كتاب بعيد النظر يخترق النصوص المقدسة لينصف المرأة بحق ما جاء به دين الإسلام، ويهتك زيف المتنطعين الذين لم يحملّوها ما لا تُطيق فحسب، بل نكلّوا في الدين حين خرقوا نصوصه بتأويلات ما أنزل الله بها من سلطان .. تلك التأويلات العوراء التي ولّدت شرائع عمدت إلى تشيئ المرأة في هيئة كائن لا يرى لا يسمع لا يتكلم بل لا يفكر في كثير من الأحيان، أفضت بالضرورة إلى تأزم المجتمع حين تخلّف نصفه!.
لم يأت من فراغ وصم المفكر د. نصر أبو زيد بالكفر! فعلى الرغم من بديهية الآراء التي طرحها ومنطقية تحليله الفكري للنصوص، إلا أن ثقافة التجهيل والتعمية والإرهاب أحياناً، كفيلة بشلّ الأقلام الحرة، فلا يبرز على الساحة إلا القليل ممن أبى التسليم وتصدى للتيار الأصولي فسبح ضده .. وقد كان للباحث شرف أن يكون على رأس أولئك القلائل.
تعرض شبكة المعلومات سيرة د. أبو زيد في أعظم ما يكون الكفاح والنجاح! حيث ألجأته ظروف المعيشة للعمل كفني لاسلكي فور حصوله على شهادة الثانوية الصناعية، ليتخرج بامتياز بعد عدة أعوام في كلية الآداب من جامعة القاهرة ويعمل كمعيد بقسم اللغة العربية. تتوالى بعدها سلسلة من النجاحات يتقلد فيها د. أبو زيد مناصب أكثر تشريفاً ويحصل فيها على عدد من الجوائز، حتى ينتهي به المطاف للعمل كأستاذ للدراسات الإسلامية بجامعة لايدن في هولندا. كان هذا إثر صدور حكم قضائي ضده عام 1995 يقضي بالتفريق بينه وبين زوجه د. ابتهال يونس، أستاذة الأدب الفرنسي، كتبعات لاتهامه بالإلحاد من قبل التكفيريين، مستعينين بالشيطان عليه وعلى إصداراته المثيرة للجدل .. فيقرر الزوجان الرحيل إلى المنفى، ليعودا بعدها إلى أرض الوطن عام 2010 إثر المرض الذي ألم به والذي مات فيه .. رحمه الله!.
يعرض فهرس الكتاب -الذي استحق بامتياز رصيد أنجمي الخماسي كاملاً- قسمين رئيسيين، يندرج تحتهما عدد من الفصول ذات الصلة، تبدأ بمدخل يحمل عنوان (حواء بين الدين والأسطورة)، هي كما يلي:
- القسم الأول: المرأة في خطاب الأزمة
- الفصل الأول: أنثروبولوجية اللغة وانجراح الهوية
- الفصل الثاني: خطاب النهضة والخطاب الطائفي
- الفصل الثالث: الواقع الاجتماعي: بعد مفقود في الخطاب الديني
- القسم الثاني: السلطة والحق
- الفصل الأول: المسلمون والخطاب الإلهي / حقوق الإنسان بين المثال والواقع
- الفصل الثاني: حقوق المرأة في الإسلام
- الفصل الثالث: الإسلام والديمقراطية والمرأة: دوائر الخوف عند فاطمة المرنيسي
- الفصل الرابع: المرأة والأحوال الشخصية
يفتح الكتاب باب النقاش -والجدال كذلك- واسعاً بين المؤيدين والمعارضين .. الليبراليين والأصوليين، ما يثري حصيلة القارئ المعلوماتية ومهاراته التحليلية، الأمر الذي يجعلني أحبّذ ترجمته في سبيل اثرائه بالتغذية الراجعة المتباينة ثقافياً. ومع آخر صفحة للكتاب، كانت ذاكرتي مثقلة بالأفكار التي أسرد منها ما يلي، وقد وددت ألا أستثني منه شيئاً:
ملاحظة: ترد بعض التعليقات في نص أزرق .. لا تعبّر سوى عن رأيي الشخصي ولا تمتّ لمحتوى الكتاب بصلة.
