتتعهدها الولايات المتحدة أو العالم الغربي. العكس هو الصحيح. إنهم يضعون الإسلام في هذا المقام، ولا يرون أن المسلمين يحاولون محاكاة المثل الغربية العليا. إنهم بدلاً من ذلك غالباً ما يلحظون باستحسان أن الولايات المتحدة تطبق المبادئ الإسلامية”.
وفي الفصل السادس (سواسية كسنيّن من أسنان المشط)، يعيب الكاتب على الأمريكيين استشهادهم الدائم بالتمييز السافر ضد المرأة في البلاد الإسلامية “كدليل على أن الإسلام يتساهل حيال إساءة معاملة النساء ويتغاضى عنها. وصحيح أن هذا التمييز موجود وغالباً ما يكون شديداً، إلا أن القيادات الإسلامية تصرّ على أن أي شكل من أشكال قمع النساء واضطهادهن ينتهك تعاليم الإسلام وقواعده، إذ إِن معظم التمييز ناشئ عن العادات الوحشية وعن الشوفينية الذكورية، لا عن القرآن أو السنة”. ثم يستشهد برأي مدير مجلس الشئون الإسلامية في لوس أنجلوس، سلام المراياطي، عن عزة المرأة المسلمة وحقوقها ومساواتها بالرجل “فالإسلام يعلمنا أن حواء لم تُخلق من ضلع آدم بل خُلقت مساوية له. وبحسب ما جاء في القرآن الكريم لم تكن حواء هي التي وسوس لها الشيطان لتغوي آدم وتُغريه بارتكاب الخطيئة وإنما سقطا فيها معاً وقد عفا الله عنهما معاً بعد أن استغفراه. وبحسب الإسلام أيضاً، فقد خلق الله الذكر والأنثى من طين واحد ومن نفس واحدة”.
أما في الفصل السابع والذي حمل عنوان صريح بـ (ربط مزيّف بالإسلام)، فيتطرق إلى جريمتين تتعلق الأولى منها بـ (الشرف) والثانية بـ (الختان)، لا تعدو كلا منهما عن عمل وحشي بشع لا يمتّ للإسلام بصلة. وقد حمل الحديث في الفصل قدر من معلومات صادمة وحوادث ختان، واحصائيات أخرى تتعلق بجرائم شرف بربرية. يقول الكاتب عن جريمة الختان: “ففي معظم البلدان تجري العملية بالسر وغالباً دون تخدير وفي ظروف غير صحية البتة، على يد امرأة غير مجازة تسافر من قرية إلى قرية، وقد يجريها طبيب مجاز في ظروف صحية جيدة، وإن بسرية تامة أيضاً في هذه الحالة”. ثم يتطرق إلى رأي الفقهاء المتحفظ شرعاً على الختان وفق آراء المذاهب السنية الأربع، والمرفوض قطعاً من قبل أتباعه فرادى وجماعات، نساءً ورجالاً. وكنموذج عن جرائم الشرف، تبث هيئة الإذاعة البريطانية خبر مقتل زوجة باكستانية في السادسة عشرة من عمرها حرقاً بعد إدانتها بالخيانة من قبل أهل زوجها. وقد قام محام باكستاني بوضع كتاباً “يستعرض فيه قضايا النساء اللواتي كنّ ضحايا جرائم الشرف في المنطقة التي يقطنها في باكستان، حيث يحكم عادة على الجناة بالبراءة. وقال في شهادة أدلى بها أمام إحدى لجان الأمم المتحدة: (لنفترض أنني قتلت زوجتي، سأسير إلى السجن مثل ملك وسيقيم لي الناس استقبالاً ولن ألبث حتى أخرج حراً)”. يختتم الكاتب هذا الفصل الدموي بقوله: “إن ختان الأنثى وجرائم الشرف ممارستان تعبّران عن ذروة الشوفينية الذكورية. إنهما من البقايا البشعة للممارسات القبلية التي ثبتت هيمنة الرجل على مدى قرون”.
أخيراً، وعلى الرغم من مرور أكثر من عقدين على صدور الكتاب، فهو لا يزال يحتفظ بقيمته كمرجع شامل للتعريف بالإسلام وبأتباعه، لا سيما وقد كُتب بقلم من لا يمت لهما بصلة نسب أو عرق أو دين أو ثقافة .. بل صلة الإنسانية فحسب، ومن أجل الحق وحده. لذا، كم كان جميلاً أن يهدي الكاتب كتابه إلى “كل من يجلّون الحرية .. لكل الناس .. في كل مكان”.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 20 يوليو 2022 – صفحة (10) جزء1:
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/07/5153.pdf
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 21 يوليو 2022 – صفحة (10) جزء2:
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/07/5154.pdf
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(19)
كتاب/ محاكم التفتيش: في اسبانيا والبرتغال وغيرها
المؤلف/ د. علي مظهر
دار النشر/ دار الكتب العلمية للنشر والتوزيع – القاهرة
الطبعة/ 1 – 1996
…
فتق الجرح الأندلسي .. لعل الألم يستحضر العبرة
كتاب يتحدث عن محاكم التفتيش التي تم تنصيبها في اسبانيا والبرتغال بعد سقوط مملكة غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس عام 897هـ – 1492م، بغية تطهيرها من المسلمين أو (الكفرة) كما نص المرسوم الملكي آنذاك.
ينقسم الكتاب إلى قسمين رئيسيين، يعرضان العلاقة التاريخية التي ربطت المسلمين بشبه الجزيرة الإيبيرية في القرون الماضية، في سراءها وضراءها، حيث يندرج تحت كل قسم عدد من المواضيع ذات الصلة، يطغى فيها الأسى الذي لا يزال مستمراً على العزّ الذي كان! ففي القسم الأول، يتعرّض الكتاب إلى بداية هذه العلاقة التي استهلت مع الفتح الإسلامي، حتى سقوط مملكة غرناطة على يد الأسبان، ومآل بني الأحمر عقب السقوط كآخر سلالة حاكمة مسلمة، وما تبع هذا السقوط من اعتماد مجموعة مراسيم ملكية لاضطهاد المسلمين ومطاردتهم ونفيهم وتشتيت من تبقى منهم. أما القسم الثاني فيتعرّض إلى مطاردة ديوان التفتيش للمسلمين ولليهود كقوميات غير كاثوليكية، فيبدأ بتوضيح كيفية إنشاء هذه الدواوين، وتوسّعها في شبه الجزيرة، وطُرق استجواب المسلمين أمام محاكم التفتيش، وآلات التعذيب التي تم تنصيبها وطرق التعذيب المبتكرة فوقها، ووصف للمذابح ولمواكب الحريق التي كانت تتم في العلن، وعرض لأعداد ضحايا محاكم التفتيش من ضمنهم العلماء والمفكرين، والتقارير التي تم إعدادها ضد هذه الدواوين في مدينة مجريط (مدريد الحالية)، وفيه ينتهي القسم برثاء الأندلس كما جاء باكياً ومطوّلاً في نونية أبي البقاء الرندي الشهيرة.
يصدر المؤلف د. علي مظهر كتابه عام 1930، وقد عنيّ به بغية إثراء المكتبة العربية بكتاب شامل وجامع وموثق بالعديد من الصور، لتاريخ محاكم التفتيش، باعتباره جزءاً هاماً يُلحق بأخبار المسلمين منذ أن وطئت أقدامهم أوروبا الغربية وما جاورها من بلاد الفرنجة، وما واجهوه من تنكيل وتشريد وفواجع مؤلمة، وما صاروا إليه “على يد رجال الديوان الجهنمي المقدّس”، أصبحت الأندلس على إثره بمثابة “الفردوس الإسلامي المفقود”.
تعتمد هذه المراجعة -في عرض ما صال وجال في الحقبتين- على الطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 1996 من (دار الكتب العلمية للنشر والتوزيع)، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
تبدأ دولة الإسلام في الأندلس بالانهيار التدريجي على مدى قرون، يظهر ابتداءً من خلال تفككها إلى دويلات يحكمها عشرون والياً، في: “اشبيلية، جيان، سرقسطة، الثغر، طليطلة، غرناطة، قرمونة، الجزيرة الخضراء، مرسية، بلنسية، دانية، طرطوشة، لارده، باجة، ألمرية، مالقا، بطليوس، الأشبونة، جزر البليار، قرطبة”. فمع هذا الانقسام والركون إلى حياة الدعة، ضعف لدى المسلمين روح الحمية الدينية الذي كان الأصل في عزتهم، تبعه ضعف القومية العربية، الأمر الذي آل في النهاية إلى طردهم من “بلاد الأندلس الخصيبة”. وفي أثناء ذلك المجد، وتحديداً في فترة حكم أبو عبد الله محمد الخامس الملقّب بـ (الغني بالله) لمملكة غرناطة، يفد إلى الأندلس عالم الاجتماع البارز ابن خلدون، الذي استعمله في “السفارات بينه وبين ملك الأسبان بأشبيلية”. تلك المهام التي نجح فيها ابن خلدون، وقد “أقام في خدمة الغني ثلاثة أعوام، واستقال من عمله خشية السعايات والوشايات، وترك الأندلس إلى المغرب ثم مصر أيام الظاهر برقوق”. يتطرق الكتاب قليلاً إلى وصف مرحلة الضعف التي انتابت بلاد الأندلس، حيث وصم الإمام ابن حزم الأندلسي عصر ملوك الطوائف “بفضيحة لم يأت الدهر بمثلها”، إذ تولى أمر المسلمين في آن واحد أربع من الملوك كل منهم تلقب بـ “أمير المؤمنين”. كما أن هذا العصر لم يخلُ من المؤامرات والخيانات التي يندى لها جبين الشرف العربي والإسلامي.
تعرض صور التعذيب التي تفنن بها الصليبيون، من دموية وبربرية ووحشية، ما لا يخطر على قلب إبليس، وقد طال تعذيبهم كل من لم يكن على الكاثوليكية من أهل الأندلس، سواء من مسلمين أو يهود أو حتى نصارى. ومن بعض صورها، جاء: حبال تُستخدم لشد الأجساد حتى تنضح دماً، وسلاسل وسحابات ذات مسامير صدئة حادة تمزقها تمزيقاً، مع أسواط تلتحم بها قطع من حديد، وقدور من حديد لغلي الرصاص وصبه على المعذبين، وآلات لسلّ اللسان وأخرى لتكسير الأسنان، وأخرى لسمل العيون، وأخرى لسحب الأظافر، وأخرى لتهشيم الجماجم، وأخرى لطي الإنسان وتحطيم العظام، وأخرى لسحب أثداء النساء، مع مطارق ثقيلة لسحق الرؤوس، وأحذية حديدية حامية يرتديها السجناء، والجحش الخشبي، والتابوت ذو الحراب الست التي ما أن يُقفل بابه على المعذّب، تخترق العينان والجمجمة والقلب والمعدة، وتابوت السيدة الجميلة، ومشانق تشنق نصف شنقة، وتقنية ملء البطن بالماء، والنخس بالدبابيس، وتمزيق الأعضاء، والدفن على قيد الحياة، والحرق حتى الموت … وغيرها الكثير! ومع كل هذا، كان “يحظر على المعذب إبداء أي حركة أو صراخ أو أنين”. تتضاعف صور التعذيب تلك دموية حين كانت تجري في حضور طبيب! إذ يقوم بتنبيه من يمارس التعذيب بالتوقف إذا شعر بأن المعذّب قد أشرف على الموت، فيتم التوقف “وإنعاش المسكين بشراب ما ليتحمّل العذاب”، حتى يسترد شيء من روحه، ثم يتم استئناف التعذيب مرة أخرى .. وهكذا دواليك. وقد قُدّر عدد المعذبين من المسلمين آنذاك زهاء ثلاثة ملايين، ما بين رجال ونساء، ممن تتراوح أعمارهم ما بين الرابعة عشر والسبعين، أزهقت جميعها ظلماً وطغياناً.
أصدر النصارى من القوانين المتعصبة ما لا يمكن تصوره، فقد تم اعتبار كل من تنصّر من المسلمين مرتداً إلى الدين الإسلامي إذا: نادى بعبادة إله واحد، أو مدح دين محمد، أو اعتبر أن المسيح نبياً وليس إلهاً، أو إذا أقسم بآيات القرآن، أو إذا أكل اللحم يوم الجمعة، أو ارتدى ثياباً أنظف فيه، أو خضّب يده، أو قيّد أرجل الحيوان قبل ذبحه، أو انتهى عن أكله إذا لم يُذبح، أو رفض أكل الخنزير أو شرب النبيذ، أو نهض الفجر وتوضأ، أو لوحظ أنه لم يأكل حتى مغيب الشمس لا سيما في شهر رمضان، أو تصدق خلاله، أو تسحّر في ليله، أو وجّه وجهه نحو الشرق مصلّياً، أو ختن أولاده، أو اختار لهم أسماء عربية، أو مسح بيده على رؤوسهم، أو أنشد أغان عربية، أو حاز كتب عربية، أو غسّل الموتى وكفنّهم ودفنهم على الطريقة الإسلامية وغطى قبورهم بأغصان خضراء، أو إذا قال: “بأن الكعبة هي أول بيت من بيوت الله، أو إذا قال بأنه لم يتنصّر وهو يؤمن بالدين المقدس (المسيحية)، أو قال بأن آباءه وأجداده قد فازوا برضا الله وقد ماتوا على الإسلام” …، وغيرها من وسائل تفتيش تخترق الصدور لتكشف عمّا قد يعتمل فيها من إيمان! “ونصت تلك الأوامر بأنه يجب على المسيحيين أن يبلّغوا ما عرفوه عن المتنصرين إذا هم هاجروا إلى أفريقيا أو غيرها من البلاد ليرجعوا إلى دينهم القديم، وأنهم ارتدوا عن كثلكتهم”.
وفي موضوع (سجون التفتيش في البرتغال)، يظهر وصف لأحد السجون وقد “خصصت الطبقة الوسطى من تلك السجون للنساء اللواتي كان رجال ديوان التفتيش يترددون عليهن من حين لآخر. وكثيراً ما كان يتم ذلك للعبث بعفافهن في تلك الدار الموحشة”. أما عن بعض النساء المعاندات اللواتي كن لا يتورعن عن شتم رجال تلك المحاكم، فقد نالوا نصيباً مختلفاً من التعذيب “وذلك بتعرية المرأة إلا ما ستر عورتها، وكانوا يأخذونها إلى مقبرة مهجورة ويجلسونها على قبر من القبور ويضعون رأسها بين ركبتيها ويشدون وثاقها وهي على هذه الحالة السيئة ولا يمكنها الحراك. وكانوا يربطونها إلى القبر بسلاسل حديدية ويرخون شعرها فيجللها، وتظهر لمن يراها عن كثب كأنما هي جنيّة سيما إذا ما أرخى الليل سدوله. وتُترك المسكينة على هذا الحال إلى أن تجن أو تموت جوعاً ورعباً. وكان رجال التفتيش يعتقدون أن الروح الشريرة هي التي تتكلم في المرأة، وهم يعتقدون أن القبور مسكن لذوي الجنة والشياطين”.
لقد نافس أجداد الأسبان الشيطان في عمله، “ومع أن ذلك الديوان وتلك المحاكم كانت معروفة في فرنسا وإيطاليا وفي بلاد أخرى من أوروبا، إلا أنها لم تعمل بها مثلما عملت بإسبانيا والبرتغال، ولم تمارس من الفظائع والأعمال البربرية الوحشية مثل ما مارست بجزيرة أيبريا، حتى قدّر بعضهم عدد ضحايا التفتيش بما لا يقل عن تسعة آلاف من الناس أثناء المدة المحصورة بين سنة 1333 وسنة 1835، حيث ألغي من اسبانيا بعد أن لطخ كل أرجائها بالدم المسفوك في سبيل نصرة الكثلكة والقضاء على مخالفيها”. ولقد ورد عن عرّابة تلك المحاكم الشيطانية (الملكة إيزابيلا) قولها: “إن حب المسيح والعذراء جعلني أميل لارتكاب الأعمال المؤدية للبؤس والشقاء وخراب البلاد والملك”، القول الإفك الذي عقّب عليه المؤلف مستبرئاً: “لا شك أن مسيح إيزابيلا الذي دعاها حبه إلى هذا الخراب ليس هو بالمسيح الذي جاء يدعو للسلام”. وقد اشتهر من شياطين ديوان التفتيش -ممن تلبّست بهم إيزابيلا- وممن انتشروا على مقاطعات اسبانيا السبعة يصدرون تلك الأحكام الشيطانية: “توركويمادا، ديزا، سيزنيروس، فلويرنسيو، مانريكي، تاليو، لوابيزا” .. وكأنها أسماء تخلّد في سود صفحات التاريخ الإنساني.
أما موضوع (موكب الحريق)، فيعرض مراسم حرق من حقّ عليه قول رجال الديوان في ساحة عامة، حيث يقيد المحكوم من رقبته بضع مرّات حتى يشتد الخناق عليه وهو مربوط إلى جذع شجرة مرتفع، تلتهمه النيران وهو حي. وقبل اضرام النار بقليل “يصعد كاهن وفي يده صليب من العاج يعرضه على المسكين ليقبّله قبل حرقه”. وبينما يصلي الكهنة بعد اضرام النار “يبحث جواسيسهم في وجوه الشعب ويستمعون لما يقال، فمن تأفف أو أظهر عطفاً على المحروقين أو أبدى أي إشارة اشمئزاز ألقي عليه القبض في الحال، وكثيراً ما كان يُضم إليهم في التو والساعة”. تمضي أربعة قرون على سقوط الأندلس وعلى استهلال محاكم التفتيش، حتى يوّجه نابليون بونابرت حملته الشهيرة نحو اسبانيا، ويقوم بإصدار المرسوم الشهير بإلغاء دواوين التفتيش فيها، وذلك عام 1808. فيعرض الكتاب شهادة صارخة مطوّلة لأحد ضباط الحملة الفرنسية على اسبانيا (الكولونيل ليمونسكي)، في موضوع (تقرير عن الديوان بمجريط)، وذلك عن سجون محاكم التفتيش السرية القابعة تحت أرض دير ديوان التفتيش، الضخم البناء ذو الأسوار الشاهقة والمحروس من قبل جند اليسوعيين، والتي تم اكتشافها صدفة، بل وبذكاء وحنكة أحد الضباط، وتحت مراوغة ومداهنة واستكانة القساوسة، حيث انتهت بمقتلهم تحت نفس أدوات التعذيب التي أباحوها في إزهاق أرواح المؤمنين. يتم بعد ذلك إطلاق سراح الأحياء من المعذبين بعد فتح أبواب السجون، واستقبال ذويهم للضباط بقبلات الشكر والعرفان. يشرح الضابط الشهم كيف انتهت تلك المهمة: “وصل خبر الهجوم على دير ديوان التفتيش إلى مجريط، فهب ألوف من الناس ليروا ما حدث، وخيّل إلينا أنه يوم القيامة. ولما شاهد الناس صنوف التعذيب وآلاته الجهنمية ورأوها رأي العين، جنّ جنونهم واشتعلوا بنار الغيظ. كانوا كمن مسّه الجن فأمسكوا برئيس أولئك اليسوعيين ووضعوه في آلة تكسير العظام فلم تشفق عليه ودقت عظامه دقاً وسحقتها سحقاً. وأمسكوا كاتم سره وزفوه إلى السيدة الجميلة وأطبقوا عليه الأبواب فمزقته السكاكين تمزيقاً. ثم أخرجوا الجثتين وفعلوا بباقي طغمة اليسوعيين وبقية الرهبان ما فعلوه أولاً، ولم يمض نصف ساعة حتى قضى الشعب على ثلاثة عشر راهباً من تلك العصابة الآثمة”. ويختم روايته بقول إنساني صادق، وقد خبر ما خبره، قائلاً: “والحق أقول إن القلم واللسان ليعجزان عن وصف ما رأيناه في ذلك الدير من الفظاعة والبربرية التي لا تخطر على عقل بشر، سوى الشياطين الذين قد يعجزون هم أيضاً عن الإتيان بمثل هذه الأعمال”.
لقد امتد تعصب وجهل ووحشية قساوسة الكنيسة ليشمل كل من خالف تعاليمها بصرف النظر عن عقيدته، أمثال الفلكي (جوردانو بروتو) الذي أعدم حرقاً، والفلكي الفيلسوف (دولت) الذي تم شنقه وحرق جثته، والفيلسوف الآخر (فيانني) الذي قطع لسانه وأحرق حياً، والمفكر الحر (دميان دي كيز) الذي زج به في السجن حتى فتك القمل بجسده وأرداه قتيلا، والفيلسوفة المتنورة (هيباتيا) التي قُطع جسدها إلى أربعة أجزاء رميت للكلاب بعد أن ضُربت حتى الموت، وأخيراً الفلكي (جاليليو) الذي عذًب بالحذاء المحمي والجحش الخشبي حتى أجبر على التخلي عن آرائه! كل هذا فضلاً عن مصادرة ما جادت به عقول المفكرين والعلماء لسنوات طوال من مؤلفات علمية وأدبية، إما بحرقها أو رميها في البحار والأنهار، لتفقد الإنسانية بذلك كنزاً غزيراً ثمناً لجهالة أهل الكنائس وضلالاتهم في عصور الظلام.
عمد المسلمون ممن هرب إلى بلاد المغرب بتعمير الديار، وذلك حين نقلوا علومهم وفنونهم وصنائعهم، بينما حمل لقب (الموريسكيون) وتعني “المغاربة السود” من بقي منهم في بلاد الإسبان والبرتغال. ثم “اشتد الديوان في تتبع المتنصرين واضطهادهم. فمن تكلم العربية، واستحم، أو حجب النساء، أو لبس الأزياء الإسلامية، كان كأنه أقام الدليل على ردته وكفره، والويل له من التعذيب”. ثم يشتد ديوان التفتيش أكثر فأكثر، بحيث تم “أخذ صغار الأولاد والبنات من آبائهم المتنصرين، وعهد بهم إلى المدارس والكنائس، ليشّبوا فيها وهم لا يعلمون شيئاً عن العربية ولا الإسلام”.
يتطرق الكتاب كذلك إلى محاولات السلطان العثماني ووالي مصر نجدة المسلمين في اسبانيا، والتي أخذت في النهاية شكل خطابات استعطاف أُرسلت لملوك النصارى، تسترحمهم بعدم ارهاق المسلمين! غير أنه يتجلى غدر النصارى فيما بعد من خلال عدم الالتزام بالشروط التي تم عليها تسليم أبو عبدالله، آخر ملوك المسلمين، مفاتيح مملكة غرناطة لإيزابيلا وفيرناندو، التي نصّت على سبعة وستين شرطاً “أمنو فيها أهلها على أنفسهم ودينهم وأموالهم وأعراضهم وأملاكهم وحريتهم، وإقامة شريعتهم، واحترام مساجدهم ومعابدهم وشعائرهم، وفك أسراهم، وإجازة من يريد الهجرة منهم إلى بر العدوة، وإعفائهم من الضرائب والمغارم سنين معلومة، وغير ذلك من الشروط التي لم يُنفذ منها ولا شرط واحد عقب الاستيلاء على غرناطة مباشرة، لتمادي الإسبان في التعصب المذموم، وأتوا ما أتوا باسم السيد المسيح الذي جاء بالمحبة والسلام” … ولا غرابة! إن هذا هو ديدنهم.
ختاماً، ومع زفرة مكتومة كزفرة محمد الصغير عند الصخرة (التي غدت الآن معلماً سياحياً) مودعاً أرض الأندلس، يتشبث الحق بوعد الله “وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ”. فلعل الزمن القادم يسرّ المسلمين وقد عادوا للحق واعتبروا، كما شهد الرندي (هي الأمور كما شاهدتها دول .. من سرّه زمن ساءته أزمان) .. واستحقوا النصر المبين، واستعادة مجد أجدادهم وما نقشوا: ولا غالب إلا الله.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 27 يوليو 2022 – صفحة (10) جزء1:
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/07/5158.pdf
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 28 يوليو 2022 – صفحة (10) جزء2:
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/07/5159.pdf
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
أنشر هذه المقالات في شهر أغسطس / آب 2022
همى الغيث
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(20)
كتاب/ زنزانة: عادة مدى الحياة
المؤلف/ د. سلمان العودة
دار النشر/ مؤسسة الإسلام اليوم للنشر والإنتاج
الطبعة/ 1 – 2014
…
الإنسان وهو أسير عاداته .. عليه فك أغلالها
قد يخلق الإنسان من عاداته زنزانة يحصر نفسه بين زواياها المعتمة. وبينما يكون من العادات ما هو حسن محمود، يأتي بعضها كنتاج سطوة موروث ديني أو عرف اجتماعي لا أصل لهما، ترديه في قيد يأسره مدى الحياة، فيعيش كمن لا عاش حياة! تبدو العادة وكأنها جندي مجهول يسيّر الإنسان ضمن جملة أفكار وأفعال تشّكل من هو، رغم أنه قد يكون في سريرته على خلاف ما يُظهر. في هذا الكتاب، يشير الكاتب إلى تلك الأغلال بأصبع الاتهام، في محاولة جادة للتحريض على فكّها والاستمتاع بالحياة ضمن حدود شرعية وأخلاقية واجتماعية، بلا إفراط ولا تفريط، وهو لا ينسى أن يحرّض في نفس الوقت على التمسك بالعادات الحسنة، والإصرار على تحويلها من عادة إلى عبادة، إذ إن الإنسان حين ينتقي من (العادة) أحسنها ويستحضرها مع النية الخالصة، تصبح (عبادة)، فيضرب مثلاً في صلاة الخاشع قلبه ويقول: “أصبحت الصلاة عادته وسرور قلبه وقرة عينه لا يشعر بثقلها بل بمتعتها. حتى الخشوع يكون عادة بعد المجاهدة الطويلة”.
إنه د. سلمان بن فهد بن عبد الله العودة، رجل دين بارز، ولد في منطقة القصيم بالمملكة العربية السعودية عام 1956، وحصل على درجتي الماجستير والدكتوراة في السنة النبوية، فعمل كأستاذ جامعي في كلية الشريعة وأصول الدين في بلده، بينما فاقت شهرته كداعية إسلامي، ومقدم برامج تلفزيونية، وكاتب ومفكّر عربي، إذ تربو مؤلفاته على الستين كتاب. لقد خلع د. العودة جلباب الوعظ الذي يحرص كل عالم دين الاتشاح به ما عنّت له فرصة الحديث، فجاء كتابه في نسق سلسل شائق وواسع غطى ما استطاع به من أصعدة الحياة، يحدّث فيه القارئ -لا سيما الشاب- كإنسان ناضج، وبلغة عفوية أبوية دافئة، لا تقرّع بقدر ما تدعو إلى الارتقاء بالذات، من خلال ترسيخ قيم المحاسبة الذاتية وتحمّل المسئولية وصدق الرغبة في التغيير، لا على المستوى الفردي فحسب، بل المجتمعي.
يعرض فهرس الزنزانة ضمن سبع مجموعات، المحتوى كاملاً، تحمل كل مجموعة وسم (هاشتاج) يعبّر عن موضوعاتها التي حملت عناوين لها وقع السحر، يسترسل بها القارئ واحدة تلو الأخرى رغم امتدادها على أربعمئة ونيف صفحة، والوسوم السبعة هي: #السلم_والفخ / #مرايا / #غرف_ونوافذ / #برايا / #ورد_وشوك / #فوق_العادة / #رحلة_عادة. تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 2014 عن (مؤسسة الإسلام اليوم للنشر والإنتاج)، وباقتباسات تخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
يستهل الكاتب، وقد رحبّ بالقارئ كـ “نزيل جديد”، ببعض الأقوال المأثورة عن العادة، يأتي الصيني منها عميق المعنى، إذ يقول: “ازرع فكراً تحصد قولاً .. ازرع قولاً تحصد عملاً .. ازرع عملاً تحصد عادة .. ازرع عادة تحصد طبعاً (خُلقاً) .. ازرع طبعاً تحصد مصيراً”. ومع تكرار العادة، لا بد وأن يكتسب الإنسان مهارة ما، لكنها قد تكون في موضع آخر مجرّد تلقين. يتحدث الكاتب عن أحد المهرة في الضرب على لوحة مفاتيح الحاسوب الآلي دون النظر إليها، فإذا نظر إليها أخطأ. ثم يضرب مثلاً آخر أصعب يقول فيه: “الحفظ عادة، حيث إن كل مقطع أو آية يكون ممهداً عند قراءته للذي بعده دون تفكير، والتكرار يرسّخ ذلك، ولو بقي القارئ يتأمل ويفكر فيما بعد الآية أو المقطع لتردد أو توقف أو ارتبك”. لذا، ليس “قانون التجربة والخطأ” وما قدمته نتائج البحوث على الحيوانات، سوى حصيلة التكرار مرات ومرات، من أجل تثبيت الصواب وتنحية الخطأ. إذ إن “الإنسان بإمكانه أن يتعلم من تجربة واحدة ومن تجارب غيره. مدهش أن يسلك الإنسان نفس الطريق ويتوقع الوصول إلى مكان مختلف”. غير أن التكرار من ناحية أخرى له دور مغاير، إذ مع تكرار معاينة الآلام، تألف النفس العذاب ويقسى القلب! قد تكون تلك القسوة مطلباً عند الجرّاح لتأدية عمله، لكن ما بال النفس تستلذّ الطعام والعين تبصر صور الدمار على محطات التلفاز؟ يقول الكاتب: “اعتياد رؤية القتل والدمار في نشرات الأخبار يجعل المشاهد أقل تفاعلاً وتأثراً، وهذا ما وجدناه في متابعة الانهيارات الخطرة في العراق وسوريا ومصر وبورما وبلاد أخرى”. وقد تصبح العادة سجية، فمن صدقت سريرته تأبى أساريره إلا أن تصطبغ بالصدق. يقول الكاتب عن أحد لا عبي كرة السلة الذي اعتاد التسديد، والذي فشل لما طُلب منه الظهور في مشهد إعلاني يمثّل الخطأ “لأنه تعود أن يصيب”. ثم يقول حكمته: “من تعود على الصواب يصعب عليه فعل الخطأ، ومن جرت سليقته العربية على الفصاحة لا يُمكّنه لسانه من اللحن”، ويؤكد: “جميل أن يصبح الصواب عادة”. وهو يتحدث عن الوقت كاستثمار محتمل، يرى أن قيمة الوقت من النفع تكون صفراً إن ذهب هدراً و “بلا معنى”. فيقول: “الإنجاز من العادات الواعية. حين يخلو وقتك من انجاز يصبح بلا معنى، على أن مفهوم الانجاز يجب أن يتغير، وألا تكون شهرة العمل أو دويه معياراً” ويكمل “أعظم الانجازات تتم بهدوء”. غير أن الكاتب يعود ليؤكد بأن من العادات ما هو قطعاً محمود “حين تكون سُلماً للصعود، كالقراءة والحوار وبناء العلاقات وأداء العبادات والابتسامة ومراقبة الذات وتطويرها”.
وفي حديثه عن القراءة كعادة محمودة، يعتقد الكاتب بأن “الإنسان القارئ هو إنسان مفعم بالحياة”، بل هي العادة التي تمنحه هو شخصياً حياة أخرى ضمن حياته، فيقول محدّثاً عن نفسه: “مازلت أجد الكتاب كنزاً يثير فيّ كل معاني الدهشة والفرح، ويأخذني من عالمي المثقل إلى أفق أرحب وأوسع”. تحتفظ ذاكرة القارئ بما قرأ وإن توهم نسيانه، إذ تسترجعه الذاكرة عند قراءته في موضع آخر، وقد يكون متبوعاً بفهم أكبر. يضرب الكاتب مثلاً سديداً في هذا، فيقول عن نفسه وقد سأل شيخه: “قرأت الكتاب ولم يعلق شيء منه بذاكرتي! مدّ لي تمرة وقال: امضغها. ثم سألني: هل كبرت الآن؟ قلت: لا. قال: ولكن هذه التمرة تقسّمت في جسدك فصارت لحماً وعظماً وعصباً وجلداً وشعراً وظفراً وخلايا”. أما عن عادات القراءة، فيعتقد الكاتب بأن القراءة السريعة تساعد في زيادة حصيلة (عددية) لا (علمية)، إذ يحلو له تشبيهها بـ “الوجبات السريعة” التي “تسبب السمنة ولا تفي بشروط الغذاء الصحي .. لذيذة مشبعة بالدهون، قليلة الفائدة”. لكنه يشبّه القراءة على متن الطائرة أو على سرير النقاهة كـ “استثمار في الزمن والحال”. أما عن عادة استعارة الكتب والإبقاء عليها في الحفظ والصون، وهي عادة بغيضة، ينقل الكاتب عن أحد القرّاء الغاضبين دعاء تركه في طرة كتاب، يقول فيه: “من يسرق كتاباً أو يستعيره ويجحده عسى أن يتحول الكتاب في يده إلى أفعى رقطاء، وعسى أن يصاب بشلل ارتجافي قاهر، وعسى ألا تنقطع آلامه حتى يتحول إلى رمة متفسخة، وأن تعشش الديدان في أحشائه، وعندما يمثل يوم القيامة تلتهمه النار إلى الأبد”.
وهو في حديثه عن عادة القراءة المثمرة، يفرّق الكاتب بين التعليم الإلزامي وبين التعليم الذاتي، إذ يعتقد أنه ليس للمتعلم سوى ما لُقنّ على مقاعد الدراسة حيث ينشأ في جو من الجمود الفكري، أما المثقف فله من سعة الأفق ما يوازي سعة اطلاعه. وهو إذ يفرق بينهما يقول: “للمثقف رؤية ومرونة وسعة اطلاع واستعداد للتأمل في الفكرة الجديدة وإدراك وجه الصواب والخطأ فيها بحياد وهدوء. أما المتعلم فهو درس أموراً ضمن نطاقه الفكري ووفق معلومات محددة تقدم للجميع، وربما كانت سبباً في تصلبه وجموده”. لا يقف الكاتب في نقده للتعليم عند حد التلقين، إذ على الرغم من قضاء الطالب أكثر من نصف وقته مصغياً إلا أن آخر ما يتعلمه هو الإصغاء، كما يعتقد، فيوجه نصحه قائلاً: “فالمطلوب هو الإصغاء النقدي والتفكير المحكم، وليس التلقين وهز الرؤوس”. وإن التمعّن في كل قول إيجابي والإنصات والتفكر في كل حكمة، لهي عادة تقود إلى بناء شخصية راشدة، فـ: “الإصغاء بتفهم هو بداية الحكمة، ويعني قدرة المستمع على تحليل المعاني الواردة في أقوال الآخرين، وكسب ودهم وتخفيف انفعالهم وإشعارهم بالاهتمام”. كما أن الإنصات رديف التفكّر الذي يفوقه كعادة لا يتقنها إلا القليل، فلا يؤتى التفكر أؤكله إلا إذا كان عميقاً، حينها يتيقن الإنسان بأن وراء الأكمة ما وراءها. يقول الكاتب: “التفكر يمنح النفس هدوءً وطمأنينة من داخلها، فلا تهزّها المؤثرات ولا تقلقها الجلبة. ويُربى على مكارم الأخلاق: الحلم والصبر وكظم الغيظ والتجاوز والصفح”. وإن عادة التفكّر لا بد وأن يصحبها قدر من العزلة، تبدو تلقائية أكثر منها اختيارية، فهنالك صفاء النفس الذي يستجمع صفاء الذهن. يقول الكاتب: “حين تكون قادراً على التعامل مع العزلة باختيارك أو بغير اختيارك، بنفس قدرتك على التعامل مع الحشد، فأنت كما قال المتنبي: وحالات الزمان عليك شتى .. وحالك واحد في كل حال”. ثم يقول في حكمة بليغة “الطمأنينة هي جائزة النفوس المتصالحة مع ضمائرها”.
وعندما يخرج الكاتب من أجواء العزلة التي قد تفرض حالة من التسامي عن واقع ليس بالضرورة مثالياً، يصطدم بهذا الواقع الذي يضرب له مثلاً من خلال ضفدع (ماوتسي تونغ). حيث إنه وهو يقبع في بئر ينظر من خلاله إلى السماء، يظنّ أنها بحجم فوهته، فلا يعلم أنه لو صعد نحوها سيتيقن بأن ما يراه لم يكن سوى جزء محدود من أطرافها المترامية. يُسقط الكاتب سلوك هذا الضفدع على بعض بني البشر، فيقول: “يتعمد المرتزق بقلمه ولسانه أن يرى الأشياء كما يراها سيده، ومن زاوية واحدة، أو من لا زاوية. المهم أن يستمر النقيق”. وعن سقوط أسماء كانت تُعد أعلاماً عربية، يقول في خيبة: “العالم يدرّس أدباً يحكي آلام البائسين، والعرب يدرّسون كتباً تمجد الظالمين”. لم يكن عرب التاريخ بأفضل حال من عرب اليوم، حيث ساد العهد الفاطمي قيم الانتهازية كرمز للذكاء. يقول أحد شعراءه في الزلزال الذي أصاب وباله البلاد والعباد مخاطباً واليهم: “ما زُلزلت مصر من كيد ألم بها .. لكنها رقصت من عدلكم طربا”. ومع وضع يسوده الكبت والتملّق والارتزاق في ظل استبداد الطغاة، يعتقد الكاتب أن من أشد أشكال التجهيل .. (المقدّس)! كيف لا وقد تم إقفال باب الاجتهاد الفقهي منذ القرن الرابع الهجري في تزامن مع ضعف الخلافة العباسية، حتى تردى حال الأمة في ظلمات التقليد والتبعية للسلف الذين لو عادوا لأنكروا على أهلها تحجير عقولهم! يعزف الكاتب على الوتر الحسّاس قائلاً: “تقليد الماضي مثل تقليد المجتمع، مذموم (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ). والإسلام يكرّس مبدأ الحرية الفردية واحترام العقل الذي تعاني مجتمعاتنا من تهميشه لمصلحة الجماعة، فترفض المبادرات الإصلاحية بحجة عدم ملاءمتها للمجتمع أو مخالفتها للرأي العام. كثيرون يميلون إلى بقاء ما كان على ما كان، والاكتفاء بما عليه الحال دون سعي للنقد أو التفكير (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)”.
يقود هكذا حديث ذو شجن الكاتب، نحو الحديث بشكل أكثر صراحة عن الثقافة العربية. فبينما يعني علم الأنثروبولوجيا بالفروقات بين البشر، عرقياً وثقافياً وعقائدياً واجتماعياً وجغرافياً، يعرض الكاتب وصف عمرو بن العاص لقوم الروم، بأن “فيهم لخمس خصال. إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرّة بعد فرّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وأمنعهم من ظلم الملوك”، فيُثني على قراءة بن العاص الماهرة لعاداتهم وطبائعهم. ثم يستطرد في قول قد يكون فاضحاً عن واقع عرب اليوم، وهم لا يملكون أمامه حيلة سوى تمجيد ماضيهم مقابل تسيّد الحضارة الغربية، فيقول: “في مجتمعاتنا نعقد المقارنة لنبيّن تفوقنا، ونقارن أسوأ ما عندهم بأحسن ما عندنا، أو نجعل واقعهم الحالي في كفة وتاريخنا المجيد في الكفة الأخرى. قد تكون المقارنة نتيجة زيارة عابرة لسياحة أو تجارة لم يكتشف الإنسان فيها الكثير، وقد نحتمي بالشريعة وكأن كل ما لدينا هو شرعي وكل ما لدى الآخر هو منكر”. وهنا قد يتبادر سؤال عن أصل هذا النوع من ردود الأفعال! هل هي مروءة العربي أم أنها عقدة نقص؟ يجيب الكاتب من وجهة نظره وهو يحلل شخصية الإنسان العربي الحالي، فيقول منتقداً: “يميل العقل العربي إلى حكاية أكاذيب وتوهمات وإخفاء الحقيقة حفاظاً على (الوجه)، لذا لا يقرّ بالهزيمة ولا يحسن الاعتذار! يستخدم (الفهلوة) للتكيف لفظياً مع الخطأ وتسليك الأمور”.
ومن هنا، يجعل الكاتب للمرأة العربية نصيباً سخيّاً في كتابه، وهو يصرّح ابتداءً أن للمرأة عقلاً قد يفوق المذكّر من العقول، كما أن للرجل عاطفة لا يجب أن تُعيبه بتاتاً. يتمنى الكاتب أمنية فيقول: “ليت السائلين يرفعون الهم إلى ما فوق الحاجب ويسألون عن تهذيب العقول وعاداتها الابداعية، ليؤكدوا أن للمرأة عقلاً وقد تفوق به إحداهن العديد من الرجال. وليتهم ينزلون من شعر اللحية إلى ما تحته فيسألون عن رقة القلوب وصفائها وإيمانها وأخلاقها، ليؤكدوا أن للرجل قلباً وعاطفة”. يشهد الكاتب كـ (شاهد من أهله) على شيطنة بعض بني جنسه في قتل إناثهم، بشبهة علاقة حب أو رفض ارتداء الحجاب، تصل في أقرب تقدير إلى عشرين ألف ضحية سنوياً تُدرج تحت جرائم الشرف. يقول الكاتب في نص واقعي قاسٍ: “الوسائل صادمة تتراوح بين قطع الرؤوس والحرق والطعن بالسكاكين والخناجر والصعق بالكهرباء ودفن البنت وهي حية، ورمي الأحماض على جسدها ووجهها”. ثم وكأنه يصبّ فوق ذلك الوجه الملتهب ملحاً، فيقول: “القوانين في عدد من الدول العربية تخفضّ عقوبة الجاني، وكأنها تعمل لصالح العائلة ضد الضحية”. ومع هذا الاستبداد، يُصبح الطلاق نعمة تصرّ عليها المرأة العربية، خلافاً لفطرتها في الاستقرار لا سيما العائلي. يضرب الكاتب في هذا مثلاً من قعر بيوتنا المسلمة فيقول: “الطلاق صار أول الحلول وليس آخرها. وفي موريتانيا يصبح للمطلقة مزية، والمرأة كثيراً ما تهجر بيت الزوجية وتطلب الطلاق”. لا يتورع الكاتب عن مقارعة أولي الحجج الواهية في تبخيس مكانة المرأة بحجج تعزز مكانتها دينياً وأخلاقياً وإنسانياً، فيوجع ويؤدب وهو يحدّث أحدهم: “قال لي: كلما تخيلت صور بائعات الهوى نفرت من الإناث. أجبته: كلما تذكرت أن بناتي الأربع ينتمين إلى الجنس نفسه الذي تنتمي إليه مريم ابنة عمران وآسيا امرأة فرعون وخديجة وفاطمة وعائشة شعرت بالفخر، وأحسست بجميل النعمة، وقرأت سرّ التكريم، وشاهدت طرفاً من لطيف الحكمة”. ثم يختم متعجباً ازدواجيته “يحترم الأم ويهين الزوجة”. ويذكرّه بالحقيقية التي تبدو له صادمة “أمك زوجة رجل آخر، وزوجتك أم رجل آخر”. وفي زاوية أخرى من زوايا مجتمعاتنا، يفرّق الكاتب أخلاقياً بين (الامبراطورية) و (الأريحية) و (المصلحية)، فيمارس المبتلى بها الأولى مع الزوجة، والثانية مع الأصدقاء، والثالثة مع زملاء العمل. لقد التقى الكاتب شخصياً بنموذج يسكب الشراب على ثوبه ويلطّخه بالحلوى ولا يكف عن الصراخ وهو في قعر داره، أما خارجه “فهو مرتبط بمجموعة تسهر في الاستراحة أحياناً وتناقش قضايا الإصلاح ومشكلات الواقع، وتسافر إلى الصحراء للتخييم، حيث يبدو هذا الصديق فعّالاً خدوماً، ينصب الخيام ويعد الطعام”. إنه في كلمة قصيرة: “محل الرضا في دائرته الوظيفية لخفة دمه وعدم تدخله فيما لا يعنيه وقيامه بواجبه”.
وفي لغة إيجابية، ينتقل الكاتب ليتحدث عن الحياة ككل وعن نظرة الإنسان إليها، فيستخدم (الملفوف) في تشبيه بليغ قائلاً: “وجدت تفاصيل الحياة مثل ثمرة الملفوف، منا من يقطع ورق الملفوف ويأكله ويستمتع به أو يستخدمه في صناعة وجبة، ومنا من يقطع الورق ويرميه لأنه يريد أن يحصل على اللب. الباحثون عن اللب لن يجدوا شيئاً، لقد زهدوا في ورق الملفوف بحثاً عمّا هو أثمن في نظرهم، ثم اكتشفوا بعد فوات الأوان ألا شيء أثمن من ذلك الورق، وأن هذه الثمرة ليس لها لب، وإن شئت فقل: كلها لب”. وفي هذه الحياة، تتسامى قيمة الإنسان من خلال عباداته لربه ومناجاته. كيف لا وقد خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته؟ يستطرد الكاتب في هذا المعنى فيقول: “عبودية الإنسان لربه وذله بين يديه تمنحه سمواً وارتفاعاً لهامته واعتزازاً بذاته، دون كبر أو تعاظم”. وعن الصلاة، حيث جُعلت قرة الأعين، لا حاجة للبحث هنا وهناك عمّا يستحضر الخشوع ويتمم الركوع والسجود، إنما ذلك عمل القلب، فيؤكد الكاتب قائلاً بأن “لصلاتك وقراءتك في كل مرة معنى جديداً. لا حاجة لتكرار السؤال عن كيفية التدبر أو الخشوع في الصلاة. لا يتطلب الأمر أكثر من فعل الحضور القلبي أو محاولة ذلك دون ملل وستنجح في النهاية (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)”. وعن الصيام والنور المتدفق مع استهلال هلال شهره العظيم، يتفاضل الصائمين بين اغتنام نفحاته وبين التهافت على ما تعرضه الشاشات من غثّ وسمين. يأسى الكاتب لهكذا عادة، فيقول: “يأتي رمضان بروحانياته العالية وعاداته الجميلة في كل بلد إسلامي، ومعه عادة راسخة لا تتوافق مع سموه وتألقه! أن تزدحم الشاشات والأوقات بأعمال درامية محلية وعربية، منها التاريخي ومنها الاجتماعي. بعضها يجترأ على تجاوز المحرّم الاجتماعي ما لا يجترئ على الاقتراب من المحرّم السياسي، ويعاني فراغاً من البعد القيمي والحضاري”.
وقبل الختام، تأتي بعض كلمات الكاتب التي خطّها بيديه مدعاة للانتباه، يبدو فيها وكأنه يستشرف عرضاً ما قادماً من المستقبل، حيث قال في خواطره عن الاحتلال الإسرائيلي: “الاحتلال يرمي صديقي في السجن، فيجعل المسافة بينه وبين غرفة معيشته تقاس بالسنوات وبأعمار أبنائه وبناته الذين سيأتون له بأحفاد لن يراهم”. وفي خواطره عن يوسف الصديق في سجنه يقول قولاً قد يكاد يشبهه في محنته: “عزلة فيها كمال الاتصال”.
ختاماً، وفي لغة عاشق صوفي، يصدح الكاتب قائلاً: “الحب أساس كل خير، وأساس الحب حب الله، وهو شعور مقدس ومقدم على الخوف وعلى الرجاء. هو رأس الإيمان ولسان الميزان”.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 3 أغسطس 2022 – صفحة (10) جزء1:
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/08/5163.pdf
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 4 أغسطس 2022 – صفحة (10) جزء2:
https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/08/5164.pdf
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(21)
كتاب/ الحب أحسن دواء
المؤلف/ د. عادل صادق
دار النشر/ دار الصحوة للنشر والتوزيع
الطبعة/ 2 – 2015
…
الانسجام بين المكونات الإنسانية الثلاث: الروح-النفس-الجسد
ليس الحب مادة العشّاق أو الشعراء أو المتصوفة فقط، إنما مادة الأطباء كذلك! هكذا يؤكد مؤلف الكتاب، وهو من أهل الاختصاص، إذ لا يجد أي غرابة في تناول الطب قيمة الحب كمادة للدراسة أو كوصفة علاج، لما للحب من علاقة وثيقة بصحة الإنسان العامة التي لا تعني وحسب الخلو من الأمراض، بل السعادة والأمن النفسي .. وإن الحب هو المسبب الرئيسي لهما. يقول ابتداءً: “هذا كتاب طبي. إذاً ليس غريباً أن يكون موضوعه عن الحب، فالعلاقة وثيقة بين الصحة والحب. فالصحة ليست الخلو من المرض، ولكن الصحة هي السعادة والأمن النفسي، والمصدر الأساسي للسعادة هو الحب، والمصدر الأساسي للأمن النفسي هو الحب، وتلك غاية الإنسان من الحياة: السعادة والأمن النفسي”.
وفي سبيل الحب يأتي هذا الكتاب، كمرشد، ولمن أراد الانسجام والتوازن والتكامل في مكوناته الإنسانية الثلاث: (الروح، النفس، الجسد). والكتاب إن كان يتحدث بلغة العلم يبدو شاعرياً، فالمؤلف إذ يشخّص المرض العضوي والنفسي، يصف الحب كعلاج من رؤيته كطبيب إنسان، في أسلوب سهل ممتنع لا يخفى عليه. فهو يستهل حديثه عن صلة الحب بالصحة، لينتقل مباشرة إلى أهمية حب الروح وإلى وصف قلوب لا تعرف الحب، وعن علاقة بعض العلل الجسدية والنفسية بالحب أو بغياب الحب، كالمرض العقلي، والاكتئاب عند الأطفال والبالغين، وفقد شريك الحياة، وطغيان المشاعر السطحية، وعشق الذات النرجسي. كذلك، يشرح كيف للحب أن يعمل في بناء البيوت أو في خرابها، وما إذا كان الحب يأتي قبل أو مع أو بعد الزواج، وعن تفاوت المستوى العلمي أو المادي أو الاجتماعي بين الحبيبين، كيف يؤثر. رغم ذلك، لا يتورع المؤلف عن إدانة الحب، فهناك الحب الخانق، والحب الصامت، والحب العنيف، وهناك كذلك رهاب الحب .. وقد قيل: ومن الحب ما قتل!.
