كم جميل أن يتلقّى المرء في يومه رسالة أو أكثر تحمل عبارة حب أو شكر أو تفاؤل أو أمل، غير أن ما يفوقها جمالاً هو ما جاء منها ضمنياً يتقاسمه السحر والمعنى، وليس أبلغ في هذا من كلامه عز وجل الذي ينفد مداده وإن كان بحراً ولا ينفد، والذي يُبطن من إعجازه معانٍ أخرى مع ما يظهر، فيستنبط القلب الذي أقبل عليه ما خفي من لطائفه وتدركه البصيرة .. وهكذا حصل مع هذا الكتاب ومؤلفه!
فبينما يستعير المؤلف من خطيب العرب في الجاهلية (قس بن ساعدة الإيادي) اسمه، متيمناً بحكمته، فهو أدهم شرقاوي وحسب .. الكاتب الفلسطيني الذي ذاع صيته وهو بين أقرانه في الألفية الثالثة، حيث كتاباته واقتباساته واستنباطاته وآراءه التي جعلت منه مؤثراً فكرياً، وقد يكون ذلك من حيث لا يدري!
لا غرو أن يكفيه هذا الكتاب تقديراً وقد كان حاضراً كما الملهم بين صناديد كتائب القسّام أمام خرائطهم التي استهدفت في رمضان الفائت وبكمين محكم -بين قلم وكتاب وسواك- وكر للأعداء.
يقول الله عز وجل في محكم كتابه ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾، غير أن من التذكرة ما لا يأتي بالضرورة في قول من زجر أو عظة، بل منها ما هو فطرة وانتباهة وخفقة قلب! لذا، يهدي المؤلف كتابه إلى من مرّت به جنازة فارتدع عن ذنب عزم على اقترافه، وإلى من مرض واعتبر وقد أراد بقوته من قبل ظُلم ضعيفاً، وإلى من أصابه الخذلان حين أفرط في ثقته بالناس فاتعظ، وإلى من ضاق صدره فتناهى لسمعه آية فانشرح .. وإلى كل من آمن برسائل الله التي تنزّلت من لدنه لتردّه إليه رداً جميلا.
لذا، ومن جميل ما استلهم المؤلف من رسائل القرآن الكريم الظاهرة والخفية، أفرد الأسطر التالية، وباقتباس في نص من وحي (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، وقد استقطع الكتاب من رصيد أنجمي الخماسي ثلاثة:
- لقد قصّ الله على نبيه ﷺ من الرسل وأخبارهم ما قصّ، في حين ﴿وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾، فلا انتقص من شأن أولئك الرسل جهل الناس بهم، والله وحده أعلم بفضلهم. لذا، لا ضير في إنكار الناس لإمرئ وهو عند الله عظيم، إذ أن من مأثور الدعاء: (اللهم اجعلني مغموراً عند أهل الأرض مشهوراً عند أهل السماء). غير أن المدح والذم لا يقدمان شيئاً ولا يأخران، إذ ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾، وقد بلغ الإمام مالك بن أنس ثناء الصديق عليه ووقوع العدو فيه، فقال قانعاً ومتوجساً في آن: “ما زال الناس كذلك، ولكن نعوذ بالله من اتفاق الألسن كلها”، فيعقّب المؤلف بدوره قائلاً: “لقد استعاذ أن يمدحه الناس كلهم فيغتّر، أو يذمّه الناس كلهم فيكون فيه شيء مما قالوا” .. وإن (إرضاء الناس غاية لا تُدرك)!
- يوصي المؤلف قارئه بالتيقّن أن “أقدار الله كلها خير وإن أوجعتك”، فمع حسرة الفرصة الفائتة والوظيفة المفقودة والصديق الغادر والحبيب الخائن، له أن يردد ﴿عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا﴾، فما أخذ الله إلا لحكمة وما أبقى إلا لرحمة، فإن لمس رحمته فليشكر وإن جهل حكمته فليصبر، وهو يقول ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. وما أدراك؟ لعل ما أهمّك فقده هو استجابة لدعاء (واصرف عني برحمتك شر ما قضيت) كنت تردده.