- يستعين بعض المفسرين -من بينهم الإمام الطبري- بالموروث من الأساطير، إضافة إلى التوراة والإنجيل، في تأويل القرآن الكريم، والتي تظهر فيها حواء رأس الخطيئة .. إذ هي من تواطئت مع الحية بإيعاز من إبليس في غواية آدم الأشد براءة، حتى يلقوا مصيرهم أجمعين بالطرد من الجنة، يتوارث نسلهم ذنبهم من بعدهم إلى يوم يبعثون! يورد د. أبو زيد أربع ملاحظات لتكذيب هذه الرواية التي لا أصل لها في القرآن الكريم، فضلاً عن معارضتها صريح بعض الآيات، منها ما جاء في سورة طه من تحميل آدم ذنب الغواية في المقام الأول. أما الرواية التوراتية، فتصوّر ما حدث كمؤامرة حيكت بين أطراف ثلاث ومن وراء ظهر الله! سبحانه “عَٰلِمِ ٱلْغَيْبِ ۖ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍۢ فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِى ٱلْأَرْضِ وَلَآ أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكْبَرُ “، كما أن الجزاء الاستبدادي لا يتناسب مع جنس الإثم! فما أصل صنوف التعذيب الواقعة على حواء (النزف الشهري والحمل العسير والوضع العسير والسفه بدل الحُلم) لتقابل إثم الأكل من الشجرة المحرمة؟ أمّا آدم الذي بدى كضحية احتوشته أيقونات الشر الثلاث، فقد كان إثمه وحسب استسلامه للغواية!. إن هذا التفسير الذي يجعل من الذكر محور الخير والأنثى محور الشر، لا يعكس سوى عقلية المجتمع الذكوري بامتياز، أكثر من اعتباره تفسيراً دينياً، لا يُعتد به!.
- في عصر التخلف -وإن زعم البعض غيره- يتم استدعاء خطاب ديني موروث يعزف على لحن شيطنة المرأة! فيتم رفع شعار (ناقصات عقل ودين) بدل (النساء شقائق الرجال)، وتردد الحناجر مقولة ديوث مصر (إن كيدكن عظيم) كتأصيل لخُلق المكر عند المرأة، تظهر من خلال ألاعيبها المتقنة للإيقاع بالرجل في حبائل حبها. ثم يستجيب الإعلام بشياطينه ليُغرق الساحة في أفيشات سينمائية من على شاكلة (الشيطان امرأة). يُفضي هذا الخطاب الممنهج إلى الاستعانة بقاعدة فقهية تنص على أن (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) لردع هذا المخلوق “المثير للشهوة المحرك للغرائز الباعث على الفتنة وأحبولة الشيطان”، حيث يُصبح (الوأد) هو الحل الناجع. تقف أيادي أولئك المتخلّفين مكبّلة حائرة أمام حل (الدفن تحت التراب) كعادة الأعراب في الجاهلية وقد حرّمه الدين -وودوا لو فعلوا- إلا أنها تمتد لتغّلف المرأة من قمة رأسها حتى أخمص قدميها بكساء أسود، قد سُمح للعينين بالتنفس من خلال فتحتين في أعلاه .. كبديل متاح عن الوأد المحرّم، وكأنه (نيو لوك) للدفن، استبدل بطن الأرض بظهرها.
- أُصيبت الكرامة الرجولية في مقتل بعد توالي هزائم الأمة، لا سيما نكبة عام 1967 كأحدث صفعة مدوية على وجوه القوم. وفي محاولات الترقيع العرجاء للذات المجروحة، وأمام الضعف العام الاقتصادي والعسكري والسياسي، تقهقر البعض إلى ماض يتباكى فيه على أطلال بطولاته، بينما تشرذم البعض الآخر في طوائف وقد طلّق القومية، في حين انبطح آخرون أمام العدو يستجدي السلام مقابل الأرض، غير أن عنف الرجل ضد المرأة أخذ شكل الإرهاب الحقيقي، دينياً واجتماعياً وإنسانياً.
- يشير د. أبو زيد إلى مقالة نشرها د. مصطفى محمود في جريدة الأهرام عام 1992، وقد انبرى يكيل بمثاقيل الذم والقدح والتبخيس نحو (نصفهم اللطيف)، لا سيما الثريات زوجات الأثرياء. وحسب تعبيره، إن تمرد النساء ومطالبتهن الخروج للعمل رأسهن برأس الرجل سواء بسواء، أمر لا يعدو عن كونه “كلام روايات وطلب للصرمحة”، وليس لتحقيق الذات منه في شيء! ينبري بدوره د. أبو زيد في تقريع د. محمود من خلال تحليل عميق لمصطلحات التحقير المستخدمة في مقاله، مستعيناً أيضاً بسجاله ضد العلمانيين، والذي ظهر فيه بصورة المدافع عن حق المرأة في العمل .. كازدواجية شائنة!.