إنه إذاً د. عادل صادق (1943 : 2004). تعلّم وتخرج في كلية الطب عام 1966 نزولاً على رغبة والده، رغم ميله نحو الأدب والفن الموسيقى، ثم حصل على درجة الدكتوراة في الأمراض العصبية والنفسية عام 1973، وعمل أستاذاً للطب النفسي والأعصاب بكلية طب عين شمس. شغل مناصب أخرى منها رئيس تحرير مجلة الجديد في الطب النفسي، وأمين عام اتحاد الأطباء النفسيين العرب، وافتتح عام 2000 مستشفى يحمل اسمه لعلاج الإدمان والأمراض النفسية لا يزال يحظى بشهرة واسعة على امتداد الشرق الأوسط. عُرف بالنبوغ منذ صغره وبدماثة الأخلاق وإخلاصه للعمل وسعيه الحثيث نحو رفع وعي المجتمع بالمرض النفسي وسبل علاجه، وذلك من خلال مؤلفاته وأبحاثه التي تجاوزت الثلاثين إصدار، والتي أهلّته عام 1990 للحصول على جائزة الدولة في تبسيط العلوم.
تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثانية للكتاب والصادرة عام 2015 عن دار الصحوة للنشر والتوزيع، وهي تقتطف من براعم الحب كوصفة طبية، وتقتبس ما يخدم النص منه (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، كما يلي:
يصبح الإنسان وقد امتلك الناصيتين (البصر والبصيرة) حينما يكتمل شعوره بذاته. عندها تتجلى له البانوراما الكونية على اتساعها، ويتعمق فهمه، وينعم بالصفاء والتواصل والانسجام. يدعو د. صادق للتمعن، فنحن نطالع أناساً ينعمون بالسعادة رغم قصورهم الصحي! ليس المرض هو المعوّق، بل التفسخ الإنساني الذي يشطر الجسد عن النفس وعن الروح. وقد نطالع أناساً ذوي طلعة بهية، ولكنهم قبيحي النفس والسريرة، ومنهم الطغاة والعتاة، ومنهم الانتهازيون والطماعون. هنا ينصح د. صادق بتحاشيهم، فهم يمتلكون قلوباً لا تعرف الحب .. كالحجارة أو أشد قسوة! وعلى هذا ربطت الأديان السماوية بين القلب والحب .. بين القلب والرحمة. يلفت الانتباه من ناحية أخرى إلى طبيعة الحب العلائقية، فكما أن “الحب والنرجسية لا يجتمعان” فإن الحب والعطاء متلازمان. ففي حالة الحب “يفيض حبك على الآخرين، فتصبح أكثر تسامحاً وتساهلاً وقرباً، وتلك من علامات النضج المؤكدة والثقة بالنفس والتوازن النفسي وسلامة الخلق ورسوخ المبادئ .. وتلك درجة عالية من درجات السمو إن لم تكن أعلاها”. وإن الحب لقطعة من العذاب إن لم يُتوّج بالزواج، وهو تعس إن فقد الحب! يعزف د. صادق في لحن شاعري أنشودة الحب الذي يتوّج برباط مقدّس: “ولا زواج بدون حب ولا حب بدون زواج، رغم أن هناك زواجاً بلا حب وهناك حب بلا زواج، ولكن زواج بلا حب هو تعاسة، وحب بلا زواج هو عذاب، فالأصل في الحب أن يكونا معاً .. ولن يكونا معاً إلا إذا تزوجا وكان لهما بيت له أبواب وشبابيك من الممكن إحكام غلقها”.
يصبح كالريشة في مهب الريح، خائناً لذاته، منكراً لإنسانيته .. من لا يحب وطنه! ومن لا يحب أبنائه فهو أصلاً لا يعرف الحب، أو كما يقول د. صادق: “من لا يحب ابنه أو ابنته فهو لا يحب نفسه”. وعند هذا الحد، وفي قول آخر صادم وقاسٍ، يشير بإصبع الاتهام إلى عقوق الآباء لفلذات أبنائهم كذنب لا يُغفر، والذي يوصم حياتهم منذ الصغر بعاهة مستديمة لا تبرأ. يقول: “إن غياب الحب والنبذ والإهمال والغلظة في المعاملة يؤثر على نمو الطفل، حيث يعطل هورمونات النمو فيصير الطفل قزماً. وهناك تشخيص في الطب تحت مسمى (القزم العاطفي)، وهذا يوضح بجلاء العلاقة بين الحب وفسيولوجيا الجسم”. وهنا تبرز أهمية الحب كعاطفة تعزز من بناء القالب المادي للإنسان، إذ “إن نمو الجسم وقوته ونضارته وحيويته لا تعتمد فقط على الغذاء المادي وإنما تعتمد أيضاً على الغذاء العاطفي، أي على الحب الذي يحظى به الإنسان من الآخرين ويحقق له الاشباع والتوازن البيولوجي مثلما يحقق له التوازن النفسي”. وعند التطرق إلى الأديان في موضوع الحب والارتباط وما قبله وما بعده، يعرض د. صادق صورة أشد قسوة لواقع بعض المجتمعات، ممن تكاد أن تحرّم الحب، فإن أباحته فتعقد عليه برباط لا ينفك حتى الموت. يقول: “بعض الأديان تسمح بالطلاق، والبعض الآخر لا يسمح .. بعض المجتمعات تحرّم الحب ذاته قبل الزواج، بل لا تسمح بمشاهدة الرجل للمرأة إلا في ليلة الزفاف .. بعض المجتمعات تتسامح في مسألة عذرية الفتاة، وفي بعض المجتمعات الأخرى تكون عقوبة الفتاة غير العذراء القتل أو الطلاق منذ الليلة الأولى”. يستمر ليحدد صنفاً من الرجال يميل بطبيعته نحو المرأة القوية ذات الشخصية الاستقلالية، فيسعى للانطواء تحت لوائها، حيث هي تخطط وتأمر وهو يسمع ويطيع، وكم يرضيه أن يكون “زوج فلانة المعروفة” ينعم في كنفها بالراحة والاستقرار، على الرغم من أن العكس يبدو أكثر طبيعياً، فالرجل “هو الذي في المقدمة، وأنه يرفض أن يكون تابعاً هامشياً”. يفسّر المحللون النفسيون من أصحاب المدرسة الفرويدية “أن هذا الرجل الذي يسعى للزواج من امرأة قوية مسيطرة ويسمح لها بل هو يدفعها للتحكم فيه، إنما هو يعاني من عقدة الإخصاء، وهي، أن المرأة، قد تم عقابها بإزالة الأعضاء التناسلية التي كانت عندها مثل الرجل. ولهذا فهو يبحث لا شعورياً عن امرأة تتميز بصفات الرجال وهي السادية والقوة والسيطرة، وبذلك يتصور لا شعورياً أيضاً أنه لم يتم إخصاؤها وأنها تتمتع بأعضاء تناسلية ذكرية مثل الرجال”. أما د. صادق، فيعزو هذه التبعية إلى (عقدة أوديب)، إذ أن ارتباط الابن بأمه قد يستمر بعد الزواج، حين يرى في زوجته امتداداً لأمه. وهنالك من الأشخاص من يُقدّم خطوة نحو الحب ليتراجع بخطوات! إن هذا الشخص يستمر في تردده حتى يتخلف عن ركب الزواج، ويعتاد الوحدة، ثم يُصبح من الصعب مشاركة أحدهم الحياة. إنها ليست عدم القدرة على الزواج في حد ذاته، إنما هي كما يقول: “عدم القدرة على المشاركة .. عدم القدرة على أن يعيش حياة إنسان آخر، وأن يدع الآخر يعيش حياته .. عدم القدرة على أن يتيح للطرف الآخر مساحة أكبر من نفسه ومن داخله ومن الاقتراب من محيطه الخاص جداً”. وليس رفض الزواج كالخوف منه، فالرفض إنما إحجام عن الزواج لعدم الرغبة، أما الخوف فهو وضع يتطلب الخضوع لعلاج نفسي من أجل التعرّف على الأسباب الدفينة خلف الهروب من الحب أو -بتعبير أدق- الهروب من الزواج، حيث ينطوي على حياة دائمة مع شخص تحت سقف واحد في وثاق يصعب التحلل منه. فلا تبدو المشكلة هنا عاطفية ولا جنسية، بل مشكلة الارتباط في حد ذاته وما يتبعه من التزامات وحقوق وواجبات.
يسلّط د. صادق ضوء ساطع على جانب مظلم من الحياة يتسلّط فيه فئة من البشر لم يعرفوا الحب قط! يقول: “وإذا نظرنا حولنا سنجد أن هذا العالم يحكمه في بعض أركانه أناس تبلدوا وجدانياً وغير قادرين على الحب، أي إما فصاميون أو سيكوباتيون. وهؤلاء هم الذين يشعلون الحروب ويأمرون بالقتل الجماعي، ولا يتورعون عن ذبح النساء والأطفال والشيوخ ودفنهم في مقابر جماعية”. إن هؤلاء لا يحملون مبدأ ولا يدافعون عن حق ولا يذودون عن وطن، بل معتدون ذوي نوازع إجرامية! يستطرد ليطرح اقتراحاً سديداً، يطبق إحكامه على من تسوّل له نفسه أن يحكم، فيتساءل: “فهل ينادي الأطباء النفسيون من خلال الأمم المتحدة بضرورة إجراء فحص طبي نفسي لحكام العالم، حتى لا تتعرض البشرية للحروب والمجازر؟”. ومن أشكال اضطراب التفكير، الفصام. فمريض الفصام هو من تسيطر عليه أفكاراً خاطئة يعتنقها كعقيدة راسخة، بحيث لا تشفع جميع الأدلة الدامغة في إدانتها عنده، يعرّفها د. صادق بقوله: “تسمى هذه الأفكار الضالة بالضلالات أو الهزاءات، مثل أن يعتقد أنه مراقب مضطهد أو أن هناك أيادي خفية تعبث بأفكاره أو تعبث بجسده”. ثم يضرب مثلاً آخر فيقول: “ودراسات أخرى أجريت على بنات الليل أو الهوى أو من يسميّن بالمومسات. هذه الدراسات أثبتت أيضاً أنهن يعانين من التبلد الوجداني! لا توجد امرأة تبيع جسدها مقابل المال إلا إذا كانت معطلة العواطف .. حالة أقرب إلى مرض الفصام”. غير أن الحب الصادق قادر على تطهير النفس وتهذيب السلوك وزرع قيم الأمانة والصدق والإخلاص .. فهو هو بالفعل صانع المعجزات. ثم يعرض رأياً أكثر عمقاً في مسألة العلاقة الحميمية، فيقول: “وأي جنس له مقابل مادي ليس جنساً، وأي جنس يحقق استمتاعاً لطرف واحد ليس جنساً. الجنس ليس فيه بيع وشراء، وليس فيه أنانية واستئثار، بل فيه إثارة، أي أن كل طرف يجتهد في أن يسعد الآخر، ويسعد بسعادة الآخر .. يسعد بأنه استطاع أن يسعد الآخر. في الجنس السوي ينشغل كل طرف بالآخر ولا ينشغل بنفسه، أي يركز على الطرف الآخر، ويسأل نفسه في النهاية: هل أسعدته؟ هل أرضيته؟”. لذا، فهو يضيف إلى متعة الحب التي تستشعرها الحواس كوسيلة نقل طبيعية للمتع الحسية المادية، التبادل الوجداني الذي يفوق المتع الحسية والذي لا يعوقه فقدان أي حاسة! فالعين تكفي لنيل الارتواء الروحي والرضا القلبي، والأذن تستثير كل مسامات السعادة الكامنة، حتى “تصدق العبارة التي تقول: الأذن ترى والعين تسمع” .. ففي هذا التبادل الوجداني تختلط كل الحواس، السمع والبصر واللمس والتنفس، وتعبر كل الحواجز، حتى يصبح المحبوب متغلغلاً في وجدان حبيبه.
وقد يكون الحب قدر، وقد يكون هبة، وقد يكون نعمة، وقد يكون سر مبهم. يكشف د. صادق عن بعض مكنونان النفس ويقول: “أنت تحب إنساناً آخر بروحك لأسباب ما لا تعرفها، شيء ما كالقوى المغناطيسية، فتصبح أسيراً وتسير طائعاً ومتقبلاً وراضياً”. إن الحب معرفة قلبية، يشعر بها التقاة والمتصوفون والعاشقون والعابدون .. إنها في هذه المنطقة، بين العنق والصدر والبطن، ومن هناك أيضاً يشعر الإنسان بالحزن. ففي تعبير شجي عن انكسار النفس، وما تعبّر به الأعين، يقول د. صادق: “الدموع هي دماء عبرت القلب فتطهرت وتشبعت بالحزن فطفرت من العيون في لحظة ألم حاد”. وإن هذا الشجن قد لا يحدّه حد ليخفت إن كان سببه الوجد، حين تصعد روح أحدهما إلى بارئها فيوّد الآخر اللحاق بها ولا يستطيع، فيحيا حياة الموات. “ولذا يموت الإنسان معنوياً بعد رحيل شريك حياته، وتفقد الحياة كل معنى لها. إن الموت المعنوي يسبق الموت الجسدي، والموت المعنوي معناه عدم التفاعل مع الحياة .. توقف المشاعر والتفكير .. الزهد المطلق”. يفقد كل شيء بعد ذلك لونه وطعمه، ويتوقف الزمن، ويفنى الكون في العدم، ويكون الجسد آخر من يفنى بعد أن يفقد كل مقومات الوجود والاستمرار. إن الحب هو سر إلهي، سر الوجود، وأصل الحياة، ولولاه لما اقترب رجل وامرأة إلا كما يقترب الحيوانات .. إنه الحب الروحي، هنا “الميل فطري وطبيعي، ويبدأ بالروح ثم النفس”. يكمل د. صادق تعريفه لهذا السر الذي التبس بالحب: “وهذا النوع من الحب، أي حب الرجل والمرأة، هو حلقة من ضمن حلقات دائرة التواصل الإنساني، تبدأ بالحب الإلهي وتكتمل بأشكال الحب الأخرى التي تشكل المعنى الحقيقي للإنسان وارتباطاته الأزلية والحيوية، وهي حب الوطن وحب الوالدين وحب الأبناء وحب امرأة ورجل”. لا يكتفِ بهذا السمو من القول، بل يغدق على الحب معانٍ جليلة مستمدة من الخالق نحو المخلوق، فيقول في نبرة صوفية: “أما الحب فهو أعلى لذة معنوية، أسمى شعور إنساني، أبهى صورة جمالية للإنسان، والحب هو الفيض الإلهي، المنحة الربانية، النعمة الكبرى، النور السماوي” إنه منحة وإنه كرمى، و “إنه التفضيل الحقيقي للبشر عن سائر المخلوقات”. وهنا مكمن السر! “إذن، الروح هي المدد الإلهي الذي يحب فيحرّك النفس البشرية صوب إنسان بعينه .. إنسان بذاته”. ومع هذا الفيض من نعمة الحب المعطاء، يقرّ د. صادق بأن أسمى أنواع الحب هو حب الله .. الله محبة، نشعر به في قلوبنا قبل عقولنا، لهذا نحن نستقبل الإيمان بالوجدان السليم، فلا ثقة بمن لا يؤمن بالله، فالكافر دائماً غليظ القلب، ولا يؤتمن. هكذا يقول وهو يفرّق بين حب خالص وبين آخر مغرض: “الله محبة .. الله نشعر به في قلوبنا مثلما نشعر به في عقولنا، والقلب يسبق العقل في اللقاء مع الله. فطرة الإنسان السوية ووجدانه السليم يتعرف على وجود الله قبل أن يجتهد العقل .. إننا نستقبل الإيمان بقلوبنا، ولهذا فالكافر غليظ القلب لا أمان له .. لا تثق بإنسان لا يؤمن بوجود الله”.
يختم د. عادل صادق كتابه الدافئ بكلمات من ذهب عن الحب كترياق للحياة، فيوصي بلسان الخبير قائلاً: “إذا أردت أن تعيد إنساناً للحياة فضع في طريقه إنساناً يحبه .. إنساناً يؤمن به .. العقاقير وحدها لا تكفي .. العقاقير حين تكون مغموسة في الحب تصبح أكثر فاعلية” .. وبالقول الذي جاء مأثوراً عنه: “تقاربوا تحابوا .. وتحابوا تصحوا” .. رحمه الله.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 11 أغسطس 2022 – صفحة (10) جزء1:
الرابط
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 14 أغسطس 2022 – صفحة (10) جزء2:
الرابط
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(22)
كتاب/ شارع الرشيد
المؤلف/ باسم عبدالحميد حمودي
دار النشر/ الدار العربية للموسوعات
الطبعة/ 1 – 2004
…
شارع الرشيد وأجواء عبقة بذكريات الماضي
كتاب توثيقي حميم يحتضن بدفء ذكريات من التراث الشعبي العراقي، والذي يُعد (شارع الرشيد) خير شاهد على ما تكتنزه تلك الذكريات من حضارة ومعمار وحِرف وأحياء وأزقة وأحداث وأسماء وأعلام، ترسم الثقافة العراقية في أبسط صورها وأعرقها على الإطلاق، ماضياً وحاضراً. يتفرّد هذا الشارع كأحد أبرز المعالم الحيوية في العاصمة بغداد، بعراقة أخرى، حيث يرتبط به الفرد العراقي وجدانياً وقد شهد في ساحاته أحداثاً سياسية واقتصادية واجتماعية، مع ما اعترك فيه من مآسي، وما ازدان به من مسرّات، شكّل في مجمله تاريخ يعدّه مدعاة للفخر. يتحدث الكتاب عن نشأة الشارع وأسماءه وأسواقه ومشاريعه ومراحل تطوره والأحداث التي جرت عليه، ويتطرق إلى سرد عدد من روّاد هذا الشارع من أدباء وسياسيين وأطباء ومهندسين وغيرهم، بالإضافة إلى استعراض جانب من التراث الأدبي الذي احتفى بالشارع نثراً وشعراً، أو كان شاهد عيان على الكثير من الأحداث التي وقعت بين جنباته آنذاك.
يؤلف الكتاب الأديب والمعلم الراحل باسم عبد الحميد حمودي (1907 : 2018)، والذي تذكر شبكة المعلومات بأنه كان في حد ذاته كنزاً من الإرث التربوي والادبي والفكري الذي يزخر بدوره بثروة من الذكريات والصور ما يجعل منها تاريخ آخر.
هنا، يجتمع حب عدد من الأدباء العراقيين في تسطير مقالات هذا الكتاب، وهي مقالات حملت عبقاً من الماضي التليد ابتداءً من الخلافة العباسية حتى مجريات التاريخ في الماضي القريب، مع معرض للصور في ختامه. فعلى سبيل المثال، يرسم المؤلف (صورة ناطقة للعراق المعاصر) كأولى مقالات الكتاب، يليه أسامة ناصر النقشبندي وهو يخصص مقالته لـ (اطلالة تاريخية على شارع الرشيد)، بينما يسلّط عزيز الحجية الضوء على (بعض المعالم الترفيهية في شارع الرشيد قديماً) في مقالته، وفخري حميد القصّاب على (الأسواق التراثية المطلّة على شارع الرشيد). يعود المؤلف ليتناول الشارع بالنقد الأدبي من خلال مقالة (شارع الرشيد في الرواية العراقية)، بينما يتناول عبدالكريم عناد الحارس الليلي فيه، ووحيد الشاهري سينماته، وجودت عبدالمجيد العمري تعبيده وترصيفه.
قد يجد من عاش على أرض العراق وفي شارع الرشيد تحديداً هذا الكتاب، بمثابة فرصة لاسترجاع ذكرى ماضٍ أصيل عاصر أحداثه أو سمع حكاياته من أجداده، بينما من لم يحظَ بطيب العيش في الرشيد، يجده بمثابة اضافة ثرية لحصيلة معلوماته. لذا، تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 2014 عن الدار العربية للموسوعات، وهي تنثر شذرات من الذكرى التي أحياها، لمن عاش هناك ولمن لم يعش، وتقتبس منه بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، كما يلي:
لا يسير (شارع الرشيد) على طريق مستقيم، بل إنه منحرفاً، ولانحرافه سر يكشفه صادق الأزدي إذ يقول: “ومع أن ذلك المهندس يعرف أن الخط المستقيم هو أقصر الخطوط بين نقطتين، إلا انه جعل شارع الرشيد غير مستقيم، ليس لأن العمارات العالية كانت تقوم على جزء كان الشارع سيمر بها وإنما لسبب آخر .. أن العوائل البغدادية المتنفذة تدخلت لحرف الشارع حتى تطل دورها عليه، أو لأنها حريصة على دورها الحسنة البناء والمتوارثة عن الآباء وربما الأجداد، وهكذا لم يأت شارع الرشيد مستقيماً كما ينبغي”. أما (سوق الشورجة) العتيق الذي يعود تأسيسه إلى أواخر العصر العباسي ويطلّ على شارع الرشيد، فله عالم “غريب” على حد تعبير المؤلف الذي تابع فقال: “تشدك نكهة توابله إلى سحر الشرق، وتجذبك ألوان شموعه الزاهية إلى عراقة الماضي المتجذر في نفوس العراقيين، وتعيد إليك رائحة صوابينه رائحة تراث بغداد الذي يربض هذا السوق في عمق شرايينها”. يطل على شارع الرشيد كذلك (جامع الحيدرخانة) الذي شُيّد في العصر العباسي أيضاً، وخضع للتجديد في العهد العثماني، والذي “شهد صفحات مشرقة من أيام بغداد المعاصرة حيث كان مركزاً لثورة العشرين، يلتقي فيه الخطباء والشعراء ليثيروا حماس جماهير بغداد من أجل الثورة”. ومع المتابعة سيراً إلى الجانب الأيسر من الشارع، وعبور ساحة الميدان ومن بعدها باب الأغا الذي كان مقرّاً رسمياً لإقامة آغا بغداد أو الرئيس القائم بأعمال المحلّة، وتخطيّ جامع مرجان الأثري الفخم، يتم الوصول إلى شارع الكنائس أو (عكد النصارى)، والذي فيه “تكـثر الكنائس، ومنـها كنيسـة اللاتين، حيث مقر الأديب الأب انسـتـاس مـاري الكرملي، وهـذه المناطق قديمة، ويذكر التأريخ ان للنصارى حالياً وفـي الزمن العباسي احتراما خاصاً، وكان للرهبان والقساوسة باب خـاص للدخول على الخليفة العباسي. واعتاد أهل بغداد تقديم التهاني في أعياد الميلاد ورأس السنة، ويقرعون الطبول، والعراقيون يحبون المهرجانات”. وبالإضافة إلى طراز (الركوكو) الذي كان يشكّل الطابع العام لعمارة شارع الرشيد والذي يأتي عادة مطعّم بالزخارف الإسلامية، هنالك أيضاً (الشناشيل) التي تقف شاخصة تحكي عراقة الفن المعماري السائد آنذاك، وتحاكي الهوية العراقية التي تميّزت بها مدن العراق وأحيائها وأزقتها وبيوتها القديمة، فـ “الشناشيل عبارة عن شبابيك الطابق الأول المطلّة على الزقاق وتكون معظم هذه الشناشيل بارزة على الخارج ومحمولة على روافع خشبية ومزوّقة بمسامير كبيرة نصف كروية تُسمى (جرصونات)”، وقد كانت هذه الشناشيل المنفذ الوحيد للنساء القابعات في الدار للنظر خارجه. واضافة إلى ما للكلمة من جرس موسيقي أنثوي، فقد اتخذها الفنانون مادة ثرية لإبداعاتهم، كما في قصيدة (شناشيل ابنة الجلبي) للشاعر بدر شاكر السيّاب، والمنحوتات الفنية واللوحات التشكيلية والصور الفوتوغرافية، فضلاً عن الأعمال الأدبية والروائية التي زخرت بها كتراث أصيل باقٍ. أما ملحق الصور الذي عرض ماضي الشارع في لونين لا ثالث لهما، فقد جاء أكثر شجناً، ما بين الحياة التي كانت تنهض في مرافقها، والمارّة الذين التقطتهم العدسات وما ظنّوا حينها أنهم سيصبحون جزءاً من تراث حضاري يُشاد به. فمن الثلاثينات، هناك صورة تبدو فيها منطقة الحيدرخانة تحت وطأة القيظ، بينما تطوف عربات اللاندون التي تجرّها الخيول على طول الشارع، وكذلك صورة لمبنى سينما رويال الواقع في محلة باب الأغا يعلوه اسم السينما باللغة الإنجليزية المجسّم كما يبدو بالنيون آنذاك. كذلك، تبدو واجهة جامع مرجان الواقع على مقربة سوق العطّارين من الفخامة، ما يحيله إلى مسجد أثري بحق لا سيما وهو مشيّد على نمط العمارة الإسلامية العثمانية، وقد عُرف عن البغداديين حبهم للجوامع التي كانت تمثّل لهم -بالإضافة إلى مقامها كدور للعبادة- أماكن للقاءاتهم ومضارب لاجتماعاتهم، بينما تظهر كنيسة مريم العذراء الواقعة في ساحة الميدان قبالة شارع الرشيد، شامخة رغم تصدّع أسوارها التي شيّدت في منتصف القرن السابع عشر للميلاد. أما جسر المأمون الخشبي والذي أصبح يُسمى بـ (جسر الشهداء) نسبة إلى شهداء ثورة تموز المطالبين بقيام الجمهورية، فيظهر ضيقاً على جانبيه فيما يعدّ كأول جسر ثابت بُني في بغداد على نهر دجلة.
وعلى الرغم من أن عرض الشارع كان يبلغ ستة عشر متراً في أول الأمر، إلا أن إهماله الذي استمر حتى العشرينات أحاله إلى شارع من الخرائب الذي لم تكتمل أبنيته. وفي هكذا وضع بائس، تفيض قريحة شاعرها (معروف الرصافي 1875 : 1945) رثاءً أو هجاءً أو ما بينهما، في قصيدة (الشارع الكبير) التي يقول في بعض أبياتها:
نكّب الشارع الكبير ببغداد ولا تمش فيه إلا اضطرارا
شارع إن ركبت متنيه يوماً تلق فيه السهول والأوعارا
تتراص سنابك الخيل فيه إن تقحّمن وعثه والغبارا
فهي تحثو التراب فيه على الأوجه حثواً وتقذف الأحجارا
لو ركبت البراق فيه أو البرق نهاراً لما أمنت العثارا
تحسب العابرين فيه سكارى من هواء تنسّموه غبارا
مستجيشاً من الجراثيم جيشاً مسيّطراً عرمرماً جرّارا
وإذا ما مشيت في جانبيه فتجنّب رصيفه المنهارا
ودكاكين كالأفاحيص تمتدّ يميناً بطوله ويسارا
يبدو أن هنالك شيء من السبق الحضاري! فلقد كان (مقهى عزاوي) السبّاق قبل كافيهات شانزليزيه الباريسية، وهو أحد مقاهي بغداد الشعبية الواقعة في سوق محلة الميدان. كان بداية يقدّم عروض خيال الظل أو خيال الستار مع نشاطه الأساسي كمقهى، ثم تطوّر نشاطه إلى استحضار الراقصات على غرار ما استحدثته المقاهي الأخرى في السوق، “وقد ورد ذكر (كهوة عزاوي) هذه في الأغنية العراقية القديمة (فراكهم بجاني) التي يقول أحد مقاطعها: يا كهوتك عزاوي .. بيها المدلل زعلان”. وعني، أجدها من أكثر ما جاد به الفولكلور العراقي العذب، طرباً وشجناً، لا سيما عندما يصاحبها صوت ذو بحة وكأنه صدى يتردد من ماضٍ، ودّ كتّاب هذه المقالات لو يعود!.
ختاماً أقول: إن كانت العرب تظن بأن لكل امرئ من اسمه نصيب، فإن العراق حاز من اسمه كامل النصيب .. وحُقّ له.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 17 أغسطس 2022 – صفحة (10)
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(23)
كتاب/ أجمع الذكريات كي أموت
المؤلف/ شعراء برتغاليون معاصرون
المترجم/ اسكندر حبش
دار النشر/ منشورات الجمل
الطبعة/ 1 – 2015
…
حالة السوداد أو السويداء في الشعر البرتغالي
البرتغال .. أرض الشعراء، كانت وما زالت! لم يكن الشاعر والأديب والفيلسوف فرناندو بيسوا والمصنّف عالمياً ضمن أبرز الشخصيات الأدبية في القرن العشرين، أعظم شعراء البرتغال كما قد يتراءى للناظر من الخارج، وإن كان يملك الاسم الأكثر حضوراً فوق خارطة الشعر البرتغالي، إذ أن البرتغال “بلد شعري بامتياز”، والذي تحتل الدواوين الشعرية لأي دار نشر متوسطة فيه ما يعادل النصف من إصداراتها السنوية، وهي تُطبع عادة في حوالي ثلاثة آلاف نسخة تنفذ في غضون أسابيع معدودة من طرحها في المكتبات. يقدّم هذا الكتاب لمحة عن جيل من الشعراء البرتغاليين الذين ساهموا في وسم الحداثة الشعرية البرتغالية، جنباً إلى جنب مع شاعرها الأول بيسوا، حيث يعتقد أحد نقّادهم بأن البرتغال باتت تخوض عصراً ذهبياً وتنوعاً شعرياً مذهلاً يزخر بطليعة من الشعراء الذين فرضوا أسمائهم على الساحة الأدبية العريضة، لا سيما في ظل سيادة حرية التعبير التي لم تستطع أي قوى سياسية منعها أو إعاقتها. رغم ذلك، ثمة تساؤل عميق يطرحه النقّاد البرتغاليون حول مدى تمكّن الشعر البرتغالي من “التخلص من عقدر فرناندو بيسوا”، وهو الشاعر الكبير الذي صاغ قارة شعرية ورسم خارطته الشخصية فوقها بتميّز، جعلت الشعراء الذين جاءوا من بعده يسيرون وفق دروبها، فضلاً عن حضوره في أسماء متعددة اخترعها وكتب من خلالها، وتحت أجواء شعرية استمر تأثيرها طويلاً. إلا أن إصرار الشعراء المعاصرين في مجاوزة حدود خارطة بيسوا، أمثال جورجي دوسينا وكارلوس دو أوليفييرا وصوفيا دوميللو، ولسان حال أحدهم يقول: (لن أعيش في جلباب بيسوا)، قد ساهم في استحداث تيارات كتابية مختلفة، تتجاوز القديم دون أن تلغيه .. “وكل ذلك في مناخ برتغالي يعشق الشعر ويقرأه”.
يشير الكتاب إلى لون فلسفي خاص يصطبغ به الشعر البرتغالي، تحوم أطيافه حول (السوداد Saudade)، أو تلك الحالة الوجدانية التي تحمل من الحنين أعمقه وتستمر في لوعة حزن ممتد، ليس على ما مضى وحسب، بل على ما سيأتي أيضاً، قد تقود إلى الفرح في نهاية المطاف جرّاء التعايش والتسليم. تتقاطع الكلمة كذلك مع معنى (النوستالجيا Nostalgia) التي تصف حالة الاكتئاب المصاحبة لمريض الغربة وحنينه للمنازل، وهي لفظة أقرب لأن تكون مرادفة لكلمة (السويداء) في اللغة العربية، كتعبير (سويداء القلب) الذي يعني بدواخل القلب وعمقه ومهجته. يعرض الكتاب مجموعة شعرية لاثنان وثلاثون شاعراً برتغالياً معاصراً، عني المترجم والصحفي والشاعر اللبناني (إسكندر حبش) باختيارهم من أجل تقديم لوحة بانورامية متكاملة -قدر المستطاع- عن الشعر البرتغالي للقارئ العربي، لا سيما في ظل افتقار المكتبة العربية للترجمات الوافية في الأدب البرتغالي ككل. وبينما تطوف كلمات تلك القصائد حول شموع (السوداد) لتلهب الحنين وتحرق الأمل، تبدو الأشعار في مجملها وكأنها تستعصي على الإدراك المباشر لمعانيها الأكثر من خفيّة، إما لأنها تتطلب ملكة شعرية خاصة لفهم طبيعتها التي يكتنفها الغموض، والطابع التخيلي المكثّف، أو لعرضها الجانب الصوفي المميز للشعر البرتغالي، أو في الكثير من الرثاء والتهكم والسوداوية الباعثة على التساؤل. والمترجم إذ يفرد الصفحات الأولى للكتاب في الحديث حول (ما بعد بيسوا)، يستهل كمقدمة بأبيات له، تعكس عتمة الروح وتتلمّس مبعث النور، حيث قال: “متى سينتهي هذا الليل الداخلي .. متى سينتهي هذا الكون .. وأنا وروحي .. متى سأرى نهاري .. متى سأنتبه أنني استيقظت”. لذا، تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 2015 عن منشورات الجمل، وهي تنثر من عبق الحنين وتقتبس ما يقابله من أبيات شعرية (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، كما يلي:
ينظم (فيتورينو نيميزبو) قصيدته (من وقت إلى آخر)، التي حمل أحد مقاطعها عنوان الكتاب، بفلسفة وجودية تبدو تشاؤمية، عن سر الموت الذي لم يتمكن أحد من معرفة ماهيته، ولا الحياة التي رغم تكلفتها الباهظة لا يحيا هو فيها ولا يموت ولا يغدو فيها ولا يعود .. كقشة منسية يحملها عصفور جوال بين ريشه. فيقول:
“من وقت إلى آخر .. أجمع الذكريات كي أموت
لا أحب الرحيل بدون شيء
ذات يوم ستأتي الحياة إلينا .. من ثم ترحل:
الحياة .. التي ليست هذه الحرارة الهاربة فيّ
ولكن يداً ماهرة: تحملنا
والموت يعني أن نُحمل”
لا يختلف (ميغيل تورغا) عن سابقه في الظلامية التي عاش بها وحانت معها نهايته، فهو يأسى للهيئة التي يموت عليها عندما وصفها بـ “خراب إنساني”، حيث جسده العاجز وروحه الكسيحة، والموت يدّب في جميع حواسه وأعضائه .. وتلك الأحلام التي حلم بها، يندبها الآن وقد تلاشت بقانون القدر الذي لم يرغب لها أن تكتمل رغم نضاله. يقول في قصيدته (جنّاز لراحة نفسي) وهو يغبط النهر المتدفق بنشوة نحو البحر ليخلّد سعيه الماضي -الذي لم يذهب سدى كسعيه- في الأبدية:
“سعيد هو النهر الذاهب إلى البحر
ليرمي نفسه
وبعد ذاك، في المحيط الواسع
ليؤبد بهاء تدفقه كنهر”
أما وهو يتحدث إلى حبيبته في صيغة المحبوب تحت عنوان (البرتغال)، وهي إذ أعطته وجهاً أعاده إليها في شكل “أكثر واقعية”، يصارحها بأنها ستكون دائماً كما هو عليه .. ملامح من حرية “رُسمت على البحر” .. أو كما قال:
“أتأرجح وأبقى ثابتاً
أحفر .. أجدف .. أتخيل
وأكتشف قدري في الضباب
الذي أعرفه مسبقاً:
أنا مغامر الوهم العنيد
لا أستمع على منطق الزمن والقدر
باحثاً دون أن أجد مطلقاً ما أبحث عنه
منفي
على مصطبة المستقبل
أعلى مما كنت عليه في الماضي”
تبدو أحلام (روي سيناتي) بعيدة المنال وهو يصبو إلى محبوبته، التي إن لم يكن إلى وصلها من سبيل، فثمة ذاك النفس العليل الذي يداعبّ محيا وجهها كافياً لأن يُحيه، كالندى الذي يتدفق فوق الزهر فجراً، أو كما تمنى في قصيدته (أن أمسك بين يدي) قائلاً:
“أن أمسك بين يدي النفس الناعم الذي يلامس فمك
أن أحمله إلى شفتي من أجل قبلة شبيهة بتلك التي يعطيها بخجل
ذلك الذي ينحني ليستمع إلى تدفق الندى فوق زهور الفجر”
غير أن (جوزيه باتيستا) وهو يبدو على عكس سابقه -الذي كان يتفقّد محبوبته في ندى الفجر وفي أنفاس نواعم- يحظى بمعية محبوبته تحت سقف واحد، إلا أن الصمت قد أطبق على صوتها، إذ مرّ عصفور قادم من تحت المطر ذات ليلة حزينة وسكن قلبها، حتى أصبح صوتها أنيناً أشبه بمعدن ناعم، أو شفرة يحملها قلب ذاك العصفور. هل ماتت محبوبته وبقي طيفها يحدثه ولا يجيب، أم أنها تحيا معه جسداً ولا تحدّثه لخصام ما طال أمده؟ يقول في (صمت):
“ذات ليلة
وكأن العالم أصبح حزيناً جداً
مر عصفور المطر ودخل إلى قلبك
وهنا .. مثل أنين
نسمع هذا الصوت الأليم .. الذي كان صوتك
الشبيه بمعدن ناعم
شفرة في قلب العصفور
اليوم
لم يعد الهواء يحرك حتى ستائر المنزل هذا
الصمت مثل حجر ضخم موضوع على حنجرتك”
وفي قصيدة (منفى)، يبدو أن ذكرى الغزو الفرنسي للبرتغال في القرن التاسع عشر، تهيّج عاطفة (مانويل أليغري) الذي يصوّر أسرى من بني جلدته سارحين أمام نهر السين وهو يشق باريس إلى شطرين، حيث تأخذهم أمواجه نحو نهر التاغو الذي يشق بدوره لشبونة عاصمة وطنهم .. نحو شجر الصفصاف، نحو القرى والدمع والريح، ورائحة الخبز من على الشرفات المغطاة بملابس بيضاء تجف تحت إيقاع الموسيقى .. تحت المنازل، حيث هناك الأم والأب والجدات .. حيث هناك ثمة وطن عزيز. يقول:
“على ضفة نهر السين، كنا عشرين شخصاً أو ثلاثين
عيوننا تبحر فوق مجرى المياه
باحثة عن التاجو في مياه السين
باحثة عن الصفصاف عن ضفاف الريح
بلد الدموع، بلاد القرى
المتكورة في هضاب الغسق
باحثة عن البحر
على ضفة السين كنا عشرين شخصاً أو ثلاثين
جالسين
كان هناك شارع، منزل
سلة كرز على الطاولة
رائحة الخبز الشهية، غسيل أبيض
يجف على شرفة
كان هناك وطن
كانت هناك حائكات تحت الأرض
ينسجن الربيه في كوامبرا
أنطونيو وغيتاره
الذي اشتعل بين أصابعه
أختي التي كانت تسكن هذا الإيقاع
أمي التي كانت تطرز (وأحياناً، ربما كانت تحلم)
والدي الذي كان يرحل منتشياً
إلى بلاد الموسيقى، وجدتي
التي تثابر على تنشق الهواء، مثلي
كان هناك منزل
كان هناك وطن
على ضفة السين كنا عشرين شخصاً أو ثلاثين
الريح تغني
نغماً غريباً
وعيوننا تبحر فوق مجرى المياه”
ختاماً، أسترجع تعريف أحد أصدقائي البرتغاليين لـ (السوداد) عندما قصدته للاستيضاح بعد قراءة الكتاب، والذي لم يعتبرها كلمة في حد ذاتها أكثر من كونها تعبير يصف حالة ذهنية وروحية أصعب من أن تُسمى أو تُترجم .. اعتقد أنها كما قال!
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 24 أغسطس 2022 – صفحة (10)
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(24)
رواية/ السيد ابراهيم وأزهار القران
المؤلف/ إريك إيمانويل شميدت
المترجم/ خالد الجبيلي
دار النشر/ ورد للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة/ 1 – 2004
…
تجليات صوفية .. تغمر الروح وتفسّر الحياة
رواية قصيرة النص عميقة المضمون، تروي روح علاقة أبوية نشأت في ستينيات القرن الماضي بين (السيد ابراهيم) المسلم المسنّ صاحب البقالة المتواضعة في أحد أحياء باريس الشعبية، و (موسى) الصبي اليهودي الذي كان ينتشل خلسة من بقالته بين حين وآخر، مجترئاً غير مبالٍ، فما هو إلا (مجرد عربي) كما كان يظن، حتى قام بتبنيه محاولاً تعويضه، ليس عمّا افتقده من عطف ورعاية في طفولته الأشبه باليتم، بين أم هاربة وأب كان حاضراً غائباً قبل أن يموت منتحراً، بل في بلورة رؤيته نحو الحياة كذلك، وعلى مذهب صوفي! تنتهي صلتهما بموت ابراهيم في موطنه التركي إثر حادث مروري مؤسف، ووراثة موسى بقالته في باريس، والذي أصبح فيما بعد (محمد). يُذكر أن الممثل العالمي (عمر الشريف) قام بتجسيد بطل الرواية سينمائياً عام 2003 وحصد عن دوره العديد من الجوائز، وهي بقلم الروائي الفرنسي إريك ايمانويل، الحاصل على درجة الدكتوراة في الفلسفة، وقد عني بتعريبها المترجم السوري (خالد الجبيلي)، الذي عمل أيضاً على ترجمة العديد من الأعمال الأدبية والروائية العالمية، من بينها إصدارات الكاتبة التركية إليف شافاق، والأديب الإنجليزي جورج أورويل، والشاعر الصوفي جلال الدين الرومي. لذا، تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى للرواية الصادرة عام 2004 عن ورد للطباعة والنشر والتوزيع، وبترجمة من لغتها الأصلية (Monsieur Ibrahim et les Fleurs du Coran)، وهي تشتمل على بعض الاقتباسات، بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
بدايةً .. “كان السيد ابراهيم يُعرف باسم (عربي الحي)، ولكنه باعترافه أنه لم يكن عربياً، بل من منطقة (الهلال الذهبي). ويقول ابراهيم أنه مسلم صالح لكنه لا يمانع في احتساء بعض الخمرة. ووصف نفسه ذات يوم بأنه صوفي، وأنه لم يكن يحتاج في حياته سوى لكتاب واحد هو القرآن الكريم الذي كان يعطيه إجابات عن جميع تساؤلاته”. أما موسى، فلما كان يسأل أباه “ما معنى أن يكون الإنسان يهودياً، يجيبه: اليهودية هي ببساطة أن تحمل ذكريات سيئة”. مع هذا، لم يكن يعرف الباريسيون عن ابراهيم شيئاً، إذ لم يكن يؤبه لذاك المسلم الوحيد الذي كان يقطن حي اليهود لأكثر من أربعين عاماً، الداكن البشرة ذو العينين الخضراوين كالفستق الحلبي، الكثير الابتسام القليل الكلام، والذي كان لا يبرح كرسي بقالته حتى يحين الليل، فيغيب فيه حتى إشراقة شمس صباح اليوم التالي، لا يعرف أحداً إلى أين كان يذهب! وعن الخمرة، يدور بينهما هذا الحوار يبدأه موسى بتعجب: “كنت أعتقد أن المسلمين لا يشربون الكحول” وينتهي بتبرير ابراهيم “صحيح .. لكني صوفي”. يغدو موسى في مساء ذلك اليوم إلى مكتبة والده قاصداً القاموس، فيقرأ: “الصوفية: إحدى الفرق الباطنية في الإسلام، ويعود تاريخها إلى القرن الثامن. وهي فرع لا يتقيد بالقوانين بدقة ويؤكد على أن الدين يكمن في داخل الشخص”. يخيّب القاموس فضول الصبي، فهو لا يأتي سوى بالكلمات. أما من أجل التبني، فهناك اجراءات بيروقراطية مطوّلة ومعقدة لا بد من المرور بها. عالم الوظائف الحكومية يمتلئ بأوراق تتطلب الاستيفاء عن طريق موظفين يأتون إلى وظائفهم كل صباح من أجل عمل أي شيء آخر ماعدا مهامهم الوظيفية .. “الموظفين الحكوميين الذين يصبحون عدوانيين ما إن توقظهم من سباتهم”.
ليس عدلاً دائماً أن يكره الإنسان من أساء إليه وهو لا يعلم بما كان من أمره في الخفاء! لذا، يوصي ابراهيم موسى ألا يكره أباه، إذ لم يكن بالمثال الحق الذي يجب أن يُحتذى به، وقد يكون شعر بالذنب حين فقد والداه وهو صغير، فأنهى حياته تحت قضبان القطار. فينبهه بدوره كطفل صغير قائلاً: “إذا لم تكن لديه القوة لكي يعيش فذلك ليس ذنبك يا مومو، ولكن بسبب كل ما حدث أو لم يحدث أمامك”. أمام مشهد الموت تنهمر الدموع كالطوفان، فلا تُبقي ولا تذر. هكذا حصل حين طُلب من موسى التعرف على جثة أباه الذي انتحر تحت سكة حديد. يسترجع موسى تلك اللحظة ويقول: “كان ذلك بمثابة إشارة انذار بالخطر، إذ بدأت أولول وأصرخ كما لو أن شخصاً ضغط على زر فانطلق الصوت. وبدأ رجال الشرطة يدورون حولي مذعورين يبحثون عن مكان الزر لإيقافه، لكن الحظ لم يحالفهم، لأن زر التوقيف كان أنا، وأنا لم أستطع أن أوقف نفسي”. وبعيداً عن الحب الفطري المفقود، وعن الحب من طرف واحد الذي يعطي بلا مقابل، فهو لا يؤسف عليه، إذ “أن ما تمنحه يا مومو يخصك أنت إلى الأبد، أما ما تحتفظ به فيضيع إلى الأبد”. هكذا يشدّ إبراهيم من أزر الصبي الذي دفع لمومس كل ما ادخر “ثمن أن أصبح رجلا” كما برر، فأحب المومس ولم تحبه، غير أنه تمكّن مرة أخرى من جمع المال “وأثبت لنفسي أنني رجل” كما أراد، فأعاد فعلته مع بعض نساء الحي اللائي يكبرنه واللائي تجاهلنه بدورهن فيما بعد.
محلات الفقراء الضيقة مكتظة عادة، بينما محلات الأغنياء الرحبة أشبه بالخالية. يعاين موسى بقالة ابراهيم الأقرب إلى حجم حمّام والمكتظة من السقف إلى السقف ومن الرف إلى الرف دون فراغ لسعة مليمتر واحد، فيستعظم المقارنة بينها وبين (الميجاستور) صائحاً: “يا له من جنون يا سيد ابراهيم! كم تبدو واجهات محلات الأغنياء فقيرة جداً، فلا يوجد فيها شيء”. غير أن عند المفاضلة بين الفقر والغنى يُصبح السلوك أحد المعايير القاطعة، فيلقّن السيد إبراهيم موسى مبدأ قياسي يتخذ من فضول الحاجيات حكماً، قائلاً وهو يضرب في هذا مثلاً: “عندما تريد أن تعرف إن كنت في منطقة غنية أو فقيرة، انظر إلى صناديق القمامة فيها! فإذا رأيت صناديق قمامة لا توجد فيها زبالة فهي منطقة يقطنها الأغنياء، أما إذا رأيت زبالة بجانب صناديق قمامة فهي منطقة لا غنية ولا فقيرة بل منطقة سياحية، أما إذا رأيت زبالة بدون صناديق قمامة فهي عندئذ منطقة يعيش فيها الفقراء، أما إذا كان الناس يعيشون في الزبالة فهي منطقة مدقعة في الفقر”. ومع الفقر والعوز وشظف العيش، يُصبح الكدّ لكسب القوت مطلب ملّح، لكن ينبغي أن يتم في سعة من الوقت، فلم العجلة؟ يقول السيد: “إن عدم العجلة هو سر السعادة”. وحين يكون الغنى في الروح، يكون الثراء في الخُلق، فيسأله إبراهيم: “لماذا لا تبتسم أبداً يا مومو؟” فيجيب متفاجئاً كمن تلقى صفعة مدوية: “الابتسامة شيء لا يفعله سوى الأغنياء يا سيد ابراهيم، وهو شيء لا أقوى عليه”. عندها، يتعمّد إغاظته ويسأله مبتسماً: “إذاً هل تظن إني غني”؟ فيجيبه بدوره بسؤال عميق حول قدرته الدائمة بأن يكون في “غاية السعادة”، ويجيبه: “لأني أعرف ما يقوله لي قرآني”.
عبق الصلاة ينبعث من أجساد المصلين، فيعطي للمسجد بُعداً فلسفياً آخر. يقول موسى مستغرباً عن رائحة نفّاذة اشتمّها في اسطنبول: “وهنا رائحة تشبه رائحة الأقدام. إنه مكان عبادة المسلمين”. ويتبع استغرابه استغراب ابراهيم الذي أجاب: “ماذا؟ إنه المسجد الأزرق! إنه مكان يعبق برائحة الأجسام الإنسانية، ألا يعجبك هذا؟ هل هذا لأنه لا تفوح رائحة من قدميك؟ إن مكان الصلاة الذي يعبق برائحة الرجال مكان مصنوع للرجال، فهل يقرفك أن يكون الرجال في الداخل؟ إنك تحمل بعض الأفكار الباريسية جداً يا مومو، أليس كذلك؟ إن هذه الرائحة تذكرني بأني لست أفضل من جاري. إني أشمّ ذاتي .. أشمّ ذاتنا .. ولهذا فإني أشعر بأني في حال أفضل”. وهناك وهما في الحمامات، يندهش موسى “أن السيد ابراهيم كان مختوناً”، الدهشة التي يزيلها ابراهيم موضحاً: “المسلمون يفعلون ذلك كما يفعل اليهود يا مومو! إنها كناية عن تضحية ابراهيم: يرفع ابنه بيده نحو الله، ويقول له أن بوسعه أن يأخذه منه. أما تلك القطعة الجلدية التي نزيلها فهي علامة على عهد ابراهيم. في الختان يمسك الأب ابنه، ويقدم آلامه لذكرى تضحية ابراهيم”.
