كتاب قصير يُصنّف ضمن (أدب الرسائل)، يحمل من عمق الفكر على قدر ما تحمل عباراته من البساطة، والذي ينم عن رجاحة عقل واطلاع عريض ونفس أبية لكاتبته .. ترفض الجهل وتتجرأ في قول ما تراه حق، دون استئذان أولئك الذين نصّبوا أنفسهم حرّاس على الكلمة وعلى ضمائر المتحدثين، فليس ذلك الإصرار لتلك الروح الحرة (عناداً) كما قد يحلو لبعض المعاندين وصم الحرائر والأحرار به.
إنها ببساطة مجموعة رسائل من (مي) إلى الأعلام في زمانها، نساءً ورجالاً، لا سيما ممن كان لهم باع في مجال الأدب والإعلام والصحافة والكتابة، أمثال (باحثة البادية، جوليا طعمة، أنطوان جميّل، لطفي السيد، د. يعقوب صروف)، والتي كانت تصب في شؤن تلك الآونة وما يحوط بها من آراء قد تتفق وقد تتعارض .. إضافة إلى رسائلها المتبادلة مع أديب المهجر (جبران خليل جبران) والتي حملت طابعاً لطيفاً يهمس بأحاسيس مرهفة!
ومما يثير الدهشة والإعجاب معاً في نبوغ (مي) المتفرّد، هو أن الزمن الذي ترعرعت فيه لم يكن على تلك الدرجة من الوفرة في تناول الكتب والمراجع العلمية والأدبية كما يشهد عصر التكنولوجيا الحالي، فضلاً عن الشح المعرفي الممارس على المرأة بالتحديد، وعلى مصادرة حقها في التلقّي والتعلّم والمساهمة الفعّالة في الحراك الثقافي.
إنها (مي زيادة 1886 : 1941) أو (ماري إلياس زيادة) المولودة في مدينة الناصرة الفلسطينية لأم من أصل فلسطيني وأب لبناني، وهي التي أتقنت مبكراً تسع لغات، هي: العربية، الإنجليزية، الفرنسية، الألمانية، الإيطالية، الإسبانية، اليونانية اللاتينية، السريانية. حظيت برعاية خاصة من والديها لا سيما كونها الوحيدة بعد وفاة شقيقها، وقد قالت فيها والدتها: “أن من ينجب ميّاً، لا يُنجب غيرها”. تنتقل وعائلتها إلى القاهرة، فتعمل في تدريس اللغات، وتنكّب على دراسة اللغة العربية تجويداً وتعبيراً، علاوة على التحاقها بجامعة القاهرة لدراسة الأدب العربي والتاريخ الإسلامي والفلسفة. ثم تفتتح صالوناً أدبياً تستقبل فيه كل ثلاثاء كوكبة من المفكرين والشعراء والأدباء، من بينهم المفكّر عباس العقّاد والصحفي موسى سلامة، حتى أصبحت محط أنظار وإعجاب الكثيرين. تنخرط كذلك في مجال الصحافة، وتنشر مقالاتها في الصحف المصرية التي كانت تذّيلها بأسماء مستعارة كثيرة، منها (شجية، عائدة، كنار، خالد رأفت، إيزيس كوبيا، السندبادة البحرية الأولى)، وقد ساهمت بدور بارز في الدفاع عن حقوق المرأة حتى توُّجت كإحدى الرائدات في حركة النهضة النسائية العربية الحديثة. ومن أقوالها في حق المرأة في التعليم: “النور النور .. نريد النور دوماً وفي كل مكان! نريد أن يفهم الرجل كرامة المرأة، وأن تفهم المرأة كرامة الإنسانية”، وفي مناهضة الحجاب الذي لم تعتقد به حجاباً شرعياً مرادفاً للاحتشام، أكثر منه حجاباً عن التطور، فرضه الرجل بقصد على المرأة: “هذا الحِجاب الوهمي انبذه بعيداً فهو لا يحجب وجوهاً .. كلا، ولا ملامح! إنما يحجب عقولاً راجِحة ونشاطاً فتياً ونفوساً وثابة إلى العُلا، وإن أبيِّتن إلا اسداله فأسدلنه”. تتبادل الرسائل العاطفية مع أديب المهجر اللبناني (جبران خليل جبران) إلى نحو عشرين عاماً دون أن يلتقيا، حتى وفاته في مدينة نيويورك، وقد أعقب وفاة والديها. على إثر تلك الصدمات، عانت مي من اضطرابات نفسية نقلها أهلها على أثرها إلى مستشفى للأمراض العقلية في لبنان، وقد أساءوا معاملتها، حتى إذا ما خرجت جابت عدداً من البلاد الأوروبية تخفيفاً عمّا أصابها، حتى تعود وتستقر في القاهرة وتموت في إحدى مستشفياتها عن عمر ناهز الخامسة والخمسين. قالت الناشطة المصرية في حقوق المرأة (هدى شعراوي) في تأبينها: “كانت مي المثل الأعلى للفتاة الشرقية الراقية المثقفة”.