- وعلى نفس نبرة الخطاب المتأزم، يلجأ المطبّلون إلى استخدام الغرب (كوجه للمقارنة) في أسبقية الإسلام نحو تكريم المرأة. فهذا محمد عمارة يتغنى في محاضرة عن (حقوق الإنسان)، عُقدت في مقر حزب العمل المصري عام 1993 بأمجاد حضارة الـ14 قرناً التي استلمت فيها المرأة كافة حقوقها كالتملّك وحق التصرف، والإفتاء، والولاية في السوق. يسترسل ولا يلبث حتى ينقلب ضد الغرب وقد اتخذه معياراً مرجعياً للمقارنة قبل قليل .. حيث تبدو المرأة الغربية لديه كسلعة مستهلكة، لا تتملّك، بل ومسترجلة يستغني عنها الرجل بالكلاب في المعاشرة الزوجية. ثم ينتكس على عقبيه ليؤكد بأن (الطاعة) هي وظيفة المرأة الأساسية نحو الرجل، والتي بدونها تفقد كل ما كفله لها الإسلام من حقوق. هكذا تجبّر الشخصية السيكوباتية كسر كبريائها الذكوري من خلال حيل دينية، فيعمد الرجل الأعرج في كبرياءه وقد بات بلا حيلة، إلى إنزال سطوته على المرأة، لا سيما سطوة اللسان القاذفة بكل ما هو مشين!.
- يحلو لأولئك الخطابيين إيعاز أسباب البطالة إلى خروج المرأة لسوق العمل في ندية للرجل، متغافلين عن فشل الحكومات في دفع عجلة التنمية والتعاطي مع الأزمات الاقتصادية بخطط عملية جادة. تبقى ديباجة (الحفاظ على الأسرة) الشماعة التي يعلّق عليها هؤلاء الحد من منافسة المرأة للرجل في الميادين، وذلك بإعادتها للبيت. غير أن الحال يشهد على التزام المرأة العاملة وتمتعها بروح المسئولية، حيث تنجح في حياتها العائلية والعملية، مقارنة مع تلك التي تنغلق مداركها مع إغلاق باب البيت وراءها، فتتآكل معرفتها وسط جدرانه، بغض النظر عن الدرجة العلمية التي حصلت عليها في السابق .. إذ أن عملية التعليم في أصلها ذات حيوية فاعلة في الحياة، وليست مجرد ورقة في إطار فوق جدار منزل سعيد.
- يستطرد د. أبو زيد في الحديث عن أهمية خروج المرأة للعمل، في تعزيز حصيلة خبراتها الاجتماعية وتحقيق النضج الحر للوعي، وذلك من خلال الاحتكاك المباشر مع المحيط الخارجي، الأمر الذي ينعكس على دورها كأم في تربية النشئ. وكمقارنة، يشير الوضع البائس للمرأة القابعة بين الجدران إلى تقوقع فكري واجتماعي، تحوطها السلبية والكسل والبلادة، وتضمحل معها خبراتها العلمية السابقة، وتكتسب في المقابل وعي مضاد يغذّيه الإعلام المسموع والمرئي بغثّه وسمينه.
- يثير الخطابيون بشطحاتهم الشفقة، وهم يستميتون في تفسير كل تقدم حضاري للمرأة الغربية كمؤامرة ضد المرأة المسلمة، حيث يخلص عبدالرحمن الفرماوي في كتابه (صحوة في عالم المرأة) إلى اتهام الحركة النسائية في مصر أوائل القرن العشرين بالعملية المريبة المرتبطة ببؤر الاستعمار خارجياً، والزعماء العملاء داخلياً. يوصم بدوره د. أبو زيد مثل هذه الآراء “بالهلوسة”، والخطاب الديني المناصر “بالبارانويا” .. وحُق له.