“إن عدم الجواب هو جواب أيضاً” .. هكذا يجيب ابراهيم إحدى تساؤلات موسى الخاصة بعائلته، والتي ألحّ فيها حين تجاهله وأشار إلى البحر محوّراً الحديث. ثم وهما على الشاطئ يقول: “الجمال موجود في كل مكان يا مومو .. حيثما وليت وجهك. هذا ما يقوله القرآن”. ومن التراتيل المفعمة بحكمة جلال الدين الرومي التي عرفها موسى أثناء الدوران، تعلّم تدمير ما هو رديء وموجود (العاطفة)، وخلق ما هو حسن وغير موجود (النوايا). كذلك، ما قيل منها: “دع ما هو حي يمت: فذلك هو جسدك .. أحيي ما هو ميت: ذلك هو قلبك .. خبئ ما هو موجود: ذلك هو العالم هنا .. دع الغائب يعد: ذلك هو عالم الحياة في المستقبل”. ومع رقص الدراويش في التكية الذي يفقدون فيه كل “نقطة مرجعية دنيوية” وذلك التوازن الثقيل، “ويصبحون كمصابيح تتلاشى في نار ضخمة”، يدعوه ابراهيم للرقص مؤكداً: “يجب أن نرقص .. بالتأكيد! إن قلب الإنسان أشبه بطائر حبيس داخل قفص الجسد، وعندما ترقص فإن القلب يغرد مثل طائر يصبو لأن ينصهر ويتوحد مع الله”. إن الدوران حول القلب حيث يوجد الله، إنما هو دوران أشبه بالصلاة. “إنهم يدورون حول أنفسهم .. إنهم يدورون حول قلوبهم .. المكان الذي يوجد فيه الله .. إنها كالصلاة”.
ويستمر السيد إبراهيم في تلقين الصبي موسى من جزيل الحكمة في أبسط الأقوال، وأمام أكثر المواقف عفوية.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 31 أغسطس 2022 – صفحة (10)
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
أنشر هذه المقالات في شهر سبتمبر/ أيلول 2022
همى الغيث
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(25)
كتاب/ مذكرات طبيب شاب
المؤلف/ ميخائيل بولغاكوف
المترجم/ ثائر زين الدين، نجاة عبدالصمد، أسامة أبو الحسن
دار النشر/ دار العوام للنشر والتوزيع
الطبعة/ 3 – 2015
…
الطبيب الإنسان .. الأديب الإنسان
سيرة ذاتية لها أن توصف بـ (الإنسانية) قبل أي وصف إبداعي آخر! إنها سيرة شاب روسي عايش سلسلة من كفاح مضطرب في بداية حياته المهنية كطبيب مستجد، وذلك حينما تم تعيينه فور تخرجه في كلية الطب مديراً لمستشفى في قرية نائية تقع بأقصى شمال روسيا، تعصف بها الثلوج والأنواء ويكتنف أهلها الفقر والجهل والخرافة. وفي مثل هذه الظروف القاسية، يجد الطبيب الشاب عزائه في الموسوعات الطبية الضخمة التي تركها خلفه الطبيب السابق ذو الخبرة الأطول باعاً والصيت الحسن، وفي كتاب الأدوية الصغير الذي لم يكن يفارق مكتبه، وفي الكثير من المطالعة والقراءة. ففي سيرته، يصف مشاعره بكل دقة وصدق وهي تتراوح بين ضيق الوحدة وسطوة الهلع، متوجساً من أسوأ ما يمكن توقعه من حالات مرضية مستعصية، منفرداً، خالياً من أي خبرة ومساعدة. لم يسعفه في هذا الوضع الحرج تخرجه في كلية الطب بتقدير امتياز، وقد حصل حسب سلم الدرجات الأكاديمية الروسية على خمسة عشر خمسة، وهو الذي لم يكن قد مرّ عليه سوى ستين يوماً فقط من تعيينه. لقد ضرب مثلاً في تفانيه حين تذكّر بعد شهر من تولي مهام عمله الأول آخر مرة كان قد استحم فيها، وعندما كان يواصل نهاره بليله في معاينة المرضى الذين كان يتجاوز عددهم المائة في بعض الأيام، فينام منهكاً على أريكته في نهاية اليوم المضني.
إنه ميخائيل بولغاكوف (1889 : 1940)، المولود في مدينة (كييف) السوفيتية لأبوين أكاديميين تخصصا في علوم الدين. لقد عُرف بولغاكوف كأديب أكثر مما عُرف كطبيب، حيث انهمك بعد فترة وجيزة من عمله المهني في تأليف الأعمال الأدبية، لا سيما تلك التي تأخذ طابع النقد السياسي، مضحياً فيما بعد بمهنة الطب إلى الأبد. وقد صُنفت معظم أعماله ضمن روائع الأدب العالمي، مثل مسرحية (أيام آل توربين) التي حرص ستالين -رئيس الاتحاد السوفيتي في عشرينيات القرن الماضي- على حضورها، وأعمال أخرى أثارت جدلاً وتعرضت للحظر، كرواية (المعلم ومارغريتا) التي لم تُنشر إلا بعد وفاته بما يقارب الثلاثة عقود، وبواسطة أرملته، حيث قام بحرقها ثم أعاد كتابتها مجدداً بعد حين. لم يعمّر طويلاً، حيث توفى شاباً عن قصور كلوي، وقد أدمن فترة من حياته مادة المورفين، متأثراً بها كمادة علاجية كان يُسعف بها مرضاه، وقد ألفّ عن تلك الفترة العويصة من حياته رواية تحمل اسم هذه المادة.
يسرد الطبيب الشاب في سيرته سبعة قصص رئيسية منتقاة عايشها، يمتزج فيها الألم بالسخرية، ويجد فيها نفسه قد باشر عمليات فتق وبتر وخلع أسنان وتجبير كسور وعلاج خرّاجات وولادات متعسرة وإجهاضات و و و…، حالفه النجاح في بعضها، وعاد من بعضها إلى حجرته ينهشه ضميره بعد فشله فيها. لم تكن فقط حكايات يسردها، إنما بث فيها من المشاعر والتأملات والتساؤلات حول ما يعتور النفس البشرية من ألم ومرض وضعف وجهل، وبين ما قُدّر له من نصيب في النجاح والفشل، الزهو والقلق، الدهشة والحيرة، الكبرياء والوحدة …، في جو عام عصفت فيه الرهبة بالفكاهة. عليه، تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثالثة للكتاب الصادرة عام 2015 عن دار العوام للنشر والتوزيع، وبترجمة من لغتها الأصلية (Записки юного врача)، وهي تشتمل على بعض الاقتباسات، بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
يعقد الطبيب الشاب في عنقه قسماً بأن يتصرف “برزانة” في مستشفى نيكولسكاي الواقع في مدينة موريفسكايا وقد تسلّم إدارته للتو، إذ أن ملامحه الشابة جداً قد نغصّت عليه مع لحظاته الأولى فيها، فأصبح يبادر دائماً بتعريف نفسه بـ “الدكتور فلان” وأن يجيب “بعبوس” على أي تعليق خاص بهيئته كطالب لا كطبيب، وأن يتجنب العدو كشاب طبيعي في الثالثة والعشرين من عمره، وأن يتحدث “باقتضاب واتزان”، حتى فكرّ بارتداء النظارات. يقول في هذا: “ولكنني لست بحاجة للنظارات فعيناي سليمتان، لم تعكر صفوهما تجارب الحياة بعد. وحين أيقنت أنني حتى بمساعدة النظارات لن أستطيع حماية نفسي من النظرات المتحببة المتساهلة، قررت أن ألتزم سلوكاً خاصاً يستدعي الاحترام”. غير أن كل تلك الحيل باءت بالفشل. فمثلاً، تبادره القابلة العجوز بدهشة لصغر سنه وتقول: “يا دكتور إنك شاب .. شاب جداً. إنه لأمر مدهش .. إنك لأشبه بطالب”. وفي الوقت الذي يجيبها بوقار وهو ينفث من بين أسنانه بـ “إحم .. لا .. أنا .. أقصد .. نعم شاب”، يجيبها في سرّه قائلاً: “تفو .. أنت شيطانة .. قلت لنفسي .. كأنهم اتفقوا ضدي”. ثم يعترف في سرّه مرة أخرى وهو في جولة أولية حول المستشفى المزوّد بشكل جيد بالمعدات الطبية، جهله باستخدامها، لا لأنه لم يتسنَ له العمل عليها من قبل، بل لأنه لم يرها قط. يحلّ مساء اليوم الأول وهو يشعر بشيء من الألفة، إلا أنه كان يردد بداخله: “لست مذنباً على الإطلاق”، فقد حذّر من رشّحه في مدينة كييف لهذا المنصب، وطلب أن يكون طبيباً مساعداً بدلاً عنه، غير أنه قوبل بابتسامة وبكلمة: “ستتعود”. ثم طفق يستعرض في وجل الحالات المرضية التي قد يستقبلها وقلة حيلته أمامها، ويقول: “يا لي من إنسان ساذج! كان عليّ ألا أجيء إلى هذه المنطقة”. يُخيّل له حالة فتق جيء له بها في اليوم التالي، فيسمع الجن تغني له أغنية رعب وأمر بإجراء عملية فورية، “ساعتها استسلمت وأوشكت على البكاء وصليت للظلمة خلف النافذة”. تراود حالات الفتق هذه الطبيب الشاب بأشباحها كثيراً، فيعترف قائلاً: “كم مرة انساب العرق البارد ببطء على ظهري عندما أفكر مجرد التفكير بالفتق”.
يقول هذا عن نفسه قبل أول قصة يسردها (المنشفة ذات الديك)، حين ارتمى والد الطفلة التي سقطت في آلة هرس الكتان عند قدميه، متوسلاً بإنقاذها، فيضيع ويدمدم ويسحب الأب من كمّه صائحاً سائلاً: “ماذا تفعل”؟ لكنه يندب حظه ويسأل نفسه: “لماذا؟ لماذا أعاقب؟ أية خطيئة ارتكبت؟”. غير أنه ما يلبث أن يجد نفسه في غرفة العمليات يشق الجلد وينتظر انسياب الدم، ويقول: “فكّرت .. وكذئب، نظرت من زاوية عيني إلى كومة الملاقط الطبية، وحززت قطعة كبيرة من اللحم النسائي” ولم تقطر نقطة دم واحدة، وبأحد الملاقط أغلق الشريان. كان قبل هذا يقف مستغرباً أمام نصف جثة حية، وقد “رجوت القدر لحظتها أن تموت خلال نصف الساعة القادمة، ولتمت في العنبر بعد ان أنهي العملية”. وبينما كان يفصل عظمة الفخذ عن جسد الطفلة، يلوح له سرّ من أسرار الحياة مستفهماً: “لماذا لا تموت؟ غريب كيف يتعلق الإنسان بالحياة”؟. تتكلل العملية بالنجاح وينظر إليه مساعدوه بعين الدهشة والاحترام، ويؤكدون بأنه لا بد وقد أجرى عمليات بتر كثيرة من ذي قبل. يقول في هذا الموقف: “احم، أنا .. أجريت هذه العملية مرتين من قبل. لماذا كذبت؟ لا أدري إلى الآن”. غير أن اليأس يأخذ منه مأخذاً حتى بعد إتمام العملية بنجاح، فيأمر مساعديه قبل ذهابه “بنصف صوت” قائلاً: “عندما تموت أرسلوا في طلبي”. مع هذا، وبعد مرور شهرين ونصف، تدخل إلى عيادته الفتاة فائقة الجمال، بتنورة حمراء فضفاضة، وبرجل واحدة .. وعكّاز، مع والدها الأربعيني، ومن غير والدتها التي كانت متوفاة منذ صغرها، وتهديه “منشفة طويلة بيضاء كالثلج طرز عليها بشكل غير متقن ديك أحمر”. لقد لاحظها حين كانت نزيلة في المستشفى تحيكها ثم تخفيها تحت مخدتها، فتعيش المنشفة معه حتى تبلى بمرور السنين وتتلاشى مع ذكرياته.
يسرح الطبيب في قصة (الحنجرة المعدنية) مع خواطره، عندما غدى وحيداً في نهاية ذلك اليوم، يطلّ من نافذة حجرته المظلمة في المساء الطويل الوحشة، تحت ضوء أباجورته الأزرق الذي يرسم له أشباحاً تنقله إلى مدينته التي تبعد عنه أربعين فرسخاً. كم تاق إلى العمل هناك ومن حوله زملائه يلجأ إليهم عند الحاجة، وحيث لا تنقطع الكهرباء .. إن مجرد التفكير في الهروب ليس سوى “جبناً وتخاذلاً”. ثم يعود لطمأنة نفسه بأن الوضع هنا ليس على قدر كبير من السوء “بل إن خصوصية هذا العمل كانت الدافع لانتسابي إلى كلية الطب” كما برر. وفي هذه القصة التي تبدو كالمعجزة وقد كللها بنجاح أيضاً، رغم جنون الأم وثرثرة الجدة حتى كاد أن يفتك بها مرّات متمتماً: “كم هو رائع لو أن أمثال هذه العجوز لم يخلقوا بالمرة على وجه الأرض”، يصف مريضته الطفلة وصفاً حريرياً بعد أن فكّت الأم الصرّة التي حوتها، قائلاً: “شاهدت ابنة أعوام ثلاثة .. تأملتها ونسيت للحظات جراحتي العامة .. نسيت وحشتي ووحدتي في هذه الأصقاع ومسؤولياتي الجامعية التي يجب أن تنقذني الآن .. تناسيت بإصرار كل شيء لشدة جمال هذه الصغيرة .. بماذا سأشبهها؟ وأمثالها لا نراهم إلا صوراً مرسومة على علب السكاكر .. شعر جعدته الطبيعة لينساب خواتم عريضة بلون الشعير اليانع .. عينان زرقاوان جوزيتان وخدان كخدي دمية. وباختصار هكذا فقط ترسم الملائكة .. فقط كان ثمة كدر غريب عشش في قعر عينيها، وأنا بدوري فهمت أن هذا الكدر إنما هو رعب من لا يجد هواء يتنفسّه! ستموت خلال ساعة .. قدّرت الأمر في نفسي بيقين، وانقبض قلبي بأسى”. وفي حين كانت الطفلة تتنفس بفحيح أفعى، وبقايا بلعوم، وحنجرة “تغلي وتخرّ”، وقبل أن يقرر شقّ بلعومها “وبتأثير خافض اللسان عطست، فتناثر الرذاذ على وجهي وعيني. والغريب أنني لم أخف أن تنتقل الدفتريا بالعدوى إلى عيني، لشدة انفعالي بما يتوجب عليّ أن أفعله”. ثم يُسهب عن عواطفه التي عصفت به، خلافاً لما كان يبدو عليه من ثبات في الظاهر، فيأسى لنفسه وهو يمسك الجرح أثناء العملية بالكلاليب: “تندّى جبيني عرقاً وانتابتني قشعريرة .. آه .. كم أنا آسف على اختياري كلية الطب”. وحين كان يبحث عن الرغام وسط البلعوم الصغير المفتوح، والجرح الذي لم يجد ما يشبهه في الكتب التي درسها، يتملكه اليأس ويقول لحظتها: “إنها النهاية .. قلت لنفسي، لماذا فعلت هذا؟ كان بإمكاني ألا أقترح العملية، وأترك ليدكا الصغيرة تموت بهدوء في العنبر، أما الآن فإنها ستموت برقبة ممزقة، ولن يكون بإمكاني بأي حال أن أثبت لهم إنها كانت ستموت حتماً بهذه الطريقة أو بغيرها، وإنني لست المتسبب في موتها”. وحين ثقب -وهو مرتبكاً- بالمشرط الحلقات الرغامية واخترق الحنجرة التي برزت من مكانها، فمزّقها بدل إعادتها إلى وضعها، تفغر القابلتين فاهيهما ويقع المساعد مغشيّاً عليه، وتغرق الطفلة في الزرقة .. هنا يقول في استسلام: “كل شيء ضدي .. القدر .. لقد ذبحت ليدكا دون شك. وصممت: عندما أصل البيت سأطلق على نفسي الرصاص”. تترصدّ الأم بباب غرفة العمليات، حتى إذا ما لمحت الطبيب ومساعديه يخرجون، تزأر فيهما عمّا حلّ بابنتها، “وفي عينيها نظرة وحش ضار”. يصف الطبيب تلك اللحظة قائلاً: “عندما وصلني صوتها، أدركت ما الذي كان سيحدث لو أن ليدكا ماتت في غرفة العمليات”. بعد تعافي المريضة الصغيرة، ذاع صيت الطبيب الشاب وتنامت عيادته، حتى عاين في يوم واحد من التاسعة صباحاً حتى الثامنة مساءً مائة وعشرة مريضاً. لقد تناقل الأهالي معجزة الطبيب بإشاعة زرعه قصبة معدنية في حلق الطفلة، فكانوا يتهافتون على قريتها لمشاهدتها خصيصاً.
وفي نهاية القصة التي تحكي (الولادة) لجنين في “توضّع عرضي”، الوضع الذي تطلّب عملية “تحويل الجنين”، وقد استغرق الطبيب عشرين دقيقة قبل شروعه في العملية منهمكاً أمام المجلد الطبي، تقول له القابلة وأمامهما طست بمياه حمراء: “لقد أجريتم عملية تحويل الجنين بشكل جيد يا دكتور، أنا على يقين من ذلك”. يعقّب الطبيب: “كنت لحظتها أنظف يدي بالفرشاة بنزق، فنظرت إليها بطرف عيني. لعلها تسخر؟ ولكن وجهها كان يحمل معاني الرضا والفخر دون مواربة. طفح قلبي بالسعادة، ورحت أنظر إلى فوضى من الدم والبياض من حولي .. إلى الطست ذي المياه الحمراء وكنت أحس بالانتصار”. يعود إلى حجرته ليلاً وقد كان عقله لا يزال مفتوحاً أمام صفحة “مخاطر عملية تحويل الجنين” وقد ساد الهدوء المكان تحت ضوء المصباح الساطع، وخواطر راودته عن معنى “المعرفة الحقيقية”، يقول فيها: “التجربة الكبيرة يمكن الحصول عليها في القرية -فكرت وأنا أغفو- ولكن يجب فقط القراءة .. القراءة كثيراً .. والقراءة”. أما في قصة (العاصفة)، فتموت العروس يوم عرسها بعد أن سقطت من فوق جواد يمتطيه عريسها، وقد تبدّل فرحه العارم في لحظة إلى انهيار تام. يصل الطبيب الشاب إلى القرية التي تبعد عن المستشفى ما يقارب الاثنى عشر فرسخاً، ويجد زميله الطبيب الذي كان في انتظاره، غير أن الاثنين لم يتمكنا من منع القدر أن يقول كلمته الأخيرة. يلحّ عليه زميله بالبقاء حتى يحين الصباح ليعود، فالسفر ليلاً يحفّه المخاطر، لكنه يتعذّر بمرضى التيفوئيد الذين هم هناك في انتظاره، في حين كان السبب الحقيقي مختلف تماماً! يقول في ختام القصة: “أعترف أنني لم أبح لأي منهم أن فكرة واحدة استوطنت جوارحي. لا أحتمل البقاء في مكان تجلله المصيبة وأنا أعزل بلا قوة .. بلا نفع، أمام الموت”. ويستكمل خواطره قائلاً: “يا لهذا المصير الفظيع! كم هو بسيط مرعب في آن واحد العيش في هذا العالم”، متأملاً الحزن الذي سيلّف دار العروسين، “مجرد التفكير بهذا محزن! عليّ أن أشفق على نفسي أيضاً .. على هذه الحياة القاسية”. وفي قصة (طفح كما النجوم)، يعاين الطبيب الشاب امرأة يتفق وإياها على نعت زوجها بـ “سافل”، ويسترجع مع حالتها حالة القروي الذي أتاه يوماً وقد غطاه السفلس، فلا عاد لمراجعته، ولا عادته زوجته وأطفاله كما أوصاه، فما علم بما جرى لهم جميعاً، “فكل يوم أسماء جديدة كثيرة وأشياء جديدة .. أشياء فظيعة تضعف بصري وتخطف قوتي وتجعلني من أعماق قلبي ألعن حظي مائة مرة في اليوم”. أما هذه الزوجة العزيزة، فقد ترك لها زوجها قبل وفاته رسالة تخبرها بإصابته “بمرض أحمق .. السفلس”، لكنه لم يرغب حينها بإخبارها، موصياً إياها بمراجعة الطبيب. يقول الطبيب الشاب عن ذلك الزوج، بعد معاينته وحواره معه الذي كان أشبه بالاستجواب: “لم يكن حديثاً، بل حواراً .. حواراً رائعاً. لو سمعني أستاذي في الجامعة لأعطاني علامة عالية في طرائق استجواب المرضى. لقد اكتشفت في نفسي ذخيرة هائلة عن السفلس لم أكن أعلم أنها في حوزتي”. أما عن الزوجة، فيقول: “ناديت القابلة وانفردنا نحن ثلاثتنا في غرفة الفحص النسائي. القابلة تكزّ على أسنانها وتقول: نذل .. نذل، والمرأة ساكنة تنظر إلى الغسق خلف النافذة بعينين مظلمتين. كانت هذه واحدة من أكثر مريضاتي اللواتي اهتممت بهن في حياتي. بحثنا أنا والقابلة بحيث لم نترك في جسدها بقعة واحدة دون معاينة ولم نجد أية علامة مثيرة للشكوك”.
يجتمع الطبيب وفريق عمله في سهرة بمناسبة عيد ميلاده وهو بعيداً عن مدينته، فيحلو السمر بينهم في قصة (ظلام مصري)، يبدأه المساعد بقوله: “أدعوكم إلى كأس أخرى .. ( آه .. لا تقسوا علينا بالحكم، فالطبيب على كل حال، والممرض والقابلتان بشر أيضاً .. نحن طيلة الشهر لا نرى أحداً غير مئات المرضى .. نحن نعمل مغمورين في الثلج .. فهل حرام علينا أن نشرب كأسين من الكحول ونصبّر المعدة بقطعة من السمك في يوم ميلاد الطبيب؟) .. نخب صحتك يا دكتور! بإحساس قال الممرض دميان”. ومن بين الحكايات، تقصّ إحدى القابلتين حالة امرأة حامل وُجد لديها في “المسالك الولادية” ما هو أشبه بمسحوق غريب أو قطع قاسية، تبين أنها سكر بعد الفحص! لقد جاءت كـ (مقايضة) للجنين الذي ادعت إحدى المشعوذات لها بعُسر ولادته، فكان لا بد من إرضاءه.
ختاماً، وفي قصة (العين المفقودة)، يستعرض الطبيب في مخيلته ما أنجزه خلال عام. لقد عاين بالضبط خمسة عشر ألف وستمائة وثلاث عشرة حالة، أدخل مائتان منها إلى المستشفى للعلاج المباشر، ومات منها ستة فقط .. في ذلكم المستشفى الريفي المفتقر للخبرات البشرية، وحول أهله الريفيين الفقراء. كذلك، يسترجع محيّاه حين كان حليقاً بمفرق شعر أخاذ يتمايل إلى الخلف عند تسريحه، أما الآن فبالكاد يحلق وجهه يوماً في الأسبوع بدل ثلاثة، كما أن بشرة خدّيه أصبحت “كالمبرشة، بحيث أنه إذا أزعجني مرفق يدي أثناء العمل، فكم يطيب لي أن أحكّه بهما”. وعن تلك الحالات التي عاينها، يسترجع: حالة الأم التي وضعت طفلها تحت الجسر بجانب أشجار الغابة، وقد وصم والد زوجها بـ “المجنون” و “الخنزير”، إذ قالت حين سألها عن سبب وجودها تحت الجسر متعرّقة في آلام مخاضها، وقد هرع إليها والقابلة: “والد زوجي لم يعطني حصاناً. قال لي إن هي إلا خمسة فراسخ وبإمكانك الوصول مشياً .. أنت امرأة معافاة، وليس هناك من سبب لسوق الأحصنة هباء”. أما القابلة فاحتدت قائلة: “إلى أية درجة اسودّت قلوب هؤلاء الناس؟”. ويسترجع كذلك: حالة الأم التي كانت حاملاً بـ “جنين معترض” فتموت الأم ويولد الطفل ميّتاً وقد كسر يده على أية حال أثناء عملية تحويل الجنين. يدخل بعدها في دوامة عاتية من تأنيب الضمير، يقول في خضمّها: “هراء .. كل ما فكرت به هراء! لقد كسرت يد مولود كان قد مات، لكن الذي يجب التفكير به ليس اليد، وإنما أمه التي ما زالت حية، هي التي كان علينا إنقاذها”. ثم يسترجع: حالة الجندي الذي خلع بكلّاب، ضرسه بجذوره الطويلة التي التصقت بها قطعة كبيرة من العظم تنصع بياضاً، ولم تكن تشبه أي شكل هندسي عاينه أثناء دراسته، فيدّسه في جيبه ومن ثم في درج مكتبه حتى أنتن. لا تعفيه نفسه اللوامة التي تستجوبه في إحدى جلسات محاكمتها السرية: “وأين الفك السفلي للجندي العائد من الحرب؟ أين ذهبت به؟ أجب أيها الشرير .. يا من تخرجت من الجامعة”.
ورغم ما كان، فهو يقول ختاماً: “وهكذا، عام كامل امتد طويلاً، بدا معمراً، متشعباً، معقداً ومخيفاً، أو أنه مرّ طائراً كالزوبعة، لكني أرى في المرآة آثاره على وجهي. عيناي أصبحتا أكثر جدية وأكثر قلقاً .. فمي أكثر ثقة وأكثر رجولة .. تكونت تجعيدة عامودية على جبيني فوق قصبة أنفي ستبقى لآخر العمر، كما سترافقني وتبقى معي ذكرياتي .. ها أنا ذا أراها في مرآتي تتراكض بجموح الخيل ولا تقف”.
وأقول ختاماً: أنها سيرة تنضح بقيّم إنسانية ازدادت قيمة بصعوبة المواقف التي أفرزتها، تتمثل في الإقدام والجرأة والصدق والتفاني وروح التحدي والإحساس بالمسئولية .. وإنسانية كاتبها الذي لأجله تُرفع القبعة.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 7 سبتمبر 2022 – صفحة (10) جزء1
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 8 سبتمبر 2022 – صفحة (10) جزء2
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(26)
رواية/ عشق السكون: كل امرأة هاجر
المؤلفة/ نورية تشالاغان
المترجم/ أحمد الإبراهيم
دار النشر/ دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع
الطبعة/ 2 – 2015
…
سارة الغيور وهاجر المبعدة .. وابراهيم الأوّاه بينهما
هل من الممكن أن تلتقي الروح بالسر .. بالسحر بالدمع بالألم بالحكمة بالصمت بالعشق، في وصل مقدّر من الله؟ قد كان هذا، في سيرة عشق كتب الله لها أن تهاجر في الدروب وبين القلوب .. بين من سعت عشقاً ذهاباً وجيئة ففُرض سعيها شعيرة، وبين من استغنى بيقينه عمّن سواه فاتخذه الله خليلا. لذا، كم كان ملهماً أن تستهل الكاتبة روايتها العذبة بحديث قدسي كإهداء للقارئ، يقول: “أنا أكبر سر للإنسان .. والإنسان أكبر سر لي”. هنا، تحاول الروائية التركية (نورية تشالاغان) أن تسبر أغوار الشخصيات الرئيسية في قصة أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، والتي ترويها على لسان أمنا العاشقة هاجر، وبينهما سارة، حيث يجمح خيالها بما كان قد اعتمل في النفوس من خواطر وهواجس وتضرّعات أثناء تلك الهجرة الربانية .. الهجرة التي بدأت بالعذاب وانتهت بالسكون.
تلعب الروائية باحتراف على وتر العاطفة المفعم بنفحات روحانية، فتصوّر أمشاج المشاعر التي قد تكون تملكت هاجر، كزوجة تارة، وكأم تارة، وكضرة تارة، وكيتيمة تارة، وكأمَة تارة، وكعابدة تارة، وكعاشقة تارة أخرى، حيث حرصت على أن تحمل كل كلمة مختارة معنى صوفي عذب وعميق لأحداث الرحلة الطويلة في مسيرها، والموغلة في أبعاد الروح النورانية، الرحلة التي تختمها الروائية بالمقصد منها قائلة: “ما أرادت مسيرة هاجر قوله هو: كل إنسان هاجر .. والفرق بطريقة السير”. لقد حولت أمنا هاجر كل رمز عابر في رحلتها الطويلة الصامتة إلى سر أزلي، استنطقته بحكمة وبصيرة، تجاوزت بها دائرة الإيثار والغيرة والشك والهواجس، إلى السمو الروحي المتمثل في العشق الإلهي السرمدي، حيث تنعم النفس بالسكون في نهاية المطاف.
أما الرحلة الروحية التي لا مثيل لها في التاريخ الإنساني، فتعبر خمسة مراحل تتوقف من خلالها في محطات عدة، وهي: خطوات العشق، المسير وحيدة، كل امرأة هاجر، ديار الميم، سر العشق. وعن مراجعة هذه الرحلة، فتعتمد على الطبعة الثانية الصادرة عام 2015 عن دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، والتي عني بترجمتها من لغتها الأصلية المترجم السوري (أحمد الإبراهيم) والذي يعمل كرئيس للقسم التركي في التلفزيون العربي السوري، وهي تشتمل على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
عن الأسرار: ألف .. لام .. ميم .. كل حرف كنز، ولكل كنز سر، فالألف يمثل الإتحاد، واللام الأداة، والميم المكان! إنها شفرات حكاية مفعمة بالأسرار .. “كانت الميم انعكاس السر على الوجود”. وعن الحرية: إن أول جريمة يرتكبها الظالم هو منع الكلام، فليس للمظلوم أن يترجم الظلم إلى كلمات! أما ترى الحارس يحكم قبضته على الفم المستغيث؟ بل ويتجرأ فيحبس الدمع، إذ ما هو سوى تعبير صامت عن الاعتراض! يصبح الصمت لغة، حين يعجز الكلام. وعن الطغيان: هناك قُتلت محظية فرعون، فبأي ذنب؟ تطاير شعرها والجلاد يمسك به، كما آمالها التي أرادت أن تتمسك بجسدها الغض، وآخر زفراتها تستغيث صائحة: (لا زلت شابة فدعوني أعيش). غير أن قطرة قوة يهبها الله كفيلة بالانتصار على أعتى جبابرة الأرض. وعن النيل: يا لهول التناقض أمام النيل الجبار! لطالما وقفت هاجر أمامه يحذوها الأمل بعطائه، وهو لا يزال يحتضن كل يوم جسداً غضاً جديداً. وعن الشائعة: أُوكل لكل خبر أرجل، وأرجل خاطفة، لا تبرح وقد وصلت بأعجوبة إلى كل الأبواب “ألا يقولون رجلا الخبر سريعة ويصل إلى كل الأبواب”؟ وعن الحزن: عندما تتزلزل العاطفة، يجد الحزن له مكاناً في الحلق قبل القلب .. فيا للشقاء! وعندما يلملم النهار أذياله ويفسح مكانه لليل، يهلّ ويداعب بسحره حزن الأنوثة الغريب. وعنده، كم هي قاسية ردود فعل الجسد! فرغم الأنفة والمكابرة، يبرز الحزن جلياً في العين، وتتعرج خطوط الألم على أطراف الشفاه، وقد ينهمر الدمع أنهاراً، فتتعجب النفس متسائلة: أمن عين واحدة ينهمر كل هذا السيل؟ وعن الماضي: فهو يتنكّر ببراعة في صورة صديق وفي، يشدّ القلب إليه ويرغم المستقبل للنظر إلى الوراء، وفي العودة إليه كمّ من الذكريات لأحداث جرت، أمّا المستقبل فرحلة إلى أحلام قد لا تتحقق! لذا، يلّح سؤال من جديد: لمَ يتمسك المرء بالماضي، فيعيش فيه وينسى الحاضر؟ أهي علامات شيخوخة؟ أم ضياع أمل؟ وعن البشارة، يلحّ تساؤل آخر: هل البشارة حقاً مؤلمة؟ إذ قد يسبق الفرح رسول من ألم، وقد توقظ البشارة المرء من غفلته بشعور قاس في روحه. وعن الهموم: فتصغر عندما يتم تقاسمها، وتهدأ وطأتها عند البوح بها. ورغم أن الصداقة تقاس بمدى تقاسم الأصدقاء همومهم، بيد أن الحزن يبقى سر الإتحاد، فلا يمكن تجزئته بغرض تقاسمه. وعندما يلقي الله بهذا الحزن في قلوب من يحبهم، تراهم يتمسكون به، ويسلكون فيه خطوة بخطوة طريق الإخلاص إليه وحده. وعن الروح: فإن وحدة الروح في الذات المنطوية كفيلة بسماع صوت العاطفة حين اضطرابها، فيصبح الإصغاء هو الحل، وإلا، يتغوّل القلق ويستحكم الحزن! كم هي رقيقة تلك العاطفة الممتدة لنا من الله، إنها وسيلة الحديث معه، ولا حدود لهذا الحديث. “ما هي هذه العواطف؟ كم هي حساسة وكم هي رقيقة سهلة الكسر، وكم لديها من الأشياء التي تريد قولها لنا. كل عاطفة عبارة عن هاتف ممتد من ربنا إلينا .. هي طريقنا للحديث معه ولا شك بأن الكلام القادم منه لا حدود له”. لذا، يكمن العشق في الروح لا في العين، ويُقرأ في القلب عندما يصمت اللسان. وعن الحكمة: توهب الحكمة في الطرق والمسير .. هكذا تلقفها الأنبياء المسافرون دوماً في الحياة. “جبلت حياة الأنبياء بالدروب! كان كل واحد منهم كمسافر دائم في هذه الحياة. لم يقيموا في مكان .. لم يصبحوا سكان دائمين في أي منطقة. من يعلم أي حكمة جعلت الطرق والمسير الدائم تطوق حياتهم؟”. وعن المحبة: فهي تنبع من النفس، والعشق يفيض من القلب، ولأن المحبة ترتبط بالجسد يُبحث عنها في المكان، أما العشق فلا يحدّه زمان ولا مكان.
وعن رفقاء العشق، فتتسلسل الأحداث بينهم كما قدّرها الله، حيث: قضى النمرود اللدود بالحرق على ابراهيم، فلطالما توعد إبراهيم العصاة بعقاب النار، فكان جزاؤه -كما ظن النمرود- على قدر إيمانه واعتقاده، ومن جنس عمله. توارت الشمس في ذلك اليوم .. أكان خجلاً أم خوفاً؟ هنا، تتجلى قيمة اليقين في الدعاء (وكل لحظة من الحياة هي دعاء .. هكذا كان إبراهيم، أما نحن فننسى بأن الله رقيب علينا في كل حال، فيأتي الدعاء ليذكّرنا بما نسيناه)! هكذا جاء رد سارة استنكاراً على سؤال الجارة الساذج: لمن هذه النار، ألم يدعو إبراهيم ربه؟ غير أن تلك الجارة كانت على قدر من الفطنة لتستدرك أمور أخرى طرأت على جارتها سارة، أمور كانطفاء البريق وغياب الحيوية والحزن الطاغي. “كانت الجارة الذكية تعلم أن ضـربات قلب الإنسان تزداد سرعة عندما يفكر بأشياء سيئة، وأن ردود فعل الجسد الفيزيائية على الأفكار السيئة تؤدي إلى بعض التغيرات، وبأن الأفكار السيئة مدمرة”. أما الصداقة الحقيقية، فلا تتطلب وساطة ولا تتقاسم الأسرار ولا تتحمل سوء الظن .. معانٍ تجلت لسارة وهي تُحدث جارتها عن الخليل وربه كما اتخذه. وهناك، مكث إبراهيم أياماً سبعة وسط سلام النار الباردة، فافترش معه جبرائيل بساط الجنة الذي احضره معه، وتجاذبا أطراف الحديث بسعادة. لكن ماذا عنهما؟ لقد أبحرت سارة المسنة بين أطياف ذاكرتها البعيدة علّها تجد أمها وتتمسّك من جديد بذيل ثوبها، في رغبة تواقة للأمومة، ولطفل يتمسّك بطرف ثوبها هي أيضاً، بينما صمتت هاجر بقدر ما ستروي عنها العصور .. صمتت لأنها علمت بأن أصحاب الكمال يترفعون عن الكلام “صمتُ لأنني أعلم أن أصحاب الكمال يجدون بالصمت كمالهم” .. آثرت هاجر الصمت بينما فاض من سارة الكيل! كانت الأولى شابة بقدر ما كانت الأخرى عجوز. لقد أصبح حزن هاجر مع حزنها على إبراهيم حزنان، فيا لمأزق قلبه الحنون بين قلبين تقاسما عشقه! حاولت هاجر الهروب، ولوهلة أدركت أنه أول معنى لإسمها .. عجباً كيف انعكس الاسم على المصير! وتساءلت وهي تشعر بغصة الغربة: أهي الصحراء أم مرارة اليتم؟ وفي جوف الصحراء، لمحت هاجر النبع .. كانت أول مواساة لها من الله. هرولت رجليها واتحدت روحها مع الماء، كم أن للماء سحر يروي الأيدي الجافة والوجه الذابل، ويطفئ شعلة الاحتراق في مقلة العين. وعند النبع، تجسّدت خواطر هاجر في صور مرئية، فتلك الشجرة بجانب النبع قد ظللت روحها، وخرير الماء يشبه صوت الصديق المواسي. للنيل كذلك أيد طويلة وعريضة، كم كان يبعث الحياة في صوت موجه الرخيم وطلاسمه الغامضة .. يا لصبر هذا الماء عند النبع، كم هو خاضع للتراب وهو يجري في ثوبه! كان النبع يجري عندما سقطتا عينا هاجر كالبحيرتين على الماء، فعند الماء أتت البشارة .. الماء عزيز، والولد القادم كما الماء عزيز. حينها تدفقت روح هاجر كالماء عائدة إلى البيت، غير مبالية بسارة. لقد أتى جبرائيل مواسياً .. أَ لهاجر؟ أم لأبنها الذي حمل روح أمه الحزينة؟ لا حدود للسر الأزلي. (إلى أبعد مكان .. فلا الرياح تحمل خوفهما، ولا البشر يأتون بأخبارهما، ولا الطبيعة تسمع آهاتهما) .. هكذا قررت سارة مصير هاجر وابنها. “راقت هذه الأمنية لسارة فراحت ترددها لنفسها عدد من المرات: (ليذهبا)”. قاطع الكلام إبراهيم وسارة، وانكسرت الكلمات بينهما وتباعدت أحاديثهما، حيث صمتت سارة وصمت إبراهيم، مع قرار الإبعاد المجحف .. في أجواء القرار الباردة التي طغت، ووسط غضب سارة المشتعل، سرت قشعريرة، وحدّق إبراهيم بحنان في وجه هاجر المشرئب صفرة وألماً. في (عشرة) من محرم وعند المخاض، وحين اصطفت حبات العرق على الجبين، كرذاذ ماء فوق التراب، وكتصدع نواة عن ثمرة فوق غصن، تراءت لهاجر طلاسم الأرقام وتكشفت أسرارها: عشرة! أنه الخلاص، فهو يوم قبول توبة آدم، والتقاءه بحواء بعد الفراق، وميلاد الحبيب إبراهيم. “فيما بعد سيقول المتحدث باسم الماضي الذي يسمّونه تاريخ، وهو يعدّ هداياه المباركة: في العاشر من محرم ولد النبي إسماعيل .. النبي إبراهيم صار أباً. قبضت هاجر على سر الأنوثة .. جاء نور الكائنات .. نضجت الثمرة”. تثق هاجر بأنه لا يضاهي جمال بابل وهوائها وعروشها شيء، إلا أن بركة إبراهيم كانت تحل أينما حلّ، وعن فراق آخر تقول: “أخيراً وصلنا إلى مصر. ولكننا قبل وصولنا إلى مصر كنا قد عشنا فراقاً آخر، فلقد فارقنا الحبيب لوط ابن أخ إبراهيم الذي يحبه كثيراً وتركناه مع بعض المؤمنين لقوم مسعورين. كانت حياة إبراهيم قائمة على الفراق الدائم .. كان يفارق الذين يحببهم فرداً فرداً”. لقد كانت الرحلة إلى مصر قطعة من العذاب، (لكنه دعاء هاجر هو الذي جلب كل هذه الأمة) .. هكذا تحدثت سارة بغيرة “كل هؤلاء الناس قد خرجوا من أجل دعاء هاجر”. (هاجر! ذات الوجه الأسمر المحمرّ خجلاً، ذات العينين السوداوين المتدفقتان كالنيل، ذات الجسد الناعم والأنامل الرفيعة) .. كان هذا اطراء سارة! أكان إعجاباً حقاً أم نفحة غيرة؟ كان قد كُتب على إبراهيم فراق من يحبهم .. قد راق لسارة اكتشاف هذا السر، إذ سيهجر هاجر وابنها معاً، وقد كُتب على هاجر الهجرة من فلسطين، فأصبحت فلسطين تبكي كل من يتخذها وطناً، وستتحول إلى دمعة، تبكي بقدر ما أبكت هاجر. “فلسطين وطن الفراق .. فلسطين التي تُبكي كل من يتخذها وطناً .. منذ الآن سيصبح اسم فلسطين اسماً للوطن الذي لا يريد الأمهات ولا يريد الأولاد”. وعند إبراهيم، كانت سلامة القلب تعني الكثير: لا تؤذي الغير، ولا تنتظر على الجميل مكافأة، أما من دموع هاجر المنهمرة، تدفق النبع في الصحراء .. بركة للعالمين إلى يوم يبعثون. وهناك، تتقرر مشيئة الله، إذ تلقفت الأرواح دعوة إبراهيم، فهاجرت الأفئدة إلى هاجر وابنها في ذلك الوادي القاحل، عند البيت المحرّم، وأصبح حقاً على كل مسلم أن يهاجر، كهجرة هاجر، مرة واحدة في عمره إليه .. “طارت روحه إلى مطارح لوح الغيب التي يدعونها الرؤيا. أخبره ربي بأن إخراجي وإسماعيل من البيت قرار جيد”. كانت الكعبة وهي بيت الله (قلباً)، والعشق مفتاحها، وقد تجلّى قلب هاجر داخل جسدها (كعبة) .. من يصل إلى سر المفتاح في قصتها يصل إلى سر الكعبة. “اتشحت الكعبة بالسواد مثلي، واكتسى حجر الجنة بالسواد مثلي .. كل شيء في بكة يشبهني” .. هكذا تجود روح هاجر بعد مُضي العمر.
(كل امرأة هاجر) .. رواية عشق لا يُشبهها شيء. تُرى! كم من (هاجر) في الحياة تحمل رواية عشق لم تُروى بعد؟!
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 21 سبتمبر 2022 – صفحة (10)
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(27)
كتاب/ فرانك لويد رايت: جني بغداد
المؤلف/ موفق جواد الطائي
دار النشر/ دار المدى للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة/ 1 – 2016
…
بغداد أو (جنة عدن) .. كما تصوّرها معماري أمريكي
ليست المباني الشامخة التي تحيط بأهلها وتحتضنهم مجرد قوالب صُبت من خرسانة وأسمنت ورمل وماء، بل هي واجهة لثقافة شعب، حاضرة وماضية .. الثقافة التي تعكس فن وذوق وطقس وعقيدة وتاريخ وحضارة كل من ينتمي لها. لا تختلف العمارة العراقية كثيراً عن شبيهاتها من بلاد المشرق العربي، غير أنها حظيت بغرام من لا يشبهها في شيء.
إنه المعماري الأمريكي العبقري (فرانك لويد رايت – 1867 : 1959)، أو (جني بغداد) كما أطلقت عليه الصحف الأمريكية تكهّناً بطائف من جنّ قد مسّه، وذلك حين رفض العمل على بعض التصاميم المعمارية لمدينة نيويورك .. ومن لا يتمنى؟! في سبيل انتقاله إلى مدينة بغداد والعمل بدلاً من ذلك على تصميم وتخطيط مركز ثقافي بها. جاء بناء على استدعاء خاص من ملك العراق فيصل الثاني آنذاك، وقد كان رايت حينها يحتفل بعامه التسعين حيث عقّب قائلاً: “أنها أجمل هدية عيد ميلاد”. لم يأت قوله من فراغ، فقد ارتبط منذ صغره مع بغداد بقصة عشق استلهمها من سحر الألف ليلة وليلة، وبالتاريخ الذي ازدهر زمن هارون الرشيد، وقد أخذ منه الطابع المعماري الشرقي مأخذاً بليغاً .. العشق الذي جعله يضع نصب عينيه وصل ماضي الشرق بحاضره، في الوقت الذي أصبح فيه معمارياً بارزاً يُشار إليه. لا غرابة إذاً أن تمثّل له بغداد (جنة عدن) في الأرض، وقد صوّر في مخيلته تمثال (آدم وحواء) الذي خطط لتصميمه في مركزها تحت نافورة تشكّل قبة من مائها “حيث بدء الحضارات في بغداد” كما قال.
لم تقف خططه التصميمية وحسب عند دار الأوبرا وما سيُلحق بها من مراكز تسوّق ومواقف للسيارات وحدائق مطلّة، بل كانت خطة شاملة تستهدف العمارة على ضفتي نهر دجلة، فوضع لذلك أيضاً مخطط لدائرة البريد، وجامعة بغداد، وعدد من المتاحف. كان المعماري يتحلى من شيم الأخلاق ما جعله يوكل مهام التنفيذ إلى المعماريين العراقيين، بعد أن عكف دائباً على مهام التصميم والتخطيط ثمانية أشهر متواصلة “وأرسلها إلى مجلس الإعمار في بغداد، وكان فرحاً جداً وفخوراً بهذا الإنجاز وهو يعرض التصاميم في مكتبه، ويتحدث عنها في الأوساط المعمارية، كما عرضها على أفراد الجالية العراقية في أمريكا، واعتبرها خيرة ما أنتج في سنين حياته الأخيرة”. يعود رايت من ثم إلى بلاده ومعه شيء من تلك التصاميم للعمل بها في ولاية أريزونا، التي يشبه جوها إلى حد ما جو بغداد، في لفتة منه نحو عشقه للمدينة التاريخية وإصراره على تحقيق حلمه، وقد تم اعتماد التصاميم رسمياً في السجل الوطني للمواقع التاريخية في أمريكا. أما في ظل البيروقراطية العربية، واشتعال ثورة تموز عام 1958 في العراق، وبحجة اعتباره “مشروع خيالي ضخم مكلف قد لا يمكن تنفيذه في الحال”، فقد أجّل المجلس المختص في وزارة الإعمار قرار اعتماد التصاميم لصالح إعمار الأبنية الملّحة كما ارتأى حينها. ومع مضي الوقت، وعقب مرور خمس سنوات على الثورة، تم ركن التصميمات والمخطوطات فوق سطح وزارة الإعمار، حتى تم العثور عليها متفرّقة بجهود معماريين عراقيين، اكتمل تجميعها مع بداية السبعينيات من القرن الماضي.
ومما يجدر الذكر به، فإن المعماري الأمريكي -رغم شعبيته- لم يكن محبوباً لدى سلطات بلاده لا سيما المخابراتية، وقد عملت على تجنّب تكليفه بالأعمال الحكومية حين أبدى اعتراضه على مبنى حكومي تم تشييده وفق طابع كلاسيكي لثلاثينيات القرن الماضي، في حين أن “المباني الحكومية هي للشعب” كما كان يعتقد، وأن الشعب الأمريكي يتألف من شعوب عدة بطبيعة الحال. وعلى إثر هذا التصريح الذي يرفض تقديم اعتذار عليه، يُسجن لعدة أيام، حتى تقوم سينما هوليوود لاحقاً بإنتاج فيلم عنه يحمل اسم (هورد رورك)، يضجّ بدوره الرأي العام على مشهد المحاكمة فيه، مؤكداً على قيم حرية الرأي السائدة في أمريكا.
تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 2016 عن دار المدى للطباعة والنشر والتوزيع، وهي تحمل بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر). والكتاب الذي يزخر بمجموعة من الصور لمباني ومخطوطات ومناظر عامة، وكذلك نصوص لمداخلات أجراها المعماري الأمريكي منقولة بلغته الأصلية، وضعه المعماري الأكاديمي (موفق جواد الطائي)، الذي تخرّج في جامعة شمال لندن عن تخصص العمارة الداخلية، وعمل في التدريس الجامعي بالإضافة إلى أعماله الميدانية في مشاريع الدولة الكبرى، مع ما قدمه من أبحاث محلية وعربية وعالمية في العمارة والتراث.
يقدّم رايت فور وصوله إلى بغداد محاضرة في جمعية المهندسين العراقيين يحثهم فيها على التمسك بالهوية العراقية الضاربة جذورها في أعماق الحضارات، في الوقت الذي ينبّه فيه على عدم التمادي في محاكاة العمارة الغربية، وقد مرّ الغرب بتجربة مريرة بما يكفي فيما أسماه بـ “المبنى الممسوخ”، وهو يُدلي بشهادته قائلاً: “ساهمت منطقة الشرق الأوسط بعبقريتها الكبيرة في مجال الهندسة المعمارية، ومن هذا الميراث ستستمر في العطاء والمساهمة في الحضارة الحديثة”. وعن تشريفه وما عقبه من صلاحيات ممنوحة، يذكر التاريخ لقاءه بالملك فيصل مرتين. فبينما كانت الثانية للشكر والتوديع، كانت الأولى للتعارف الذي تلاه الحديث عن الحضارة العراقية ومن ثم التطرق إلى الخطة المقترحة لدار الأوبرا، حيث اقترح رايت استبدال الموقع بجزيرة الأعراس، وذلك بناء على وجهة نظره في “العمارة العضوية”، الأمر الذي قابله الملك بموافقة فورية قائلاً: “الجزيرة لك يا سيد رايت”. يعقّب رايت بعد ذلك في لهجة ساخرة رغم عمق إيمانه بالديمقراطية قائلاً: “العراق الغير ديمقراطي جيد بعض الشيء، فلا توجد فيه مجالس إدارة ولجان روتينية لأجل الحصول على الموافقات .. مجرد حركة من اليد والجزيرة لك”. أما في تعريفه لـ (العمارة العضوية)، فيتطرق إلى الحديث عن “الشكل والوظيفة”، حيث يعتقد رايت بأن كل شكل في الطبيعة له وظيفته المحددة مسبقاً، لذا، لا بد للأشكال المبنية أن تعكس وظيفتها في البيئة بل وتكون جزءاً منها، “ولأجل هذا تصبح عضوية”. أما (العضوية الطبيعية) فيعرّفها من منظور فلسفي بأنها تلك التي تظهر في المواقع الجيولوجية كسفوح الجبال والأودية والشلالات والصحاري والغابات، حيث يحظى الإنسان بنوع من الانسجام الروحي من خلال اتصاله المباشر بها، “لذلك وضع رايت مبانيه دائماً في مشهد طبيعي مثير ومتكامل مع البناء لتأكيد علاقة متناغمة بين المبنى والمحيط والإنسان”.