وعن الرسائل التي حصدت نجمات أربع من رصيد أنجمي الخماسي، أقتطف ما علق في روحي من كلماتها، وباقتباس في نص من ورد (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
- تتبادل مي الرسائل مع الكاتبة المصرية (ملك حفني ناصف) والمعروفة في الوسط الأدبي بـ (باحثة البادية)، فيما يتعلق بقضية تحرير المرأة، وموقف الرجل ودور المرأة حيالها. فتقول في ردها المؤرخ عام 1913: “كذلك الرجل يُسَرّ ويرجو ويريد أن تشعر المرأة باستبداده ظناً منه أن الاستبداد هو السيادة، وأن هذه مقياس ذاتيته التي يريدها كبيرة. أرضيت المرأة عن تلك السيادة أم تمردت عليها في نظره سيان، بل أظنه -سامحني الله إن كنت مخطئة- مؤثراً تمرّدها على إذعانها، لأنها كلما زاد تمردها زاد شعوره بالسيطرة. وأشدّ الملوك فرحاً بهزّ الصولجان وأرفعهم للرأس كبراً وتيهاً تحت ثقل التيجان، هم ذوو العروش المتداعية للهبوط والرجل ملك متداع عرشه، لأن ريح الفوضى تهب عليه من كل جانب، وخطوات الارتقاء النسائي تتوالى متكاثرة متمكنة مع مرور الأيام“.
- تضيع من مي ساعتها العزيزة، فتوجه لها رسالة اشتياق عنوانها (إلى الساعة المفقودة)، وتتدفق في وصفها خواطر تتناغم بين العقل والقلب، فتقول: “صورة مصغرة للكون .. كذلك كانت ساعتي! مساحتها رمز للفضاء، دورتها مسرح اللانهاية، حدودها حدود اللامكان، علاماتها مقاطع الوقت الذي رتبه الإنسان، ساعاتها مقياس الأعمال، دقائقها خوف من هجوم الرزايا وترقب لوفود الآمال، ثوانيها دقائق القلب .. من الثواني يتألف الزمان، ومن نبضات القلب تنسج الحياة نسجاً. فيا لهول ثواني الزمان ويا لهول نبضات قلب الإنسان“.
ختاماً، إنها امرأة سابقة لزمانها وقد تحدثت فيه بلغة لا تشبه لغته، فثار عليها ممن لم يقدر على فهمها، وعارضها ونعتها بالجنون وأودعها مصحة الأمراض العقلية! لا عجب أن تكتنف روحها الغربة فتغادر في سن مبكّرة، ولم تجود بكامل ما في جعبتها من ثراء أدبي وفكري ومعرفي متفرّد!
لروحها السلام
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (22) في قائمة طويلة من إصدارات فكرية خصصتها لعام 2023 والذي رجوت مع بدايته أن يكون استثنائياً في جودة الكتب التي سأحظى بقراءتها فيه .. وهو أول ما قرأت خلال شهر نوفمبر، وقد حصلت عليه في نفس العام من معرض للكتاب بإحدى المدن العربية ضمن (400) كتاب كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض. لقد ضحيت بالوقت المخصص للقراءة من أجل أمور طارئة! لم يعد الأمر كذلك، والأشهر المتبقية لي من العام ستكون استثنائية في جودة الكتب .. كما رجوت!
وقد قرأت للكاتبة من قبل كتاب (سوانح فتاة)، ولدي آخر بعنوان (كتابات منسية) من إعداد وتحقيق/ أنتيا زيغلر.
وعلى رف (أدب المرأة) في مكتبتي، الكثير من الإصدارات القديمة والحديثة .. أذكر منها: (الجسد البغيض للمرأة) تأليف: ابراهيم محمود / (نساء رفضن عبادة الرجل) تأليف: حمودة إسماعيلي / (الختان والعنف ضد المرأة) تأليف: خالد منتصر / (بركة النساء) تأليف: رحال بوبريك / (شهرزاد ترحل للغرب) تأليف: فاطمة المرنيسي / (الوجه العارى للمرأة العربية) تأليف: د. نوال السعداوي / (ن النسوية) تأليف: د. هبة شريف / (غرفة تخص المرء وحده) تأليف: فيرجينيا وولف / (سعيدة بكوني امرأة: دليل النساء لحياة ناجحة) تأليف: لويز هاي / (مطرقة الساحرات) تأليف: هينريتش كريمر / (الندم على الأمومة) تأليف: ستيفاني توماس / (الأنوثة الإسلامية: العالم المخفي للمرأة المسلمة) تأليف: جيرالدين بروكس / (المرأة الريفية وواقع تملكها لجسدها) تأليف: د. سوسان جرجس / (من طبخت العشاء الأخير؟ تاريخ العالم كما ترويه النساء) تأليف: روزاليند مايلز / (ما تريد النساء أن يعلمه الرجال) تأليف: د. بربارة دي أنجليس
من فعاليات الشهر: لا يزال جدولي اليومي مزدحماً .. ولا زلت أصارع الوقت لاستقطاع ما أمكنني منه للقراءة.
تسلسل الكتاب على المدونة: 422
التعليقات