- يقف د. أبو زيد بالمرصاد لأبواق الخطاب الديني لا سيما المزدوج منه! فهذا محمد الغزالي ينهى المرأة في كتابه (قضايا المرأة) عن ممارسة الأعمال المجهدة، كمحصلة في أوتوبيس أو مضيفة طيران أو شرطية مرور، حفاظاً على خصوبتها. غير أنه في جداله مع المتطرفين يناقض خطابه السابق ليحثّ المرأة على التدرب عضلياً في سبيل التمكن من الدفاع عن نفسها، فضلاً عن المشاركة في الحروب وما يلزمها من إسعاف الجرحى ونقل الموتى وتحضير الأدوية وطبخ الطعام.
- يستمر الشيخ الغزالي (ليأكل بعقل المرأة حلاوة) من خلال ملحمة شعرية تدفقت حناناً ودفئاً وسعادة وراحة وطمأنينة ووداعة ورقة وعشقاً ونعومة وجمالاً ….، وغيرها من معسول الكلام يبارز فيه شاعر المرأة نزار قباني، لينتهي بخيبتها كما في قصيدة (كلمات)!. لقد صب الغزالي المديح على الأنثى صباً التي يستحقر الذكر أمام رقتها غلظته الغريزية، غير أن الغرض (من ده كله) كان في سبيل تخدير المرأة دينياً وبرمجتها نحو خضوع تام للرجل، وإقحام فكرة تحريم الشرع انشغالها بما يحول بينها وبين هذا الغرض النبيل. أعاد ابن قباني الحبيبة إلى طاولتها خالية الوفاض، بعد أن أمطرها الحبيب بوابل من غزل .. لم يكن (إلا كلمات)، وكذلك فعل الغزالي مع الأنثى المسلمة! غير أن د. أبو زيد يرى في هذا الرأي تشيئ لكيان المرأة بحيث تغدو قطعة ديكور أو لوحة فنية تخفف عن الرجل وطأة الحياة، وقد كفل لها بالمقابل المسكن والمأكل والنفقة .. تماماً كعلاقة العبد بسيده.
- يدخل على الخط من ناحية أخرى حسن البنا، ليطالب بتعديل المناهج الدراسية بحيث تختص المرأة -لا سيما في المراحل العمرية المبكرة- بمواد تواءم طبيعتها، وألا تُفضي هذه التفرقة بين ثقافة الرجل وثقافة المرأة إلى أي نوع من الاتهام، فهي تفرقة في العلوم تستهدف النفع كل فيما يخصه. يشير د. أبو زيد في هذا الصدد على أن تورط الخطابيين بمعضلة ضرورة تعليم المرأة، انحرف بهم إلى هذا النوع من التحايل بهدف كبح عملية تعليم المرأة ذاتها.
- يدعو زكي نجيب في مقالة له إلى سفور وجه المرأة، ليندفع الخطابيون يجاهدون وقد أدلى كل بدلوه، حتى يُحسر الوجه الحقيقي للغرض من هذا السفور على أياديهم المباركة! إن هذا السفور الذي لا يتعدى بضعة سنتيمترات من رأس المرأة هو مقدمة لتغريب المرأة، الذي يقود بالضرورة إلى نبذ الأخلاق، الذي يقود إلى نبذ الدين، الذي يقود إلى نبذ الدولة ….!! وهكذا تأتي الأهداف الشيطانية منمقة بحديث هين لين، كما يكون دس السم بالعسل .. وللقارئ المستبصر أن يقرر أي الفريقين يخلط الأوراق ويتلاعب بالألفاظ يستفسط بها، ليحيد بالحق عن جادته؟
- يقع د. عمر عبدالكافي -الأستاذ في العلوم الزراعية- في حيص بيص بعد أن أفتى “بعدم إظهار البشاشة والمودة للأقباط” ناصحاً المسلمين بالامتناع عن مشاركتهم أعيادهم، لا باحتفال ولا بتهنئة .. وقد أوقع الحكومة معه في حرج! إذ سارعت بترقيع الموقف عن طريق اصطحاب (المفتي) ضمن وفد رسمي برئاسة وزير الأوقاف إلى زيارة الكنيسة القبطية، لأداء واجب تهنئة البابا في عيد ميلاد السيد المسيح. كانت الزيارة بمثابة اعتذار حرصت الحكومة على تسليط ضوء وسائل الإعلام عليها، وتبرئة النظام السياسي من هكذا لغط!.
- وعلى نفس الوتيرة، أنكر يوسف القرضاوي على من أنكر وصف المخالفين للعقيدة بأنهم (كفّار)، وعلى من اعتبر هذا الوصف (تطرفاً أو تعصباً)، مدافعاً بقوله: “ولا مجاملة في هذه الحقيقة”.