وعند الشروع بالتصاميم، يتحدث رايت عن خططه بحميمية، حيث كما قال: “أقوم بتصميم مركز ثقافي للمكان حيث استنبطت الحضارة .. هو العراق”. فقبل مجيء المغول، كانت هناك المدينة الدائرية الجميلة التي بناها هارون الرشيد، وقد دمروها تدميراً كاملاً، غير أن النفط الذي تفجّر بها قد درّ عليها من المال ما أمكن به استرجاعها اليوم. ومن أجل ذلك، لا بد من الحذار من نوايا المعماريين الغربيين الذين يرومون إلى بناء ناطحات السحاب أينما حلّوا، “لذلك يجب عليّ أن أحذرهم أنه من الغباء الذهاب بهذا ا المسعى الذي يفضي الى السير في ركاب الغرب”. وعلى الرغم من أن رايت قد اتخذ قراراً يوجه فيه جميع الشوارع الرئيسية في الموقع نحو القبلة، وذلك من منطلق أخلاقي يحترم فيه دين الإسلام والمسلمين، فإن المدن كانت تُصمم عادة وفق “المؤثرات الموضوعية للاتجاهات وليس الجوانب التي قد تحسب ذات شكلية دينية فحسب”. وعلى الرغم أن هذا الخلاف هو موضع نقاش بين المعماريين، إلا أن اعتبارات الأعراف والتقاليد تؤخذ عادة بعين الاعتبار، بما أن المضيف العراقي غالباً ما يتجه نحو القبلة. أما مبنى المسرح الذي أسس رايت تصميمه فوق تلة توصل من خلال طريق متصاعد إلى دار الأوبرا، فقد كان (القوس) الذي أحاط بخشبة المسرح أبرز ما ميزّه، بل ويعتبر أكبر أثر معماري خلّفه رايت على شهادة وندل كول، وهو أحد نقّاد العمارة. ففي وصف ساحر يقول: “يرمي رايت من هذا القوس الذي يسميه (قوس قزح) تصوير أحد مشاهد قصص ألف ليلة وليلة، وبذلك ربط المبنى بالثقافة المحلية. يعلو المبنى تمثال لعلاء الدين وهو يحمل مصباحه السحري وضوئه المنير الذي يرمز الى الخيال الإنساني، ويحمل علاء الدين أيضاً سيفاً أشار إليه رايت على أنه رمز لسيف النبي محمد عليه السلام، وبهذا يؤكد رايت احترامه وتقديره للإسلام معززاً ذلك بالشوارع الرئيسية المتجهة نحو القبلة”. لا يغفل عن التأكيد على الهوية مجدداً، إذ “اقترح رايت أن تنفذ هذه الأعمال الفنية من قبل الفنانين العراقيين نظراً للقدرات العالية التي وجدها لدى الفنانين والحرفين الذين كان يرغب أن يدعمهم بهكذا أعمال كبيره لتطويرهم فنياً واقتصادياً، وإبعاد العمل ككل عن التأثيرات الأوروبية. لا شك أن تلاحم عمل المعماريين مع الفنانين ظاهرة مهمة كان من الممكن أن تعمل لتطوير الفن والعمارة، وخطوة رائدة في بناء الصروح في العراق”. وللمبنى كذلك فائدة أخرى، حيث “يحتوي سرداب المبنى على قبة سماوية وعرض للنجوم دعماً للثقافة العامة، وتوسيع أفق وإدراك العراقيين في مجال الفضاء والنجوم”.
لكن! ماذا عن الآن؟ يُختم الكتاب بقول شجي لا يخلو من حماس، يحثّ على العمل الجاد نحو بناء مدينة بغداد من جديد، واسترجاع (جنة عدن) التي لا بد وأن تظهر كحاجة ملّحة لدى الشعب العراقي كحاجته للنهوض والتقدم والرقي، لا سيما بعد مرور أكثر من قرن مثقل بأزمات وحصار وحرب وإرهاب وهرج ومرج، وليل تحتّم عليه أن ينقضي. إذاً “علينا أن نتذكر ذلك، وننهض بوطننا للوصول به إلى الوطن السعيد .. إلى الجنة المرجوة على الأرض التي يستحقها هذا الشعب المناضل العريق”.
وأختم في قول للمعماري الأمريكي لا يخلو من تصوف وجمال ومحبة كلية للوجود، بعد ترجمته من نصّه الأصلي: “كلما تعيش أكثر تصبح الحياة أكثر جمالاً، أما إذا كنت تتجاهل بحماقة الجمال فسوف تجد نفسك بدون حياة، وحياة فقيرة، ولكن إذا كنت تستمر في الجمال فسوف تبقى الحياة معك كل الأيام”.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 28 سبتمبر 2022 – صفحة (10)
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
أنشر هذه المقالات في شهر اكتوبر/ تشرين1 2022
همى الغيث
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(28)
كتاب/ أنا وأخواتها: رحلة في أسرار الذات
المؤلف/ د. سلمان العودة
دار النشر/ دار وجوه للنشر والتوزيع
الطبعة/ 5 – 2014
…
أنا .. وأعوذ بالله من كلمة أنا
كتاب يرحل بقارئه في رحلة استكشافية عميقة نحو أغوار الذات البشرية .. في نفسه التي بين جنبيه! إذ لا يكابر حين يجد نفسه متلبّساً في مواجهة حقيقية مع ذاته التي يبذل لصقلها ما يبذل لتبدو في أبهى صورة على الملأ، في حين لا تبدو وقت المواجهة سوى ذات أخرى .. ضعيفة أو حتى قبيحة! لذا، يسعى الكاتب إلى إطفاء بريق تلك الهالة الكاذبة التي تحيط بالذات، وهتك تناقضاتها المتأرجحة بين الأنا المتضخمة في العلن، كبراً وفخراً ومباهاة، وما يعتريها في الداخل من زعزعة، يفتك بها الخوف والقلق والقهر والكبت.
يضع الكتاب د. سلمان بن فهد بن عبد الله العودة، وهو رجل دين بارز، ولد عام 1956 في منطقة القصيم بالمملكة العربية السعودية، وحصل على درجتي الماجستير والدكتوراة في السنّة النبوية، فعمل كأستاذ جامعي في كلية الشريعة وأصول الدين في بلده، بينما فاقت شهرته كداعية إسلامي، ومقدم برامج تلفزيونية، وكاتب ومفكّر عربي تربو إصداراته فوق الستين كتاب. تعتمد هذه المراجعة للكتاب على الطبعة الخامسة الصادرة عام 2014 عن دار وجوه للنشر والتوزيع، وهي تشتمل على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
ينبّه د. العودة بإن للإنسان ذات فريدة عليه التعريف بها، فلا ينأى عنها تواضعاً ولا يزهو بها وكأنه الأوحد! يأتي جابر بن عبدالله النبي ﷺ في دَيّن كان على أبيه، فيطرق الباب، فيسأله ﷺ “من ذا؟ فقلت: أنا. فقال: أنا أنا .. كأنه كرهها”. ثم أن هذه الذات قد تنطلق نحو العمل، وفيه لا تواجه عدو سواها، فقد “كان نيتشه يقول: كلما أصعد، كان يتبعني (كلب) اسمه الأنا”. وعن تفخيم الذات، يرى د. العودة أنه لا بأس من إطلاق المسمى الوظيفي عليها مثل (وزير، مدير، مشرف) طالما أن المنصب تكليف لا تشريف، لكن ما حاجة تفخيمها وإلحاقها بألقاب مثل “سماحة أو معالي أو فخامة أو فضيلة أو سعادة؟”، بل أن هناك “بعض التعريفات المتبوعة بـ (سابق) تبدو وكأنها محاصرة لصاحبها في دائرة الماضي وحكم عليها بالمؤبد”. يخبر عمر بن الخطاب النفوس كخبير، فيقرر كسياسي فترة الولاية في مدة زمنية معلومة، حيث “كان يقترح تحديد مدد الولايات بسنة أو سنتين او أربع على اختلاف الروايات. كان يعلم أن الطغيان يتسلل إلى النفوس تدريجياً حتى يستحكم ويغلب”. ومع هذا التفخيم للنفس يظهر الحسد كسمة بشرية عامة باختلاف الثقافات، يتبعها العمل الذي يترجمه، “تقول العرب: جزاء سنمار”، وتقول الحكمة: “لا تشرق أكثر من اللازم”، فتصبح النعمة عيب ينبغي ستره. وهنالك أيضاً الزهد، وهو ليس قول يؤثر، ولا عمل يشهده الآخرون، إنما هو زهد النفس عن الطيبات التي تشتهي، والترفع عن لحظة الملذات، والانغماس بما هو أثرى للروح وأبقى، فـ “الزهد ليس بتحريم الحلال ولا بترك الطيبات .. هو تجرّد القلب والروح من حظوظ النفس”. كما أن التعبير عن الذات قد يأتي صامتاً، سواء أبقاها صاحبها أو أفناها، فـ “البناء والرسم والدم هي أدوات لكتابة الذات، وقد تكون أدوات لمحوها”. لذا، ليس كل حي كذلك، وإنما الموت أحياناً يظهر في قالب حياة، فـ “عندما يفقد المرء إحساسه بذاته وأهميته لن يكون منجزاً ولا ناجحاً، ولن يكون من الأحياء”، غير أن الفقد ربما يأتي جرّاء ما جناه أباه وأهله ومجتمعه ووطنه عليه .. وما جناه على نفسه!.
قد لا يكون الفتى (نرجس) العاشق لنفسه حد الغرق سوى أسطورة، غير أن النرجسية هي “عقدة تصيب الرجال أكثر من النساء! ربما لأن الرجال يجدون فرص الظهور والعمل والإنتاج أكثر، وربما لطبيعة التركيب العاطفي عند المرأة الميال إلى نصفه الآخر والمستعد للتضحية ونسيان الذات في سبيل المحبوب، ولو مؤقتاً”. يضرب د. العودة مثلاً في معلّمه واسع الاطلاع الذي كاد ينسب لنفسه علماً ربانياً يتباهى به في لازمة كلامية: “أي سؤال يخطر في بالك أجيب عليه”، حتى إذا سأله يوماً “ما هي عقدة النرجسية”؟ أظهر جهلاً كأبي جهل! وفي هذا، يُروى عن بيكاسو الذي سطى اللصوص على منزله مرة فسرقوا أثاثه وتركوا لوحاته، استيائه حين قال: “يؤلمني أن هؤلاء لم يسرقوا شيئاً من لوحاتي الثمينة”. لا بد وأن يصيب هكذا تجاهل “بقيمة لوحاته الشهيرة” كبرياء الأنا في مقتل. من ناحية أخرى، يعتقد د. العودة أن الخيال نعمة ونقمة حسب الاستخدام، فينجح ذو الخيال الخصب، أما “الذي يتسرب إليه وهم السقوط يكون على موعد معه غالباً”. لكن، ما الخيال؟ “إنه المنجم الدائم الذي يستخرج منه العلماء والأدباء موادهم الخام، فتتحول بأيديهم إلى أعمال خالدة على مر الزمان”، فها هو توماس أديسون مكتشف الكهرباء، يحدد أدوات الاختراع ويقول: “لكي تخترع، تحتاج إلى خيال خصب وكومة من الخردة”، أما د. العودة فيعرّف الخيال في صورة أكبر قائلاً: “الخيال أداة ذهنية تخرج الإنسان من قوقعة الحاضر والمحيط، وتسمح له بأن يعيش الماضي بشخوصه وأحداثه، والحاضر كما يتمناه، والمستقبل كما يرسمه ويخطط له”. وهل الخيال سوى عالم آخر لا ندركه ونحن نحيا في عالم مادي صرف؟ يقول سقراط: “الخيال هو العلامة الحقيقية للذكاء”، كما أن استحضار روح ما ليس ضرب من سحر ولا هو عمل من أعمال الشياطين، بل ينمّ عن صدق الإحساس، “وحين تتخيل عزيزاً تشتاق إليه فربما ذهلت عما حولك، وكأنك تحادثه وتناجيه وتبثه أحاسيسك، ويسافر قلبك وعقلك إليه تاركاً جسدك مع الجلساء”. يقابل هذا المعنى عبادة الله بدافع الحب: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”. أما أحلام تلك المخيّلة ولذّتها، فتستلزم قطعها بالنهوض من النوم والسعي لها، وقد دعى ﷺ بـ ” اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا”، فـ “من أجل النهضة لا بد من تغيير ساعة النهوض .. استيقظ مبكراً وأبدأ عملك بهمة ونشاط”. ومع الخيال والعمل، هناك الفص الأيسر المنطقي والفص الأيمن الإبداعي، وهما صنوان، فـ “إذا كان الخيال من وظائف الشق الأيمن من المخ، فالاستيعاب والإدراك من وظائف الشق الأيسر، وإهمال أحدهما مضر وخسارة لثروة تحت يدك لا تقدّر بثمن”. وفي قول عذب يخص المرأة التي يعتمل بداخلها العقل والقلب معاً يقول د. العودة: “المرأة ذات القلب النابض والعاطفة الحية تستقبل الإلهام، وتملك الحدس أكثر من الرجل، فهي أقدر على قراءة المجهول واكتشاف المستور. قلب الأم يلهث وراء جنينها الذي يظل جنيناً ولو بلغ السبعين، وقلب الزوجة دليلها الذي لا يكاد يخطئ حين يجيب على الأسئلة والمخاوف، أو يمنح الأفراح والآمال والتطلعات المستقبلية”. وفي قول فصل يقول: “المرأة ملهمة أكثر لأنها تحب أكثر”. ثم يضرب مثلاً، فقد كان عمر بن الخطاب رجل ملهم نافذ البصيرة، يملك فيما يسمى اليوم بـ “الحاسة السادسة” أو “المخ القديم”، وقد “كان لا يقول لشيء (أظنه كذا) إلا كان كما يقول”. وعن واقعنا، يؤكد أن هناك “100 من أثرياء العالم الناجحين أكدوا أنهم يعتمدون على دراسة الجدوى، ولكنهم يعتمدون معها على أمر آخر مهم، هو الفراسة أو الإلهام”. أما قصة (الشجرة والطفل) التي تُرجمت إلى ثلاثين لغة، يقرأها الطفل في الثامنة والعجوز في الثمانين، فتترجم معنى العطاء بلا حدود. لا يفوّت د. العودة الفرصة حتى يضيف معنى عذباً آخر يقول فيه: “الشجرة رمز العطاء والتفاني والتجدد والحياة. قد تكون هي الأم، أو أي مخلوق آخر يرضى أن يؤدي دور الدعم بلا مقابل مادي .. هل هناك غير الأم من يرضى بهذا الدور؟”.
ليس بطل الملاكمة فحسب، بل كان حكيماً بالفطرة. يقول محمد علي كلاي عن النجاح في الحياة: “في داخل الحلبة كما في خارجها، لا عيب في أن تسقط أرضاً، بل العيب أن تبقى كذلك”. وعن الروح التي تبقى معطاءة ولا تشيخ يقول: “العمر هو ما تظنه! أنت كبير في العمر بقدر ما تعتقد نفسك كذلك”. أما الموهبة فكنز، و “الموهوبون عملة صعبة”، غير أن كل فرد لا بد وأن يمتلك موهبة “لو اكتشفها وآمن بها ووجد المناخ المناسب لأثمرت”. لذا، يضرب د. العودة في اليابان مثلاً التي يقال “إنها أمة المائة وعشرين مليون متفوق”، ويشير إلى أنه بين كوكب اليابان وحضيرة العرب، سنوات ضوئية وحضارات عاشت واندثرت، حيث أن “سر المعجزة اليابانية هو تجذّر ثقافة العمل والانضباط والتفاني والإتقان، وسر الخواء العربي هو المظهرية والفهلوة والشطارة والاعتماد على الأسرة أو على الآخرين”. ومع الموهبة، هنالك التحدي! يرسم حين كان طالباً صغيراً في حصة الرسم أزهاراً تتحدث، فتوبخه معلمته وتطرده من الفصل، ليخرج بعد سنين وهو (والت ديزني) الأشهر من نار على علم في عالم الرسوم المتحركة. إذاً، في الحركة بركة، وما أطيب التفاحة التي تقطفها بيديك من الشجرة عن تلك التي جاءتك من السوق. يذكر التاريخ استنباط حكيم من هذا المعنى في سنّ عقوبة الإعدام، أو على الأقل عقوبة في سجن تعذيب، فقد “كان أحد ملوك الصين يعاقب خصومه بأن يلزمهم البقاء في بيوتهم، ويسخّر لهم من يخدمهم ويقضي حاجاتهم كائنة ما كانت تلك الحاجات، وسرعان ما يصيبهم الخمول والكسل ثم المرض ثم الموت”. أما على الطرف الأبعد من هذا العالم، فيُطلع بعض أصدقاء د. العودة “على فيلم (90 دقيقة) يشرف عليه من أنتجوا فيلم (أفاتار)، ويجسّد شخصية إسلامية ملهمة، لم يجدوا من يموّله مع أنه مربح استثمارياً وقيمياً”. ومن صور مدافن الموهبة كذلك، أقران غيورون ومشرفين أشد غيرة ونقص، حيث “رسمت طالبة رسماً جميلاً فوبختها المدرسة ومزقت الرسم أمام الطالبات، وقالت: هذا جزاء اللي يخلي غيره يرسم له”. لن تقف تبعات هذه الحرب النفسية على إطفاء موهبة الموهوبين وحسب، بل ستخلق منهم خلقاً آخر! يضرب د. العودة مثلاً آخر ويقول: “طفل عمره (12) سنة وذكاؤه (140) وجد مشنوقاً في غرفته بسبب تعذيب زملائه واضطهاده لهم”. ويكمل: “قد يكون الموهوب أكثر تأثراً وحساسية من غيره، ولذا قد يردّ بطريقة قاسية، فقد أقدم موهوبان مسلمان تعرضا للاضطهاد على قتل (13) من زملائهم وجرح (24) في مدرسة في الولايات المتحدة، ثم انتحرا”. وفي نفس السياق يؤكد على أن عقوق الآباء كما عقوق الأبناء، ويعلّق على موقف صفعت فيه أم طفلتها مرتين، مرة حين لطخت يدها الصغيرة بأحمر شفاهها، ومرة بعد أن شاهدت عبارة “أحبك ماما” على الباب وقد لطّخته أيضاً، يبرره بأنه “الدور التمثيلي التربوي”، إذ لم تكن مشاعرها الحقيقية هي التي تجاهلت تعبيرها عن حبها. هنا، يؤكد د. العودة بأن الصحو من الغفلة نعمة تستوجب الشكر، فيوصي بـ “لا تحزن على من تغير عليك فجأة فقد يكون اعتزل التمثيل وعاد إلى شخصيته الحقيقية”.
إن عظمة خلق الله للإنسان تتجلى في تكريمه، ففي حين لم يكن سوى نطفة لفظها ماء مهين، فالعلم الذي اكتسبه مستثمراً الأدوات البيولوجية التي وهبها الله له، قد منحته العظمة. يقول د. العودة عن هذا المعنى الذي حملته أول سورة في القرآن الكريم: “وفي السورة إشادة بالإنسان المترقي من (العلق) إلى (العقل)”. وبعد النطفة، تتغلف الأنا بطابع من تواضع مزيف حين تُشير بأصبعها نحو الآخرين يرافقه سيل من نصائح، تتظاهر في الوقت ذاته بتقبّلها لوعظ الآخرين إذ لا تنكر جهلها بأمور عديدة. يقول عن هذا النوع من الأنا: “أي ثناء على النفس يقدر أن يقوله فوق هذا، ولكنه ثناء مدهون بلغة التواضع! ومثل هذا المدخل الشرير على النفس من أصعب الأسرار التي يعزّ على صاحبها كشفها ومعالجتها”. وكمثال لهذا النوع الشرير، يعرض د. العودة موقفاً يراقب فيه أحد المصلين صلاة جاره وقد عرض عليه بعد التسليم عشرة ملاحظات في قيامه وركوعه وسجوده وتفاصيل أخرى يختمها بابتسامة قائلاً: “تلك عشرة كاملة”. يستعرض عليه مرة أخرى حين سأله “وماذا عنك”؟ تواضعه الملائكي في نفي صفة الفقيه عن نفسه وفي قبول النصيحة حتى من تلاميذه. “إذن هو يعترف بالأستاذية والمشيخة بلا وعي حين ينفيها بلسانه”. ينبري المتهم في ردّ ملاحظاته بحجة قوية قائلاً: “أعظم خطأك عندي أنك واقف في صلاتك بين يدي ربك وقلبك يسرح في واد آخر! لقد أخللت بروح الصلاة وأتيت على خشوعها، فلا أظن قلبك حاضراً وهو يراقب جاره ويحسب عليه حركاته وسكناته، ويستجمع أقوال المصنفين والفقهاء في القيام والركوع والسجود، ويستذكر راجحها ومرجوحها حسب دراسته وبحثه، وينتظر أن تقضى الصلاة ليلتفت إلى جاره ويحاسبه على مخالفته”. لكن “لم يرق هذا الحديث لمحاوره ومجاوره، واستنتج منه أنه لم يتقبل النقد، ولذا واجه النقد بمثله، ثم ثنى بأن القول بوجوب الخشوع في الصلاة فيه خلاف شهير كبير بين الفقهاء، وهو وإن قال به أبو حامد الغزالي ومال إليه ابن تيمية، إلا أن أكثر الفقهاء لا يرونه”. يقع ذو التواضع المزيف في حيص بيص، بين “النقد ونقد النقد وما بين الهجوم والدفاع بواسطة هجوم مضاد” فيصبح موعده الضروري الذي تذكره فجأة سبب انسحابه وانصرافه فوراً. وعن نبرة المفهومية التي يأتي بها البعض، يتهكم د. العودة على مدير إحدى الجامعات الذي وقف أمام أساتذتها آمراً عدم المشاركة في أي نشاط أو مؤتمر إلا بعد موافقته “محتجّاً بأن الزوجة لا تتصرف إلا بإذن زوجها”. وعلى النقيض، يرى أنه كلما ازداد علم المرء زاد علمه بجهله، وكأن ثنائية العلم والجهل على تنافرهما، ذات علاقة طردية، ويستشهد بقول الشاعر: “وكلما ازددت علماً .. ازددت علماً بجهلي”. وفي ذات المعنى، وعن استشعار المرء ضآلته أمام ما أنجزته البشرية عبر التاريخ وما مرّ عليها من أحداث جسام، يقول: “آخر يتخيل البشرية كلها ومراحلها التاريخية وضخامة ما يحدث، فيتصاغر حتى يحس أنه لا شيء، وأن صوته الواهي يضيع في صخب الكون”.
(إن الفتى من يقول ها أنا ذا .. ليس الفتى من يقول كان أبي). يقول أحد الطلبة الذي قرر الانتقال إلى مدرسة جديدة لا يعرفه فيها أحد، حين رفض أن يعيش في جلباب أبيه ورفض استدعاء الأساتذة للعلاقة البيولوجية بينهما في معاملته خيراً أو شراً: “أنا كيان مستقل، روح مختلفة، وعقل جديد، وجسد غض، وخبرة قليلة تريد أن تعيش التجربة وتكتشف بنفسها الصواب والخطأ”. غير أن الوعي الجمعي في ثقافة القطيع، لا يتعدى شكل الصمت أو المأمأة في أقصى حالات التعبير عن الرأي، ما سوى ذلك فهو تغريد خارج السرب أو بدعة تستوجب إقامة الحد! يقول د. العودة: “المجتمع الذي يركز على قيم الجماعة وهويتها وتبعية الفرد لها، وتبنّي معاييرها ولو على حساب ذاته وتميزه وطموحه وإبداعه، يقتل الإحساس بالمسئولية الذاتية والأهمية الشخصية والهوية الخاصة”. ويؤكد بأن الإنسان بأكمله (بصمة) لا يتكرر ولا يشبه شيء، فيحذّر بأن “هويتك الشخصية والعامة تنتهك بالاستجداء والمحاكاة”. يتبع ذلك بالحديث عن القنوات الفضائية! وما أدراك ما القنوات الفضائية؟ فرغم أنها (سلاح ذو حدين) مثل كثير من الاختراعات الحديثة، إلا أن ظاهرة (المشاهير في أسبوع) لا يبررها سوى (الجمهور المستهلك) وبضاعة على جودة (صُنع في الصين) .. فلكل ساقطة لاقطة. يقول عنها: “القنوات الفضائية سهلت طريق الشهرة لكثيرين، وبعض البرامج مخصصة لصناعة النجوم بطريقة مفاجئة وصادمة! فالشاب أو الفتاة يمضي عقداً مع القناة تتم بموجبه صناعته، ثم استهلاكه وتسويقه، ثم التخلص منه”. لا يمنع ذلك من حب الذات ومن تعهدها وصونها، إذ يوصي د. العودة على طريقة خبراء التنمية البشرية بأن: “لا تطل الوقوف عند اخطائك إلا بقدر ما تقتبس منها حافزاً لمستقبل أفضل، ولتعويض رشيد”، ثم يوصي مجدداً لكن بنَفَس دعوي: “إذا أخطأت، فلتكن قسوتك على نفسك بالقدرة على الاستغفار والاعتذار وعدم التكرار، ولا تنس أن الله كريم ورحيم وطيب وغفور: توضأ القلب من ظني بأنك غفار .. وصلى وكانت قبلتي الأمل”. وعن علاج أكثر فعالية يوصي به قائلاً: “حين تلاحقك أشباح الماضي وتحرمك متعة الحاضر، جرّب أن تستغفر الله عشراً ومائة وألفاً دون ملل، قرر أن يكون الخطأ سبباً في صواب أعظم”. لكن، هوّن على نفسك ولا تُضاعف المعاناة، حيث “إذا بلغت سطوة الواقع عليك بحيث لا تتخيل تغييره ولا تتصور حياتك منفصلة عنه، فأنت بذلك تمنحه عمراً إضافياً وتمدّ أمد المعاناة”. ويذكّر بأن الأنا إذا تلبّستها الأنانية في حب الذات، فلن تحب أحدا، فـ “الأنا قد ترى الحب حماقة ووهماً، والحب يرى الأنا حماقة ووهما” .. يعيش الأول ويموت بينما يعيش الثاني ولا يموت، إذ “من يعش من أجل ذاته يعش مرة واحدة ويموت سريعاً، ومن يعش من أجل الناس يعش مرات، فروحه تقسّم في أرواحهم”. يستمر د. العودة في نفس الموضوع ويقول عند نقطة ما: “الرجل كالديك يعتقد أن الشمس ما خلقت إلا لتسمع صياحه، أو قل: هو كالفلك الذي يعتقد أن النجوم خلقت لتحوم حوله”.
الرزق مكفول وعلى الإنسان الرضا بعد السعي، “ولا أحد يأخذ رزق غيره، والفرص بعدد بني آدم (وبناته)، بل لا أبالغ إذا قلت: إن الفرص هي بعدد أنفاسهم لو شاءوا”. لذا، يرى د. العودة بأن هنالك فرق بين “شهادة موت” و “موت شهادة”، تعكس الشهادة الثانية “نوع نادر من الموت”، يضحي فيها الإنسان بأغلى ما يملكه في سبيل إعلاء كلمة الحق، إذ كم هو جميل أن يترك المرء أثراً بعد موته، والأجمل أن يخلّده الباقون على طريقتهم. وهنا، تعود الذاكرة إلى د. العودة فيقول: “في القرية كنا نسمي النخل بأسمائهم، فيرحلون ويبقى النخل والاسم. نزورهم ونسلم عليهم، ونستحضر أنهم يعلمون ذلك ولكنهم لا يردون”. عجباً! يذكر د. العودة رفيقه الذين قدّم له العزاء في أطفاله الخمسة مع أمهم في حادثة حريق، والآخر الذي فقد ثلاثة في حادث طريق! وقع الخبر المفاجئ “أشد إيلاماً”، لكن “مع الوقت يعطيك الألم قوة وصلابة. تقول: جربت الألم فلم الخوف؟”. وفي صمت الأموات بلاغة قد تفوق كلامهم، فينقل عن الشاعر أبو القاسم الحسين بن علي الملقب بالوزير المغربي قوله: “مررت بقبر ابن المبارك غدوة .. فأوسعني وعظا وليس بناطق / وقد كنت بالعلم الذي في جوانحي .. غنيا وبالشيب الذي في مفارقي / ولكن أرى الذكرى تنبه عاقلا .. إذا هي جاءت من رجال الحقائق”. لذا، إنما الحياة محطة .. “قنطرة عبور”، تنتقل بعدها الروح إلى محطات أُخر .. لا تنتهي. يقول د. العودة في نغمة صوفية “الموت ليس فناء ولا نهاية، إنه انتقال من ضفة إلى أخرى .. ميلاد جديد .. عبور إلى عالم آخر”. إنما الموت تحرر “انعتاق من سجن المادة” وإن “موت الجسد حياة الروح”. يأتي هذا مصداقاً للحديث الشريف “الدنيا سجن المؤمن”. ولمن سيرحل حظ “حين يلتقط الحي إشارة إلى قرب التوديع فهي مزية تؤهله للاستدراك” .. فإن كان الموت واقع لا محالة، فهي نعمة أن يتم التنبيه عليها بوقت سابق.
رغم هذا، فإن للحياة مجرياتها العفوية والجميلة التي لا بد لكل إنسان أن يأخذ نصيبه منها، إذ يقول الشافعي: “الوقار في النزهة سُخف”. ويذكر ابن قتيبة في عيون الأخبار “أن الحجاج مع عتوه وطغيانه وتمرده وشدة سلطانه كان يمازح أزواجه ويرقّص صبيانه. وقال له قائل: أيمازح الأمير أهله؟ قال: والله إن تروني إلا شيطاناً؟ والله لربما رأيتني وإني لأقبّل رجل إحداهن”. والعفوية جمال بحد ذاتها مضافاً إلى نور الصدق المصاحب، و “كلما كان الإنسان عفوياً بعيداً عن التكلف، كان أكثر محاكاة لذاته”، وابتسامته تبدو أكثر جمالاً حين تكون عفوية صادقة، فـ “الابتسامة رسالة تعبّر أولاً عن شخصك، وأنك صاف من دون عقد أو مشكلات أو كآبة”. تستمر الحياة رغم آلامها، يغذّيها العمل والأمل .. “أعلل النفس بالآمال أرقبها.. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل”.
ختاماً، يقول د. العودة في حق نفسه كلمة شملها ضمن أقواله في التدليل على ضعف الذات، لها أبطالها بين البشر وإن ندروا “ما رأيت أحداً إلا وجدت في تصرفه مراعاة لحظ نفسه، أما أنا (ولا أزكي نفسي) فالمصلحة العامة والميزان العدل هو رائدي وقائدي”. ويعترف: “صحيح أني خضت معارك كثيرة، ولكن في جميعها كنت الطرف المظلوم المعتدى عليه، والذي صبر وتحمّل”.
ولا أعجب من النفس البشرية ومن خلْقها .. “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا”
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 5 اكتوبر 2022 – صفحة (10) جزء1
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 6 اكتوبر 2022 – صفحة (10) جزء2
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(29)
كتاب/ ابن رشد
المؤلف/ عباس محمود العقاد
دار النشر/ دار خطاب للنشر والتوزيع
الطبعة/ 1 – 2018
…
فيلسوف التنوير القرطبي ابن رشد
كتاب يتناول سيرة فيلسوف مسلم رائد، حظي من الاهتمام والرفعة عند الغرب بقدر ما حظي من الإنكار والرفض عند بني جلدته العرب، وهو كتاب تتضاعف قيمته لا في طرح سيرة الفيلسوف (أبو الوليد محمد ابن رشد) وحسب، بل وفي كاتبه مؤلف العبقريات (عباس محمود العقاد) من جانب آخر. يسجل الكتاب سيرة حياة الفيلسوف بدءاً من نشأته في أسرة سليلة العلم والفقه والقضاء، وانتهاءً بما سُمي بـ (نكبة ابن رشد) التي ختم بها حياته بعد نفيه من مسقط رأسه في قرطبة، إلى مراكش حيث مماته. وفي هذا يستعرض الكتاب ما تخلل مسيرته الفكرية ورسالته التوفيقية بين الشريعة والفلسفة من عناء، لا سيما في سجاله ضد رأي الإمام أبو حامد الغزالي المتعنت في الفلسفة وأهلها، اضافة إلى آرائه المناصرة للمرأة رغم اقتضابها، وغيرها من آراء تنويرية فاضت حتى انهمرت بعد ممات الفيلسوف بأكثر من ثمانية قرون. وفي خضم ما تموج به الأمة الإسلامية من صراعات وتحديات وفرقة، يأتي المنهج الرشدي التنويري كحل عملي ليأخذ بيد أبنائها نحو الخير والتقدم والرقي، على طريق الفكر المستنير والنقاش الحر والعمل الجاد.
يدور محور الكتاب حول أربعة ركائز رئيسية تبدأ بعصر ابن رشد، ثم تنتقل إلى ابن رشد في عصره، ومن ثم إلى جوانب بارزة من سيرته، تنتهي بعرض منتخبات من آثاره. تعتمد هذه المراجعة للكتاب على الطبعة الأولى الصادرة عام 2018 عن دار خطاب للنشر والتوزيع، وهي تشتمل على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
ومع الحديث عن سيرته، يبدو أن القدر قد أنصف ابن رشد (520-595 هـ / 1126-1198 م) عندما وُلد وعاش في قرطبة حاضرة الدنيا وهي في أوج ازدهار حركة العلم والفكر والعمران والفنون والآداب، ففي حين كانت تُذكر بغداد والإسكندرية وروما، كانت قرطبة تقف بفخر إلى جانبهم، حيث المجد والحضارة والمكانة. إنه محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد، سليل عائلة ذاع صيتها في مهنة القضاء، إذ تقلّد أباه وجدّه من قبل منصب القضاء في قرطبة، وقد كان الأخير يضطلع بشؤون السياسة بين مراكش والأندلس، ولا تزال مكتبة باريس تحتفظ بمخطوطاته في الفتاوى، وقد توفي قبل ولادة حفيده بشهر على أرجح الأقوال. انكب ابن رشد منذ صباه على الدرس والبحث، ولم يصرفه عنهما سوى يوم بنى بأهله، ويوم وفاة والده، وقد تولى منصب القضاء في بلاد المغرب والأندلس قبيل الخامسة والثلاثين من عمره. ومن صور فخر ابن رشد بموطنه ومكانته، ما يرد في قوله الذي كان يناكف به زميله في الطب والفلسفة ابن زهر -وكان من أهل أشبيلية- والذي برع كذلك في الشعر والنغم والتوشيح: “إذا مات عالم بأشبيلية فأريد بيع كتبه حُملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حُملت إلى أشبيلية”، في إشارة إلى المكانة العلمية البارزة لقرطبة آنذاك. خلف ابن رشد ذرية درسوا الفقه وعملوا بالقضاء، وقد برع ابنه عبدالله في الطب وفي بلاط الخليفة تحديداً، كما برع هو من قبل.
أما في الحديث عن بعض مناقبه، فيُذكر أن ابن رشد قد عفّ عن منادمة الأمراء خلاف أقرانه الذين كانوا من المقربين لديهم، لا لشيء سوى اتقانهم فنون المسامرة وسياسات التحبب، فاتخذ جانباً واكتسى بالسكينة وراض نفسه على الوقار والورع، وقد ترك المزاح، حتى قيل إنه أحرق ما نظمه من شعر في صباه، ذلك لأنه أنف أن يُروى عنه شيء في الغزل، غير أنه كان يجود في مواطن الحكمة بما يحفظ من الشعر العربي لحبيب والمتنبي. يعقّب العقاد في هذا الجانب قائلاً: “يظهر أن شهرة القاضي بالفلسفة قد جعلته موضع النظر مع الحذر، فلما استدعاه المنصور ظن أهله وصحبه أنه عازله ومنكّل به، فلما خرج من عنده بعد تلك الحفاوة أقبل عليه صحبه يهنئونه، فقال لهم قولة حكيم: (والله إن هذا ليس مما يستوجب الهناء به، فإن أمير المؤمنين قربني دفعة إلى أكثر مما كنت أؤمل فيه أو يصل رجائي إليه). وكلمة كهذه تكشف عن بصيرة الرجل وصدق رأيه كما تكشف عن سليقة المعلم فيه، فإنه لو كان من أهل المنفعة بالمناصب لسرّه أن يؤمن الناس بزلفاه عند الخليفة، ولكنه علم الحقيقة فآثر الإرشاد بتعليمها على الانتفاع بما اعتقده الناس من وجاهته، وأيقنوه من عظم منزلته عند ذوي السلطان”. كان ابن رشد يرُى واقفاً في مجلسه لاستقبال زائريه، مسامحاً في حق نفسه غير مسامح في حق غيره، وقد قيل إنه بذل عطاءً لأحدهم وقد أهانه، وحذّره من فعل ما فعل مع الغير توخياً لغضبهم. ومما يؤثر له تحرّجه من إصدار أحكام الموت، وقد كان يبعث إلى نوّابه في الولايات للتحقق قبل القضاء.
وعن شأنه الذي علا، فيذكر التاريخ أن نجم ابن رشد بزغ عندما استدعاه الخليفة أبو يعقوب المنصور في دولة الموحدين ليستشف بداية ما يحمله الرجل من علم، حتى إذا أمكنه منه كلّفه بشرح مخطوطات الفيلسوف الإغريقي أرسطو التي تُرجمت في المشرق العربي، إذ استعصى عليه فهمها، وقد كان ذلك كله بإيعاز من الفيلسوف ابن طفيل -صاحب قصة حي بن يقظان- المقرّب للخليفة. وكمفارقة، جاء اهتمام الخليفة بعلم الفلسفة رغم اعتناقه المذهب الظاهري الذي يأخذ بظاهر النصوص والمتحرّج من التأويل، وقد كان المذهب السائد في تلك الآونة رغم وفاة إمام المذهب ابن حزم بزمن طويل. وعلى الضفة الأخرى، يُعرف ابن رشد عند الأوروبيين باسم (آفيروس) وقد ذاع صيته لديهم ابتداءً من العصور الوسطى لا سيما من خلال شروحه لكتب أرسطو التي تُرجمت إلى العربية ومن ثم إلى اللاتينية، ففي حين عُرف أرسطو عندهم بـ (الفيلسوف) عُرف ابن رشد بـ (الشارح) أو (المعقّب)، وقد كان على رأس من اهتم بنقل شروحه إلى اللاتينية القديس توما الأكويني. ومما يلفت الانتباه في فطنة ابن رشد هو تطابق المعنى الذي نقله عن أرسطو، إذ لم ترد عنه سوى هفوات في بعض الأسماء، وهي أقل بكثير مما يُحصى على أي متمكّن من اللغة اليونانية نفسها. والطريف في الأمر أن الفضل في نشر فلسفة ابن رشد المسلم في أوروبا يعود في جزء منه إلى اليهود الذين تم اضطهادهم مع المسلمين بعد سقوط الأندلس وتفرّقهم في أنحاء أوروبا، وعلى رأسهم تلميذه الفيلسوف اليهودي موسى ابن ميمون وتلامذته من بعده. يقول العقاد عن هذه المفارقة: “رزق ابن رشد أنصاراً ومعجبين من أصحاب الأديان الثلاثة لم يرزق مثلهم فيلسوف قبله ولا بعده، وهو هو الذي كان له مصادرون ومضطهدون من أتباع كل دين وخدام كل سلطان، ولو أن المصادرين عملوا قصداً وعمدا على نشر آرائه وشروحه لفاتهم بعض النجاح وأخطأهم بعض التدبير”. وهنا، يتعرّض العقاد لعدد من المفكرين الغربيين الذين تناولوا سيرة الفيلسوف المسلم. فهذا المفكر الإنجليزي جون روبرتسون يعتبر أن ابن رشد قد عاصر زمن الانحطاط الفكري الذي لم يشفع له ظهوره فيه بمظهر الورع، في الوقت الذي أخذ فيه من كتب الأولين لا سيما اليونان وفلسفتها التي حرّم خليفتهم النظر فيها “ولم يطل عهد العرب في الأندلس بعده! فلما أفل نجم سعدهم كان الدين قد حل محل الفلسفة، وبذا دللت دولة الأندلس في جو من التقوى”. وبينما يعتقد العقاد أن روبرتسون قد بالغ في رسم صورة التداعي التي حلّت بالفيلسوف المسلم وفكره، فإنه يشيد برأي المؤرخ الفرنسي إرنست رينان الذي “قال إن عداء الشعب الأندلسي للفلاسفة كان قوياً جداً، ولكن اللوم فيه راجع إلى عنصر المسيحيين المغلوبين وهم أهل البلاد أصلاً، وكانوا من قديم الزمن متشددين في الدين وكانوا معرضين عن العلوم الصحيحة مثل الفلك والطبيعيات”. ثم يعقّب العقاد قائلاً: “ونحن نرى رأي رينان ونزيد عليه أن ما أصاب ابن رشـد وأصحابه كان مظهراً من مظاهر أخلاق أهل إسبانيا، لأن أمثاله في الشرق لم ينلهم أقل أذى، ولو كان الاضطهاد من لوازم الإسلام ما نجا منه أمثال الكندي والفارابي وابن سينا”. وعلى الرغم من تبجيل الأوروبيين للفيلسوف المسلم حتى اليوم، فقد حظي بنصيبه منهم في النبذ والذم واللعن، وذلك حينما حاربته الكنيسة فيمن حاربت وعادت من الفلاسفة باعتبارهم زمرة من مهرطقين وزنادقة، وقد اختصه دانتي في لوحة جحيمه المزعوم ضمن ملحمته الشعرية، وهي اللوحة المنقوشة حالياً على إحدى سقوف الفاتيكان.
لقد ترك ابن رشد الكثير من المآثر. ففي (الفقه) وعلى الرغم من اعتناقه المذهب المالكي كحال أهل المغرب آنذاك، فقد كان في موقعه كقاضٍ يحيط بفروع وأصول الفقه ككل، ويطرق آراء كافة المذاهب في المسائل المختلف عليها. أما (الطب)، فقد كان يرى أنه صنعة تقوم على “مبادئ صادقة” غايتها سلامة البدن وشفائه من المرض، والتي يجب أن تتم بالوقت والقدر الصحيحين لتحظى بغايتها. وهو يقسّم هذه الحرفة إلى سبعة أجزاء، تبدأ من شرح أعضاء الجسد الظاهرة، وتنتهي بطرق العلاج، وكان يقول في دروسه عنها: “من اشتغل بعلم التشريح ازداد إيماناً بالله”. ومن ناحية (الغذاء)، فقد فصّل في فوائد مجموع الأغذية من خضار وفاكهة، كوسيلة لصحة البدن وعلاجه في حال المرض، كما رأى أن الحرارة التي تبعثها ممارسة (الرياضة) من شأنها أن تنمي الجسد وتعزز الروح وتطيّب كافة الأعضاء، ويقول بشدتها حال تركها وهو يستشهد بحال السجناء البائس من إنسان وحيوان على حد سواء. لقد ترك ابن رشد ذخيرة من المؤلفات استعرض العقاد أشهرها متسلسلة بعمره، حيث بدأ بأولها (كتاب الكليات) في الطب وهو ابن السادسة والثلاثين، وانتهى بآخرها (كتاب المنطق) وهو شيخ في السبعين وأثناء محنته التي أودت بحياته. بشكل عام، لقد ترك الفيلسوف ما يزيد عن المائة كتاب وصل منها بالعربية وبقلمه تحديداً النزر اليسير، إذ أن معظم مؤلفاته قد تمت ترجمتها فعلياً إلى العربية من اللغتين العبرية واللاتينية. يعود السبب في ذلك إلى ما ألحقه الأسبان من دمار بكل أثر إسلامي بعد سقوط الأندلس منها حرق الكتب الإسلامية، إضافة إلى ما أحرقه المسلمون أنفسهم في حضرة الفيلسوف أثناء محنته. لقد عكس أسلوب ابن رشد في التأليف شخصية فلسفية مميزة، إذ ظهر جاف اللغة صعب المراس قاسي اللهجة في التعاطي مع معارضيه، ومعبراً عن نفسه مسهباً في رأيه في أسلوب رفيع وواضح، وهو في هذا يُفصح عن مرتبة مرموقة في النبوغ الفكري. لقد وضع في الفلسفة: كتاب/ تهافت التهافت، وفي الفقه: كتاب/ بداية المجتهد ونهاية المقتصد، وفي الإلهيات: كتاب/ كشف مناهج الأدلة، وفي الطب: كتاب/ تفسير الأرجوزة لابن سينا، وفي العلم: كتاب/ الشرح الصغير للجزئيات والحيوان، وفي الميتافيزيقا: كتاب/ ما بعد الطبيعة، وفي السياسة: كتاب/ الخطابة لأرسطو.
أما عن فلسفته، فقد بلغ ابن رشد مرتبة مرموقة من الكمال العقلي والفكري، وقد اعتبر الفلسفة الأخت الرضيعة للشريعة بل ومقدمة عليها، فبينما يقطع الفيلسوف بيقين عقلي بما يوافق الحق، يقطع الفقيه بيقين ظنني وحسب! عليه، يرى أنه من الواجب تقديم البرهان العقلي على تأويل النصوص الظاهرة. وفي العقيدة، يرى أن المسلم الحق هو من أيقن المعنيين الواردين في كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، أي في اليقين بوجود الإله واليقين بوحدانيته، غير أن من ناحية الشرع والإيمان، فإن الناس عنده يتفرّقون بين ثلاث: (الخطابيون) وهم الأغلبية وليس لهم شأن في التأويل. (الجدليون) وهم أهل التأويل الجدلي. (البرهانيون) وهم أهل الحكمة وأصحاب التأويل اليقيني. ولعل من أعظم الجوانب التي تبُرز مكانة ابن رشد كفيلسوف وتنضح عن فكر فلسفي غزير، كتاب (تهافت التهافت) الذي تصدى فيه لرأي حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي عن كتابه (تهافت الفلاسفة). ففي حين نصّب الأخير نفسه مدافعاً عن الشريعة ضد فلسفة الفلاسفة وقد كفّرهم ولعن معتقدهم وتوعدهم بعذاب النار، نصّب الأول نفسه نصيراً للفلسفة ومدافعاً عن الحكمة، ودحض ما لحق بها وأهلها من قدح وعار، وذلك بعد قرابة المائة عام من وفاة الإمام الغزالي. ومن جملة ما تعرّض له في كتابه ثلاثة مساءل شائكة، هي: قدم العالم. علم الله بالجزئيات. بعث الأجساد بعد الموت. ففي المسألة الأولى يرى أن وجود العالم وهو خلق من خلق الله يخضع لمشيئته، ومشيئة الله قديمة ليس لها ابتداء. لذا، فالعالم عند ابن رشد قديم. أما المسألة الثانية فلم يعرها ابن رشد الاهتمام الكافي لرفضه إلحاق مثل هذا القول بالفلسفة، ويرى أن علم الله الأزلي غير مجانس لعلم البشر المحدث، ويستشهد بالرؤيا الصادقة التي يعتبرها من جزئيات حادثة في زمن قادم، أو كعلم ينذر الإنسان في نومه من لدن علم أزلي كلي. وفي هذا، يظهر ابن رشد مكتفياً بيقينه الذي يجعل فيه علم البرهان مستمداً من وحي الله، فكان يقول: “إن علم البرهان نفسه إنما هو من وحي الله”. أما عن المسألة الثالثة، فيُستخلص من رأيه الاعتقاد بعدم فناء الروح، فهي من أمر الله، وأنه من غير الواجب الخوض بما يخالف الوحي وما جاء به الرسل. لقد كان يرى أن الروح هي مجتمع النفس والعقل، غير أن العقل أرقى من النفس، كجوهر مستقل وغير قابل للفناء. يختم الفيلسوف كتابه وقد أبدى كراهية الخوض فلسفياً في الأمور الإلهية واستغفر لهذا، ولولا “ضرورة طلب الحق مع أهله” ما كان قد تكلم بها كما أوضح.