- “غداً أتوب .. غداً أضع برنامجاً للقراءة .. غداً أتبع حمية غذائية” .. ولأن الموت لا ينتظر أحداً وأن الإنسان يغريه طول الأمل، فترى الغد يأتي عليه ولم يُصب من الخير الذي انتواه شيئاً، كما أن الذي لا يزال يعتقد أن أمد الموت بعيد، فليعلم بأن “هذا ما كان يعتقده الذين ماتوا منذ دقيقة”، فالتأخير قد يكلّف الإنسان عمراً بأكمله. وكما أنذر الرسول ﷺ أبا ذر بـ “إياك والتسويف بأملك”، يذكّر المؤلف بالرسالة المنطوية في آية ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾
إضافة إلى ما سبق، فقد لفت انتباهي البحث القصير الذي ضمنه المؤلف تحت آية ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ .. والذي يتناول فيه مسألة مفردات القرآن الكريم: أَهي عربية بأكملها أم أنها تتضمّن ألفاظاً غير عربية؟ وللقارئ المهتم، أن يقرأ البحث! أما عن الكتاب ككل، فقد حظي بثلاث من رصيد أنجمي الخماسي، والذي اقتبست منه آنفاً ما ورد بلون السماء (مع كامل الاحترام لحقوق النشر).
ثم أقول: لم يزل رأي الإمام الشافعي حصيفاً في البحر الذي يستقر الدرّ في قاعه بينما يعلو سطحه الجيف! وكذلك تلك الإصدارات التي يتبّع فيها بعض بنو العرب الفرنجة في تصنيفها بين تنموية وتحفيزية وتطويرية وهي ليست في مجملها بالضرورة كذلك .. في حين تأتي هذه الرسائل القرآنية تحيل الوحي الإلهي إلى دستور عمل، يهذّب الخلق القويم ويحفّز الأخذ بسير الأولين وينمّي العزم بالمضي على الصراط المستقيم .. فحريّ بهذه الرسائل أن تتصدّر!
وفي الختام، عود على ذي بدء في الذكرى ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾
تم نشر مقالة عن الكتاب في جريدة الشرق
مراجعة الكتاب صوتياً على قناة هماالغيث في يوتيوب
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (44) ضمن قائمة لا تنتهي من الكتب التي خصصتها لعام 2024، والذي أرجو أن يكون استثنائياً في جودة الكتب التي سأحظى بقراءتها خلاله، وهو في الترتيب (1) ضمن قراءات شهر مايو الذي قرأت فيه (12) كتاب، منها واحداً لم أتمّه! وعن اقتنائه، فقد حصلت عليه من معرض للكتاب أقيم هذا الشهر بإحدى المدن العربية، ضمن (250) كتاب كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض.
ومن فعاليات الشهر: كان الوقت حافلاً بإعداد قائمة الكتب التي حرصت على شرائها من المعرض، وبزيارة المعرض خلال معظم أيامه! وليت العام بطوله معرضاً للكتاب .. لكن هكذا هي الأيام السعيدة، سريعاً ما تنقضي، والأمل يتجدد مع المعارض القادمة. وفي المعرض، حظيت بلقاء مؤلف هذا الكتاب بالصدفة وبتوقيعه على الكتاب، وذلك حين مررت على عجالة لشراء الكتاب قبل مغادرتي للمعرض مساء ذلك اليوم.
ومن الكتب التي قرأتها في هذا الشهر: العقلية الصهيونية ولاهوت الإبادة / موطن الروح / الغباء البشري / نحو تجديد الفكر القومي العربي / مقالات في السياسة / أخاديد
وللمؤلف على مكتبتي مجموعة من الكتب، منها ما قرأت ومنها ليس بعد .. وهي: حديث الصباح / حديث المساء / مع النبي ﷺ / عندما التقيت عمر بن الخطاب / عن شيء اسمه الحب
وعلى رف (إسلاميات) في مكتبتي، عدد يتجاوز (450) من الإصدارات، منها ما هو قديم انتقل إلى مكتبتي من مكتبة العائلة العريقة .. أذكر منها: (المسلمون والحضارة الغربية) – تأليف: سفر الحوالي / (الغنوصية في الإسلام) – تأليف: هاينس هالم / (الداروينية المتأسلمة: أزمة منهج) – تأليف: عمرو عبدالعزيز / (مسألة صلب المسيح: بين الحقيقة والافتراء) – تأليف: أحمد ديدات / (القرآن نسخة شخصية) – تأليف: د. أحمد خيري العمري / (مائة وخمسون قصة لنساء ورجال استجاب الله دعائهم) – تأليف: منصور عبد الحكيم / (وعاظ السلاطين) – تأليف: د. علي الوردي/ (الصراع من اجل الإيمان: انطباعات أمريكي اعتنق الإسلام) – تأليف: د. جيفري لانج / (أطلس القرآن: أماكن، أقوام، أعلام) – تأليف: د. شوقى أبو خليل / (لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم) – تأليف: الأمير شكيب ارسلان
تسلسل الكتاب على المدونة: 494
التعليقات