- يبدو أن وكالة الأنباء الفرنسية طفقت تصطاد في الماء العكر حين استغلت خطاب عبدالعزيز بن باز رئيس هيئة البحوث والإفتاء في السعودية، وبالتحديد فتواه المعنونة بـ (عمل المرأة من أعظم وسائل الزنا)، كحملة غربية تستهدف التقاط كل ما من شأنه تشويه صورة الإسلام. وقد استرسل (الشيخ) في ديباجة تصوير البيت كالمحمية الفطرية التي لابد للمرأة الكمون بداخلها، وحذّر بالتالي من مغبة نزولها إلى ميدان العمل الذي هو خاص بالرجال حصراً، لما في ذلك من خطورة التعرض لجريمة الزنا الذي يفتك بالدين والأخلاق والمجتمع.
ومن دوائر الخوف التي أحاطت بالخطاب الديني للمرأة، أقتبس في نص من نور ما أحاط بعقلي وقلبي (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، كما يلي:
ملاحظة أخرى: عادة، يعتمد أسلوبي في التدوين على التعبير بـقلمي عن محتوى الكتاب ككل بعد قراءته، مع القليل من الاقتباسات بما يخدم عرض محتواه بشكل جيد. رغم هذا، أستثني الكتب التي تجمع بين موضوعية الرأي وبديع الأسلوب في قالب واحد، بحيث يصبح نقل النص كما ورد هو الخيار الأمثل، بدلاً من التعبير عنه وفق أسلوب آخر. لذا، تدفعني بعض الكتب لاقتباسات أكثر مما اعتدت عليه، وهذا قلّما يحدث في مراجعاتي! جاء هذا الكتاب ضمن هذا الاستثناء، لذا وجب التنويه.
- يتحدث د. أبو زيد عن حرية الرأي في مقدمة كتابه، فيقول: “لقد أجاز الإسلام الاجتهاد الخطأ وكافأه (من اجتهد فأخطأ فله أجر) ذلك أن الخطأ هو السبيل لبلوغ الصواب في مجال التفكير الحر، بلا خوف، ولا عوائق، ولا مناطق آمنة كما يريد البعض. أن ديناً يحرضّ على التفكير الحر بمكافأة الاجتهاد الخطأ لهو دين واثق من نفسه، وهو دين يمنح المؤمن به ثقة وجسارة في الاجتهاد، وجرأة في البحث والتفكير لا تبالي بغضب الغاضبين ولا تعصب المتعصبين”.
- وعن التفاسير الذكورية، يقول في مدخل الكتاب (حواء بين الدين والأسطورة): “فقد كان يكفي إعادة إخراج إبليس منها بعد عقابه عقاباً مناسباً، وكذلك عقاب كل من حواء والحية عقاباً لا يشمل ذرياتهما. لكن صورة آدم البريء تلك في حقيقتها تعكس مجتمعاً يكون الرجل فيه هو مثال الخير والبراءة، في حين تمثل الأنثى الشر والخطيئة. فالقصة تشير إلى المجتمع أكثر مما تفسر النص الديني”.
- ويستمر في المدخل قائلاً: “أما أن يؤدي الإعجاب غير المشروط والذي يصل إلى حد التقديس -إلى أن نجد تبريراً لكل ما هو غير معقول يجعلنا نقبله بوصفه معقولاً لمجرد أنه ورد إلينا في التراث- فهذا هو الجناية الحقيقية التي نرتكبها، لا ضدّ أنفسنا وواقعنا وحاضرنا فقط، بل ضد هذا التراث أساساً، وإذ نفعل ذلك نكون مثل الوريث الأحمق، أو الثري السفيه، كلاهما يبدد دون استثمار أو إضافة، فيبوء باللعنة ويقع في الخسران. ولكي نكون ورثة جديرين بتراثنا العريق والعظيم، فلابد لنا من أن نعمق (المعقول) ونحيل (اللا معقول) إلى دائرة دراسة (الحفريات)”.
- وله كلام جميل في فصل (انثروبولوجية اللغة وانجراح الهوية)، يقول فيه: “وهكذا يباشر الذكر تجربة التوحد الأولى من خلال الاتصال بالأنثى فتثير فيه التجربة -إذا وعيها وعياً حقيقياً ولم يتوقف عن الجانب الحيواني فيها- الرغبة في الاتصال، أو بالأحرى العودة إلى أصله الذي انبثق عنه بضرب من التجلي”.