في علم الإلهيات وما بعد الطبيعة، يردّ ابن رشد على القائلين بأن العالم “غير واجب الوجود” وهو “قابل للتغيير” بناء عليه، غير أنه يرى بأن الله قد خلق الخلق على صورة ما لحكمة ما، فلا تتغير، وإلا كان هذا عبثاً ويستحيل العبث في خلق الله. أما في التصوف، فينتقد طرق المتصوفين في النظر للأمور من غير مقاييس، إذ يرون أن معرفة الله تُلقى في النفس وهذا يتأتى بإماتة الشهوات. وعلى الرغم من أن ابن رشد اعتبر إماتة الشهوات شرطاً في الحصول على المعرفة، فإنها لا يمكن أن تتأتى خالصة من خلالها. وفي كتابه (الكشف عن مناهج الأدلة) يلّخص رأيه في المعجزة، إذ يرى أن معرفة الحق الذي جاءت في دعوة النبي ﷺ مدعاة لتصديقه وليس لازماً أن يتحصّل بمعاينة المعجزات، إذ أن المؤمن لا ينكر قدرة الله بالإتيان بخوارق الأمور، فالمعجزات ممكنة، والقرآن الكريم هو حجة الإسلام لا المعجزات، ثم يستمر موضحاً أن حجة المعجزة وحجة البرهان تختلفان. وفيما يتعلق بـ “مذهب الاتصال” يرى أن نيل الحقيقة لا يتم إلا من خلال العقل وتحديداً عند بلوغه أعلى مراتب العلم والفكر، وهو عند هذا الحد يكيل ذمّاً للمتصوفين، فينكر عليهم زهدهم وقد نأى بنفسه عن مذهبهم، حيث كان يعتقد أن انتصار الإنسان على ملذات حواسه هو ما يقوده إلى الجنة بصرف النظر عن ملته، وهي درجة تؤدي بالتالي إلى بلوغ السعادة. رغم هذا، يرى أن طريق الوصول وعر ولا يتم إلا في الشيخوخة، بعد أن يكون المرء قد راض نفسه طويلاً في نبذ الزائل من عرض الدنيا والتعمق في الفكر والبحث. أما في رأيه عن الخلود، فيرى أن “العقل الفعّال” هو الخالد، وهو يعبّر عن عقل الإنسانية جمعاء. ولذلك جاءت الإرادة الإلهية بتناسل الإنسان، كسلوى وكنوع من التخليد. على هذا، يعتقد ابن رشد بخلود العقل في الحياة الأخروية، أما الحواس والعاطفة فهي من خواص حياة أدنى. وعن مسألة الجبر والاختيار، فهو لا يعتقد بحرية الإنسان المطلقة ولا بتسييره المطلق، إذ أن حريته فيما يأتي من أعمال كامنة فيه، غير أنها تخضع لظروف وقوانين طبيعية خلقها الله من حوله. ولابن رشد في رأيه عن المرأة ما ينم عن فكر متنوّر سابق لأوانه. إذ يرى أن تفوق الرجل على المرأة يكون في الدرجة فقط لا في الطبيعة، وهي تقوى كالرجل على ممارسة أعمال عظيمة كالفلسفة وخوض الحروب، لكن بدرجة أقل، ويضرب في نساء أفريقيا مثلاً في ذلك. غير أنه يعتقد بتفوق المرأة على الرجل في طرق الفنون كالموسيقى، ويجزل في عطائه حين يمّكن المرأة من حكم البلاد. لقد كان يقارن في أسى بين حال المرأة الأندلسية المسلمة ونظيرتها الأوروبية المسيحية وتفوق الأخرى عليها في مثل هذه الأمور. وبهذا، كان قد أنكر نظام العبودية الذي أخضع فيه المسلمون نسائهم، وحصرهن في جوانب الحمل والإنجاب والحضانة وما إليها من أمور بسيطة، فخسر المجتمع بهذا مواهبهن العظمى التي لم تُستغل، لا سيما أن ثلثي المجتمع في ذلك الوقت كان يغلب عليه النساء.
يختم العقاد كتابه بعرض جانب من محنته! فقد كان مما أغار صدر الخليفة المنصور مخاطبة ابن رشد له بـ “تسمع يا أخي”، حيث كان نصب عين الفيلسوف الإخلاص للعلم والعمل لا شيء سواهما، والأنفة من التزلف للأمراء وتنميق ألقابهم، وذلك خلاف ما كان عليه الكثير من نظرائه آنذاك. وقد كان من ذلك استجواب الخليفة له عن قوله “ملك البربر” في شرحه لكتاب أرسطو (الحيوان) عن الزرافة التي رآها لديه، الخطأ الذي عزاه الفيلسوف للناسخين، وصححه بـ “ملك البرّين”. لم تكن موالاة ابن رشد لأخ الخليفة المنصور المناوئ له ولا رفع الكلفة في مخاطبته ولا تسميته بملك البربر، ذرائع تليق بوجاهة الخليفة في انقلاب موقفه ضد ابن رشد، بل استغل وشاية أعدائه به من ناحية عقائدية لا سيما حينما عثروا بين مخطوطات كتبها بخطه متحدثاً عن فلاسفة اليونان قائلاً: “وقد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة”، فأحضره الخليفة على رؤوس الأعيان ملقياً مخطوطته بين يديه مستفسراً: “أخطك هذا”؟ فلعن كاتبه ولعنه القوم حين أنكره الفيلسوف. ومن الطريف أن الإغريق تسمي كوكب الزهرة بـ (فينوس) أي ربة الحب، وأصل الكلمة بنوت -جمع بنت- وتقلب بائها فاء في بعض كتب اليونان القديمة. يقطع العقاد بالنفي ويرى أن مثل هذا التلفيق قد جاء من جملة ما وشى به أعداء الفيلسوف وشهد عليه خلق منهم زوراً وبهتانا، في خطة غير معلنة لزندقته وإيغار صدر الخليفة عليه، وقد تم لهم ما مكروا. كذلك، جاء في ترجمة الأنصاري عن حديث الشيخ أبو الحسن الرعيني ما أسماه بـ “عظمى الفلتات” على ابن رشد، حين تم استفتاؤه مع عدد من شيوخ عصره في شأن ريح أصابت بلاد الأندلس والمشرق بأكمله، فأفتى أحدهم بأنها ثاني أعظم ريح بعد عاد، فما كان من ابن رشد إلا أن استطرد قائلاً: “ولله وجود قوم عاد ما كان حقا، فكيف سبب هلاكهم”. وهي كلمة قد أكبرها من حضرها لما تحمل من معان كفر بصريح القرآن. بطبيعة الحال، ينفي العقاد مثل هذا الروايات من خلال تحليل منطقي يستفيض فيه. يذكر تاريخ المغرب في هذا الصدد بأن الفيلسوف ابن باجة قد سبق صاحبيه ابن رشد وابن طفيل، إذ برع في الطب والأدب إلى جانب الفلسفة وفي نقل ثقافة اليونان إلى العرب، ما أثار غيرة زملائه الأطباء فمضوا بالدسيسة ضده عند خليفة دولة المرابطين ابن تاشفين، حيث انتهى الأمر بمقتله بعد دس السم في طعامه وهو ابن أربعين عام! وكأن القدر يشاطر الفيلسوفين ابن باجة وابن رشد نصيبهما من الحسد والوشاية، إلا أن ابن باجة قد اتقن صحبة الأمراء التي تنزّه عنها ابن رشد. وعن نكبته، يستصعب ابن رشد حادثة طرده وابنه عبدالله من أحد جوامع قرطبة على يد بعض سفلة القوم قبيل صلاة العصر، وقد انتهى به الحال إلى نفيه إلى مدينة (أليسانة) يمكث فيها ولا يبرحها. تكمن المفارقة حول هذا النفي في اليهود الذين كانوا أكثر ساكني تلك المدينة، وذلك في إشارة إلى عدّه من غير المسلمين لما حمل من فكر مناف لشريعة الإسلام حسب رأي قومه، بل والتشكيك في أصله. أعاد الخليفة ابن رشد من منفاه بعد أن اصطلح مع أخيه الأمير، فاستدرك خطأه وأقبل على الفلسفة يتعلمها بعد أن نبذها، لكن الفيلسوف ما برح أن توفى بعد مرضه الذي ألمّ به في محنته وهو في الثانية والسبعين من عمره، فدفن في مراكش ثم نقل جثمانه إلى مقبرة أسلافه في قرطبة حسب وصيته، على أصح الروايات. لم يطل المقام بالخليفة المنصور، فقد وافته المنية بشهر واحد من رحيل الفيلسوف. يبرر العقاد المنهج الفلسفي لدى ابن رشد قائلاً: “وكثير من آراء ابن رشد يخالف المعتقدات الإسلامية، والواقع أنه نُبذ لأن الخليفة اتهمه بانحلال العقيدة. على أنه لم يكن جاحداً منكراً للدين، بل عنده أن الدين يصور الحقائق الفلسفية على أسلوب المجاز، وهو يميز بين التفسير الحرفي لنصوص القرآن وبين معانيها التي يدركها الحكماء ويرتفعون بها وحدها إلى الحقائق العليا. ومن واجب الفلسفة أن تنظر فيما هو من تقليد الدين وما هو من القضايا التي تحتمل التفسير، وعلى أي وجه يكون تفسيرها”.
ختاماً، وفي أسطر من شجن، ينعى العقاد أرض الأندلس وأمة الإسلام جمعاء، إذ شاء الله أن تأفل نجوم العلم والفكر والحكمة كابن شد وابن طفيل وابن زهر في زمن متقارب أواخر القرن السادس الهجري، يعزوها الأمل في تقفي أثرهم، والاقتباس من نور إرثهم، وبحور فضلهم الذي لم ينضب بفقدهم. لقد كانت نكبة عظيمة تورّط فيها أولئك الذين راوغوا بالحق ليقرّوا بالباطل حين اتخذوا الدين مطية لمحاربة العقول، لا جهلاً، بل حسداً من عند أنفسهم نحو كل من أعلن كلمة الحق ضد أغراضهم الدنيوية وممالأة السلاطين، ممن كان الأكثر علماً وحكمة وبصيرة .. “قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ”.
رحم الله “الفيلسوف الأول” و “الفقيه الكبير” و “السياسي الحكيم” و “قاضي قرطبة” .. ابن رشد.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 12 اكتوبر 2022 – صفحة (10) جزء1
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 13 اكتوبر 2022 – صفحة (10) جزء1
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(30)
كتاب/ من شارع الرشيد إلى أكسفورد ستريت: قصص للضحك والبكاء
المؤلف/ خالد القشطيني
دار النشر/ دار الحكمة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة/ 3 – 1999
…
الإنسان وهو في مزيج من ضحكات ودموع
كتاب يحوي بين دفتيه مجموعة قصصية، يتأرجح فيها قلم المؤلف بين نتاج سياسي عنيف اللغة وبين سخرية لاذعة عن واقع الحياة وشظف المعاش .. في مزيج لا يتجانس من ضحكات ودموع، وحزن يغلّفه فرح.
يوضح المؤلف في المقدمة التي خطّها بعنوان (كلمة ونص) مدى واقعية القصص الواردة في مجموعته، فبينما يأتي بعضها من نسج الخيال يحاكي الواقع بشكل أو بآخر، يأتي بعضها حقيقة عاصر هو أحداثها وشخوصها. بيد أن المجموعة إجمالاً في مختلف الأحداث والوقائع والمواقف التي رصدتها تعكس صوراً يجد القارئ لنفسه بينها موضعاً أو لأهله أو لأقرانه، أو مما شهد عليه قليلاً أو كثيراً. ومن خلال نصف صفحة، يتعرّف القارئ على مؤلف المجموعة. إنه صحفي عراقي الأصل، ولد في بغداد واستقر به الحال في بريطانيا، وهو يحتل حالياً عمود في صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، ينشر فيها مساهماته الأدبية والفكرية والساخرة كذلك. يظهر الصحفي متعدد المواهب، حيث تفيد سيرته الذاتية دراسته للقانون والفنون معاً، وعمله في التدريس والتأليف والترجمة والإذاعة والإعلام. أما في نصف الصفحة الآخر، فيطالع القارئ جانباً من باكورة إنتاجه الأدبي الغزير. يقسّم المؤلف مجموعته إلى ثلاثة أقسام رئيسية تندرج تحتها تلك القصص المتنوعة، وقد نشرها ابتداءً في قالب مقالات صباحية، هي: من شارع الرشيد / وإلى أكسفورد ستريت / قصص بالإنجليزية. ومن المجموعتين العربية والإنجليزية أدّون هذه المراجعة، والتي تعتمد على الطبعة الثالثة للكتاب الصادرة عام 1999 عن دار الحكمة للطباعة والنشر والتوزيع، وقد عنيتُ شخصياً بترجمة الجزء الإنجليزي كما جاء في نصّه الأصلي بقلم المؤلف، وهي تشتمل على بعض الاقتباسات، بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
من المجموعة العربية:
كم هو الوطن غالٍ، وأسأل كل مغترب شريف، وأسأل منهم الأستاذ عبدالمقصود عندما طلب من صاحبه المسافر في زيارة خاطفة إلى بلده “حفنة تراب”، وقد أدخلت صاحبه في سلسلة من مغامرات في سبيل الحصول عليها انتهت ببعثرة “حفنة الوسخ” على أيدي ضباط الأمن في مطار البلد، وتقريعه بوابل من شتائم تبعتها نظرات اشتباه واتهام وازدراء أيضاً. يعكس المؤلف كل هذه المعاني في القصة الأولى (حفنة وسخ)، ويصوّر في لوعة منظراً على لسان بطل القصة وهو في رحلته، قائلاً: “وكان من الطبيعي أن تقودني قدماي في الأخير إلى المقبرة. كل الطرق في مدننا العربية تقودك في الأخير الى المقبرة. تستقبلك عند دخولك المدينة وتودعك عند خروجك منها. وتذكرك بأن من ماتوا أكثر عدداً ممن بقوا، وان ما عانيته من ازدحام الشارع والأسواق في طريقك إليها أهون بكثير مما ستعاني من ازدحام عندما يحملونك اليها”.
أتت قصة النساء المطاطيات في (المطاط في خدمة الجميع) تفضح ازدواجية بعض رجال العرب! تلك الازدواجية التي يلتحف فيها أولئك بجلابيب من وقار وأثواب لأعراف اجتماعية وأزر أخلاقية فوق ما هو حامي وطيسه من الرغبات الجامحة التي لا تقيّدها عفة ولا دين، لا يختلف في أواره الطبيب الحصيف عن نظيره المحامي المهيب وأخيهما الأخير البائس الفقير .. فهم سواء في إطلاق المكبوت حين يجن الجنون أو حتى حين لا يجن. تأتي المفارقة في أن الفضل بحصول سعد بن مظلوم على وكالة دمى النساء الكاوتشوك المصنوعات بحِرَفية في بريطانيا، يعود إلى أستاذ ما للتاريخ الإسلامي في جامعة بغداد، والذي اطلعه على بعض المجلات الإباحية. وقد عاب هذا الأخير على الأوروبيين إلغاؤهم تجارة الرقيق الأمر الذي آل بحرمانهم التمتع بالإماء وملكات الأيمان، حتى جاءت تلك النسوة “اللاستيك” بتضاريسهن وألوانهن وطُهرهن وخنوعهن يضاهين “الأمة المبتاعة في غربي أفريقيا” بل حتى “الزوجة المعقود عليها في عالم الشرق”، في حين جاءت كلفة الواحدة منهن دينار فقط لا غير عن كل ليلة ليلاء.
على الرغم من عدم توضيح المؤلف مدى واقعية قصته التي جرت أحداثها في متحف اللوفر مع زميلة الدراسة الإنجليزية، والتي التقاها صدفة في عطلة الصيف هناك، فقد أثارت مزيج من انطباعات متضاربة عند قراءتها .. من السلاسة في تعامل الفرنسيين مع غير الناطقين باللغة الفرنسية، إلى الهواية العجيبة في تناول الطعام خلسة أمام ابتسامة الموناليزا، بغية استلهام الحس الإبداعي أثناء الرسم قبالتها، إلى الوقوع في شرها عند انكسار البيضة النيئة فوق السجاد التاريخي بالمتحف، وبين الإحراج العارم ومن ثم الهروب جرياً في أرجاء المتحف والتسبب في مزيد من الخسائر، ومع خيبة أمل الزميلة، انتهاءً بضياع وجبة العشاء الموعودة .. هي قصة أثارت الضحك والدهشة بجدارة في (سر ابتسامة الموناليزا). رغم هذا، يقول المؤلف في بدايتها: “الفرنسية هي اللغة الوحيدة في العالم تبدو فيها الأسعار المجحفة عذبة على أسماع الزبون”.
وفي (صراع مع الشمس)، لم ترحم تلك الأعراف الاجتماعية البالية فطيمة السقيمة التي أنهك جسدها ذاك المرض وتطلّب نقلها إلى مستشفى المدينة. ولأن النار تخمد أمام العار، اشترط وجهاء القبيلة على ابن عمها وخطيبها الفتيّ حميد بنقلها وإعادتها قبل غروب الشمس، وإلا فإن الألسن والدم والعار لهما بالمرصاد! يقول المؤلف وهو يصف الحال: “وطُرح الموضوع بكل القسوة المرتبطة بأي شيء يتصل بالعرض والناموس. لا بأس في أن يصطحب فطيمة ابن عمها وخطيبها إلى القرنة ويعود بها، ولكن عليه أن يكمل المرحلة ويعيد خطيبته إلى بيتها قبل غروب الشمس. أي تأخر عن ذلك سيعني بقاء الخطيبين في الخلاء تحت أجنحة الظلام، أو بعبارة أخرى تعرض شرف البنت إلى الدنس وكسران العرض”. لم تسعف شهامة ابن العم وسباقه مع الزمن إنقاذ ابنة عمه، فأعادها بالداء من غير الدواء قبل المغيب، فوفى حميد بنذر الحفاظ على شرف ابنة عمه، ولم توفِ فطيمة في ليلتها شربة الماء التي تمنتها قبل أن تسلّم الروح.
من المجموعة الإنجليزية:
في الرمزية التي حملتها قصة (من أجل الحب والمال FOR LOVE AND MONEY)، يظهر بوضوح كيف يضطر المواطن البائس إلى استغلال جزء من المال العام الذي يكون تحت تصرفه بحكم الوظيفة التي يشغلها، بغية تحسين وضعه المادي، وذلك من خلال أتان العجوز حسنة وحمار جبّار عامل النظافة، حيث تلجأ الأولى إلى تهيئة عش الزوجية لإتمام عملية تخصيب أتانها عن طريق حمار الثاني، طلباً في التكاثر والإعانة على شظف العيش. غير أن الحمار لم يكن فحلاً كما كان متوقعاً بل “إنه وحش مؤمم .. إنه حمار حكومة”، كما صرح الشيخ الروحاني حين لجأ إليه الاثنان ليرى ما الخطب، وقد دفعا له أجرته وأجرة عمّاله، وقد عمل فيما بعد على تحضير وصفة نادرة من المنشطات تحتوي على تمر قديم ممزوج بنشارة خشب وبرسيم أحمر جاف منقوع في حليب إبل حامض، مستعيناً بوصية الشيخ والي البرثولي إلى خصي السلطان عبداللطيف في كتابه (تسع وتسعون صنيعة حب للحيوانات ذات الحوافر)، والمتضمن اقتباسات كثيرة من الكتب المقدسة. في الوقت الذي ينشط فيه الحمار عن عجزه، تتطور الأمور إلى أسوأها، حين يقتحم كبير المفتشين مسرح الجريمة الذي كان يحتل قارعة الطريق، ويعاين بالجرم المشهود سوء استغلال موارد الدولة، حينذاك تكون “انتهت اللعبة” ويخسر جبّار وظيفته على إثرها، ومن ثم “كان لا بد من فصل المخلوقين، وهما ملكا القطاع الخاص والقطاع العام للاقتصاد المختلط للجمهورية”. تُختم القصة بمشهد لأربع مخلوقات تقطع الصحراء في سعادة، يستمر فيها جبار وحسنة بالنظر ورائهما طوال الوقت وهما يحفزّان البهيمين على السير، وبالزجر أحياناً بـ: “خذ يا ابن الكافر”. يقول المؤلف ختاماً: “وخلفهم، حيث عاشت حسنة سنوات عديدة، ظلت عربة الحمير واقفة في مكانها وما زالت حمولتها الكاملة مشغولة وعموديها متجهان إلى أعلى. سرعان ما أصبح مشهداً مألوفاً وتوقف الأطفال عن تسلقه وتوقف المتسولون عن البحث فيه. وانتشرت القصة في جميع أنحاء الحي من فم إلى فم: (هربت حسنة العجوز مع حمار الحكومة)”.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 19 اكتوبر 2022 – صفحة (10)
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(31)
كتاب/ ثرثرة فوق دجلة: حكايات التبشير المسيحي في العراق 1900-1935
المؤلف/ خالد البسام
دار النشر/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر
الطبعة/ 1 – 2004
…
التربّص الأمريكي بأرض العراق .. ماضياً وحاضراً
كتاب تأريخي يتحدث عن الحملات التبشيرية التي توافدت على أرض العراق نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، من خلال عرض مجموعة من الترجمات لعدد من التقارير التي تم نشرها في المجلة الدورية للإرسالية الأمريكية تحت عنوان (الجزيرة العربية المنسية)، في تلك الفترة. يضم الكتاب أيضاً عدد من الحكايات التي سطّرها المبشّرون الأمريكيون في رحلاتهم وأعمالهم وأنشطتهم ومغامراتهم على أرض العراق، بالإضافة إلى آرائهم وانطباعاتهم عن الفرد العراقي والبيئة العراقية ككل، مع عدد من الصور التوثيقية.
يؤلف الكتاب (خالد البسّام 1956 : 2015)، وهو كاتب ومؤرخ بحريني، درس اللغة الإنجليزية في جامعة أكسفورد في بريطانيا، واللغة الفرنسية في جامعة فيشي في فرنسا، وتقلّد منصب رئاسة التحرير لعدد من الصحف والمجلات الخليجية وعمل كمراسل لجريدة الحياة اللندنية، وترك ما يزيد عن الثلاثين إصدار تنوّعت مواده بين تاريخ الخليج العربي، وسير الأعلام والساسة، وعدد من الروايات. لذا، تعتمد هذه المراجعة للكتاب على الطبعة الأولى الصادرة منه عام 2004 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وهي تحتوي على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
يسرد المؤلف ابتداءً قائمة من أسماء أعضاء البعثات التبشيرية المسيحية الأمريكيين الذين تكالبوا على أرض العراق، وقد بدى لهم القيام بمهمة (البشارة) على خطى السيد المسيح عليه السلام حين أرسل تلاميذه في أنحاء المعمورة للتبشير باسمه .. أو بتعبير ثقافي أكثر تحضّراً، تقديم خدمات إنسانية للمجتمعات التي هي بحاجة ماسّة إليها حسب تقديراتهم، مثل التعليم، محو الأمية، الرعاية الصحية، العدالة الاجتماعية، التنمية الاقتصادية، وغيرها. فهنا المبشران «فرد بارني» و «شارون توماس» يرويان عن البصرة وبغداد في عام 1900م متقصدين أجوائهما: “لا مفر من صيف العراق”، بينما يتجول المبشر الأمريكي «هاري وريزم» في جنوب العراق عام 1901م وهو يكتب ملاحظة ذات مغزى: “العراقيون يمزقون كتب التبشير”، يتبعه المبشر الأمريكي «اف بارني» في نفس العام وهو يروي حكايات أخرى عن التبشير معلّقاً في أسى: “كتب ممزقة وحوادث خطرة”. أما المبشرة الأمريكية «وورال» التي وفدت إلى مستوصف البصرة عام 1903م، فتسجّل أولى انطباعاتها في انزعاج وقد عاينت نسائها: “نساء جاهلات ومزعجات”، في حين يستهل المبشر الأمريكي «جيمس موردياك» جولة تبشيرية في نفس عام 1903م وهو لا يخفي إعجابه بما رأى قائلاً: “العمارة مدينة جميلة ومكان صحي”. ثم تكتشف المبشرة الأمريكية «وورال» وهي في مستوصف البصرة كذلك عام 1904م بأن: “خبز البصرة يعالج الملاريا”، في حين يتجول المبشر الأمريكي «جون فان ايس» في جنوب العراق فترة عيد الميلاد عام 1906م ويدوّن ما لاح له في تجواله تحت عنوان “ثرثرة على دجلة”، وقد قام المبشر الأمريكي «د. دياكسترا» من بعده بالذهاب في رحلة نهرية جنوب العراق عام 1907م، وتطرّق إلى “أحاديث التمور والدين”، بينما لا يخفي المبشر الأمريكي «إف بارني» في نفس العام حقيقة الوضع الذي عاينه في مدرسة البصرة أيضاً، من حيث أن هنالك: “مشكلات لا تنتهي ومال لا يكفي”. أما في عام 1908م فيطوف المبشر الأمريكي «آر وورال» نهر دجلة في نزهة يصفها بأنها: “رحلة تخلو من التبشير والأناجيل”، حتى يصل المبشر الأمريكي «إي مارتين» إلى بغداد والموصل عام 1911م فيلفت انتباهه الجو من جديد ويقول ممتعضاً: “صيف طويل لا يطاق”، غير أن امتعاضاً آخر يلحق به في نفس العام أيضاً يسجّله المبشر الأمريكي «أدوين كاليفري» الذي قدم لكي يبشر في العمارة، وهو يقول: “تبشير تطارده المشكلات واللعنات”. أما في عام 1924م فيبدو أن المبشر الأمريكي «جيمس كانتين» الذي قدم إلى بغداد قد أخذ مهمته على محمل أكثر جدية قائلاً: “تغيرات كثيرة بانتظارنا”، بينما يكتب المبشر الأمريكي «ألبرت أدوارس» وهو على الطرف في مدينة الحلة عام 1926م، في مذكراته عن: “مقاه تشرب الشاي وتقرأ الإنجيل”. أما المبشرة الأمريكية «سوانتينا يونغ» التي كانت تدير مدرسة البصرة للبنات عام 1929م، فتكتب في انبهار عمّا اعتبرته إنجازاً: “فتيات يعزفن البيانو ويسمعن حكايات ألف ليلة وليلة”. وبينما يتولى المبشر الأمريكي «ج غليسييز» مهمة التبشير في كردستان عام 1931م، ويعاين: “حشود الجوعى والمشردين تحبط خطط التبشير”، كان الطبيب الأمريكي «وليم موردياك» يمارس مهنته في العمارة عام 1933م والتي أطلق عليها “مستعمرة الجذام في العراق”، غير أن المبشرة «دبري توماس» تروي حكاية مدرسة الإرسالية الأمريكية للبنات في بغداد عام 1934م وتقول إنها: “مدرسة النظافة والسعادة”. يعود المبشر الأمريكي «جي بينيغر» إلى العراق في نفس عام 1934م بعد غيبة طويلة فيسجّل أول انطباعاته قائلاً متعجباً: “كم تغيرت البصرة”، حتى يفد من بعده المبشر الأمريكي «جون بادو» إلى بغداد عام 1935م، فيوثّق حقيقة ماثلة بعد كل هذا العناء قائلاً: “مكتبة التبشير تحاكم بالكفر”.
بينما كان أولئك المبشرون يعتقدون أن “للمسيح حق في استرجاع الجزيرة العربية” .. الحق الذي تأسس عليه الهدف التبشيري الأعمّ، فقد تحددت مدينة البصرة كنقطة انطلاق نحو تحقيقه “وذلك لكثافة سكانها، وسهولة الوصول إليها، وموقعها الاستراتيجي الذي يميزها عن بقية الأماكن”، والأخطر من هذا كله “أنها قد تسهّل مهمة النفاذ إلى عمق الجزيرة العربية”، لا سيما تحت ظرف سيطرة البريطانيين على الساحلين الشرقي والجنوبي لشبه الجزيرة العربية. وفي خضم الحديث عن إنشاء مدرسة للبنات ضمت مائة وخمسين طالبة ثلثهن من المسلمات، كان حرص المبشرين الأمريكيين كبيراً في “تلبية كل الحاجات التعليمية للإناث هنا، ولعل الأكثر أهمية هو توفير مدرسين مسيحيين ومدربين جيداً”. وفي نفس إطار الحديث عن النهوض بالفتيات تحديداً وتعليمهن، فإنهن كما وجدوهم مع مضي الوقت وبثمرة جهودهم التبشيرية “قد تحررن من الأوهام الكثيرة في عقولهن حول الأفكار المتخلفة عن النساء التي تتصور أنهن أشخاص أدنى من غيرهن”. وفي الوقت الذي أثار احتراق مكتبة التبشير في مدينة العمارة عام 1903 الحسرة على ما تم فقده من نسخ للكتاب المقدّس قُدّر بأربعمائة نسخة، فقد كان الأسى أعظم في فقد عدد من موزعي الكتب المسيحية الأخرى في المدينة، لا سيما أن أحدهم كانت له القدرة “على إقناع ثمانية أو ربما أكثر من المسلمين بالحضور للصلاة المسيحية اليومية معه”. رغم هذا، فقد “كان أطباء الإرسالية في العمارة يقومون بمزاولة أعمال التطبيب في المستوصف، واستطاعوا بواسطة ذلك الحصول على متنصّرين جدد معتنقين للمسيحية”. وهناك في شمال مدينة البصرة، تقع مقبرتها التي تضم بين رفاتها “قبور طبيب الإرسالية: كريستين، وبينكليرت، وري دي يونغ، وجميع أعضاء الإرسالية الأمريكية الذين ماتوا في ومن أجل الجزيرة العربية خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية”. يقول المبشّر «كانتين» في حق أولئك المؤمنين الذين جاءوا من أجل تنصيرهم: “العرب أساساً أمة متدينة، ومهما يكن القول عن الأتراك أو غيرهم، فإن مشاعر وعقول العرب لا تسمح لهم بأن يكونوا ملحدين أبداً”.
لا شك أن فكرة التبشير في العموم تثير حفيظة معتنقي كل دين على حدة، لا سيما وفي هذا الكتاب قد تكالبت مهامّها على أرض عريقة عراقة التاريخ في تنوع حضاراتها واختلاف أديانها، بل يبدو أن الأدهى في أنشطة تلك الحملات التبشيرية هو استهداف معتنقي الدين الإسلامي تحديداً دوناً عن غيرهم، والذين جاء تفاعلهم مع تلك المحاولات -رغم بؤسهم وفقرهم وعوزهم- يُترجم الآية الكريمة “قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ”.
يثير الكاتب الشجن في نهاية مقدمته حينما قارب بين تاريخ العراق وشبّه ماضيه بحاضره وأمسه بيومه! فقبل مائة عام مضت، غزى أرض الرافدين طلوع المبشرين برؤوس أموال غير مكلفة، قادمين بأدوات بسيطة كالطباشير والكراسات والمشارط الطبية، مع مئات الآلاف من نسخ الإنجيل، بحجة تحرير أهل العراق من داء التخلف الإنساني العضال! واليوم، وبعد مضي تلك المائة عام، انطلقت الجحافل من نفس منصة الانطلاق على أرض الأمة الأمريكية اللقيطة متجهة من جديد إلى أرض الرافدين، ولكن بحمولة مدججة بالسلاح الفتّاك والعتاد الثقيل، إذ أنه غزو من أجل تحرير أهل العراق من الديكتاتورية .. في هذه المرة. فيقول كلمة تركها لله وللتاريخ: “من فرق تبشير أمريكية لا تملك سوى حماس نشر الديانة المسيحية والحضارة الغربية وسط بسطاء العراق عبر أدوات مثل كتب الإنجيل ومشارط الطب وطباشير التعليم، تغير «الغزاة» بعد عشرات السنين إلى غزاة آخرين من نفس البلاد .. اليوم جاءوا بجيوش جرارة (لتحرير) العراقيين من «الديكتاتورية» ونشر «الحرية». من فرق التبشير إلى غزاة الجيوش المتطورة مضت الآن أكثر من مائة عام بين غزو وغزو، بين تبشير بديانة إلى غزو عسكري يمتلك كل التكنولوجيا والقوة والمال”.
ختاماً، وبين غزوة وأخرى، تناثرت الحكايات والروايات والمهمّات والمآسي والمغامرات، ترجمها الكاتب بـ (ثرثرات) فوق دجلة، لا تزال مستمرة وبألسن متبلبلة .. وإن الليلة بالفعل بالبارحة أشبه!.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 26 اكتوبر 2022 – صفحة (10)
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
أنشر هذه المقالات في شهر نوفمبر/ تشرين2 2022
همى الغيث
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(32)
كتاب/ أرجوك لا تفهمني
المؤلف/ عبدالوهاب مطاوع
دار النشر/ دار الشروق للنشر والتوزيع
الطبعة/ 3 – 2001
…
مقالات تنساب حكمة في أروقة الحياة
ليس ثمة شيء يُدعى “نشوة الكتابة” حيث الوقت المسروق من يوم أي كاتب وهو مستغرق خلف مكتبه يحيك كلماته على الورق، إنما يقابله ما يُدعى “عناء التفكير” في موضوع ما، وشقاء التدقيق في كل كلمة، يليه هلاك التحقيق في المراجع لتوثيق معلومة واردة عرضاً، يتبعه “عذاب الشك” في قيمة ما قدّم، ثم “قلق الخوف” من مدى تقبّل القارئ! هكذا يصارح الكاتب الراحل عبدالوهاب مطاوع قارئه العزيز وهو يقدّم له كتابه الذي جمع بين دفتيه مقالات قصيرة تربط بين تأملات وخواطر وقصص إنسانية وتجارب شخصية وأخبار بعض عظماء التاريخ، مع شيء من الطرفة من هنا وهناك .. فيقول ابتداءً في خاطرة بعد صدور كتابه الأخير ضمن سلسلة طويلة من الإصدارات: “إني لم أتخلص بعد من وساوسي تجاه ما أكتب، ولم أجلس مرة لأكتب دون أن يراودني خاطر جميل أشبه بالحلم أستسلم له كثيراً، هو أنني قد وجدت لنفسي “عملا ” آخر بعيداً عن هذا العناء مع أني لم أتخيل لنفسي منذ كنت في الرابعة عشرة من عمري حياة أخرى بعيدة عن دنيا القراءة والكتابة، ولا أصلح لممارسة أي شيء آخر في الحياة سوى هذا الشقاء الأبدي”.
إنه إذاً محمد عبد الوهاب مطاوع (1940 : 2004)، الكاتب والصحفي المصري الذي حرر (باب بريد الجمعة) الأسبوعي في جريدة الأهرام المصرية فيما يقارب ربع قرن من الزمان، وساهم في زيادة نسبة التوزيع للأعداد الصادرة في ذلك اليوم، فقد كان يتلّقى أسبوعياً آلاف الرسائل من القرّاء التي تحمل هموم مادية أو صحية أو عائلية أو اجتماعية، فيتصدّى لها بأسلوب أدبي إنساني رفيع يجمع بين ثراء عقلي وجزيل الحكمة يدعمه بالمأثور من القول، وبمجهود شخصي يعينه فيه فريق عمله لإعانة أولئك واستقبال من أمكن منهم في مكتبه، حتى استحق لقب (صاحب القلم الرحيم) .. رحمه الله. بالإضافة إلى المناصب التي تدرّج فيها في الحقل الصحفي حتى وصل إلى منصب رئاسة التحرير، فقد أصدر زهاء الخمسين كتاباً تتضمن قصص إنسانية مختارة من بين رسائل بريد الجمعة، وشيء في أدب الرحلة، ومقالات في أروقة النفس والحياة.
لُطفاً لم يترك الكاتب عنان الأمر لنفسه حين قال: “ولو تُركت لنفسي، ما جلست إلى مكتبي إلا لأقرأ وأستمتع بما عانى غيرى لكي يسطره على الورق”، إذ لم يكن ليأتي هذا الكتاب الذي تنساب حكمته سلسة بين أدب وفكر وخواطر تتنشّق الحياة، وتعرض كيف يتناسخ البشر في قوالب من معادن نفيسة ورخيصة تتفاوت، وإن اختلفت أسمائهم وأشكالهم وعناوينهم. عليه، تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثالثة الصادرة منه عام 2001 عن دار الشروق للنشر والتوزيع، والذي يعلو غلافه رسم كاريكاتوري لفتاة تصدّ القارئ عن فهمها وقد ارتدت بدلة رياضية كانت سائدة عند جيل التسعينيات من القرن الماضي حيث صدور الكتاب، وباقتباس يسير بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
في مقالة (عفواً .. لقد نسيت)، يتحدث الكاتب عن ذاكرة الإنسان التي قد تخونه في بعض الأحيان رغم ما قد يكون عليه من دقة ملاحظة وحدّة في الذاكرة وسمات نبوغ وحنكة وعظمة أيضاً! فها هو القائد الفرنسي الأبرز نابليون بونابرت ينسى أخصّ الأمور في حياته اليومية، بينما يتذكر وبدقة تثير العجب أسماء ضباطه على كثرتهم، والمعارك التي خاضها، وتفاصيل المؤامرات التي حيكت ضده. أما العرب الذين عُرفوا بملكة الحفظ الخارقة والتي كان لها الفضل في حظوة كتب الأدب بالشعر الجاهلي، فلم يكن عجباً أن يزخر مجلس الوزير الصاحب بن عباد بألف رجل، وقد اشترط مسبقاً لمن سيلتحق بمجلسه الشعري أن يكون حافظاً لعشرين ألف بيت من الشعر. كذلك: “العالم الألماني اليهودي ألبرت أينشتاين الذي تبرع بمخه بعد وفاته لمراكز البحث العلمي لتقوم بتشريحه ومعرفه تكوينه وسر عبقريته، توصل إلى نظرية علمية معقدة كان عدد من يستطيعون فهمها في العالم كله في بعض الأوقات لا يزيد على عشرات، وكان يستطيع أن يجرى حسابات رياضية معقدة اعتماداً على ذهنه المتوهج وذاكرته العلمية المذهلة. ومع ذلك، فكثيراً ما شكى من ضياع قلم كان بيده منذ لحظات وعجز عن تذكر أين تركه، وفي بعض الأحيان كان يبحث عنه ويستنجد بزوجته فتمد يدها إلى مكتبه أمامه وتقدمه له”. أما في مقالة (قل لي من فضلك)، فيتحدث الكاتب عن عدد من المواقف المحرجة التي تعرّض لها بعض المشاهير في مواقف مختلفة، وصور من ردود أفعالهم ما بين دبلوماسية وسلاطة لسان، غير أن المقالة التي جاء عنوانها بالعبارة اللبقة (أوه باردون)، فهي في الحقيقة -رغم هذا- عبارة لا تنفع على الإطلاق في تبرير التعصّب بجميع أشكاله، كما يعتقد الكاتب، في حين تأتي مقالة (مجرد سوء تفاهم) الأشد وقعاً على النفس، إذ لا يلبث القارئ أن يلتقط أنفاسه أمام قصة بدت وكأنها من نسج الخيال، ليحبسها من جديد حين يعلم في خاتمتها بأنها قصة حقيقية ماثلة بأبطالها .. إنها قصة جريمة قتل في أبشع ما تسطره سخرية الأقدار وتصاريف الأيام، بين أم وفلذة كبدها.
تعرض (حياة صاخبة) في نهايتها صورة لجزاء من جنس عمل صاحبه، وعن دَيّن جاء سداده مخصوماً من عمره المحتوم! إنها قصة الفنان أحمد سالم الذي ظهر على شاشة السينما المصرية في أربعينيات القرن الماضي، والذي انغمس في حياة مترفة لا يردعه البذخ الطاغي فيها عن شيء! ففي إحدى سهراته الماجنة التي يحاول فيها أحد أصحابه الاستئذان باكراً -وقد كان طبيباً- بحجة عملية استئصال زائدة دودية سيجريها لأحد مرضاه صباح اليوم التالي، يتحداه سالم في استطاعته إجراؤها شخصياً لبساطتها وحسب، فليست بحاجة إلى طبيب ولا تستحق مغادرة السهرة من أجلها. يصل التحدي بين الصديقين مداه، فيسمح الطبيب -وقد كان من علية القوم- أن يباشر سالم العملية الجراحية، فيحين الوقت صباحاً ويتلّقف سالم المشرط ويستأصل الزائدة الدودية وسط ذهول الأطباء ليموت المريض بعد فترة وجيزة! وفي حين يتم التستر على الجريمة لنفوذ سالم وشريكه الطبيب من جهة، وضيق حال أهل المريض -فضلاً عن جهلهم بما حصل- من جهة أخرى، ومع استمرار الطغيان، يأبى العدل الإلهي إلا أن يقول كلمته الفاصلة في نهاية المطاف، حيث “تجيء النهاية الأكثر درامية لتلك الحياة العريضة الصاخبة رغم قصرها ويموت أحمد سالم في شرخ الشبـاب .. فهل تعرف كيف مات؟ بانفجار في الزائدة الدودية! فاجأه على حين غرة قبل أن يجرى له الأطباء تلك الجراحة البسيطة التي سخر منها ذات يوم وقال إن أي إنسان يستطيع أن يقوم بها بغير حاجة لدراسة الطب”.
ومع (إلهام زعلانة)، يعلّق الكاتب فتور سيل الكتابة لديه على مزاجه الذي لا يحضر دائماً، وما كانت (إلهام) سوى رمز لمزاجه المتقلب هذا! فهي إن حضرت استراح وسعد وسعدت معه أسرته بأكملها، وإلا خيّم الشقاق في الأرجاء والأجواء طوال اليوم. وفي هذا، يسترجع الكاتب سيرة عدد من الكتّاب العالميين من بينهم الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي، والذي كان “يستدعي تلك الغادرة فتواتيه صاغرة على الفور” حسب تعبيره. ثم يستطرد ليصّور أجواء من تلك المنحة التي حظي بها هذا الأديب، فقد كان يكتب واقفاً أحياناً، وعلى مائدة صغيرة لليالٍ طوال أحياناً أخرى، وإلى جانب سرير زوجته المحتضرة وبعد وفاتها أيضاً، “ناهيك عن الغرف القذرة التي كان يستدعيها إليها في معظم سنوات شبابه ورجولته وهو يكتب «الجريمة والعقاب» و «المساكين» و «المقامر» أو «ثلوج سيبيريا الموحشة»، التي صاحبته فيها أربع سنوات طوال، كتب بعدها روايته «ذكريات من منزل الأموات» التي صوّرت عذاب المنفيين في سيبيريا والعقاب الجسدي الذي يتعرضون له وأثرت في القراء تأثيراً عظيماً، حتى أن قيصر روسيا الإسكندر الأكبر كانت دموعه تسقط على صفحات الرواية وهو يقرأها، وأمر بتشكيل لجنة لبحث إلغاء العقاب الجسدي الذي صوره دوستويفسكي، وانتهى البحث بإلغائه سنة 1863 .. بفضل هذه الرواية قبل كل شيء”.
تلك غيض من فيض كلمات كُتبت في تسعينيات القرن الماضي، والتي لا يزال يتردد صداها إلى اليوم رغم رحيل كاتبها، وكأنه يؤكد على أن ما يصدر من القلب بصدق، يصل ويتواصل. وأختم بدوري هذه المراجعة بحكمة ختم بها الكاتب إحدى مقالاته قائلاً: “وما أحلى أن ينال كل إنسان مخلص لعمله وقيمه ومبادئه جائزته من النجاح والتقدير .. الآن أو غداً أو بعد غد .. لا يهم! لكن المهم هو أن تأتي الجوائز ذات يوم”.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 9 نوفمبر 2022 – صفحة (10)
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(33)
كتاب/ التقمص: أحاديث مع متقمصين (تجارب عملية)
المؤلف/ د. تورفالد دتلفزن
المترجم/ د. إلياس حاجوج
دار النشر/ دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة/ الأولى – 2002
…
سرمدية الروح في حيوات لامتناهية
التقمص .. هو مصطلح يعني لغوياً (ارتداء القميص)، وفلسفياً يعني (تناسخ الأرواح)، وعقائدياً يعني (خلود الروح بعد فناء الجسد)، أما علمياً فقد عنيّ المؤلف بما أوتي من علم وتخصص وخبرة وتجربة إثبات يقينه الراسخ بفكرة الحياة بعد الموت. لذا، يأتي كتابه عميق المحتوى وهو يتناول بإسهاب حقيقة انتقال الروح من جسد إلى آخر في تعاقب مستمر ومن خلال حيوات متتالية، وهو موضوع أزلي قد شغل فكر الفلاسفة وعلماء النفس ورجال الدين منذ القدم، ابتداءً من حكماء اليونان في حقبة ما قبل الميلاد، وحتى الأديان الشرقية كالبوذية والهندوسية والطاوية. يذكر المؤلف أن الفيلسوف وعالم الرياضيات فيثاغورس قد ادّعى لنفسه ثلاثة حيوات عاشها سابقاً منها حياته خلال حرب طروادة، وكذلك القيصر جوليان الذي ادّعى أنه عاصر السيد المسيح، وغيرهما أمثال أفلاطون وغوته وشوبنهاور وفيكتور هوجو ممن اعتقد بفكرة تناسخ الأرواح، وقد نُسب لهوراز الشاعر الإغريقي الذي عاش في روما قبل الميلاد قوله: “سوف لن أموت كلياً، فجزء جوهري من ذاتي يتملّص من القبر”. ولما لفكرة تناسخ الأرواح من جدلية لا سيما عقائدياً، ينفي الناشر ابتداءً شبهة سعي الكتاب نحو نشر عقيدة جديدة، إنما هو يسعى لطرح عرض للتفكير بطريقة مغايرة لنظم التفكير الطبيعي، على كل فرد أن يعتمدها بشكل شخصي يلج بها زخم الحياة، ليس للاعتزال فيها سبيل، وكما يؤكد “أما غاية هذا الطريق فهي الإنسان الكامل الحكيم”.
ينقسم الكتاب إلى أربعة أجزاء رئيسية يتفرع عنها عدّة مواضيع ذات الصلة يخوض فيها المؤلف الألماني د. تورفالد دتلفزن من وجهة نظره كطبيب نفسي مختص في التنويم المغناطيسي. فيستعرض في الجزء الأول عدد من الحالات العملية المتمثلة في الجلسات التحضيرية للأرواح، بينما يتطرق في الجزء الثاني إلى مفهوم الكارما وفن الموت والحياة بعده، في حين يعرض في الجزء الثالث الرأي العلمي الذي يتبناه الطب وعلم النفس وما وراء علم النفس من علوم الخوارق، حتى ينتهي في الجزء الرابع بالحديث عن الدين والطريق في الحياة. وعن مراجعة الكتاب، فتعتمد على الطبعة الأولى الصادرة عام 2002 عن دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، والذي عنّي بترجمته من لغته الأصلية الطبيب والمترجم والباحث السوري (د. إلياس حاجوج)، وهي مراجعة تشتمل على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
يعرب د. دتلفزن في مقدمة كتابه عن ذهوله، لا بل عن صدمته، فيما آلت إليه جلسة الترفيه المسائية التي قضاها مع أحد أصحابه في صيف ميونخ 1968، عندما أجرى تجربة (النكوص في العمر) عن طريق تقنية التنويم المغناطيسي على عدد من المتطوعين، وما أسفرت عنه هذه التجربة من خبايا ونتائج تكشف يقيناً رحلة الروح في حياة تعقب حياة، ومعايشة الولادة المتكررة على كوكب الأرض. وفي إحداها، كم كان عجيباً أن يتغاير خط يد (الوسيط) وهو تحت تأثير التنويم المغناطيسي في كتابة اسمه خلال مراحل عمره المختلفة .. من الطفولة حتى الشباب، وقد وثّق د. دتلفزن هذه النتيجة بصور فوتوغرافية عزّز بها كتابه، وكم كان أعجب ذلك الحوار الذي دار بين المنوّم والوسيط عن تفاصيل حياته اليومية خلال مرحلة ما من عمره، والتي انتكص فيها الوسيط من خلال منوّمه، إلى المرحلة التي كان فيها جنيناً، والظلام المحيط به في تلك اللحظة، وحالتي (الضيق) و (الامتصاص) اللتان شعر بهما، فيما يشبه مرحلة المخاض على حد تعبيره، ومن ثم الخروج إلى النور والانتقال بعد ذلك إلى حياة جديدة .. في شخصية مختلفة وظروف حياتية أخرى. رغم ذلك، يثير د. دتلفزن عدد من الشكوك المحاطة بعملية النكوص العمري، كتعمّد الوسيط تمثيل دور المتقمص، أو إملاء المنوّم قوله للوسيط من خلال قوة الطاقة ومهارة التخاطر.
يأسف د. دتلفزن على اضطراره قطع علاقته -طوعاً أوكرها- مع عدد ممن خضعوا لتجربة التنويم المغناطيسي على يديه، إذ بدى الأمر محرجاً لهم بعد إسهابهم في الحديث وهم على مستوى اللاوعي، لا سيما أن عدد منهم قد بدّل رأيه، وكذلك بعض من أصدقائه، بعد تلك التجربة. لذا، يستمر د. دتلفزن ليتحدث عن إشكالية التنويم المغناطيسي وما يكتنفه من غموض وشبهات حول السحر والشعوذة، الأمر الذي أدى إلى اقصائه طبياً من الحقل العلاجي رغم منافعه العظيمة كما أثبتت التجارب العلمية. وفي هذا يتطرق د. دتلفزن إلى مكتشف فن التنويم الدكتور النمساوي (ميسمر) عندما قام باستخدام بعض المغانط وضعها على جسد إحدى المريضات، وما أسفرت عنها التجربة من نجاح وشفاء قام بتجربتها فيما بعد على عدد كبير من مرضاه، الأمر الذي حفّزه للسفر إلى باريس في رحلة علمية بغية عرض اكتشافه الذي عدّه باهراً على المختصين، إلا أنه وُصم بالدجل والنصب بعد أن أخفقت أكاديمية باريس في البرهنة على اكتشافه علمياً. يقود هذا الموقف الداحض د. دتلفزن، للدفاع عن علم التنجيم ورفض وصمه بالدجل والشعوذة، وقد علم بأن الكثير من خصوم هذا العلم قد خاضوا فيه بغية محاربته وقد انتهى بهم المطاف إلى اعتناقه، فهو علم قائم على حسابات فلكية ثابتة ورسوم للسماء بيانية تختلف الآراء حولها فقط فيما يتعلق بسلوك الأشخاص وأطباعهم وحاضرهم ومستقبلهم. وهنا، يحدد د. دتلفزن ركائز ثلاث يقوم عليه أي علاج مرجّح في عصرنا الحاضر، وهي: طب بشري، تحليل نفسي، تشخيص تنجيمي. وعلى الرغم من قناعته بكفاءة علم التنجيم إلا أنه لم يقدّم الخدمة المطلوبة حتى الآن كما اعتقد، ذلك أن المنجمين تنقصهم المعرفة الطبية من جانب، والأطباء تنقصهم المعرفة التنجيمية من جانب آخر.
يبدي د. دتلفزن استنكاره من تسميتين بارزتين في مجال علم النفس العريض، إذ أن مضمونهما يخالف تسميتهما! فالسيكولوجيا لا تعدو أن تحوم في بحثها حول النفس، في حين أن الباراسيكولوجيا هي من تعني بحقيقة النفس. وقد أدت النظرة الدونية للباراسيكولوجيين إلى بذل الكثير من المحاولات من أجل البرهنة على الطاقات الروحانية والغيبية (كالتخاطر والاستبصار)، من خلال اخضاعها لطرق البحث العلمي واستخدام أدوات القياس المادية كالإحصاء، وهي بمثابة (الخسارة) كما عبّر، إذ كان ينبغي الوصول إلى درجة من الفهم العميق بها بدلاً من بحثها وظيفياً فحسب. ثم يشرع في عرض عدد من الحالات التي عاشت هنا وهناك، مثل حالة (بريدي مورفي) ابنة المزارع الإيرلندي في القرن الماضي وربة المنزل الأمريكية حالياً. وكذلك، حالة (شانتي ديفي) الطفلة الهندية ذات التسعة أعوام المولودة في عام 1926، والقابعة الآن في منزل والديها في مدينة دلهي، والتي كانت زوجة سابقة لتاجر أقمشة في مدينة موترا وأم لطفل يُدعى (لوغدي) وقد توفيت متأثرة في مرحلة نفاسها عام 1925. وحالة (عماد الأعور) الذي عاش حياتين في لبنان، الأولى في منطقة خربة والثانية في منطقة قرنايل. وفي حديثه عن الكارما، يرى د. دتلفزن أن المرء لا يُعفى مما لم يتم تسويته في حياته بعد مماته، إذ يصطحب معه مشاكله التي لم تُحل إلى حياته التالية، فما زرعه هنا يحصد ثماره هناك، وما لم يُستوفَ هنا حتماً سيُستوفى هناك. وعن هذا يقول عالم الطبيعة والشاعر غوته: “لحظة الموت هي تلك اللحظة التي لا تغادر فيها الروح القوة المركزية الحاكمة إلا لتدخل ثانية في علاقات جديدة، لأنها خالدة بطبيعتها”. في حين يشكّل الموت للبشرية الحدث الأسوأ، إلا أنه يُعتبر مكوّن جوهري للحياة ذاتها، فحتى يولد الإنسان من جديد هناك، عليه أن يتقبّل موته هنا. ويرى د. دتلفزن أن صراع الموت هو بمثابة كرامة للميت، وما يراه وقت احتضاره من تخيّلات إنما هي حديث عن انطباعات روحانية جديدة، لا يعكّرها سوى محاولات ذلك المتّشح بالرداء الأبيض وطاقم الإسعاف في إنعاشه .. إنه “حوار أخير كبير بين الحياة والموت” وأن الصراع من أجل الموت يجب “أن يتم تسهيله بعون إنساني” حسب تعبيره.
ينصح د. دتلفزن المرء بالتصالح مع القدر من غير جبرية أو جمود، وقد اعتقد بمشروعية ما جاء به الإنسان البدائي من اسقاطات القدر الطيبة والشريرة على قوى خارجية أسماها الإله، ويرى أن في هذا خير الإنسان إذ يستشعر ثواب الإله وعقابه ومسئوليته الشخصية، الأمر الذي يفضي به إلى مرحلة التصالح الدائم. وعندما يبدأ في حديثه عن (الطب) بمقولة لعالم الفيزياء الألماني ماكس بلانك، يبدو التوحيد متأصلاً فيها كنتاج حتمي للعلم الصحيح. إذ يقول: “لا وجود للمادة بحد ذاتها! هناك فقط الروح المحيي .. غير المرئي .. الخالد .. بوصفه أصل المادة .. مع الخالق المنطوي على الأسرار الذي لا اخجل من تسميته (الله)”. ثم يختم كتابه بنصيحة لكل باحث في أن يتعاطى مع كل ما في الحياة ويسترشد فيها طريقه خطوة خطوة بوحي من نفسه طالما أنه قد خُلق عليها وعاش فيها .. فلا لوم على من ادعى الجهل و لا لوم على من اختار .. وهو من يتحمّل تبعات اختياره وحده، إن كان صحيحاً أو خاطئاً .. فإن الجزاء من جنس العمل!.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 16 نوفمبر 2022 – صفحة (10)
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(34)
كتاب/ فقاقيع
المؤلف/ د. أحمد خالد توفيق
دار النشر/ دار كيان للنشر والتوزيع
الطبعة/ 1 – 2017
…
مقالات تتوخى النفع في أسلوب ساخر
كتاب مرح في الأدب الساخر يضم بين دفتيه مجموعة مقالات تحتّلها عناوين شائقة عايش الكاتب شخصياً أحداث بعض منها، وهي تسلّط الضوء على الواقع من مختلف زواياه في أسلوب فكاهي سلس ومسترسل تدفع القارئ لأن يبتسم كما شاء له الكاتب في العبارة التسويقية التي غطت غلاف الكتاب الأخير. وبينما يتنبأ الكاتب بأن القارئ لن يلبث حتى تفجّره تلك المقالات كالفقاعة فيبلل أرنبة أنفه، في تعبير ينمّ إما عن البكاء أم فرط الضحك، احتل تعبير (فقاقيع) عنوان كتابه القصير.
إنه د. أحمد خالد توفيق (1962 : 2018)، طبيب وكاتب مصري، تزامن عمله في الأدب مع عمله كطبيب استشاري في الأمراض الباطنية، وقد ذاع صيته مع سلسلة (ما وراء الطبيعة) التي استهل بها باكورة انتاجه الأدبي والتي حققت نجاحاً منقطع النظير عند طرحها، وهي تعني بأدب الخيال العلمي وتستقطب تحديداً فئة الشباب. له بالإضافة إلى هذه السلسلة العديد من الأعمال الروائية والمجموعات القصصية والمقالات الأدبية والكتابات والفكرية وعدد من الترجمات لإصدارات عالمية، بالإضافة إلى السيناريوهات التي قدّمها لأعمال درامية في السينما والإذاعة والتلفزيون.
تعتمد هذه المراجعة للكتاب على الطبعة الأولى الصادرة منه عام 2017 عن دار كيان للنشر والتوزيع، وهي تحتوي على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
في مقالة (سذاجتي)، يتطرق الكاتب إلى بعض المواقف التي استخدم فيها، وبكل ما أوتي من حسن نية، كلمة إنجليزية عامية أو صورة ما متداولة، وإذا بها ترتد عليه بسهام من اتهامات وسخريات، إذ كانت ترمز إلى أمور لا أخلاقية غفل عنها! وهكذا هو الحال مع من يتحدث بحسن نيته أمام من يحمل نفساً خبيثة .. وكما تقول العرب: (كل إناء بالذي فيه ينضح). أما من خلال القصة التي أوردها في مقالة (نيولوجيزم)، فقد أراد لفت الانتباه إلى الأزمة الحقيقية الماثلة بين جيل الآباء وجيل الأبناء لا سيما في اللغة المستحدثة عند الجيل الجديد ذات الطلاسم الأشبه بتلك المستخدمة في تحضير الأرواح أو كشفرات تُنذر بكارثة! حينها تتوارد شكوك الآباء -كرد فعل متوقع- وتتعاظم، حتى تنتهي بكارثة حقيقية .. رغم براءة أبنائهم وصدق نواياهم! وعن تجربة الكاتب الشخصية، يسترجع ذاكرته ويقول: “في مراهقتي، ظهرت في العامية المصرية لفظتان هما (سكة) بفتح السين، ومعناها (الشيء الرديء عديم القيمة)، و(ماشي) ومعناها يشبه OK .. وهما كلمتان معقولتان جداً، لكن أبي كان يوشك على الإصابة بالفالج كلما استعملتهما، وقد قال لي ذات مرة: (هنا بيت محترم! فإذا أردت استعمال لغتك هذه فلتذهب لبيت آخر)”.
يبتلع الكاتب في مقالة (هكذا قالوا) الكثير من ريقه المشوب بعرق وهو يترجم نصائح زوج غربي لزوجته، بحجة إبراز ما تتميز به الزوجة الشرقية النموذجية عن نظيرتها الغربية الفاشلة! هكذا برر الكاتب لزوجته تلك النصائح والتي اكتفت بدورها بتصويب نظرات الشك نحوه، وقد علمت أنه يحدّثها على طريقة (إياكِ أعني واسمعي يا جارة). ومن جملة النصائح: ليس التسوّق برياضة، ولا يوجد زوج على استعداد للتعامل معه كرياضة أبداً / إن كنت تريدين حل لمشكلتك فهاتها، أما إن كنت تطمحين للتعاطف فعليك بصديقتك لا زوجك / أي سؤال تسألينه وأنت لا ترغبين بإجابة عنه، فتوقعي إجابة لا ترغبين بسماعها / وعن المظهر “عندما ننتوي الذهاب لمكان ما فأي شيء تلبسينه مناسب فعلاً”. وفي مقالة (عن الهاموش وحمامات السباحة) يسطّر الكاتب ما راود العريس المتعالي في سرّه عن حقيقة أمنيات زملائه الساخنة في عروسه الفاتنة، وذلك عندما تزاحموا حولها بحجة تهنئتها، في الوقت الذي نظر إليهم جميعاً شزراً! أهي سوء نية يُلام عليها وحده؟ أم أن الرجل يعرف عادة ما يفكّر به كافة الرجال، فيُصبح تعميم اللوم والتقبيح والازدراء عليهم جميعاً عدلاً؟ وعلى حد وصف الكاتب كشاهد من أهلها: “راح ينظر لنا في مقت شديد ولسان حاله يقول: انتهت اللعبة يا أنذال .. هذه الحسناء لي أنا وحدي وعليكم أن تعودوا لبيوتكم لتعبثوا في أنوفكم وتناموا مبكراً”.
وفي مقالة (هل تأملت نهراً؟)، يصيب الكاتب كبد الحقيقة وهو يثبت أن من بعض (الجنون فنون)، وأن بعض نتاج ما يُسمى بـ (الفن الحديث) ليس سوى ضحك على الذقون واستدرار للجيوب واستخفاف بالذوق العام. يضرب الكاتب في هذا مثلاً بفنان معتوه مغمور يستعين بصاحبه الصحفي الشهير، والذي يشير عليه بصبّ ما يشاء من أصباغ فوق بضع لوحات ثم يفتتح المعرض، في حين سيتولى هو بدوره مهمة التطبيل الإعلامي! يُفتتح المعرض وقد كان الصحفي المرتزق قد سوّق للوحات صاحبه على أنها إحدى ابتكارات ما أسماه بـ “الطريقة النفسية التحليلية”. وحتى يضمن لصاحبه الخروج سالماً من مأزق التأويل، فقد نصحه مستبقاً أسئلة الفضوليين بأن يجيبهم وهو ينفث الدخان من سيجارته في شرود، بعبارة: “هل تأملت نهراً يوماً؟” .. فيعمل بنصيحته ويتقن الكذبة الذكية ويُفحم المشككين وينجح المعرض. يبدأ الكاتب مقالته هذه بقصة شهيرة وردت عن (خروشوف) رئيس الحزب الشيوعي السوفييتي في ستينيات القرن الماضي، والذي “كان سليط اللسان لا يجامل، وهو أول وآخر رجل ينزع حذاءه ليدق به على المنصة في الأمم المتحدة. عندما زار معرضاً للفن الحديث، ظل يمشي بين اللوحات صامتاً، ثم قال في النهاية: (هذه اللوحات مرسومة بذيل حمار وأنا لا أقول هذا كناقد فني بل كرئيس اللجنة المركزية للحزب”. وفي نفس طاقة النقد، يوجه الكاتب أصابع الاتهام في مقالتي (طريقك إلى النجاح) و (من أجل مزيد من الجودة)، نحو ما تموج به الساحة من (برامج تنمية الذات) و (معايير ضمان الجودة)، وهي البرامج التي عدّ معظمها خواء لا تتجاوز حدود تنميق الكلمات والعرض الكاريزمائي التي تعود بالنفع المادي على مخترعيها فحسب، مقابل استغفال عقول من صدّق بها أو خشي أن يوصم بالجهل فسلّم وسبح مع التيار.
يستخلص الكاتب العبرة في مقالة (البنسات الثلاث) من رواية الشاعر الألماني بريخت، ومن خلال صديقه مراد الذي ما برح يندب قلّة حيلته وتواضع قدراته ويرثي حاله شاكياً باكياً، فيسمح لنفسه الاستعانة بأصحابه كل فيما برع ونبغ، حتى يستنزف خير ما عندهم إلى آخر رمق! لم يكن مراد سوى داهية بل والأكثر براعة بين أصحابه أولئك، فقد كان يحصل على ما يشاء من غير مقابل. يقول الكاتب وقد استشف الحكمة بعد خبرته لمراد وأفاعيله: “هنا خطر لي خاطر مفاجئ .. صديقي هذا ليس معدوم المواهب بل هو عبقري! إنه يملك موهبة السمسار أو مقاول الأنفار أو منتج السينما .. يعرف كيف يأخذ من كل إنسان أفضل ما فيه، وفي النهاية هو لا يدفع شيئاً سوى بعض السباب لنفسه وعبارات الشكر لصاحبه. لسبب ما قررت أن أقرأ البنسات الثلاثة كما طلب مني مراراً. قرأتها فوجدتها تحكي في نهايتها كيف أن كل إنسان في الأرض جاء الدنيا ومعه ثلاثة بنسات، بنسات الثري الثلاثة هي الفقراء .. إنهم رأس ماله، يعتصرهم ويأخذ منهم ما يشاء ليزداد ثراء! لابد أن هذه القصة أثرت في صديقي كثيراً. بنسات مراد الثلاثة هي نحن .. أصدقاؤه .. وهو يعرف جيداً كيف يعتصرنا وكيف يأخذ منا كل شيء مقابل بعض عبارات الامتنان”.
يسافر الكاتب في مقالة (انبهر مرة واحدة) إلى عوالم موازية فسيحة متعددة الأبعاد، ويأخذ معه القارئ ليجد فيها كل ما فقده في هذه الدنيا التي ضاقت بأهلها وأولهم (نفسه) .. وفي مقالة (فن التسخيف)، يؤيد الكاتب فلسفة السخافة لبعض الوقت من أجل إنعاش حياتنا الخاملة، كتلك الإثارة المفتعلة عند مشاهدة مغامرات سمك القرش، أو برامج الشتائم (وضرب الجزم) أحياناً على الفضائيات، أو حتى الاستمتاع بالأشياء الصغيرة التي قد تضفي سلاماً عابراً كموسيقى التايتانك أو وردة الحبيب .. ثم ينهي الكاتب مقالة (فيديو كليب يا باشا) التي تنتقد صرعاتها المثقلة بالعهر والإسفاف والابتذال بالحكمة الهندية القائلة: “إن الاستغراق في الآثام قد يؤدي إلى التطهر والقرف الأبدي منها” .. ثم يكشف الكاتب في مقالة (أمام المدفع) وهو الطبيب، عن زاوية من نظرة الأطباء بعضهم لبعض! فكم هو مقيت طبيب الأسنان وقد حمل عدّته المخيفة الأشبه بأدوات التعذيب لا العلاج، وكيف يرد زميله في الطب الباطني الصاع صاعين له عندما يلجأ إليه في مرضه، ليلعب على وتر التعذيب النفسي في تمثيل التوتر والتردد بعد الكشف، حتى وإن كان زميله معافى تماماً.
وعلى الرغم من التعاطف الذي يشوب مقالة (فن إقراض الكتب)، إلا أن هذا (الفن) ليس سوى ذنب لا يتحمّل وزره سوى من تكرّم وأقرض كتبه. يقول الكاتب في خاتمة المقالة ما يفي بإدراك الحكمة من ورائها: “في النهاية، يتحول الأمر إلى وغد لحوح -هو أنا- لا يكف عن تسوّل شيء ليس من حقه. ويحاول صديقي النبيل أن يعاملني بالحسنى وألا يجرح مشاعري، لكنني بصراحة اضغط عليه أكثر من اللازم .. في النهاية ينفجر في: (هي مجرد كتب .. وأنت لن تفسد صداقتنا من أجل بضعة كتب .. بصراحة لا أذكر أنني أخذت أية كتب منك ولا أذكر مكانها، لكن هذا لا يكفي كي تجعل حياتي جحيماً). هكذا أتلقى درساً قاسياً.. لا تضغط على أعصاب الحليم أكثر من اللازم .. الحق إنني سعيد الحـظ لكون هؤلاء العقلاء شديدي الحلم .. أصدقائي”. أما عني، فأحب إلى نفسي أن أكون في محل (الوغد) من أن أرتكب ذنباً لا يُغتفر .. وأقرض كتبي!
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 23 نوفمبر 2022 – صفحة (10)
…………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………….
(35)
رواية/ قلب كلب
المؤلف/ ميخائيل بولغاكوف
المترجم/ د. نوفل نيوف
دار النشر/ دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة/ 1 – 2007
…
المعدن الرخيص وطلاء الذهب
رواية مجنونة بقلم مؤلف عبقري، ينتقد فيها وبجرأة الواقع الروسي الذي كان يقبع تحت سلطة الحزب الشيوعي فيما كان يُعرف باتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية في القرن الماضي، في طرح أشبه بالخيال العلمي المشوب بفكر فلسفي يزخر بالكثير من الإيحاءات والتلميحات والإسقاطات، جاءت كلها في الصميم .. حيث تتمحور الرواية حول الإنجاز الذي حققه البروفيسور د. بريوبراجنسكي في تحويل كلب إلى إنسان من خلال تقنية طبية سابقة لعصرها، في رمزية فجّة ضد الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية البائسة التي سادت الحقبة الستالينية! لم يكن هدف الجرّاح عندما انتشل ذلك الكلب الضال من على قارعة الطريق وهو عليل، إلى عيادته الوديعة، وقام بعلاجه وإطعامه وتسمينه قبل إخضاعه إلى مجازفة جراحية، إلا أنسنة خَلقه وتهذيب خُلقه، وقد تكللت المجازفة بنجاح شبه تام إذ انقلب الكلب إلى إنسان حقيقي .. ما عدى قلبه!.
ويكاد يكون (القالب غالب)! ففي حين تبدّل الشكل الخارجي للكلب، وأتقن شيئاً فشيئاً لغة البشر، وارتدى بدلاتهم الأنيقة، واستمر إلى أن اعتلى منصباً قيادياً، أبت فطرته الحيوانية إلا أن تطغى، وأن يغلب طبع قلبه الكلبي تطبّعه، وأن يعصي ويشتكي ويخالف ويتمرد ويسكر ويتحرش ويعيث أينما حلّ الفساد. وعلى الرغم من ترعرعه كإنسان في وسط بروليتاري إصلاحي، فقد انتهى به الحال ليصبح (الرفيق) المنزلق في وحل الاشتراكية ومستنقع الشيوعية، وكما يقال في لهجة دارجة (ذنب الكلب يبقى أعوج). لكن، بدهاء الخبير وحكمته وإنسانيته، يُنقذ الجرّاح الحصيف ومساعده الوضع الذي آل إلى رزايا مادية وأخلاقية جرّاء التورط في خلق إنسان بقلب كلب، وذلك في خاتمة الرواية التي امتزج فيها المكر بالدهشة بالنهايات السعيدة.
في إشارة ذكية على طريقة (إياكِ أعني واسمعي يا جارة)، رمز المؤلف الشاب إلى الحزب الشيوعي الحاكم بقمعه وجوره، وغمز ولمز بأسياده وأعضائه ورفاقه الفارغين علماً وخُلقاً .. بكلب أرعن يحمل في جوفه قلب حيواني مستعصٍ على الرقي، لا يحكم إلا به ولا لأنسنته سبيل. كم يبدو غريباً أن تتقاطع رواية روسية تعرض لأوضاع مزرية تمس كرامة الإنسان في زمن ولّى وانقضى معها مؤلفها، مع معاش إنسان الألفية الثالثة في عالم ثالث، حيث يأبى التاريخ إلا أن يعيد نفسه! كان ميخائيل بولغاكوف (1891 : 1940) المولود في مدينة (كييف) لأبوين أكاديميين في علوم الدين، طبيباً ماهراً قبل أن يصبح كاتباً بارزاً، وقد ترك مهنته الأولى إلى الأبد ونذر نفسه للأدب، لا سيما في إصدار الأعمال التي تتلبّس طابع النقد السياسي، وقد صُنف معظمها ضمن روائع الأدب العالمي، مثل مسرحية (أيام آل توربين) التي حرص ستالين -رئيس الاتحاد السوفيتي في العشرينات- على حضورها. لم يُغر ضميره مال وحافظ على قلمه نزيهاً وناضل به في سبيل الحق والعدل والحرية في زمن كان عنوانه القمع والإذلال والاضطهاد، فحورب بمصادرة أدبه وبمنع أعماله وبالسباب والإنكار، حتى تأتي هذه الرواية الساخرة القصيرة العميقة في فنتازيا مؤلمة، كدليل قائم على نزاهة مؤلفها، والتي لم تر النور إلا بعد ستين عاماً من كتابتها. يموت بولغاكوف شاباً بقصور كلوي، حيث أدمن فترة من حياته مادة المورفين متأثراً بها كعلاج كان يُسعف بها مرضاه، وقد ألفّ بها رواية تحمل اسم المادة. ومما يجدر به الذكر، إنتاج فيلم سينمائي بعنوان الرواية (Heart of a Dog) عام 1988، في إشارة إلى جدارة المؤلف الروسي لرفع راية وطنه الأدبية جنباً إلى جنب أقرانه، أنطوان تشيكوف وفيودور دوستوفيسكي وليو تولستوي.
وعن المراجعة، فهي تعتمد على الطبعة الأولى للرواية الصادرة عام 2007 عن دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع، والتي عني بترجمتها من لغتها الأصلية الروائي والمترجم السوري (د. نوفل نيوف)، وهي تشتمل على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
يراقب د. بريوبراجنسكي خلال الأيام الأولى تطوّر حال مريضه الكلب بعد عملية أنسنته، من خلال عملياته الحيوية في النبض والقلب والتنفس والحرارة والبؤبؤ، حتى إذا ما تمكّن من التحرك ثم الذهاب والإياب في الممرات وقد بدى ككائن “سبّاب بذيء سافر”، يأخذ في نطق كلمات كثيرة، مثل: “حوذي، لا يوجد أماكن، الجريدة المسائية، أفضل هدية للأطفال، وجميع كلمات السباب الموجودة في اللغة الروسية”. وبينما يعتني الجرّاح به أيما عناية أثناء فترة نقاهته وتحديداً بجودة طعامه، لا يوصيه وحسب بثلاثية الغذاء الصحي، في ماذا وكيف ومتى يأكل، بل في طقوس أخرى لا بد من أخذها بعين الاعتبار، فيوصيه ضمن ما يوصي قائلاً: “لا تتحدث أثناء الطعام عن البلشفية وعن الطب، وإياك -حفظك الله- أن تقرأ قبل الغداء جرائد سوفييتية”. ويضرب له مثلاً بالمرضى الذين أخضعهم قسراً لتجربة قراءة الجرائد، حيث انخفضت أوزانهم، بل أصبحت لديهم “استجابات ضعيفة في الركب وانعدام شهية وحالة انقباض روحي”.
يرد على لسان أحد أبطال الرواية نصاً ثقيلاً في تردي وضع الوطن والمواطن الذي وإن اتخذ هيئة الطابع العام، فإن مكمنه يعود إلى الأجندة المعدّة له مسبقاً، إذ يقول: “وإذا كنت حين أدخل إلى المرحاض، واعذرني على هذا التعبير، سأبدأ أبول قرب الحوض، وستفعل الشيء نفسه كل من زينا وداريا بتروفنا، فلا بد أن يبدأ الخراب في المرحاض. وبالتالي، فإن الخراب ليس في المجارير وإنما في الرؤوس. إذاً، فعندما يرفع هؤلاء عقيرتهم قائلين: (اضرب الخراب) فإنني أضحك .. أقسم لك أنه لشيء يضحكني. هذا يعني أن كل واحد منهم يجب أن يصفع نفسه على قذالة! وهكذا، عندما ينفض البروليتاري عن نفسه جميع الهلوسات ويشرع بتنظيف الحظائر ـ وهذا عمله المباشر- فإن الخراب سيزول من تلقاء نفسه. فلا يمكن عبادة إلهين! إذ من المستحيل القيام في وقت واحد بتنظيف سكك الترام وبتدبر مصائر بؤساء إسبان ما! إن ذلك لا يتاح لأحد يا دكتور، ولا سيما للناس الذين هم بالجملة، فضلاً عن تخلفهم في التطور عن الأوربيين قرابة مائتي سنة .. مازالوا حتى الآن لا يحسنون تزرير بناطيلهم بثقة تامة”.
لم ترمز تلك (العملية الجراحية) الجنونية سوى لعملية تحويل الإمبراطورية الروسية من الملكية إلى اتحادية سوفيتية تعتمد على المبادئ الماركسية وتُدار عن طريق الأحزاب الشيوعية، ولم يكن (الكلب الإنسي) سوى كناية عن الطبقة المعدمة التي أصبح لها عقب الثورة الأهلية حقوقاً تتمتّع بها ومطالب تفتقر معها إلى الأهلية العلمية والخلفية السياسية وقيّم ضبط النفس، غير أن (الجرّاح) قد مثّل الطبقة البرجوازية التي كان لها اليد الطولى في الأحزاب الحاكمة، وما يتبعها من سلطة في تشكيل مصير الشعوب التي -علاوة على جهلها- تنهشّ بفكّها القوي ما أن امتدت إليها يد السلطة بقبضة مشرط الجرّاح. فيبرز السؤال المحيّر الذي يرفع به الكلب عقيرته مع خواتيم الرواية، وقبل إعادته إلى أصله بفعل نفس المشرط، حيث يتساءل في حيرة وقد استمر توبيخ الجرّاح له في صرامة عمّا يأتي به من أفعال شائنة في كل مكان: “مالك تمنعني؟ تارة لا تبصق وتارة لا تدخن ولا تذهب إلى المكان الفلاني .. فما هذا بالفعل؟ كما في حافلة الترام عيناً! هل رجوتك يا ترى أن تجري لي عملية؟ نبح الإنسان بانزعاج. أمر جميل! اصطادوا حيواناً فشقوا رأسه بالسكين، ثم ها هم يتقزّزون الآن. أعتقد أنني لم أعط موافقتي على العملية، شأني شأن أهلي أيضاً. ربما يكون من حقي أن أقيم دعوى”. تبقى معضلة الإجابة عن هذا السؤال الوجودي محل تقدير القارئ الحاذق: أتقع اللائمة على الكلب أم على الجرّاح؟
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 30 نوفمبر 2022 – صفحة (10)
…………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………….
أنشر هذه المقالات في شهر ديسمبر/ كانون1 2022
همى الغيث
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(36)
كتاب/ أنثى الكتب
المؤلفة/ شهرزاد الخليج
دار النشر/ دار كلمات للنشر والتوزيع
الطبعة/ 10 – 2017
…
وكل ما في الأنثى أخّاذ .. حتى شجونها
في نصوص مهموسة أشبه بمقطوعة موسيقية، جادت قريحة شهرزاد بما يخاطب قلب قارئتها الأشبه في مكنونه بقلبها، في لحن تتوارد فيه المشاعر والعواطف والخواطر والأشجان والذكريات بتناغم ساحر بينها .. فتارة تعيدها إلى زمن مضى، وتارة تجنح بخيالها إلى أرض لم تطئها، وتارة تباغتها بأحلامها الموؤدة، وتارة تهوي بها إلى قعر أحزانها الدفينة، وتارة تفاجئها بقراءتها هي بذاتها وهتك سرها .. وتارة توقظها على واقعها فتراها تتلفّت حولها وتلك النصوص بين يديها! لا يمنع هذا من القول بأن الكتاب يعني بالقارئ أيضاً، فلكل حقه ونصيبه المفروض، غير أن النصوص جاءت بإحساس أنثوي خالص وبقلم يكتب بحبر وردي فوق أغلب السطور.
وعلى رغم (الكلام المباح) الذي لا تسكت عنه شهرزاد، وتعني بنشره على الملأ في إصداراتها المتعددة وفي وسائل التواصل الاجتماعي على تنوّعها، فهي أحاطت بسرّ هويتها وحفظته طي الكتمان، فلا يُعرف عنها سوى أنها كاتبة تقطن دولة الإمارات العربية المتحدة حيث انطلقت موهبتها من هناك ابتداءً من عام 2015، وحصلت على جائزة (بصمة قلم) التابعة لإحدى مؤسساتها، بل ولا يُعرف كذلك ما إذا كان اسمها حقيقياً أو مقتبساً من الشخصية العربية صاحبة الأف ليلة وليلة. وعن مراجعة كتابها العذب، فتعتمد على الطبعة العاشرة الصادرة منه عام 2017 من دار كلمات للنشر والتوزيع، وهي تحتوي على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
في (المقدمة) وبنغمة شهرزادية، تقول الكاتبة: “هنا الحب وأشياء أخرى .. فإن كنت قد قررت اقتناء هذا الكتاب فابحث عن نفسك بين صفحاته، فقد تجد نفسك في الحب أو في الأشياء الأخرى” .. فإن لم يكن للقارئ في (الحب) تجربة شخصية، فقد رآه شاخصاً في مواقف وكلمات وخواطر ولحظات صمت .. أما في (الأشياء الأخرى) فحتماً وجد نفسه وأقرانه معه كأبطال حقيقيين، يلعبون على الورق نفس الأدوار، أو بالكاد! تتحدث شهرزاد بعد ذلك في مقطوعة (الروائح الوفية) بلغة لا تخلو من سيكولوجيا! فما هي إلا لحظة عابرة تعبق برائحة ما تعود بمن صادفها إلى زمن بعيد كل البعد عمّا هو حاضر، وذكرى كانت مغمورة فهاجت، مثل “رائحة آيس كريم الفيمتو” الذي يرجع بذاكرة الكاتبة إلى طفولتها، بين رفيقات المدرسة والمشوار اليومي في نهاية كل يوم دراسي نحو “بيت الجارة المسنّة” التي كانت تصنعه. قد يتفق الكثير مع الكاتبة بأن أكثر الروائح عبقاً هي رائحة الأرض بعد ابتلالها بالمطر، إذ تقول: “أما أكثر رائحة وفية تستيقظ بنا باستمرار فهي رائحة الرمل المبلل بالمطر! تلك الرائحة الشهية التي تعيدنا إلى حيث تعيد! فأغلبنا يعود تحت المطر إلى طفولته حتى لو لم يُظهر هذا الشيء أمام الملأ .. لكنه بينه وبين نفسه يستسلم لهذه الرائحة الوفية .. فيضع نفسه فوق بساطها السحري .. لتسافر به حيث تشاء، فتحت المطر إذ تنبعث تلك الرائحة الوفية من التراب .. نغمض نحن أعيننا ونسافر بعيداً .. إلى أمسنا .. إلى قديمنا .. إلى براءتنا الجميلة”.
من منا لن يرسم علامة استفهام حالمة عن أولئك الغرباء الذين لم تبح بسرهم شهرزاد؟! ذلك السر الذي يخلق عوالم خارج المكان والزمان يجعل السَكْر يعتمل في الروح حدّ الذروة، في حالة أشبه بدوران صوفي حول قلبه وقد سكنه (الغريب) من النظرة الأولى .. كل هذه المعاني تحملها مقطوعة (الغرباء الأصدقاء) الذين عرّفتهم الكاتبة بأولئك الذين يمرون إلى جانبنا عبوراً على الطريق “فنعرفهم ولا نعرفهم”، فتتساءل عن سرّهم حين تهفو القلوب نحوهم وهم في الزحام وكأنها تناديهم بأسمائهم، أو تتقصّى تلك الأزمنة التي تقاسموها معاً فوق هذه الأرض “وكل تلك الذكريات المثيرة للحنين” .. والألفة، متى اكتسبتها تجاههم؟ والراحة التي تعتمل بها عندما شاهدتهم للمرة الأولى! تتساءل في إحدى نصوصها وهي تشارك القرّاء تلك الخواطر الغامضة التي تطرق عوالم تتناسخ فيها الأرواح: “فكم مرة استشعرت هذا الشعور تجاه أحدهم؟ كم مرة اعترضك في الطريق وجه إنسان عابر مر من جانبك نظر إليك بتلقائية ومضى تاركاً بك الكثير من علامات التعجب والاستغراب وأمنيات مجنونة؟ فبعض غرباء الطريق، نتمنى أن نستوقفهم .. نتمنى أن نمطرهم بالأسئلة .. نتمنى أن نعيش معهم حكاية ما .. نتمنى أن نسرد عليهم الكثير منا”.
أما مقطوعة (البنت المهذبة)، فلا تزال مجتمعاتنا الشرقية تحرص على أن تتغابى وتتعامى أمام واقع تحياه بناتها ليس بالضرورة طوباوي، في سبيل إثبات صدق أسطورتهن الملائكية .. في تغافل صارخ عن طبيعتهن الإنسية التي تميل وتستقيم كسائر البشر! فليست شهرزاد وحدها التي راودتها نفسها وهي في العنفوان تلميع شفتيها بالأحمر، أو تصفّح مجلة نسائية خاصة فضلاً عن استعارة قصص الحب من مكتبة أخيها، أو ارتداء ما يشف وما يصف من الملابس المعطّرة بعطر فوّاح، أو اقتناء قطع ملابس جريئة بدل بيجامات النوم الفضفاضة ذات الأكمام الطويلة، أو الامتناع عن سحب الهاتف إلى غرفة النوم بعد الساعة التاسعة مساءً، أو الاضطرار إلى حفظ قصائد راقية في الحب عن ظهر قلب .. حرصاً وحرزاً، أو الإبحار في قصص ألف ليلة وليلة سراً، أو تجرّع مرارة الاتهام ظلماً كسجية مرغوبة .. وأكثر وأكثر، لا لشيء سوى أن تحافظ على مكانتها في أعين الجميع كـ (بنت مهذبة)! تقول مخاطبة أحدهم في غصّة: “وأنت كنت ككل الأشياء التي أحببتها، ووقفت عاجزة عن الاحتفاظ بها .. فقط كي أبقى في نظرهم تلك البنت المهذبة”. لا يعكس بالضرورة ما داعب قلب شهرزاد العربية الصغيرة من رغائب سوء خلق أو تبجح بالعيب، إنما هي فطرة أنثوية مفعمة بالحياة في بكورها، يقابلها نكران مجتمعي مكبوت، عُرفاً لا تديّناً.
التألم من الأمور التافهة .. التحرّج من النصائح الجادة .. الرغبة في اختلاق المشاكل وافتعال الشجار .. رسم خطوط عشوائية ومتاهات بقلم الرصاص، وقارب يبحر في البحر بلا مرسى .. البكاء بلا سبب والضحك على الحماقات والسخرية من كل الأشياء .. العزلة والانكفاء على الذات وقطع العلاقات .. عداء كل أهل الأرض والتفنن في اختراع الشتائم .. الإمعان في التدقيق من إشارات المرور إلى أحذية العابرين .. التخلص من ممتلكات عزيزة وصمّ الأذن عن سماع كل جميل وإغماض العينين عنها .. التجرؤ على الأعراف ووصم العادات بالكفر والخرف .. الأكل والتسوق بشراهة .. تصديق كل حلم وإشارة وبشارة … كل تلك الانفعالات تترجمها مقطوعة (حالة حنين) التي أبدعت فيها الكاتبة! تقول عرضاً وهي تشرح حالات الحنين الغريبة التي تعتريها بين حين وحين: “حين يتلبّسني الحزن فجأة، وأدخل في حالة من الصمت، ويصبح البكاء الصديق الأقرب إلي .. فأنا في حالة حنين! حين ألجأ إلى العزلة وأغلق دوني ودون الأرض وأهلها وتفاصيلهم كل الطرق والأبواب .. فأنا في حالة حنين”.
إذاً، تبوح شهرزاد في كتابها للقارئة عن أسرارها التي لم تكن أبداً كلاماً مباحاً في ليلة أو ضحى من نهار! ليس ذلك ضرباً من الصدف أو فراسة مؤمن أو اختلاجات قارئة فنجان، فتقول أنثى الكتب في مقطوعة (أنثى الكتب): “بعض الكتب لم نكتبها لكننا وجدنا فيها منا ومن أحلامنا ومن مشاعرنا .. الكثير” .. بل إن ذلك يعود لصدق وشفافية وإحساس الكاتبة شهرزاد عندما روت حكايات أيامها ولياليها، ورقّة التعبير التي لامست القلوب وانسابت لها الدموع، فأحيت ذكرى القارئة التي تشابهت وأيامها ولياليها .. بحلوها وبمرها.
وعسى أن تمتد ليالي شهرزاد الساحرة، وتأخذنا من جديد إلى عوالم أخرى أكثر سحراً، لعلها في هذه المرة تحاكي الواقع أو شيئاً ما.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 7 ديسمبر 2022 – صفحة (10)
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(37)
كتاب/ العبودية المختارة
المؤلف/ إتيان دو لا بويسي
المترجم/ صالح الأشمر
دار النشر/ دار الساقي
الطبعة/ 1 – 2016
…
الحرية كفطرة في مواجهة آلة الاستعباد البشري
كتاب قصير في سرده عميق في مضمونه، يترجم الكثير مما تحمله مقولة (كما تكونوا يولّى عليكم) من مسئولية الإنسان في صنع أقداره! إنها حقيقة موجعة صادمة لا مفر من نكرانها، فمن سوى البشر يصنع الطغاة ومن ثم يستمرئ العبودية، حتى يُخيّل لبعضهم أنها (شرف) يُراق على جوانبها الدم؟ إن الحرية حق والعبودية اختيار، وبينهما تتجلى معادن البشر .. إما في ثورة كرامة أو في خنوع مستلذ.
يكتب (إتيان دو لا بويسي 1530 : 1563) مقالته في (العبودية الطوعية) وهو لا يزال طالباً جامعياً في الثامنة عشر من عمره، في الوقت الذي كان فيه مُحبطاً مما تسببت به الحرب الأهلية من أهوال، والتي كانت تدور رحاها بين البروتستانت والكاثوليك في فرنسا، حتى جاءت هذه المقالة كأهم أعماله على الإطلاق. ومع هذا، فقد كان كاتباً وشاعراً وقاضياً وفيلسوفاً ومفوّضاً دبلوماسياً في بلده، ينتسب إلى عائلة لها باع في القضاء. شرع في دراسة الحقوق في جامعة أورليان الفرنسية بعد أن أكمل دراسته في كلية الإنسانيات، ليتولى منصب (مستشار) في برلمان بوردو وهو في الثالثة والعشرين من عمره، أي قبل بلوغه السن القانوني لتولي هكذا منصب مرموق. ومما يجدر به الذكر أن هذه المقالة لم تُنشر إلا بعد وفاته وهو ابن اثنان وثلاثون لمرض ألمّ به، وقد اطلّع عليها من قبل صهره وصديقه الكاتب البارز (ميشيل دي مونتين) الذي تولّى نشرها فيما بعد في إحدى كتبه.
يشنّ بويسييه في هذه المقالة هجوماً ضارياً على الأنظمة الديكتاتورية مؤكداً أن الشعوب وحدها هي من أعطت الطغاة السلطة المطلقة على طبق من ذهب، حين فضّلت الرقّ على الحرية والانصياع على الرفض .. في علاقة طردية بين الطاعة والطغيان، غير أنه يؤكد رغم ذلك أن هذا الامتياز الممنوح من قِبل الشعوب يسهل سحبه دون الحاجة للجوء إلى القوة والثورة. فعن مراجعة هذه المقالة، فهي تعتمد على الطبعة الأولى الصادرة عام 2016 عن دار الساقي، والتي عني بترجمتها من لغتها الأصلية الكاتب والمترجم اللبناني (صالح الأشمر)، وهي تشتمل على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
يصرّ الثائر بويسييه على قول الحقيقة، وهو يواجه الشعوب المتسائلة في خضوع عمّا إذا كانت (الحرية أمر طبيعي)، إذ هو يرى أنه تساؤل لا طائل منه، وأنه لا يوجد امرئ يخضع للعبودية وهو في منأى عن الأذى، فليس في العالم بأسره ما هو أشدّ ظلماً من عداء المنطق والفطرة والطبيعة .. ويؤكد بأن الحرية أمر طبيعي تماماً لا يولد معها الإنسان فحسب، بل بشغف الدفاع عنها كذلك. ويستمر ليتتبع جذور هذه “الإرادة العنيدة في الإقبال على الخدمة”، والتي يظهر معها بوضوح أن عدم اكتراث الشعب لقيمة الحرية بات أمراً طبيعياً، وأن عدم شعوره بألم العبودية هو دليل على أن مرضه بات قاتله لا محالة، “حتى الطغاة أنفسهم يعجبون من قدرة الناس على احتمال رجل يسيء إليهم، وهم يحرصون على أن يضعوا الدين أمامهم ليحتموا به، ولو استطاعوا لاقتبسوا شيئاً من الألوهية لإسناد حياتهم الشريرة”. لذا، يرى بويسييه أن الشعب لو عاش وفق ما أنعمت عليه الطبيعة من حقوق وبموجب الدروس التي تمنحه إياها، لظهر مطيعاً لأهله وخاضعاً لعقله، لا لأحد سواهما .. فطاعة الوالدين أمر فطري ترشده الطبيعة، أما العقل فهو بذرة طبيعية -بصرف النظر ما إذا كان يولد بولادة الإنسان أم لا كما يناقش الفلاسفة- فإن تم رعايتها بالفضائل والنصائح والأعراف الحسنة لأزهرت، في حين أنها تذبل وتموت إذ لا طاقة لها على الصمود أمام الرذائل.
وهو إذ يضرب مثلاً في أباطرة الرومان الذين حين نجى القليل منهم بمساعدة حرّاسهم ضد أخطار واجهوها، فإن الكثير منهم قد قُتل على أيدي المسلّحين من أولئك الحراس. فيكذّب ذلك الظن ويقول: “إن من يظن أن الرماح والحرّاس ومواقع الرصد هي التي تحمي الطغاة، يرتكب خطأ فادحاً في رأيي! فالطغاة يستخدمون هذه الأدوات، في اعتقادي، من أجل المظاهر وكفزّاعة، وليس بناءً على ثقتهم فيها. وذلك أن مهمة حملة الأقواس هي أن يمنعوا من دخول القصر ذوي الملابس الرثّة الذين لا حول لهم ولا طول، وليس أولئك الذين يستطيعون أن يشنّوا الغارة”. رغم ذلك فهو يؤكد بأن من يحمي الطاغية ويثبّت أركان سطوته ليس “فرق الخيالة ولا كتائب المشاة ولا الأسلحة”، إنما هم في الحقيقة قلة من الرجال لا يتجاوز عددهم الستة “يبقون البلاد مستعبدة له” يدنيّهم لجانبه أو يتقرّبون إليه من تلقاء أنفسهم رغبة ورهبة، فتصغى لهم آذانه “وليكونوا شركاء في فظائعه، ونداماه في لذته، وقوّاديه في شهوته، ويقاسمونه غنائم نهبه” .. وهؤلاء الحفنة هم من يتولون تدريب الطاغية على أن يكون شريراً تجاه شعبه، لا باستغلال شرّه وحده، بل مضافاً إليه شرورهم أجمعين. ومن أجل ضمان استتباب الطغيان، يتم تعيين ستمائة تحت إمرة هؤلاء الستة يصنعون بهم ما يصنعون بالطاغية من تأصيل للشر في نفوسهم بأساس متين، يتكفلّون بدورهم بعد ذلك بتعيين ستة آلاف على المقاطعات والمصالح والمرافق العامة، فيكون لهم شرعاً حق التصرّف بالمال العام، والذين بهم يستمر الطاغية وزمرته في جشعهم وفي قسوتهم يعمهون، ويستمرون في ممارسة المظالم وهم بمأمن من أي عقاب أو قانون.
وللمفاضلة بين سمو الحرية وحضيض العبودية، يعقد بويسييه مقارنة لاذعة بين أهل البندقية وبين ما أسماهم برعايا “السلطان الأعظم .. سلطان الإمبراطورية العثمانية”. ففي حين ينشأ هؤلاء على رفض كل مباهج الحياة مقابل ذرة من حرية قد يفقدونها بحيث يصبح أقصى طموحهم هو التنافس على أعلى مستوى للحرية فيما بينهم، يولد أولئك لخدمة السلطان وحده لا شريك له وبذل النفس رخيصة في سبيل ديمومة هيلمانه! فيفترض لو أن رجلاً من هؤلاء زار أولئك “أيظن ذلك الرجل أن أهل البندقية ورعايا السلطان خُلقوا من طينة واحدة؟ أم يُخال على الأرجح أنه خرج من مدينة يسكنها البشر ودخل زريبة للبهائم؟” .. وذلك افتراض وضعه بويسييه وهو يعيش في القرن السادس عشر عن واقع عاينه قد لا يختلف كثيراً عن واقع القرن الواحد والعشرين! وإن بويسييه قد قال بـ (الأمس) قولاً لا يزال (اليوم) يردد صداه، وكأنه يصف الحال أو يتنبأ. يقول: “وكما يذهب إليه الأطباء من أن جسم الإنسان إذا شكا منه عضو فإن سائر الأعضاء تتأثر به وتنجذب إليه، كذلك ما إن يعلن ملك أنه أصبح طاغية حتى يلتف حوله ويعضده حثالة المملكة -ولا أعني رهطاً من صغار اللصوص الذين لا يرجى منهم خير ولا شر، بل أولئك الذين يتملكهم طموح جامح وجشع شديد- لكي ينالوا نصيباً من الغنيمة وليصبحوا طغاة صغاراً في ظل الطاغية الكبير”.
في قول أخير: إن العبودية المختارة هي قبول غير المقبول، وأنه لا وجود للاستبداد دون الخضوع، وإن الحل ممكن وهو في طوع الشعوب ورهن اختيارها .. إن هذا النصّ هو نصّ تحريضي بامتياز، ماثل وحي ومستمر، ومن أجمل النصوص التي مجّدت قيمة الحرية.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 14 ديسمبر 2022 – صفحة (10)
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(38)
كتاب/ عدالة السماء
المؤلف/ محمود شيت خطاب
دار النشر/ دار وحي القلم
الطبعة/ 3 – 2014
…
القصاص الإلهي .. ولو بعد حين
“وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ” .. يجمع هذا الكتاب القصير بين دفتيه نزراً من وقائع شهدت على ظلم بني البشر حين جاءت عواقبها من جنس جورها، مصداقاً لوعيد الله تعالى في الآية الكريمة، حيث وقع القصاص العادل على من طغى وبغى، جزاءً وفاقا.. ولو بعد حين.
يعرض فهرس الكتاب أحد عشر عنواناً عن قصص إنسانية مؤلمة وقعت أحداثها بالفعل، منها ما هو مبكٍ ومنها ما هو مشوب بفرح في خواتيمها، تستحق التمهّل والتدبر والاستبصار واستخلاص العبر، قد شهد الكاتب شخصياً على بعض منها. وقد جاءت جميعها في أسلوب أدبي بديع خالص من أي تكلّف لغوي، فإنما القصد هو العبرة وإنما هو عمل يُرجى به وجه الله وحده. أما عن سر نجاح الكتاب الذي أصبح الشغل الشاغل للمنصات الإذاعية ووسائل الإعلام وحديث الناس وقت إصداره، لا سيما مع ترجمته إلى لغات أخرى، فإنما يعود لفضيلة الصدق كما يؤكد الكاتب، إذ يقول في مقدمة كتابه: “إن الكلمة الصادقة هي التي تفيد الناس، لأنها تؤثر فيهم، وهي التي تمكث في الأرض ولا تذهب جفاء .. والكلمة الصادقة إذا أراد بها كاتبها أو قائلها وجه الله، أثمرت مرتين، وأتت أكلها حلالاً طيباً”.
وعن الكاتب، فهو محمود شيت خطاب (1919 : 1998) يعود في أصله إلى مدينة الموصل الواقعة في شمال العراق. التحق بالعمل الدبلوماسي كوزير، والعسكري كقائد حيث شارك في حرب فلسطين عام 1948، وله من المؤلفات ما تتجاوز المائة وستين كتاباً في العلوم الدينية وكذلك السياسية، فضلاً عن عدد من المقالات والأبحاث المنشورة في الصحف والمجلات العربية والإسلامية. لذا، تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثالثة الصادرة من الكتاب عام 2014 عن دار وحي القلم، والتي أخصّها من بين القصص المؤثرة بالقصة الأولى التي احتلت عنوان الكتاب، وقد جاءت من عجيب تصاريف القدر وما يلحق بها من عدالة إلهية ما يدعو لتعظيم مقام الله جلّ وعلا، وهي تحتوي على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
على الرغم من شظف العيش الذي كان الأب الكادح يقاسيه -وهو يعيل زوجة وخمسة أطفال ووالدة مسنة وأختان- من بيع الخضار في زقاق الحي البسيط، فقد كانت الفرحة تغمرهم جميعاً لحظة رجوعه إلى البيت مساءً، وهم يستقبلونه بالتصفيق والأغاني والأهازيج، فإذا كان يحمل من اللحم شيئاً وإلا فما تبقى من خضار كاسد يكون عشاؤهم الذي يحمدون الله عليه حمداً كثيرا، وينعمون بنوم دافئ في الحجرة الضيقة التي تضمهم فرداً فرداً مع ما يحيط بهم من أمتعة مكدّسة في زواياها “لا يتمنون على الله غير الستر والعافية وألا يجعلهم يحتاجون إلى إنسان”. تبدأ الأحداث الدامية تموج بالعائلة السعيدة مع موت الأب المفاجئ حين تصدمه مركبة وهو عائد إلى البيت يحمل بيده ما يلزم أسرته من عشاء ذلك اليوم، فيجمع الجيران الفقراء من المال الزهيد ما يلزم تجهيز الفقيد ونعشه وما يكفي يومين لمعونة العائلة المكلومة، حتى يهجر الابن الأكبر مدرسته ليحلّ مكان أبيه في بيع الخضار وهو ابن خمسة عشرة عاماً، ثم يضطر إلى تركه بعد ثلاثة أعوام للالتحاق بالتجنيد الإجباري. وما يلبث الأمر كذلك حتى يتبعه الأخ الذي يصغره وهو على وشك إكمال دراسته في المرحلة الإعدادية حيث فرصة الحصول على عمل جيد، فلا تجد الأم بد من بيع بيتهم المتهالك الذي لا يملكون سواه من أجل سداد نفقاتهم ودفع البدل النقدي عن خدمة ابنها العسكرية. وبعد عملية البيع التي تستغرق وإجراءاتها الرسمية ما يقارب شهراً كاملاً، تستقل الأم مركبة أجرة لتلحق بموعد السداد الذي لم يبق عليه سوى يوم واحد في مدينة مجاورة، وذلك بعد انتظارها طويلاً في موقف الحافلات التي تأخرت عن موعدها، فتدفع للسائق أجرته مقدماً، وينطلق مستفرداً بها. وأثناء الطريق الجبلي الوعر يستمع لقصتها، وحيث يلعب برأسه الشيطان طمعاً في المال المتبقي بحوزتها، يعمد إلى تغيير مسار الطريق بعيداً نحو واد صخري سحيق، فيسحبها عنوة نحو أغواره ويطعنها بخنجره عدة طعنات ويسلبها ما جمعته من مال ويغادر تاركاً إياها تغرق في بركة من دمائها. غير أن المجرم لا بد وأن يحوم حول جريمته، ففي أثناء عودته من المدينة التي قصدها وأقلّ مجموعة من الركّاب مارّاً في طريقه إلى جانب الوادي السحيق، يستأذنهم بحجة قضاء حاجته، فيركن مركبته، ويهبط إلى ذلك المنحدر في الوادي السحيق ليعاين ضحيته وما آل إليها المصير، حتى يُفاجئ ببقائها على قيد الحياة تأنّ مضرّجة في دمائها، فيلعنها قائلاً: “ملعونة! ألا تزالين على قيد الحياة حتى الآن؟” ثم يعمد من فوره إلى صخرة كبيرة يحملها بثقلها ليلقيها على رأسها الجريح ويضمن هلاكها الأبدي، فما كاد أن يهم حتى يضجّ المنحدر المنعزل إلا من الهوام بصراخه الذي جلب نحوه الركّاب، إذ بحية ضخمة كانت تتربص له تحت الصخرة تلدغه في التو! فيتدّخل الركّاب وتنقلهما سيارة الإسعاف، ويموت السائق بالسم الزعاف، وتعيش الأم، ويهجر الناس ذلك الوادي الذي أصبح شؤماً تسرح فيه الأفاعي وتعوي بين جنباته الذئاب. يستمر الكدح وعطاء الجيران وتمر الأعوام ويكبر الأبناء، فيتخرج أحدهم طبيباً والآخر مهندساً والآخر ضابطاً بعد أن توسعت تجارة الابن الأكبر وأصبح تاجراً كبيراً. ثم يتساءل الكاتب في ذهول: ماذا لو لم تستقل الأم هذه المركبة واتخذت أخرى تذهب بها في طريق معاكس، أو إلى المدينة المعنية متأخرة عن موعد السداد؟ وماذا لو لم يعود السائق بعد فعلته تحت الظلام الدامس؟ وماذا لو لم تبرز الحية ويتكالب الركّاب على صراخ المجرم؟ لقد كان مسرح الجريمة وادياً موحشاً خالياً من الماء والكلأ فلا يقصده الرعاة، وكان سفحه ينحدر انحداراً شديداً ما يمنع الناس من ارتياده في العادة، “وما كانت المرأة الجريحة لتسلم من الموت الأكيد لو لم يعد إليها الجاني مدفوعاً بغريزة حب الاستطلاع، وبالقوة الخفية التي هي القدر”. وهناك، قرب الجسر الكبير في مدينة بغداد على ضفاف نهر دجلة المتدفق والمتلألئ في ضياء تحت نور القمر، وفي المنزل الوثير الذي أصبح يجمع أفراد العائلة الكبيرة وقد تزوج الأبناء وكثر عدد الأحفاد، يدعو الابن الكبير -الذي كان خضرياً وحسب- الكاتب في يوم من أيام عام (1385 هـ) ليقابل والدته الصابرة شخصياً، ويسألها وجهاً لوجه عمّا أحاط به من خوارق اللامعقول في هذه الحياة المادية لا يفسّرها سوى مشيئة الله العلي القدير التي لا يحدّها حد .. “وجاءت الأم وقد أحاطت شعرها الأبيض بغلالة بيضاء، وفي وجهها نور، وعلى قسماته ابتسامة، وعلى لسانها ذكر الله .. وروت لي قصتها كاملة، فقلت لها: «وماذا كان شعورك حين تركك الجاني وحيدة تنزف جروحك دماً في بطن الوادي السحيق؟». فقالت والإيمان الصادق يشع من كلماتها: «كنت أخاطب الله عز وجل قائلة: يا جبار السموات والأرض أنت أعلم بحالي! فهيء لي بقدرتك القادرة أسباب دفع البدل النقدي عن ولدي، ليعود إلى أهله ويعيلهم .. يا رب». واستجاب الله دعائها وأعاد إليها مالها وولدها، وانتقم لها من خصمها، وبدل حال العائلة كلها إلى أحسن حال”. يعقّب الكاتب وهو متيقّن بتدبيره تعالى التي لا تجري على مقاديره الصُدف، قائلاً: “إن الناس يغفلون وينامون، والله وحده لا يغفل ولا ينام، وما من دابة إلا على الله رزقها، والله لا ينسى رزق النملة في الصخرة القاسية وسط عباب المحيط، فكيف ينسى أرزاق الأرامل واليتامى؟! والناس يخشون الناس، والله أحق أن يخشوه .. والله يُمهل ولكن لا يُهمل .. ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب”.
وأختم كما ختم الكاتب كتابه موجهاً سؤاله إلى القارئ بعد أن اطلع على (عدالة السماء) في عواقب الأمور: “هل يمكن أن يحدث كل ما حدث صدفة؟” حقاً! إنه يُمهل ولا يُهمل .. و “إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ”.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 21 ديسمبر 2022 – صفحة (10)
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(39)
كتاب/ هل الأصلع يحتاج شامبو؟ الأسئلة التي تحتار في إجابتها
المؤلف/ د. أحمد عبدالملك
دار النشر/ منشورات ذات السلاسل للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة/ 2 – 2019
…
إجابات طبيب شافية عن أسئلة مرضاه الحائرة
كتاب يعني بالتثقيف الصحي على وجه فعّال، فهو لا يصحح وحسب المعلومة المتداولة التي التف حولها الكثير من القيل والقال، بل ويعمل على إثراء الساحة بمعلومات صحية أخرى قد يجهلها الكثيرون في زمن تفجّرت فيه المعلومات، بين مجرّب ومشكك وبين دعيّ وحكيم.
وعند حكيم الكتاب، ثمة وقفة! إنه د. أحمد عبدالملك. تخرّج في الكلية الملكية للجراحين في إيرلندا وحصل على زمالة طب العائلة من الكلية الملكية لأطباء العائلة في لندن، وعلى درجة الدكتوراة في طب العائلة من معهد الكويت للتخصصات الطبية، لذا فهو يعمل حالياً كاستشاري في طب العائلة في مستشفيات الكويت الحكومية. ولأنه يحمل رسالة إنسانية يبثّها من خلال حساباته النشطة على مواقع التواصل الاجتماعي، فهو يقدّم لبرنامج طبي نوعي إضافة إلى إصداراته المتعددة في مجال الصحة العامة، والتي تصبّ بأكملها في نفس الهدف الإنساني التوعوي.
يعرض الطبيب مادة كتابه من خلال مجموعة من الأسئلة التي طرحها عليه عدد من مرضاه والتي تصدى لها بالتوضيح العلمي المبسّط، وقد قسّمها إلى ثلاثة أقسام رئيسية، هي: القسم الأول: جسم الإنسان / القسم الثاني: الغذاء / القسم الثالث: اعتقادات وخرافات. وهو إذ يدعم رأيه المهني بأسلوب يجمع بين خفة المعلومة وعفوية التعبير وقفشات فيما بينها، يجعل من الكتاب في متناول القارئ العادي، من غير أي تخصص لا في اللغة ولا في الموضوع. وفي مقدمته، يستعرض الطبيب ابتداءً كواليس فكرة الكتاب! إذ ألهبه الحماس -أو قد أثار حفيظته- كتاب أجنبي يتناول الأسئلة الغريبة المتداولة في الصحة العامة، عندما التقطه من مطار كينيدي في نيويورك وختمه عند مهبط قدميه في مطار هيثرو بلندن، حيث أتى القرار الصارم حينها: “سأكتب كتاباً أفضل منه باللغة العربية”. وعن مراجعة الكتاب، فهي تعتمد على الطبعة الثانية منه الصادرة عام 2019 عن منشورات ذات السلاسل للطباعة والنشر والتوزيع، وهي تحتوي على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
إكراماً لعنوان الكتاب -الذي جاء عن سؤال لمريض كاد أن يُضحك الطبيب ويبكيه في آن واحد- يأتي الحديث ابتداءً عن (الصلعة). حيث تؤكد المعلومة الطبية حدوث بعض التحولات الهرمونية في بصيلات الشعر لا سيما بفعل الجينات الوراثية، والتي تؤدي إلى تساقط الشعر شيئاً فشيئاً ما يسفر في النهاية عن انحسار تام للشعر وبروز سطح الرأس عارياً. رغم هذا، يجيب الطبيب على السؤال الوارد بالإيجاب، إذ ليس من ثمة خسارة في استعمال مسحوق الشامبو للجمجمة التي لا تزال بطبيعة الحال تحوي أوعية دموية وأخرى لمفاوية وغدد دهنية وعرقية ومجموعة أعصاب، ويصيبها من الأتربة والغبار وأشعة الشمس ما تحتاج بعدها إلى عناية. وعن الدم الأحمر في طبيعته البيولوجية، وعلى الرغم من تفنيد أسطورة الدماء الزرقاء التي شاعت حول سريانها في عروق نبلاء العصور الوسطى، فقد أثبت علمياً قوة الضوء الأزرق دون غيره من ألوان الطيف في اختراق طبقة الجلد، مسبباً اصطباغ العروق باللون التركوازي! يجيب الطبيب على سؤال: (لماذا تظهر الأوعية الدموية خضراء مائلة إلى الزرقة تحت الجلد مع أن لون الدم أحمر؟) قائلاً: “بسبب قدرة الضوء الأزرق على اختراق طبقات جلدك أكثر من اللون الأحمر، تظهر عروقك باللون الأزرق المخضر على الرغم من احتوائها على الدم الأحمر اللون”. وعن هذا الدم، يتساءل ساءل عن إمكانية انتقال قطعة زجاج أو شوكة من خلاله عبر العروق إلى القلب، ما إذا دخلت بسبب أو بآخر إلى جسم الإنسان! فيطمئن الطبيب سائله بأن هذا الاعتقاد غير صحيح حيث يتعامل الجسم بشكل تلقائي مع هذا الكائن الغريب عنه، بقوله: “الجسم له طرقه الخاصة بالتعامل مع أي شيء غريب عنه يدخل إليه ولو لم يتم إخراجه، وذلك عن طريق إرسال خلايا مناعية خاصة لتذويب وتفكيك المادة الغريبة ثم التهامها وهضمها. قد يحدث ذلك بصورة سريعة عن طريق تورم المنطقة والتهابها أو بصورة بطيئة خلال أشهر من دون حدوث التهاب بالمنطقة. إذا كان الجسم كبيراً وغير قابل لعملية التذويب، يُكوّن الجسم كبسولة حوله ويعزله عن الأنسجة المجاورة، أمثلة (شظايا القنابل، بطاريات القلب وبراغي تثبيت العظام) .. في هذه الحالة يتأقلم الجسم مع الجسم الغريب من دون مشكلة”.
القهوة! وعلى الرغم من الذوق الرفيع الذي يتمتع به عشّاق القهوة كما يعتقد الطبيب، إلا أنهم يتسببون في إلحاق الضرر بأجسادهم ما إذا جعلوها أول ما يتناولونه بعد الاستيقاظ من النوم صباحاً، والذي يحددها فيما يلي: ”يؤثر على الساعة البيولوجية بالجسم. يُفرز في أجسامنا طبيعياً هرمون الكورتيزول (هرمون التوتر) طبيعياً ما بين الساعة الثامنة صباحاً حتى يهيئنا لمواجهة اليوم، شرب القهوة في هذا التوقيت يؤثر على إفراز هذا الهرمون. يزيد من تأثير ظاهرة تحمّل الكافيين حيث تحتاج كوبين من القهوة للحصول على تأثير كوب من القهوة”. لهذا، فهو ينصح بتناولها بعد الساعة التاسعة صباحاً، بدلاً من تناولها مباشرة على الريق. وبعد القهوة ينتقل إلى البيض! وبينما يستعد للإجابة عن سؤال (هل أكل البيض النيئ مفيد؟)، تسترجع ذاكرته فيلم روكي وبطله سيلفستر ستالون المفتول العضلات وهو يتناول ثلاث بيضات نيئة قبل أن يباشر تمرينه الرياضي “لماذا؟ الطبخ بصورة عامة يقلل القيمة الغذائية للأطعمة بصورة بسيطة، والسيد روكي كان يعرف ذلك. البيضة مصدر ممتاز للبروتين وخاصة بياضها، ليس فقط لمحتواها العالي منه وإنما لقدرة الجسم الكبيرة على امتصاصها”. لذا، فهو يؤكد على أن تناول البيض نيئاً أمر صحي ومفيد، لكنه يوصي بشراء البيض المبستر لتفادي خطر الإصابة بالسالمونيلا. كذلك، يدحض الإشاعات الرائجة حول البيض واحتمالية الإصابة بالتسمم جراء بعض العادات الخاطئة، فيؤكد أنه من الآمن إبقاء البيض خارج الثلاجة لمدة ساعتين بعد طهوه، وداخلها في إناء محكم لمدة أربعة أيام. أما في الحديث عن الأكل العاطفي الذي هو مجرد وسيلة للتغلب على شعور سلبي ما، لا على الجوع في حد ذاته، فهو لا ينتهي بانتهاء الأكل بل قد يتسبب في زيادة الوزن كنتيجة حتمية، ما يزيد من بلّة الطين. يجيب الطبيب وهو يسأل: “لكن كيف يحدث ولماذا يحدث ذلك؟ عندما تكون متوتراً حزيناً مكتئباً يفرز جسمك هرمون الكورتيزول (هرمون التوتر). وعندما تأكل طعاماً فيه الكثير من السكر والدهون يفرز في دماغك مواد كيميائية شبيه بالمخدرات تعطيك الإحساس بالرضا والسعادة. مع مرور الوقت والحياة يربط مخك بين الطعام والسعادة ويدخلك في دوامة الأكل العاطفي كلما أصبحت حزيناً أو متوتراً”. أما عن العادات الخاطئة المتعلقة بإنقاص الوزن كالجلوس في ماء ساخن بغرض حرق السعرات الحرارية، فإن الطبيب رغم إفادته بإمكانية حرق ستين سعرة حرارية خلال نصف ساعة من المكوث في ماء ساخن بدرجة ستين سيليزية، فإنه يلفت الانتباه إلى الأعراض الجانبية التي قد تلحق بالجسم جرّاء ذلك، مثل: “يزيل الطبقة الدهنية المرطبة في جلدك ويتركه جافاً بشكل كبير. نصف ساعة جلوس في بانيو سيسبب شداً عضليا لعضلات ظهرك”، فضلاً عن تأثيرها الضار على خصوبة الرجل، ”لذلك، تمشي وتتحرك أفضل من ستين سعرة حرارية في بانيو حار يحرقك، وخاصة للرجال”. وعن اليوغا، فيما يصحّ تصنيفها كرياضة، فيفيد بأن ذلك يعتمد على كيفية أداؤها، “إذا كانت ترفع من معدل خفقات قلبك ومعدل تنفسك وتجعلك تتعرق، فنعم يمكن أن تعتبرها رياضة. لكن في أغلب الأحيان أكثر ممارسي اليوغا يمارسونها كرياضة عقلية وطريقة للاسترخاء وتقليل الضغوط بالإضافة إلى تحسين مرونة العضلات والمفاصل، ولا يتم حرق سعرات حرارية بها لدرجة نستطيع أن نصنفها كرياضة”.
وعندما يأتي الحديث على الحمل وبشائره، يتبيّن أن متوسط عمر التوأم يزيد عن الأفراد العاديين، لأنهما ليسا توأم جسد فقط .. بل وروح. يقول الطبيب عن السبب حسب دراسة دانماركية أجريت على أكثر من ثلاثة آلاف توأم: “أن التوأم غالباً ما يعتني بتوأمه ويوفر له الدعم العاطفي ويشجعه على اتباع سلوكيات صحية، ويعتني به أثناء مرضه وحاجته. كل ذلك ينعكس إيجاباً على صحته ويزيد من معدل عمره الافتراضي”. أخيراً، وكوصية حكيم: إن العناية بالأجيال تبدأ من الأرحام، فالضغوط النفسية تضرّ بالأم وتؤثر سلباً على جنينها، وقد تصل في أسوأ الحالات إلى التشوهات الخلقية! ينقل الطبيب عن دراسة دانماركية حديثة أجريت على “عدد كبير من الحوامل لمدة أربع سنوات: النساء اللواتي تعرضن لضغوط نفسية واجتماعية شديدة أثناء الحمل، تتضاعف لديهن نسبة تشوه المواليد الخلقية”. وكما ينصح الطبيب بدوره الزوج في أن يكون كمارد المصباح السحري تأمره زوجته بلبن العصفور فيجيب بـ (شبيك لبيك)، أو كما أجاب على سائله الذي استكثر “فستق موزمبيقي” و “لوز كوستاريكي” لزوجته الحامل إذا أيقظته من النوم تطالب بهما .. حيث قال: “نعم! هات لها .. تستاهل”.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 28 ديسمبر 2022 – صفحة (10)
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
أنشر هذه المقالات في شهر يناير / كانون2 2023
همى الغيث
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(40)
كتاب/ تدابير القدر
المؤلف/ محمود شيث خطاب
دار النشر/ دار وحي القلم
الطبعة/ الثالثة – 2014
…
ومن القصص عبرة لأولي الألباب
على الرغم من أنها مجموعة قصصية قد لا تختلف في ظاهرها عن غيرها، إلا أن الكاتب اختار لها عنواناً فرعياً يصفها بـ (قصص واقعية هادفة)، حيث يسرد فيها بعض من قصص إنسانية جرت حقيقة على أرض الواقع، يغلّفها طابع روحاني طاغٍ وتفعم بجزيل الحكمة والعبرة والموعظة. لهذا، يكيل الكاتب في مقدمة كتابه تشنيعاً على مؤلفي القصص التي تفتقر إلى المستوى الأخلاقي المطلوب في النشر على العامة، فضلاً عن ناقليها من لغاتها الأجنبية، مثل: “القصص الجنسية التي تغري بالفساد، ومنها القصص ذات الطابع الإجرامي التي تُغري بالجريمة، ومنها القصص التافهة التي تبدد الوقت عبثاً”، وقد وضع نصب عينيه إثراء القرّاء بقصص تعود بالنفع والخير والصلاح عليهم. حيث يقول ابتداءً: “وحياة المرء تنتهي بالموت، وحياة الدنيا محدودة بالأيام والأشهر والسنين، وحياة الآخرة بلا حدود، فلا ينبغي أن نعمل لحياة فانية، ولا نعمل لحياة باقية، وهذه القصص تحث على العمل الصالح في الدنيا للآخرة”.
أما الكاتب، فهو محمود شيت خطاب (1919 : 1998) يعود في أصله إلى مدينة الموصل الواقعة في شمال العراق. التحق بالعمل الدبلوماسي كوزير، والعسكري كقائد حيث شارك في حرب فلسطين عام 1948، وله من المؤلفات ما تتجاوز المائة وستين كتاباً في العلوم الدينية وكذلك السياسية، فضلاً عن عدد من المقالات والأبحاث المنشورة في الصحف والمجلات العربية والإسلامية. يحمل الكتاب القصير من القصص ذوات العبر ثمان، هي: الرؤيا الصادقة / تتمة الرؤيا الصادقة / يا أيتها الحمامتان اشهدا .. لقد شهدتا / قاتل أبيه / الملّاح القاتل / وليمة قندهارية / مجالس الذكر / في ضيافة النبي. وعن هذه الأخيرة التي جاءت بخاطرة لا بقصة، فقد حمّلها الكاتب نفحات مفعمة بالابتهالات والروحانيات والأشواق وهو يستحضر مشاعر غمرته بالحب والرضا والسكينة عند حضرة الروضة الشريفة، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، وذلك أثناء زيارته للمدينة المنورة. وفيها قال: “يا الله .. هنا العظمة الحقة، هنا الجلال والجمال، هنا الهدى والنور. إن كل عظمة غيرها سراب، وكل جلال غيره غثاء، وكل جمال عداه هراء، وكل هدى إلاه ضلال، وكل نور بعده ظلام”. لذا، تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثالثة الصادرة من الكتاب عام 2014 عن دار وحي القلم، والتي أخصّها من بين قصصه المؤثرة بالقصة الثالثة التي جاءت بعنوان (يا أيتها الحمامتان اشهدا .. لقد شهدتا)، والتي يتجلّى فيها مكر الله في تدبير القدر الذي وإن طال أمده لا بد وأن يحقّ العدل في الحياة الدنيا، الأمر الذي يدعو إلى تعظيم مقامه عز وجل، وهو يُمهل ولا يُهمل .. وهي تحتوي على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
تشهد حمامتان فوق غصن شجرة على مقتل تاجر موصلي بطعنة خنجر عالجه بها رئيس عصابة لمجموعة من قطّاع الطرق بعد أن سلبه كل ما يحمل معه من مال، وقد كان هذا اللص قد “جمع من المال الحرام مبلغاً ضخماً، فبدده على موائد الميسر ومجالس الشراب والمواخير .. والمورد الحرام ينفق على الحرام ولا يخلّف غير الآثام والخراب” .. ففي صغره، كان يجالس قطاع الطرق الذين كانوا يُضفون على ما اقترفوه من جرائم سمات البطولة وهم أبطالها “كما يُضفي عليهم الذين يسمعون أحاديثهم من أضرابهم سمات الرجولة، فيتبختر السكارى في غيّهم وانحرافهم كأنهم خالدون في الدنيا وليست لحياتهم نهاية كما كانت لها بداية ولا على ما اقترفوه من حساب”. وقد كان تاجر المواشي والأغنام قد حلّ على مدينة حلب من أجل صفقة لبيع مواشيه في سوقها التي تمت بربح عظيم، حيث كمن له ذلك الشقي مع أفراد من عصابته في وادٍ بعد مراقبته بحذر وترّقب! “وكان التاجر في استغاثته وتوسّله ينظر يميناً وشمالاً، لعله يجد من يغيثه ويستجيب لتوسله، ولكنه لم يجد أحداً من الناس، ووجد فوق الشجرة التي ذُبح تحتها حمامتين، فقال وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: أيتها الحمامتان اشهدا” .. الرجاء الذي أثار سخرية القاتل فقهقه له كثيراً وهو يكرر “أيتها الحمامتان اشهدا” ثم “مضى إلى سبيله وهو يقهقه كأنه سمع نكتة بارعة تستدر القهقهة والضحك والابتسام”. وبعد أن تُطوى الأيام والشهور والأعوام، ويتعاقب الولاة والقضاة والخلائق، وقد تم تقييد الحادثة المؤسفة ضد مجهول حين وقوعها مع الاكتفاء بتقديم النعي لأبناء التاجر الفقيد الذين “أوكلوا قضيته إلى الله” .. يقدم القاتل إلى وليمة دُعي لها مع كثير من وجهاء المدينة وعامة الناس، وقد كبرت سنه بعد أن بقي طيف التاجر المغدور يطارده والحمامتان أينما حل وذهب، فإذا بحمامتين محمّرتين فوق طبق شهي قبالته .. فيحملق، ويسترجع ذكرى ما حدث وكأنها شاخصة أمامه في تلك اللحظة بكامل أركانها الفاجعة، ويطرق برأسه ملياً فلا يقوى على الكتمان، ثم يصدح بـ “قهقهة لا إرادية يستعيد بها قهقهته الإرادية وهو يجهز على القتيل، كأنه نسي الوليمة والمدعوين، وعاد بذاكرته إلى الماضي البعيد .. فهو حاضر كالغائب أو غائب كالحاضر” .. فينطق بتفاصيل جريمته النكراء كبيرها وصغيرها، ويقرّ بها على مرأى ومسمع من الجميع الذين أصيبوا بالذهول التام .. “ولاحقته الأنظار المستغربة والأسئلة المبهمة، وبشكل لا إرادي تنهد طويلاً ثم انطلق يحدّث من حوله قصة المنكوب بروحه وماله، كأن قوة خفية قاهرة تحرك لسانه بشكل لا إرادي، فلم يترك شاردة ولا واردة من قصته إلا وأفشاها للحاضرين”. وحينما أفاق من سكرته بعد فوات الأوان، وأحيل اعترافه إلى قائد الشرطة بعد أن وصل إلى مسامع والي حلب الجديد وحُكم عليه بالإعدام شنقاً، أجاب حين سأله أبناءه وزوجه وأقاربه وكل من صادفه كيف أباح بسره المكتوم بعد طول سنين قائلاً: “إن إرادة قاهرة شلّت إرادتي واجبرتني على الكلام”. وفي اللحظة التي لفّ فيها حبل المشنقة عنقه قال يعترف اعترافه الأخير: “لم أتكلم بلساني، بل بلساني الحمامتين اللتين كانتا في الطبق المستقر أمامي في دعوة العشاء”. وقد أقرّ من قبله الوالي والقاضي وقائد الشرطة وجميع الناس: “لقد شهدتا”. ووسط تهليل وتكبير الحشود التي تجمعت في موقف يشهد من عجيب تدابير القدر ما يشهد، تحوم أسراب من الطيور فوق جثمان القاتل حتى تستقر اثنتان منهما فوق رأسه .. لا تتحركان، “وهدرت الحشود بصوت واحد: لقد شهدتا”. يختتم الكاتب هذه القصة بقول يذكّر المؤمنين الذين تنفعهم الذكرى بأن الله غالب على أمره، فإن عجز قانون الأرض عن إحقاق الحق فإن قانون السماء نافذ .. وبالمرصاد، ولو بعد حين، فيقول: “عجزت عدالة الأرض في اكتشاف سر القتيل السليب، فبقي القاتل السالب طليقاً سنين طويلة، يحمل معه السر الدفين .. ولكن عدالة السماء كانت للقاتل السالب بالمرصاد، فكشفت سره وساقته إلى القضاء .. وأمهله القدر ساعة، ولكنه لم يهمله إلى قيام الساعة .. وشهدت الحمامتان، فساقته شهادتهما إلى مصيره المحتوم”.
وبدوري، أختم بالآية الكريمة التي افتتح بها الكاتب كتابه وقد أهداه إلى من يستمع القول فيتّبع أحسنه .. “لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ”.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 4 يناير 2023 – صفحة (10)
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(41)
كتاب/ مميز بالأصفر
المؤلفان/ جاكسون براون و روتشيل بنينجتون
دار النشر/ مكتبة جرير
الطبعة/ الأولى – 2018
…
كلمات بيضاء لحياة مفعمة بالألوان
كتاب يضم بين دفتيه الصغيرتين تجميع لاقتباسات وأقوال وعظات وحكايات وخواطر وهمسات .. تعزف ألحاناً عذبة ندية متناغمة تناغم طاقة الأمل والتفاؤل والجمال والحب والسعادة التي تحيا بها الحياة بأغلى ما فيها، ومعانٍ أخرى كالتي تحيط بنا مثل الهواء والتي أصبحنا نتنشّق عبيرها من على صفحات التواصل الاجتماعي كـ (روتين) يومي لا بد منه، أو مما كان واقع حياة نتعايش معه لا محالة. لذا، لا غرابة أن يصف العنوان الفرعي للكتاب بأنه (مقرر مختصر في العيش بحكمة والاختيار بذكاء). إنه المقرر الذي يقرّ في مقدمته بـ “أهمية التصرف بلطف وكرم وإحسان مع الآخرين، وتوطيد علاقات قوية راسخة مع الأشخاص الذين نحبهم، واختيار توجهات ذهنية تساعدنا أثناء عيش ساعات الحياة اليومية العادية، واكتشاف معنى الرضا والإشباع النابعين من تقدير المتع البسيطة والاستمتاع بها”.
تعرض قائمة المحتويات ستة عناوين رئيسية تسبقها مقدمة وجيزة وتنتهي بكلمة شكر وتقدير، وهي تحدد أطر ذلك المقرر التي اعتمدها الكتاب -من وجهة نظر مؤلفيه التنمويين- للعيش بحكمة تعود بالنفع، وللاختيار بذكاء من بين بدائل في الحياة لا متناهية. والأطر هي: (الإحسان / الكرم / المتع البسيطة / التوجه الذهني / الزواج / الأبوة). وفي هذه المراجعة، عرض لشذرات من مأثور القول الذي جاء به، وهي تعتمد على الطبعة الأولى الصادرة عام 2018 عن مكتبة جرير، والتي تشتمل على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
يعتقد (صامويل إتش. هولدنسون) أن صعوبة الشعور بالسكينة في حضرة شخص فاقد للطمأنينة، و “عدم القدرة على التمتع بهدوء البال عندما يكون أحد الجيران محملاً بالهموم” هو تعريف لمعنى (الإحسان). ويقترح الكتاب -وهو يعني بهذا المفهوم النبيل- أن تبعث لشخص فقير تعرفه ورقة نقدية بقيمة عشرين دولار سراً دون أن تفصح عن نفسك، وذلك كترجمة عملية للإحسان في الحياة. ومن جانب حياتي آخر، يظهر الحب وكأن له يدان تساعدان المحتاج، وقدمان تسعيان نحو الفقير، وعينان تبصران العوز، و “أذنان يسمع بهما تنهدات المكروبين” .. هكذا يتحدث (سانت أوجاستين) في مفهوم (الكرم) الذي يأتي الحب كشكل من أشكاله. ويستمر الكتاب فيقترح أيضاً عملاً تطوعياً مرة كل شهر ولبضع ساعات في مطعم بسيط روّاده من الفقراء.
وفي (صنيع معروف عشوائي)، يسرد الكتاب قصة دارت أحداثها البسيطة في عام 1891 والتي لم تنتهِ بالبساطة التي بدأت بها، حيث يقصد فندق (بيلفو هوتيل) في ليلة مطيرة “زوجان عجوزان يحتميان من عاصفة في منتصف الليل”، عندما كانت جميع فنادق ولاية فيلادلفيا ممتلئة بأكملها بالنزلاء، في حين “لم تكن هناك غرفة شاغرة للإيجار في أي مكان”. يستقبلهما موظف شاب تأخذه الشفقة ويتعاطف مع ظرفيهما، فيعرض عليهما “السرير الوحيد المتاح .. سريره الخاص”. يرفض الزوجان بينما يصرّ الشاب العطوف، “ومن خلال الإقناع الكريم العطوف للموظف الشاب، قبل الزوجان العجوزان عرضه أخيراً. وعند مغادرة الفندق في الصباح التالي كرر الزوجان العجوزان شكرهما وامتنانهما للشاب على الاهتمام غير العادي الذي أولاهما إياه. قال الرجل: (أنت الشخص الذي ينبغي أن يكون مدير أفضل فنادق الولايات المتحدة. ربما أبني لك في يوم من الأيام فندقاً تديره أنت). ضحك الثلاثة على التعليق وهم يفترقون. نسي الموظف الشاب الحدث، ولكن العجوز لم ينسه وبعد عامين من ذلك، تم إنشاء مبنى هائل شبيه بالقلعة في نيويورك سيتي، وكان صاحبه هو العجوز الذي تأثر بموظف فندق فيلادلفيا رحيم القلب. وكان هذا هو الوقت المناسب لدعوة الشاب لرؤية الفندق الهائل الذي ينتظره. وعند وصوله، اصطحب العجوز الموظف الشاب إلى وسط المدينة. قال له السيد العجوز: (هذا هو الفندق الذي بنيته لتديره أنت). وأثناء وقوفهما عند زاوية الشارع بجوار الفندق الذي سرعان ما سيصبح فندق والدورف أستوريا هوتيل صاحب الشهرة العالمية، تم تعيين الموظف الشاب جورج سي. بولدت أول مدير للفندق. وعلى مدار السنوات الثلاث والعشرين التالية، وحتى وفاته عام 1916، ظل بولدت مخلصاً للفندق وللثقة التي أولاها إياه ويليام والدورف أستو”.
أما عن (المتع البسيطة)، فإن قضاء ساعة واحدة في الفراش قبل النوم للقراءة قد تكون هي الساعة الأكثر متعة في اليوم، “وتلك هي الساعة التي تقضيها في الفراش مع كتاب بعد أن تستيقظ في الصباح” .. هكذا تعتقد (روز ماكاولي). لذا، ينصح الكتاب هنا كذلك بالاحتفاظ ببعض كتب التحفيز إلى جانب فراش النوم. ثم يقترح الكتاب في (التوجه الذهني) تطبيق قاعدة -أعتبَرَها بسيطة- لتقييم ما يتلفّظ به الإنسان، فإن لم يكن باستطاعته كتابة ما ينوي قوله والتوقيع عليه فعليه ألّا يقله. يقول (جورج ويزر): “عندما يقلّ كلامك يسهل عليك تصحيح أخطائك بسرعة”. وبعيداً قليلاً .. هل أبلغ وأحكم وأصدق من قول الأديب الإنجليزي (وليام شكسبير): “الآن شبّكا أيديكما .. ومع أيديكما .. شبّكا قلبيكما”؟. ففي الحديث عن (الزواج)، لا تعتقد (جورج إليوت) أن الشعور بالحب يكفي، إذ لا بُد أن يُسمع! فتقول: “لا داع للصمت .. فسيكون هناك الكثير من الصمت بعد الموت”. ولا تفوت الكتاب الفرصة ليحرّض على استغلال كل فرصة من أجل التعبير عن الحب .. للحبيب وللحبيبة. وهو لا يزال يتحدث في (الزواج)، يستدلّ بمثل نرويجي يقول: “دائماً ما يكون المحبوب جميلاً” وهو يوصي الزوج بإصرار على أن تأتي إجابته دائماً بـ (نعم)، متى ما سألته زوجته عن تصفيفة شعرها الجديدة، وفيما نالت إعجابه أم لا!
والكتاب وهو يقتبس قول الرئيس الأمريكي (ابراهام لنكولن) في توصية كلا الوالدين بقيادة السيارة بالطريقة التي يريدان أن يقود بها أبنائهما، تأخذ وصيته منحى مجازي كما المعنى المباشر فيه، إذ يقول موضحاً: “هناك وسيلة واحدة لتنشئة طفلك بحيث يتخذ الطريق الذي ينبغي أن يسير فيه، وتلك الوسيلة هي أن تسير أنت نفسك في هذا الطريق” .. فالقيادة بذوق وتوخٍ وحذر تضمن السلامة وتضمن الوصول إلى الوجهة المبتغاة، وكذلك هو السير على طريق الخير والحب والفضيلة .. لا ينتهي إلا بها. وعندما ينصح الكتاب وهو يستمر في حديثه عن (الأبوة) بعدم الخلط بين النجاح والثروة، يستعين برأي (تيودور روزفلت) الذي كان يعتقد أنه لا يوجد أي إنجاز في الحياة سواء كان التحاق بجامعة ما أو إصدار كتاب أو تحصيل ثروة أو تقلّد منصب رئيس البلاد “يضاهي نجاح رجل أو امرأة يمكنهما الشعور بأنهما أديا واجبهما، ويكبر أولادهما وأحفادهما ويدعوان لهما بالرحمة”. والكتاب وهو يذكّر بالموارد الثلاثة المتاحة لكل فرد والتي تلعب دوراً مؤثراً في حياته “الحب والدعاء والصفح” .. لا يُصبح أجمل من قول (كاري ويستنجسون) الذي وكّل أمره لله بكرة وعشياً، وهو يقول: “في الليل، أسلّم كل أموري لله، فهو الذي لا ينام أبداً”.
ختاماً، ومع تلك الدفقة الإيجابية نحو الحياة، لم يأت من فراغ وصف الكتاب لكلماته التي لم تكن مجرد كلمات لتعبئة صفحات ومنشورات للتداول ورسائل للاستهلاك الصباحي، بل “إنها كلمات تجلب الهدوء، كلمات تجلب الشفاء، كلمات تقدم التشجيع وتحث على التغيير وتكافئ على الجهد”. إنها إذاً مقرر عملي “نأمل أن تساعدك على العيش بحكمة والاختيار بذكاء. لذا، قم بالقراءات المطلوبة .. أنجز واجباتك .. الصف منعقد دائماً ونحن نتعرض للاختبار يومياً”.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 11 يناير 2023 – صفحة (10)
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(42)
كتاب/ القوادون والسياسة: تاريخ البغاء في نصف قرن
المؤلف/ عبدالله كمال
دار النشر/ عربية للطباعة والنشر
الطبعة/ الأولى – 1988
…
والدعارة لأغراض سياسية هي الأشد انحطاطاً
كتاب تم إصداره في ثمانينيات القرن الماضي والذي اعتبره القرّاء آنذاك أقرب ما يكون إلى الكتب السياسية ذات الطابع الفضائحي الممنوعة بالضرورة، لا سيما وأن المعلومة في تلك الفترة كانت شحيحة، والمصداقية مشكوك فيها، والرقابة الصحفية تمحو وتقصّ بمشرط رئاسي، (وجهينة) مقيد بطبيعة الحال طالما أنه يملك الخبر اليقين.
يوضّح المؤلف في مقدمة كتابه أن الدعارة السياسية هي أشد انحطاطاً من دعارة الجسد، إذ يضاجع الداعر السياسي الصحفي المرتزق سفاحاً، ليوّلد عنه أفكاراً يتم بثّها على العوام بممارسة حاذقة، تهدف إلى برمجة العقول والأمزجة والتوجهات على نحو يخدم الأجندات السياسية القائمة على مصالح أباطرتها أولاً وأخيراً. ولأن عنوان الكتاب ينطوي على شيء من التمويه إذ يحمل المعنيين معاً (دعارة السياسة بالفكر، ودعارة السياسة بالجسد)، فإن المؤلف يؤكد وبإصرار -وهو لا يزال في المقدمة- على أن الكتاب معنيّ بالقوادة حَرفياً وحِرفياً .. قولاً وفعلاً، حيث إن الكتاب لا يتحدث عن باعة الأفكار المؤدلجة إلى عامة الشعب مقابل التربح المادي من رشاوى السياسيين، بل يستهدف فعلياً بائعات الهوى المحترفات مقابل خدمة المصالح الاستخباراتية وأغراض التجسس.
ومع رواج (بزنس) القوادة السياسية، اختفى ذلك النمط التقليدي للقوّاد المخمور صاحب الدار المتهالكة في ذاك الزقاق الوضيع، والذي يعجّ بعدد من العاهرات أغلبهن مغدورات يمارسن البغاء على مضض وتحت التهديد مع ما يصطاده القوّاد من زبائن ذوي حاجات ملّحة، وهو الذي يبقى متيقظاً حتى نهاية تقديم الخدمة، لتحصيل الأجرة قبل هروبهم وقد قضوا وطرهم كاملاً. فهذا القوّاد الكلاسيكي قد ورثه أخاه الذي يظهر اليوم ممشوق القوام مهندماً على طراز رجال الأعمال، يقبع خلف مكتب فاخر في أحد أبراج المال والمشاريع، يوّفر المواد الخام، ويوفق الرؤوس بالحرام، ويدير تجارة الرقيق بتكنولوجيا القرن الواحد والعشرين.
يترجم الكتاب مفهوم الدعارة السياسية من خلال نماذج حيّة استعرضها في خمسة عشر فصلاً، بين فضائح عالمية وأخرى عربية. عليه، تعتمد هذه المراجعة للكتاب على الطبعة الأولى الصادرة منه عام 1988 عن عربية للطباعة والنشر، وهي تحتوي على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
يصف الكتاب القوّاد بـ “الجنس الرابع”، فهو مخلوق لقيط ليست له هوية انثربيولوجية، خفاشي ينشط في جنح الظلام، غليظ الجلد فلا يُغرز فيه أي قيمة أخلاقية، عديم الحس ديوث لا ينكر المنكر إنما يمتهنه باحتراف ويقتات عليه. ومن منظور داخلي، يسرد المؤلف مع شيء من التفصيل تحليل نفسي لشخصية القوّاد عنيّ به طبيب للأمراض النفسية والعصبية، إذ يرى أن للقواد عدة سمات يُعرف بها، منها: قلب بارد، إحساس مثلّج، لا موهبة، لا شرف، لا مبالاة، ابتزازي، منبوذ، مهان، كاذب، سارق، مدمن، مدمّر، شرس، فاشل دراسياً، فقير للحب، عبد للمال، سهل الاستثارة، مفتعل للشجار، عنيف ضد البشر، عدواني ضد الحيوانات، مضطرب نفسياً، مصاب بالصرع أو بالتشنجات أو بالاكتئاب … وغيرها المزيد! لا غرابة إذاً وهو من أي عرق كان ومن أي أرض جاء، يرتبط بمنظومة من المعايير معتمدة عالمياً ومثبتة علمياً للقواد المحترف.
وفي مقاربة بين الداعر والديكتاتور، يقول المؤلف: “إن القواد بهذا هو ديكتاتور، باطش، ظالم، يفعل أي شيء كي تسود سلطته فوق أجساد البشر الذين يوظفهم لخدمة أغراضه، خاصة النساء. لا يقبل الرأي الآخر وإنما هو فقط يوافق على ذلك الرأي الذي يخدم أغراضه. وفي حين أن الديكتاتور يفعل كل هذا الذي يقوم به من أجل السلطة التي يسيطر عليها، فإن القواد ديكتاتور من أجل المال. والديكتاتور عادة له رعية، شعب يقوده في اتجاه أهدافه بالقسوة والعنف، لكن القواد، الذي له رعية أيضاً، يبدو لي وكأنه راعي غنم، ليس هدفه أن يحمى غنمه من الذئاب والثعالب، وإنما هدفه هو أن يرعى الغنم ويحافظ عليها، كي يبيع صوفها، ويحلب لبنها، ويأكل لحمها، ثم يبيع كل الغنم إلى أقرب ثعلب أو ذئب يمكن أن يدفع أكثر، كي يتحول إلى البحث عن قطيع غنم جديد يقوم معه بنفس الدور السابق”. ومن أمثلة انحلال الصفوة التي جاء بها المؤلف، (الملك فاروق) وخضوعه لسطوة حاشية فاسدة من الإيطاليين، لم يكن أعضاؤها على أي مؤهل يُذكر سوى القدرة على إدارة رأس الملك بكؤوس وغانيات، والتسابق على اشباع نزواته الصبيانية مقابل نهبهم للثروات، في حين كان البلاد والعباد يلوذان تحت وطأة الفقر وضيق الحال.
(كريستين كيلر) .. الفتاة الإنجليزية، الناعمة المفترسة، الجاسوسة العاهرة، والتي تم تصنيفها كـ “مخلوق خطر” حينها! كيف لا وقد احتلت الصدارة في أحاديث المجتمع الساخنة لسنوات عدة، لا سيما حين تمكّنت وبدهاء حاذق من شبك الاتحاد السوفيتي بالولايات المتحدة بالمملكة المتحدة في خليط لا متجانس، من خلال توظيف ألاعيبها الأكروباتية في عالم الجنس والتجسس، والتي تسببت فيما بعد بالإطاحة بحكومة وبفشل وزير وبانتحار طبيب .. في واحدة من أعقد حالات البغاء في ستينيات القرن الماضي. يتطرق المؤلف كذلك إلى الحادثة التي تعرّض لها السفير المصري لدى إسرائيل (محمد بسيوني) عام 1996، حين وجّهت له راقصة اسرائيلية تهمة محاولة اغتصابها في أحد الفنادق، موضحاً أن الدافع الذي كان يحرّك هذا الفعل الشائن من التلفيق والتشهير هو موقف مصر الحاسم من القضية الفلسطينية في ذلك الوقت. وكما قال الفاروق عمر: “لو كان الفقر رجلاً لقتلته”، يصوّر المؤلف قسوة الحياة من خلال امرأة عربية كادحة يدفع بها شظف العيش إلى قبول عقد عمل استلمته عن مهنة شريفة كما نصّ عليه، تطير به وبآمالها من أرضها إلى أرض غريبة، حيث تستقبلها الفاجعة التي تنتهي بآمالها وبمآلها في شقة تقتسمها مع مومسات، تمتهن بها (الصنعة) مكرهة تحت تهديد السلاح ومواجهة عقوبة السجن، في صراع غير متكافئ مع غول الفقر المدقع وغيلان الدعارة. يقول المؤلف في مقدمة هذه الفاجعة (وحش الفقر الجائع): “حين رفضت ممارسة الدعارة، أحضروا لها ابنتها وخلعوا ملابسها وراحوا يطفئون في جسد الطفلة سجائر مشتعلة”.
يستعرض المؤلف كذلك الوضع البائس للنساء في أرياف مصر، إذ يتم بيعهن لسوّاح بلاد النفط الغنية بعقد عرفي أو بأجل، مقابل حفنة من أموال يقبضها مقدماً ولي الأمر! غير أن الأنكى في هذا أن السائح من أولئك ممتلئ الجيب والكرش والشهوة، يقبض في ذمته على أربع نسوة شرعيات، في الأغلب! لا ضير، فالمهر الزهيد ثروة لوليها، “وحلاوة” القواد حق معلوم! إلا أن الوضع يزداد بؤساً عندما يثمر ذلك الارتباط المؤقت -والذي قد لا يتجاوز الشهر- عن طفل لم ولن ير أباه، بذنب هو منه براء. ثم يتعرّض المؤلف في فصول الكتاب الأخيرة بإسهاب إلى قضية وزير الإعلام المصري الأسبق (ممدوح الليثي) والذي “ارتضى أن يعمل قواداً” حسب تعبير المؤلف، من خلال استغلال منصبه في رشاوى مالية وفي حالات سُجلت ضده عن تحرشات جنسية فاضحة. وقد أثارت القضية ضجة كبرى في مصر وشغلت الرأي العام حينها، حيث تم البتّ فيها عام 1997 عن طريق المحكمة التأديبية العليا، فجاء المؤلف بتفاصيلها إرضاءً لفضول القراء المتابعين للقضية آنذاك.
ختاماً، وعلى الرغم من أن المعلومات الواردة في هذا الكتاب قد تكون قديمة نسبياً، إلا أن شبكة المعلومات تُثريها بمعلومات أكثر تفصيلاً وأقوى مصداقية، من خلال ما تبثّه من مراجع وصوّر ووثائقيات .. ولو استمر تجديد الكتاب بطبعات حديثة، لاتسع بأمثلة أكثر سخونة عن فضائح النصف الثاني للقرن الماضي الممتدة حتماً حتى الوقت الحاضر .. الحاضر الذي لم يعد يحمل قاموسه مفردات مبهمة مثل أسرار أو شبهات أو ممنوعات …، فهو حاضر زمن العولمة، وتمدد الشبكة العنكبوتية، وسلاطة أخبار مواقع التواصل الاجتماعي.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 18 يناير 2023 – صفحة (10)
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(43)
كتاب/ سعيدة بكوني امرأة: دليل النساء لحياة ناجحة
المؤلفة/ لويز هاي
دار النشر/ دار الفاروق للاستثمارات الثقافية
الطبعة/ السادسة – 2017
…
التحفيز نحو استقلالية، وموضوعية، وحب للذات أكبر
هو كتاب عن المرأة وللمرأة .. تحريضي وتحفيزي، يهدف إلى خلق تلك الحالة الإدراكية الواعية اللازمة لكل امرأة وهي تمضي على وتير القرن الواحد والعشرين المضطرد ضمن هدير ما يشهد من تغيرات لا تلبث أن تتقرر حتى تتغير، وذلك من أجل فرض التغيير المطلوب لكل امرأة، في كيانها كإنسانة ابتداءً، وفي دورها الرائد ككائن فاعل في المجتمع الإنساني .. إذ هو كتاب جدير على حد سواء، بشحذ همة كل امرأة واعدة نحو طريقها الحقيقي في الحياة، وتجديد عزيمة كل امرأة قطعت شوطاً نحو ذاتها الحرة، باستقلالية وبموضوعية واعتزاز بالنفس أصدق وأعمق وأحكم. وعن هذا التطلع وما حدّه سابقاً من مخلّفات مجتمعية، تقول الكاتبة في مطلع حديثها: “لقد عانت المرأة الكثير والكثير، ولا نريد أن نغفل ذلك. لقد كان الرجل في الماضي هو السيد الوحيد في المنزل، لذا فقد كانت نتيجة أي عصيان يصدر عن الزوجة أو الطفل أو الخادم هي العقاب بالجلد. أما الآن، فقد استطاعت المرأة أن تتقدم بالفعل، ولكن هذا لا يعد سوى بداية مرحلة جديدة من التطور، حيث ما زال لدينا الكثير لنتعلمه، والكثير لنقوم به، فقد أصبح هناك الآن حدود جديدة لحرية المرأة، لذا نحن في حاجة إلى إيجاد حلول جديدة لكل النساء، وكذلك لمن يعشن بمفردهن”.
إنها لويزا هاي (1926 : 2017) .. “صاحبة الكتب الأكثر مبيعاً” كما يعرض غلاف الكتاب الأول الذي أصدرته عام 1996، وهي من أبرز الكاتبات الأمريكيات اللاتي عملن ضمن مجال الروحانيات وتنمية الذات. تعرض شبكة المعلومات قصة كفاح قاسية خاضتها الكاتبة في حياتها التي امتدت إلى تسعين عاماً، تعرضت فيها وهي طفلة ووالدتها إلى عنف جسدي من قبل زوجها، وللاغتصاب في سن مبكر من قبل جارها، الأمر الذي دفعها إلى عرض طفلتها لدور التبني. ومع الفقر والعوز وقلة الحيلة، تترك دراستها الثانوية وتنخرط في أعمال منخفضة الأجر، لتنتقل إلى دراسة العلوم الدينية والروحية بعد طلاقها من زوجها رجل الأعمال بعد زواج دام أربعة عشر عام، وقد تسبب لها في أزمة عنيفة جرّاء خيانته الزوجية! تُصاب بالسرطان فترفض العلاج الكيميائي وتُشفى ذاتياً .. بالغذاء وبفضيلة التسامح، لتضع من ثم كتابها الشهير (أشفِ جسدك) الذي يحقق مبيعات عالية تفوق الخمسين مليون نسخة عالمياً بعد ترجمته إلى عدة لغات، ويتصدر قائمة نيويورك تايمز للكتب الأكثر مبيعاً. تستمر في عطائها لتعمل في مجال دعم مرضى الإيدز، فيذيع صيتها وتظهر من خلال البرامج التلفزيونية، ويتم انتاج فيلم سنيمائي يحكي قصة حياتها عام 2008. وتستمر من ثم لتؤسس شركتها الخاصة للنشر وتدير مؤسسة للأعمال الخيرية. وتستمر .. حتى تموت وهي نائمة في طمأنينة.
وبين مقدمة الكتاب وخاتمته تقع تسعة فصول رئيسية هنّ موضوع الكتاب، تبدأ بطموح المرأة في استمرارية التعلم كعملية حيوية مستمرة، وتأثير الإعلانات السلبي على مدى ثقتها بنفسها ونظرتها لذاتها، والتحفيز نحو تبني أفكار إيجابية، لتعرج على أهمية الموازنة بين الرضا الذاتي وتربية الأطفال والمحافظة على الصحة، وتنتهي بالتأمين المادي والاستمتاع بالحياة مع التقدم في العمر، وبذل ما أمكن من سبل العون الكفيلة بتحقيق كل ذلك. لذا، تعتمد هذه المراجعة على الطبعة السادسة الصادرة من الكتاب عام 2017 عن دار الفاروق للاستثمارات الثقافية، وهي تحتوي على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، وقد جاءت ترجمة الكتاب واضحة في مفرداتها ومعانيها، وجاءت موضوعاته ملائمة لكل امرأة في مختلف الثقافات، رغم بعض الاعتبارات بطبيعة الحال:
هنالك من غير أدنى شك صفتان أساسيتان تمنحان المرأة الاحترام والاستقلالية والتمكين، هما: القيمة الذاتية واحترام الذات، فلا ينبغي لـ “المرأة الصالحة” إنكار ذاتها كي تكون كذلك، وإلا أصبح الوضع (لصالح الزوج) وليس (لصالح الزوجة). عن هذا، تقتبس الكاتبة من مادة الاقتصاد المنزلي المقررة في خمسينيات القرن الماضي صور من (استعباد) المرأة والتي أُطلق عليها آنذاك عُرفاً واصطلاحاً (نصائح)، منها: (جهزي العشاء الدافئ، نظفي المنزل من الأتربة، اغسلي وجوه الأطفال وأيديهم، قللي من الضوضاء وتجنبي تشغيل المكنسة، تزيني وتبرّجي وتلطّفي، اخلعي حذائه فور وصوله، تحدثي بعذوبة واجعليه يسترخِ، أنصتي باهتمام له ولا تتذمري، ودعيه يستمتع بليله الطويل ولو بعيداً عنك). تعلّق لويزا هاي على الآنف ذكره من وصايا أكثر من عشر، موجهة النصح بدورها للمرأة، لتقول: “لا توجد مشكلة في اتباع أي من الأمور السالف ذكرها إذا ما أردتِ القيام بها. ولكن، يجب أن تدركي أن معظم النساء في ريعان الشباب في هذا العصر قد اعتدن على إنكار أنفسهن بالكامل من أجل إسعاد أزواجهن. فهذا ما يجب أن تكون عليه المرأة الصالحة. وقد كان هذا الأمر بالفعل لصالح الرجل وليس لصالح المرأة. لذا، علينا نحن نساء الحاضر أن نعيد التفكير في حياتنا. يمكننا أن نجدد من أنفسنا بأن نتعلم أن نسأل عن كل شيء، بما في ذلك الأشياء التي تبدو اعتيادية، مثل: الطهي والنظافة والعناية بالأطفال وقضاء المهام اليومية وقيادة السيارة وغيرها. علينا أن نتدبر من جديد كل الأشياء التي اعتدنا القيام بها بشكل تلقائي. هل نريد أن نقضي بقية حياتنا ولدينا القليل فقط من الآراء والأفكار التي نفقدها بمرور الوقت؟”. لا يفُتها وهي في هذا النطاق الضيق، من المفاضلة بين المرأة المتزوجة والمرأة غير المتزوجة، إذ أن المرأة غير المتزوجة في وجهة نظرها تنعم بحياة كاملة تملكها بأسرها، فهي تتعلم وتعمل وتكسب وتسافر وتخلق الصداقات وتعزز الكثير من قيم الثقة بالنفس.
وعلى نطاق أوسع من حدود الحضيرة الزوجية، تؤمن الكاتبة بأن نجاح المرأة هو في حقيقته نجاح وتقدّم وازدهار للمجتمع ككل، إذ تقول: “إن مساندة المرأة هي أفضل شيء نستطيع القيام به. فعندما تُقهر المرأة نخسر جميعاً، وعندما تفوز المرأة نفوز جميعا”، وتؤمن كذلك بأن المستقبل هو نتاج ما نصنعه في الحاضر، فتقول من جديد في تفاؤل وحكمة: “إذا أردنا أن يكون المستقبل إيجابياً، يجب أن نغير تفكيرنا من اليوم. فأفكار اليوم تشكل خبرات المستقبل”. ثم بعيداً عن هذا النطاق الخارجي العريض، تتجه لويزا هاي نحو مكنونات المرأة التي تنبع من داخلها، فتؤكد ما للتوكيدات اللفظية الإيجابية والمعززة للثقة بالنفس من بالغ الأثر في شحذ الطموح وتفعيل الأهداف، فتسرد بالتالي عدداً مطولاً منها تحثّ فيها نظيرتها المرأة على تكرارها وفق مسامعها بشكل يومي، حتى تألفها نفسها بمرور الوقت وتصبح واقعاً تحيا بها. منها على سبيل المثال: “أحب كوني امرأة” و أنا امرأة قوية” و “أنا مسئولة عن حياتي” و “الحياة مليئة بالسعادة والحب” و “لدي الحكمة والجمال” و “لدي كل يوم أفكار جديدة ومختلفة” و “إن أول ما أحبه في حياتي هو ذاتي” و “لا يوجد شيء يحد من حريتي” و “لدي الحرية في أن أصبح كيفما أريد” و “أعمل على أن تزيد قدراتي” و “أساهم في المجتمع بطريقة إيجابية وبناءة” و “إنني مسئولة عن تدبير نفقاتي والعناية بصحتي والتخطيط لمستقبلي” و “أفكر في السبل التي يمكن إصلاح العالم من خلالها، وأعمل على تطبيقها” و “أحب صديقاتي وأساندهن، وأشعر بالسعادة لوجودهن في حياتي” و “أقضي وقتاً للتأمل وممارسة رياضة المشي، وأستمتع بالطبيعة وبقضاء الوقت بمفردي” و “إن السنوات الأخيرة من حياتي هي بمثابة كنوز” و “إنني في أمان دائماً ما دامت العناية الإلهية تحميني”. من ناحية أخرى، وبينما تؤكد الكاتبة على أن (الاعتناء بالمظهر، الحرص على التعليم، الاستقلال المادي، التواصل روحياً مع الحياة) هي أمور تعزز من ثقة المرأة بنفسها، فإن ما تقوم به إعلانات جراحات التجميل -لا سيما غير الضرورية- لا ترسّخ سوى شعور المرأة بالنقص، ولا تعزز ثقتها بنفسها في شيء، ولا أي شيء آخر إن كانت تفتقد في الأساس لعامل الثقة النابع من أعماق ذاتها.
ختاماً، وبما أن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، تولي لويزا هاي الروح الإنسانية أهمية عظمى من أجل خلق حياة ضمن نطاق لا مادي وحسب بل قيمي مقرّه القلب، فإن للروح قيم من شمائل وفضائل وأخلاقيات تنمو بها .. فتوصي قائلة بأن “علينا جميعاً أن نتعلم التسامح وأن نحب أنفسنا وأن نعيش الحاضر .. وبذلك نستطيع أن نعالج قلوبنا”.
إنه بحق كتاب عن المرأة وللمرأة .. الإنسانة قبل أي شيء!.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 25 يناير 2023 – صفحة (10)
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
أنشر هذه المقالات في شهر فبراير / شباط 2023
همى الغيث
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(44)
كتاب/ إذا وقعت في حب كاتبة
المؤلفة/ جانيس والد وآخرون
المترجمة/ أماليا داود
دار النشر/ دار الخان للنشر والتوزيع
الطبعة/ الأولى – 2019
…
مقالات تحتضن توأم القراءة والكتابة
كتاب يضم بين دفتيه الصغيرتين مقالات رشيقة تلمس خفتها روح القارئ بإبداعية مضمونها، وهي تستهدفه بذكاء كمتعطش للمعرفة، يستقي من مناهل الكتّاب وأقلامهم المتدفقة .. كشغف لا ينتهي. وكما تقول الأخصائية النفسية كاي جاميسون في تلميح عن ملامح ذلك القارئ الشغوف: “أنا أعتقد أن الفضول والتساؤل والشغف هي صفات العقول المبدعة والمعلمين العظماء”. إنها مقالات تدور في مجملها حول توأم (القراءة والكتابة)، وما ينطوي حولهما من عادات وأسرار وأكاذيب وصعوبات ونصائح وطرائف أيضاً، كعوارض جانبية .. في طرح مختلف نوعاً ما قد لم يحظَ بالاهتمام الكافي من ذي قبل!.
تستهل تلك المقالات برسم ملامح عشاق القراءة، لتعرج على القراءة كفن يخضع لمعايير محددة، ومن ثم تأخذ في تعداد فوائدها التي لا تنتهي، وهي تسرد بعض من حيل استئنافها بعد فترة انقطاع. تأتي مقالات أخرى لتضع قواعد خاصة للكتابة، بينما تعرض أخرى لنصائح أدبية وأخرى نفسية وأخرى مزعجة على لسان عدد من الكتّاب، بالإضافة إلى شرح تقنية الكتابة في غضون خمسة عشرة دقيقة فقط، لتخلص إلى عدد من الإشاعات الواردة حولها والتي قد تنطلي على من يكتب وعلى من ينوي أن يكتب، على حد سواء. وكجانب طريف من تلك المقالات، قد يجد القارئ نفسه، من قريب أو من بعيد، يقبع بين سطورها، بل وقد يقف مدهوشاً وجهاً لوجه عند بعضها وكأنها كُتبت عنه، ليتساءل: كيف عرفوا عني ذلك؟ وعلى الرغم من ركاكة الترجمة في بعض أجزاء الكتاب والتي ظهرت حرفية لا تحمل المعنى المباشر، فقد جاء الكتاب في مجمله مثير لعاطفة القارئ من خلال استخدامه لأسلوب أدبي لا يخلو من إبداع، ومحفّز لشحذ همة كل طموح في احتراف مهنة الكتابة، وهو كذلك ظريف الخيال في استعارة بعض النماذج والأمثلة لتوضيح فكرته وتعزيز نصائحه.
وعن مراجعة هذه الكتاب الذي حمل عنوانه عنوان مقالة (أشياء لتتذكرها إذا وقعت في حب كاتبة) من بين أربع وعشرين مقالة، فتعتمد على الطبعة الأولى الصادرة منه عام 2019 عن دار الخان للنشر والتوزيع، والذي عني بترجمته الكاتبة والمترجمة الفلسطينية (أماليا داود)، وهي تشتمل على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
تكشف مقالة (مدمنو الكتب .. عشق لا ينتهي) سيماء أولئك المدمنين من خلال أفعالهم المشتركة، بصرف النظر عن الخلفية الثقافية التي يتباينون في انتمائهم لها، بحيث تأخذ صفة الصورة النمطية لهم، “فنحن فضوليون ونقدّر حياة المؤلفين، وليس غريباً أن نقضي معظم وقتنا في المكتبات، فهذه الصفات لا نخجل منها”، من مرافقة الكتاب لهم أينما حلوا وذهبوا، إلى هلع الانتقال السكني وعملية شحن الكتب المترتبة عليها، انتهاءً بالأنانية البريئة في رفض فكرة إعارة كتبهم حتى لأصدقائهم رفضاً قاطعاً واستبدالها بشراء نسخة إضافية كحل مريح وإن تكبّدت تكلفة إضافية .. ولا يمكن تجاهل دفاعهم المستميت عن الكتاب الورقي الحميم ضد الإلكتروني الفاتر، ففي حماسة يقولون: “نحن ندافع عن الكتاب الورقي ولنا رأينا الثابت بخصوص هذا الشأن، فلا شيء يوازي تقليب صفحات كتاب، لكن أحياناً نتنازل لصالح كتاب تعبنا في الحصول عليه”. بينما يتساءل أحدهم في حيرة: “في السفر لا بد أن تكون الأمتعة خفيفة! ماذا لو قررنا حمل بعض كتبنا المفضلة معنا؟”. أما مقالة (نصائح عن النصائح الأدبية)، فتسرد جملة من النصائح ما تلبث أن تنصح بكسرها متى لزم الأمر! فالنقد -على سبيل المثال- يؤتي أكله كتقييم موضوعي، غير أنه يستحق التجاهل إذا مسّ مبادئ الكاتب أو تم توجيهه بشكل متعمّد من أجل إرضاء العامة .. بينما تأتي مقالة (الكتابة من أجل لقمة العيش: متعة أم عذاب؟) لتصنّف المهنة على أنها (غير ممتعة) على لسان الروائي (تشودري)، حيث عامل التشويق ينتفي لديه وهو قد علم بأحداث الرواية مسبقاً ككاتب يكتبها، غير أن تصنيف هذه المهنة يصبح (ممتعاً) عند الكاتب (كانزرو) وذلك للشعور المصاحب بالرضا في عملية “غزل الكلمات” حسب تعبيره.
وبما أن الكتاب يعلوه عبارة (مقالات إبداعية)، فنجد أحد كتّاب تلك المقالات يتشعب في هذه السمة الإبداعية التي تحيط بعمل الكتابة، فيقرّ: “إنّ الكتابة مسعى إبداعي مليء بالتحدّيات، وقد يجلب لك الكثير من النجاح والرضا في كثير من المهن. لدى الكتّاب موهبة على التواصل مع الآخرين. جميع الصناعات تحتاج إلى كتّاب في كثير من الجوانب. عندما تشعر بالشكّ تذكّر فقط أن كل ما قد قرأته في حياتك قد كتبه أحدٌ ما، وكان عمله كتابة ذلك. الاحتمالات لا نهائية”. وماذا عن تلك العاطفة التي تتملّك القارئ وعن مدى انعكاساتها لا على مستوى الحصيلة المعرفية وحسب؟ تجيب إحدى تلك المقالات الإبداعية عن التأثير السلوكي وتقول: “تجعلك القراءة أكثر تعاطفاً: إذا كنتَ تقرأ فمن المرجح أنك تتعاطف أكثر مع صراعات الآخرين، حيث أكدت الدراسات أن القارئ يتماهى مع الشخصيات وتزداد عنده ترجمة الأقوال إلى الأفعال، ومن ثمّ يزداد التعاطف، ويحوّل الذكاء العاطفي تلك العلاقات من فورها إلى علاقات حقيقية”. أما الكاتب المحترف، فيمزج عصارة خبرته الذاتية بخبراته في الحياة حتى يُسفر عن رؤى لا تثبت على مدى محدد بل تتغاير مع استغراقه في معمل تجاربه الإبداعي. يقول أحد كتّاب تلك المقالات: ”حياة الكاتب مختلفة، تشبه إلى حد كبير عالم في مختبره، يجرِّبُ الخلطات ويحاول مزجها برؤيته الخاصة. وأثناء تلك المسيرة، يجرّب الكاتب أفكاره ويعيد تشكيلها والحكم عليها، ويبلورها باستمرار حسب نتائج التجارب، وتلك العملية تجعل الكاتب غارقاً في متعة التجريب”.
وكمسك ختام للكتاب، تأتي مقالة (أيتها المرأة المبدعة لا تتوقفي) إبداعية بجرعة معززة في تقدير الذات، بقلم الباحثة الأمريكية د. هايدي جرانت هالفورسون، وهي ناشطة في مهارات القيادة والتحفيز إلى جانب تخصصها الأكاديمي في علم النفس الاجتماعي، وقد استمر اختيارها في السنوات الأخيرة كواحدة ضمن خمسين مفكّر إداري الأكثر تأثيراً حول العالم، وهي تشغل منصب المديرة المساعدة لمركز علوم التحفيز بجامعة كولومبيا، وقد أصدرت عدد من المؤلفات صُنّفت ضمن الأكثر مبيعاً عالمياً. ففي حديثها عن المرأة المبدعة، تعتقد د. هايدي أنها غالباً ما تتعرض لإغراء “فكرة الاستسلام” حيث تنسحب من الحياة العملية لكثرة ما تواجه من ضغوط وانتقادات، تدفعها كباحثة للتساؤل عن تبعات هذا الانسحاب الخنوع! فتقول: “إن تخلي المرأة عن إبداعها يسبب جوعاً فكرياً، ويسبب أزمة هوية بين طموحها والحياة الروتينية. في حين معظم النساء غير مستعدات للاعتراف بذلك، وتمر السنوات لتجد المرأة نفسها بلا هوية خاصة بها، وتفقد الإحساس بالذات”. ولأنها امرأة تحفيزية، تبدأ بطرح الحلول العملية، فتقول: “الآن في العصر الرقمي، يمكن أن تبدع المرأة في العديد من الأعمال التي لا تؤثر في حياتها أو اهتمامها بأسرتها، وفي الوقت نفسه تكسبها هُويّتها الخاصة، وتحقق طموحها. فالعمل ليس فقط لكسب الرزق بقدر ما هو مصدر القوة الأساسية للحياة”. وبعد حديث مطوّل حول أساليب التنشئة الاجتماعية التي تحيل كل إنجاز إلى الصفات الوراثية إذا كان أنثوياً، وإلى الاجتهاد والعمل الدؤوب إذا كان ذكورياً، وقد استشهدت د. هايدي بدراسة أحد الباحثين على طلاب الصف الخامس من الجنسين، تقوم بإتمام مهام التحفيز التي تبنّتها تجاه كل امرأة، فتؤكد قائلة: “مهما كانت قدراتك، ومستوى ذكائك، وإبداعك، ومستوى ضبط النفس، والسحر أو الحماسة، الدراسات أكدت أن هذه الأمور طيّعة. عندما نتكلّم عن إتقان أي مهارة فخبرتك وجهدك والمثابرة هي أمور في غاية الأهمية. لذلك هذا وقت مناسب لطرد الاعتقادات الخاطئة حول مقدراتك، وتبني حقيقة أن المقدّرات تتحسن، واستعادة الثقة التي فقدتها منذ زمن طويل لمواجهة أي تحد”. فتنتهي من حيث بدأت بتحفيز نسوي قائلة: “أيتها المرأة المبدعة لا تتوقفي”.
وللختام بمسك، اقتبس من بين الحكم المتناثرة بين دفتي الكتاب، هذه التي تجعل من الكتب ثروة لا ينفد عطائها: “أنا أنظر إلى الكتب على إنها استثمار في التعليم للمستقبل بدلاً من لحظة عابرة تُنسى بسرعة”. وفي كلمة، هو كتاب مرح يستحق التصفح ولا يستغرق الوقت الطويل، وقد يثري حصيلة القارئ المعلوماتية بأخرى جديدة، فضلاً عن فوائده اللطيفة.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 1 فبراير 2023 – صفحة (10)
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(45)
كتاب/ حديث العصافير: مقالات حبيسة الأدراج تنفست الصعداء
المؤلف/ أحمد البراك
دار النشر/ دار دريم بوك
الطبعة/ الأولى – 2017
…
مقالات في أروقة الأدب وأحوال القلوب ودروب الحياة
في هذا الكتاب القصير الذي ضمّنه الكاتب مجموعة مقالات تبعثرت في أدراج مكتبه المقفل حتى حين، يجده القارئ وقد تنقّل بين أروقة الأدب العربي وهو يسرح مع نسائم الحب المحلّقة بأصحابها، ويطرق في مسيره العذب هذا أبواب من الواقع المرّ لم يكن من مرّه بد! تتوقف تلك المقالات بين نبضات الكاتب، ليجود فيها من بعض خواطره، قد يجدها القارئ -وبشيء من العجب- تُشبه خواطره. يقول في ثنايا الكتاب: “لا تسألوا عقل الكاتب عن جفاف أفكاره، فما تقرؤونه ليست حروفاً ذات مدة صلاحية! هي أجزاء من قلبه قررت الذوبان، ولا زالت تسيل قطرة قطرة”.
يحمل الكتاب عنوان رهيف لمقالة ضمن مقالاته .. فبعد معسول الكلام عن العشق وأهله وأحوالهم، يخلص الكاتب إلى المغزى، فيحثّ الكلام على أن يكون كـ (حديث العصافير) .. فهي تتحدث طوال الوقت، لكن لكل حرف تنطقه معنى، وللحديث هدف، ولبدايته ونهايته حدود معلومة. وقد صدق الكاتب فيما اعتنق فوضع كتابه، وجاء اختيار العنوان -من ضمن المقالات المعنونة فيه- موفقاً، وهو يُهديه إلى المنكسرة قلوبهم في الأرض .. أولئك الذين آثروا الصمت وقد كُسرت أحلامهم! وكمتيمة بالعصفور وحديثه الغرّيد، وبما أن المقالة بدأت بوَلَه المحبين وخُتمت بحديث العصافير، ولئن الشيء بالشيء يُذكر، استحضر حكاية في الموروث يذكرها البيهقي عن سليمان بن داوود عليه السلام عن عصفور يرفرف حول عصفورة: “… فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: وما يقول يا نبي الله؟ قال: يخطبها لنفسه ويقول: تزوجيني أسكنك أي قصور دمشق شئت. قال سليمان: وأنه عرف أن قصور دمشق مبنية بالصخر لا يقدر أن يسكنها، لكن كل خاطب كذاب”.
يقدّم الكاتب نفسه في مقدمته ليتحدث مع القارئ “صديق الهواية المشتركة”، حيث يعتقد أن كل قارئ لا بد وأن يحمل في داخله “أديب صغير” .. وليكبر، عليه أن يتمرّس على الانفتاح في المخاطبة والحوار، ويغوص صامتاً في أعماقه، ليستنبط مما يقرأ حديث آخر. وعن الكاتب .. وكما يتداخل الليل والنهار ليُسفر عن شفق، ويتداخل يسار المخ المنطقي بالأيمن الإبداعي فتصدح الموسيقى، كذلك، امتهن الكاتب الكويتي الرياضيات وهوى الأدب، فجاد بأحاديث يرويها في كتابه الأول هذا. لذا، تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى الصادرة منه عام 2017 عن دار دريم بوك، وهي تحتوي على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
في موضوع (أنانية البشر)، يطلق الآدمي لشطحاته العنان في تصوّر نعيمه وحده في الجنة، بين الأنهار والفواكه والطيور والقصور والنمارق والكواعب والولدان، بينما زيارة الأخلاء والتسامر مع الأصحاب وإقامة محافل شكر النعم …، لا نصيب لها في تلك الشطحات! أهي أنانية متأصلة كما يرى الكاتب؟ أم أن كل من أولئك قد علم مسبقاً بما سيشترك به والآخرين من نعيم فلا يجد داعٍ لذكره؟ أم أنه اكتفى بمخالطتهم في الدنيا، فلا مكان لهم عنده في الآخرة؟. وفي مقالة (تجزئة القدوة) التي تليها، يرى الكاتب أن (تجديد) القدوة أمر صحي، فكوكبنا يحمل سبعة مليارات إنسي، قد يجد أحدنا قدوته بين أبسطهم، وهو يستطيع أيضاً التنقل بينهم كلما تفاضلوا. وكما بدأ الكاتب موضوعه بالسؤال عن القدوة، والذي كثيراً ما يُطرح والذي قد يتردد المرء في الإجابة عنه إلا بعد حين، تأتي الإجابة اللافورية لتنم عن عدم وجود قدوة حقيقية -كما أعتقد- كما أن القدوة لا يجب أن يكون تمثالاً من ذهب، فيتحطم في ناظر من اتخذه قدوة مع أول مثلبة يجدها فيه.
ينعى الكاتب نفسه والقوم وهو يتساءل في مقالة (كيف سقطت الأندلس؟)، إلا أنه يمتنع عن الاستزادة في نبش التاريخ وفتق الجروح! فهموم اليوم تكفي للطم الجيوب وسمل العيون .. وهو في مقالة (حضارات) وبقدر ما يثير من إعجاب بحضارات على كوكب نسكنه، بقدر ما يثير من الشجن على حضارة عربية-إسلامية، شعت لتنطفئ .. ولعلها تعود!. وهنا، يتطرق الكاتب إلى حوار دار بينه وبين جمع من العرب في جلسة خاصة، تباهى فيها فرعون مصري على بابلي حد النخاع على شامي أموي على بربري أفريقي على آخر حضرمي أصّل للعرب أجمعين، وقد استعانوا به ليكون حكماً منصفاً في الحديث عن تلك الحضارات الراقية، التي عملت على تأسيس قواعد حضارية ضخمة شيدت فوقها أمجاد الأمم القائمة حالياً، وقد اعتبر نفسه مزيجاً من تلك الحضارات التي تشرّبها منذ الصغر، فقال: “ليس مهماً أن تكون من بلد سادت حضارته الأفق! فالحضارة العثمانية في تركيا والتي امتدت إلى العراق طيلة أربعة قرون كانت في وقتها تمثّل أمل الشعوب الطامحة إلى مستقبل أفضل، ولكن ضعفت شوكتها، وكثرة الرشاوي والفساد أدى إلى انهيار تلك الحضارة الرائعة! ولن أنكر أن بلاد الشام كانت في فترة ما قبلة المسلمين إبان العصر الأموي، وكانت فتوحات المسلمين حينها تنذر بأن الإسلام سيقف على قمة هرم الشعوب لوقت طويل”. وعلى ما يبدو، لم يرق حكم الكاتب للقوم كما أوضح في خاتمة مقاله، فتولوا عنه مدبرين يديرون أحاديثهم بعيداً عنه، ولسان كل واحد منهم يغني على ليلاه قائلاً: “يصطفلوا / بصرهم / ما يشوفون شر / بكيفهم عيني / في ستين داهية / لا فزيت”.
في ومضة (علمني أفريقي)، تنطفأ عين القارئة عندما تقع على حكمة خسارة العمر في امرأة عبوس تزوجها ذاك الأفريقي المغدور ليصاب قلبه في مقتل، كمداً أبدياً وحزنا .. غير أن الكاتب يعود ويصيب كبد الحقيقة عندما وصم قبيح الأفعال بـ (الرجولة المقنعة)، وخصوصاً في ممارساتها ضد المرأة وهي تمثّل نصف المجتمع! فالحرام يختلط بالحلال، وتعدد القلوب يقابلها تعدد الأكاذيب، والمودة والرحمة استُبدلت بتنفيس عن شهوات مكبوتة وحسب .. غير أن تقوى الله يبقى دائماً وأبداً الحل الأمثل. يخلص الكاتب -الذي تعلّم الرياضيات- في مقالة (أهم دقيقة) إلى حقيقة أن (واحد جمع واحد) ليست بالضرورة تنتهي بـ (اثنان) .. نعم وبكل تأكيد! فهناك غلطة بألف، وكلمة عن جوامع الكلم، وامرأة عن عشرة نسوة. لكن الكاتب لا يكتفي على ما يبدو، فيعترف على لسان معشر الرجال في موضوع (الكويت-إيطاليا-الكويت) قائلاً: “أننا لا نبالي كثيرا بدموع أنثى تعشقنا” وقد اعتبرها مزيّة، لكنهم يخشون من قرار نهائي عليهم اتخاذه مرغمين، يكونون فيه هم الخاسرون ولا تنفعهم حينها المكابرة! فيقول بصيغة الـ (أنا): “ولكني أعود محملاً بكميات لا بأس بها من الحنين، سأرميه تحت أقدامها، وأعتذر عن الرحيل، وأقدم لها باقة من حب ستقبّلها وتقبلها ونعود لوضعنا الطبيعي، مركوم مع العمل المتعب، وهي التي ستتولى مسألة إراحتي”. هكذا على مذهب “وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا” .. إذ يشرّق أحدهم ويغرّب ليعود تحت أقدامها في نهاية المطاف، طالباً العفو والغفران.
وفي متفرّقات، يومض قلب الكاتب في ومضة (جرأة) ليفرّق فيها بين قول الحق وبين وقاحة المقال، إذ يقول: “الجرأة لا تعني أن تكون وقحاً، بل أن تكون منصفاً، وأن تقولها بصوت عال” .. وفي ومضة (معلمتي الوردة) التي بدت مكتفية بذاتها ومتصالحة مع الطبيعة، يقول: “يعجبني في الوردة كثير من الصفات .. فهي صامتة، والصمت أبلغ من الكلام أحياناً .. شامخة، لا تخفض هامتها لأي كان .. جميلة، تعجب كل من رآها .. ملونة، تسرق الأنظار وتبهر العقول .. مليكة الغنج، تتمايل مع نسائم الهواء بدلال .. راقية، لا تهتم بمن حولها لتكون ذات جاذبية .. ألا يكفي أن النحل يصنع العسل من رحيقها؟” .. وعن الغربة التي لم يجدها فقط في البعد عن الأوطان، بل في سُكنى الروح، يقول في ومضة (ذاكرتنا المرتحلة): “الغربة .. اكتشاف صوت صمتك! عندما تستمع إلى نفسك كثيراً وتبدأ بالتيقن أنك لن تجد أحداً يسمعك إلّاك”.
إن من استعظم شامخاً شأن عقله في زنة الأمور بإحكام وعمد إلى وطء نبضات قلبه بقدميه، ظاناً أنه في هذا الجمود ثابت على صراط مستقيم، هو في حقيقته خاسراً للحب خسراناً مبينا! بهذا المعنى يفتتح الكاتب مقالة (تبارك)، فيقول في قول حكيم لا يعبّر سوى عن الإنسان: “المتتبع لنبضه، والمتحكم بعقله، والمطمئن على نفسه، أولئك الذين لم يجربوا الحب قط (وأولئك هم الخاسرون) .. ونحن الذين خلقنا ضعفاء مجبولين على فطرة الحب، فتتوه في الشوق نبضاتنا، ونفقد في لحظات الوصل الدافئ عقولنا، ونشك في أنفسنا كثيراً، ونسقط في هوة الهوى! أراك في زاوية جنوني وألحق ظلالك، فلا النفس الأمارة بالهوى تهدأ، ولا العين اليتيمة تبكي ثكلى أحلامها التي ارتبطت بك، ورفيقك صامد بين سماء لا نور بها وأرض لا مستقر لها”.
وأختم بومضة (فرح) التي أوصى الكاتب فيها بحُسن استقبال ذلك البريق الخافت من السعادة الذي قد يفاجئ أحدنا في صباحه، فهو البريق الذي سيتسع مداه ويصبح شلال النور الذي يغمر بقية اليوم. يقول: “عندما تجد في صباحك بعضاً من السعادة، تعلّق في ستارتها جيداً ولا تفلت أطرافها، فهي سبيلك للفرح بقية اليوم”.
أخيراً أقول: إنه كتاب يرقّ معه الحديث .. فتستمر العصافير بأحاديثها، ولنستمر نحن بالإنصات لها .. والتبصر.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 22 فبراير 2023 – صفحة (10)
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
(46)
كتاب/ بغداد: ملامح مدينة في ذاكرة الستينات
المؤلف/ جمال حيدر
دار النشر/ المركز الثقافي العربي
الطبعة/ الأولى – 2002
…
بغداد في ذاكرة عاشق مغترب
كتاب يعبق بذكريات وأطياف ومشاعر دافئة، بثّها الكاتب وهو يسترجع من ذاكرته ملامح مدينة بغداد في ستينيات القرن الماضي، حينما كان يومها طفلاً يلهو بين طرقاتها، ويستشعر بساطة الحي وألفة الجيران ودفء البيوت ولفح الأجواء وعراقة التاريخ، وهو يتطرّق إلى تفاصيل الحياة في المدينة العتيقة التي كانت آسرة بالمباني والعمارات والأنصبة التي صممها مهندسون أجانب إلى جانب مهندسين عراقيين آنذاك .. وهي المدينة التي جمعت التناقض على الناصيتين! فبينما تمسّكت هنا بالقيم المحافظة وفضائل الأخلاق، وحافظت على تأدية طقوس العبادات وإقامة شعائر الدين في المساجد والحسينيات، لاحت من هناك مباني السينما ودور الكتب والمقاهي الشعبية التي كانت تحتفي بحوارات المثقفين فيما بينهم، وترصد كذلك تسكّع من لا عمل لهم، في الوقت الذي اصطفت فيه على الناحية الأخرى بارات الخمور ومراقص السهرات وبيوت الدعارة، لا سيما في الطرق الجانبية أو الخلفية للمدينة. لا يغفل الكاتب عن عرض جانب من الصراع الذي شهدته المدينة في تحولّها من الماضي إلى الحاضر والذي حمل بطبيعة الحال قيّماً مستجّدة تختلف عن تلك التي شكّلت نموذجاً حراً عُرفت به المدينة، والتي ما لبثت حتى استسلمت لجديد الحاضر وانزوى عنها ما قد مضى من عراقة!
يؤرخ لهذا التراث العريق الأديب والمترجم العراقي جمال حيدر، والذي تنقل عنه شبكة المعلومات مولده في مدينة بغداد، والتي غادرها في سبعينيات القرن الماضي إثر ما تعرض له حزب اليسار الشيوعي في العراق من صراعات سياسية آنذاك. يستقر حالياً في مدينة لندن بعد تنقّله في عدة مدن، وهو حاصل على درجة الماجستير في العلوم السياسية، ويتوزع إنتاجه بين النقد وأدب الرواية وأدب الرحلة، بالإضافة إلى أعماله الأخرى في الترجمة. أما غلاف الكتاب، فقد ازدان بصورة تعبيرية للفنان التشكيلي العراقي د. خالد القصاب، والذي هو -للمفارقة- طبيب حاصل على زمالة الجراحة من إحدى معاهد نيويورك، وعلى درجة الأستاذية في كلية الطب بجامعة بغداد، بالإضافة إلى عضويته كمؤسس لجمعية الفنانين التشكيليين العراقيين.
يرسم الكاتب ملامح مدينته العريقة في ستة فصول تنتهي بمعرض للصور، والتي أقتطف بدوري من ملامحها ما أبثّه في هذه المراجعة، والتي تعتمد على الطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 2002 عن المركز الثقافي العربي، وهي تحتوي على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
إثر الاحتلال البريطاني الذي جاء ذكره في (الفصل الأول: أحياء)، تتقسّم مدينة بغداد إلى ما يقرب المائة محلّة، وقد كانت مقسّمة من ذي قبل إلى ألف مما كان يعرف بـ (العكد)، حيث تنوعت أسماءها بأسماء الشخصيات البارزة فيها آنذاك، أو العوائل الأولى التي استوطنتها، أو أضرحة الأولياء ومراقدهم. فمن الأحياء التي انحصرت في جانب الرصافة، بين الأعظمية والكرادة: (باب الآغا، الحيدرخانة، صبابيغ الآل، الصابونجية، سوق حنون، فضوة عرب، أبو سيفين، خان لاوند). وبعد الحديث عن (الحيدرخانة) وجامعه الذي كان يمثّل برلماناً شعبياً، و (الصرافية) المرتبط في الذاكرة بالجسر الحديدي، و (باب الشيخ) الذي يستيقظ على نداءات الباعة وصخب السوق، و (مرقد الشيخ عبدالقادر الكيلاني) ومزارات السياح إليه وتطفّل الباعة عليهم، و (سوق الشواكة) ولسع روائح التوابل المختلطة بالريحان، و (خان السمك) المحاصر بأعين الأسماك البرّاقة، و (خان اللحم) المقدّرة لحومه مالياً بما تملكه النساء في محافظهن الجلدية الصغيرة، يقول الكاتب في نبرة أسى: “ومنذ منتصف الستينات وقبله بقليل، امتد العمران الحديث ليقضم أطراف المدينة وبساتينها. طال التشويه ذاكرة الأحياء البغدادية وتقاليدها، وانتشرت ظاهرة تشييد العمارات والشقق السكنية، فانبعثت أحياء جديدة انتفت فيها ملامح الحياة البغدادية، إذ أن ثمة اكتساحاً ديمغرافياً بلا هوية ساهم في خروج المدينة عن ذاتها، فولدت المدينة الحديثة، بيت إثر بيت، وشارع إثر شارع، حتى قامت مدينة مغايرة على تخوم المدينة القديمة وماضيها”.
أما (الفصل الثاني: أسواق)، فيؤكد بأن تاريخ مدينة بغداد هو في الأصل تاريخ أسواقها، حيث كانت موقعاً لأسواق تقام شهرياً قبل أن يخطط لبنائها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور. ولكل تجارة فيها سوق متكامل، فهناك سوق للفاكهة وسوق للأقمشة وسوق للقطن وسوق للأغنام وسوق للعطارة وسوق للصيارفة، و “على امتداد سوق البزازين تتكرر نسخة سوق شارع النهر، ولكن بصورة أقل بهرجة. إنها سوق الأحذية المجاورة للمدرسة المستنصرية .. أحذية نسائية بكعوب عالية معلقة في واجهات زجاجية بدائية. ألوان تجذب الانتباه وأسعار مناسبة لا تقسو على جيوب ذوي الدخل المحدود، الخاوية أساساً”. غير أن الحقيقة الماثلة تشهد على أن ما من “حي في بغداد من دون سوق طويلة تصل بين أطراف الازقة”، بل إن أسواق بغداد نفسها “شبيهة بالمتاهة، تبدأ مع كل نهاية، وتمتد لتحول أحياء بأكملها إلى أسواق، تتفرع منها الدروب والحارات”. ففي كل صباح، تتوافد عربات الخضار والفاكهة التي يحوطها الزبائن وهم ينتقون الأكثر نضجاً منها، بينما يستريح الشيوخ على البسط الملونة والمفروشة فوق (دكّات) المحال المتراصة، وحيث تعرض القرويات بضاعتهن الطازجة من أكوام (الكيمر) والزبدة والتمور، يظهرن مزهوات برنين خلاخيلهن الفضية رغم تلفعهّن بالسواد .. وكل ذلك “وسط تجاذب الكائنات الغارقة في ضجيج المكان بحثاً عن البضاعة الطازجة والأقل ثمناً، مستدعية طقوس المساومة المألوفة التي اعتادتها السوق”.
ومع الحديث عن شوارع بغداد في (الفصل الثالث: شوارع وميادين)، لا بد وأن يحتل الصدارة شارع الرشيد! “الرشيد .. شارع ملتو ذو أسماء متعددة، أول من يغفو بأنينه المكتوم على وسادة المساء، وأول من ينفض عنه بقايا النوم كل صباح. ومع انبلاج وهجه، خطف شارع الرشيد الأضواء عن أحياء بغداد القديمة، ليغدو مركز المدينة الحديث بمتاجره ومقاهيه باعتباره مسرحاً متحركاً لأحداث عدة”. فينقل الكاتب عن الرحالة أمين الريحاني وصفه للشارع أثناء العقد الثالث من القرن الماضي، بقوله: “أنه لشبيه بشارع في قرية أوروبية، والبلدة والمحلات الواقعة شرقاً منه، وإن كانت لا تتجاوز بمجملها المائة سنة، إلا أنها جد قديمة بما في ظاهرها، ولا يخلو بعض داخلها من ضيق الجادات واعوجاجها والتهدم فيها”. وفي الشارع، يقع محل (أحذية صادق محقق) الراقية، والتي تكاد قلوب زبائنه تقف وهم يحملقون في يافطة أسعارها المعروضة والباهظة بشكل مبالغ فيه. وهناك أيضاً شارع المتنبي العريق في تاريخه وشهرته في تجارة بيع الكتب النادرة، والعمارة الأكثر علوّاً في بغداد ذات السبعة طوابق التي تنتصب في شارع البنوك، وشربت الزبيب في سوق الهرج الذي يرافقه عادة طبق الجبن الأبيض.
أما (الفصل الرابع: المقاهي)، فيسكب حديثاً ذو نكهة مختلفة. فكما تعكس المقاهي عادة جانباً مهماً في ثقافة أي بلد، فقد “تركت مقاهي بغداد بصماتها الماثلة على الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية وتطوراتها، بعدما غدت ملتقى الأدباء والمفكرين والسياسيين، واحتلت كل منها مجالاً خاصاً بها”. لم يقتصر الأمر على البعد الحضاري، بل كانت المقاهي في حد ذاتها تُضفي من جمال التصميم ما يبرز الهوية ويستقطب العامة، إذ أن “مقاهي بغداد عادة ما تشعرك بالانتماء الى العامة: سجادات مزركشة وغلايات مطلية بلون الذهب، مرايا ضخمة، مراوح سقفية تدور بتواصل، ولوحات قديمة تكاد تخرج من إطارها، في حين تزدان واجهة بعض المقاهي الشعبية بالآلات الموسيقية النحاسية التي تومض في عيون المارة وهي في انتظار المناسبة الخاصة بها”. وكما تنوعت أسواق بغداد، تنوعت المقاهي باختلاف الأذواق والأمزجة والاهتمامات، فـ (مقهى أم كلثوم) كان يستقطب بمدخله الضيق عشاق كوكب الشرق، وهي تصدح بأغاني تهتز لها الرؤوس طرباً، بين كسير حب فاشل، وحالم في حب جديد، ومتطفلين بينهما. أما (مقهى الشابندر) والذي يُنسب إلى أسرة الشابندر، فقد كان ملتقى مرموق للشخصيات البارزة من السياسيين والمثقفين، والذي شهد تأسيس أول اتحاد للأدباء العراقيين، غير أن (مقهى البلابل) الواقع في محلة البارودية، فقد كان عذباً بما يكفي وهو يستقطب روّاده من هواة الطيور، ويحتوي حديثهم حول أصنافها وأقفاصها وطرق صناعتها، والذي استمر في خدمته حتى مطلع الخمسينات من القرن الماضي.
ثم ينساب الحديث أكثر عذوبة في (الفصل الخامس: دجلة). إن الماء صانع الأحلام والمدن العظيمة، وهو مكمن الأسرار وراوي حكايات من عاش بقربه .. لذا، تجود قريحة الكاتب وهو يحدّث في سحر النهر، قائلاً: “ليس من أحلام دون ماء، وليس من مدن عظيمة دون أنهار تسري في جوف تاريخها. وبغداد مدينة تغفو على جريان دجلة الوئيد، وتحيا مواسمها مع دورانه حولها. يجري النهر منذ عهود طويلة نحو نهايته الأزلية بهدوء ساهماً يحدق في الأشياء المتناثرة حول شواطئه، مكتشفاً مكامنها السرية وحاملاً حكاياتها، ويتغلغل ببراءة في علاقات ناسها”. إن هذا النهر يثير دهشة الطفل المترقّب وسط حياة متقلّبة، في وسطه الذي يحتضن القوارب الصغيرة، وفي موجه الذي يُطفئ ما أشعله الهدير بين ضفتيه .. إنه هكذا “يدهش هدوء النهر وجريانه الانسيابي ذلك الطفل المحاصر بالتبدلات والتقلبات والوعود. تتهادى القوارب الصغيرة الملونة والمتجولة بين ضفتي دجلة بروح تائهة، وتنفذ إلى روحه .. توقد شموع الخضر ثانية في عينيه بعد ان تطفئها الموجات الصغيرة العابثة”. وليس النهر في مكنون سره وسحره وحده، بل هناك على ضفتيه تحتفي الحياة بعمارة وحضارة ومدنية، حيث “تطل على ضفتي النهر بيوت تختفي خلف شرفات خرافية! أفاريز وأعمدة ونقوش تصنع تلك الشناشيل المطلة على واجهة النهر. والشناشيل مفردة فارسية تعني المقصورة، كون الشناشيل في بنائها الاساسي تمثلت بمقصورات ثم حورت إلى شرفة بمنزل مطلة تسافر بالعين خارج حدود المنزل”. ولأهمية النهر، بُعد يرتبط وجدانياً في علاقته بالمدينة وساكنيها، فقد “كانت لعمارة النهر والأبنية المقامة على ضفاف دجلة أهمية خاصة تبرز من خلال اهتمام المعماري بانفتاح المبنى على جبهة النهر أولاً، وانفتاح المدينة ذاتها على النهر، لما يوفره هذا الانفتاح من عوامل اجتماعية ومناخية ترتبط بعلاقة المدينة والناس بالنهر”.
ويختم (الفصل السادس: طقوس) حديث الكاتب الساهر. ففي نهار (رمضان) يموج الشارع بحركة الذاهبين والآيبين نحو إقامة الصلوات في الجوامع، حتى إذا ما اقترب موعد الإفطار قام البيت على قدم وساق في تجهيز المائدة بالأطباق الشعبية من “الحساء والتمر والفجل والشربت والزلابية والبقلاوة والمحلبي”، بينما يتجمّع الرجال بعد الإفطار إما في الجوامع أو التكايا أو المقاهي حتى يحين الليل، وهو يردد صدى إيقاع الطبّال في الأزقة لإيقاظ النائمين والاستعداد ليوم رمضاني جديد. وبعد أهزوجة الأطفال (المحية) في الأزقة وهم يطرقون الأبواب وينشدون “ماجينة يا ماجينة” طلباً لحفنة حلويات يخبئونها في أكياسهم المصنوعة من القماش، يهلّ (العيد)، حيث “يبدأ فجر العيد بالتكبير الصادح من المساجد القريبة: الله أكبر الله أكبر ولله الحمد. حشد من الأصوات تهلل وراء المايكرفون، نغمات احتفالية تأتي بعد آذان الفجر، جلبة خفيفة للمصلين وهم في طريقهم إلى المساجد للصلاة، نساء متشحات بالسواد ينطلقن نحو المقابر، شواهد بيض على مرمى البصر وحشائش مصفرة تغطي حواف القبور، قارئو القرآن يتقافزون بين الزائرين بحثاً عن رزق، وعجائز يبكين ماضيهن! كم من الأموات استقبلت بغداد؟”. وفي (عاشوراء) تنصب مجالس العزاء وتُتلى ترانيم الحزن، وهو “حافل بكل تفاصيل الفاجعة التي ألمت بالحسين وصحبه في واقعة الطف”. وفي (مدارس) بغداد العتيقة، تتبعثر الذكرى بين الطبشور الأبيض وبائعي الشطائر عند بوابة المدرسة وإرهاق اليوم الدراسي الأول، و “أساتذة قساة بوقار مصطنع ترافقهم عصيهم الخاصة، وآخرون أقل رهبة”. وفي (دورة السنة) تُحمل صينية الشموع للاحتفال بعيد نوروز مطلع العام الجديد حسب التقويم الفارسي، أو كطقس موروث عن العباسيين، أو كما “يقرنه البعض باحتفالات البابليين بقدوم الربيع في مطلع الثلث الثاني من آذار”. أما (الكسلات) فتشهد احتفالاً صاخباً هارباً من رتابة الحياة بين رقص وأهازيج، حيث يمضي البغادة “نحو أمكنة احتفظت على مدى طويل بسحر غامض ملفع بالألفة”. ثم تأتي طقوس (الختان) التي تُعد بمثابة مناسبة سعيدة، تزغرد لها النساء، وتُدق لإتمامها الطبول، ويتهافت فيها الأطفال لجمع الحلويات المنثورة فوق رأس من حان وقت طهوره، بينما هو يقطر دماً ويبكي حرقة .. “طقس أخاذ ملفع بالألم”.
وأخيراً، يأتي (معرض الصور) كالألبوم القديم، الذي ما أن تُقلّب صوره تُقلّب الذاكرة لاستعادة ماضي أجمل ما يُقال فيه أنه رسم طريق الحاضر والمستقبل الموعود. فيبدو (شارع المصارف) من التنظيم ما يعكس أهمية من يرتاده، و (شارع أبو نؤاس) متلألأ في بانوراما ليلية كليالي السحر التي قضاها الشاعر الماجن، و (نصب الجندي المجهول) مهيباً زاده الليل هيبة، و (بائعة) تكتسح ببضاعتها زقاق في بغداد على حساب بائعين آخرين يجلسان على الطرف، و (فندق بغداد) من الجمال وكأنه يرتدي حلّة أوروبية، و (كنيسة اللاتين) يكسوها إجلال وهي في جانب الرصافة، و (ساحة السباع) تحاكي بهو السباع في حمراء غرناطة، و (نصب الأم) في حديقة الأمة يجسد عظمة الأمومة وإبداع ناحته، و (الجسر المعلق) في بغداد تتعلق فيه الأمنيات الملقاة أسفاً في النهر، و جانب من (المدرسة المستنصرية) والإبداع المعماري الأخاذ في منظره، و (واجهة علوية) من منزل بغدادي، تزيّنها ابتسامة وجه بريء يطل منها على المستقبل.
قد تتسع التصنيفات التي تلائم مادة الكتاب، بين: التاريخ، الحضارة، أدب الرحلة، السير الذاتية .. ورغم كثرة الصور البلاغية التي وردت فيه وعملت على تشتيت الذهن قليلاً، إلا أنها أضفت بشكل عام عذوبة مختلفة في استحضار الماضي الذي لا بد وأن يستمطر من ديوان الحنين كلماته وأبياته وشاعريته.
وكمسك للختام أقول: لقد تجولتُ في الكتاب بشوق وكأن المدينة الساحرة قد توغلت في روحي فتلبّستْ روحي شكل المدينة! وجدتني وكأنني قد ولجتُ العقول وارتقيتُ عتبات الأبواب وفتحتُ بكفيّ ثغوراً أخرى في طرقاتها .. راقبتُها في غفوتها ورافقتُها في صحوها، وطربتُ لزهوها وتألمتُ لهمّها، وتنشّقتُ الأصالة في نهرها وقرأتُ التاريخ في معمارها .. وعشقتُ الناس والأسماء والمحال والأسواق والمقاهي والأغاني والأهازيج والأصوات .. وما فككتُ بعد طلاسم ما أسرني من سحرها.
ولمدينة السلام أرقى التحية والسلام .. مع خالص الود.
للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com
تم نشر المراجعة على صحيفة المشرق العراقية في 1 مارس 2023 – صفحة (10)
وقد كانت هذه المقالة مسك الختام لمقالاتي المنشورة على جريدة المشرق العراقية الموقرة
والشكر الجزيل موصول للجميع