- يعرض د. أبو زيد في فصل (خطاب النهضة والخطاب الطائفي) رأي الطاهر الحداد الوارد في كتابه (امرأتنا في الشريعة والمجتمع)، إذ يقول: “إذا كنا نحتقر المرأة ولا نعبأ بما هي فيه من هوان وسقوط، فإنما ذلك صورة من احتقارنا ﻷنفسنا، ورضانا بما نحن فيه من هوان وسقوط. وإذا كنا نحبها ونحترمها ونسعى لتكميل ذاتها فليس ذلك إلا صورة من حبنا واحترامنا لأنفسنا وسعينا في تكميل ذاتنا”.
- يعرّي د. أبو زيد معضلة التأويل وأصلها في فصل (المسلمون والخطاب الإلهي)، قائلاً: “لكن إيديولوجيا التأويل تلك لا تقدم في الحقيقة بديلاً فعلياً يتجاوز بالوطن أزمته أو بالأمة تخلفها، لأنها تستمد مقولاتها الأساسية من الفكر السلفي في عصور الانحطاط”.
- يستمر د. أبو زيد في فضح مسالك المنافقين، فيسرد في نفس الفصل قضية قتل فرج فودة، فيستشهد بمثال، وهو: “شهادة المرحوم الشيخ محمد الغزالي في محاكمة قتلة فرج فودة والذي اغتالته بعض عناصر الجناح المسلح في شهر يونيو 1992، وذلك بناء على بيان (لجنة علماء الأزهر) بأنه علماني كافر. ذهب الشيخ الغزالي في شهادته إلى أن من لا يرى ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية يعتبر (مرتداً) وأن الحكم عليه هو (القتل) إذا استُثيب ولم يثُب، وأنه إذا لم يقم أولو الأمر بتطبيق هذا الحد على المرتد فمن حق أي مسلم أن يطبقه ولا عقاب له في شرع الله”. ثم يستطرد قائلاً: “وقد حاول أحد الكتاب المدافعين عن مقولات ذلك المشروع السياسي إن حقاً وإن باطلاً أن يجد للشيخ مخرجاً من (الورطة) التي عرّت أكذوبة (الاعتدال) المزعوم، فراح في مقالته الأسبوعية يميز بين مقام (الفتوى) ومقام (الشهادة) في محاولة يائسة لستر عورة الخطاب المتطرف المتعصب”.
- في فصل (الإسلام والديمقراطية والمرأة: دوائر الخوف عند فاطمة المرنيسي) يورد د. أبو زيد رأي المؤلفة وقد تطرقت إلى موضوع حرب الخليج، قائلة: “وبفعل الأنظمة العاجزة عن تحقيق التنمية رغم الثروات، وذلك لأنها تفضل سياسة الاعتماد على الاستيراد بدلاً من تشجيع العلم والعلماء لإبداع التقنيات اللازمة، (تم نفي العرب والمسلمين من العصر باختصارهم إلى مستهلكين للآلات)”.
- يقتبس د. أبو زيد من فصل (حقوق المرأة في الإسلام) الانتقاد الذي وجهه الإمام محمد عبده ضد التأويل الفقهي المتعلق بالزواج، والذي يعيد فيه أمجاد الجاهليين في التحكم بمصير المرأة. فيقول نصاً: “رأيت في كتب الفقهاء أنهم يعرفون الزواج بأنه (عقد يملك به الرجل بضع المرأة)، وما وجدت فيها كلمة واحدة تشير إلى أن بين الزوج والزوجة شيئاً آخر غير التمتع بقضاء الشهوة الجسدانية، وكلها خالية من الإشارة إلى الواجبات الأدبية التي هي أعظم ما يطلبه شخصان مهذبان كل منهما من الآخر. وقد رأيت في القرآن الشريف كلاماً ينطبق على الزواج ويصح أن يكون تعريفاً له، ولا أعلم أن شريعة من شرائع الأمم التي وصلت إلى أقصى درجات التمدن جاءت بأحسن منه. قال الله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة). والذي يقارن بين التعريف الأول الذي فاض من علم الفقهاء علينا، وبين التعريف الثاني الذي نزل من عند الله يرى بنفسه إلى أي درجة وصل انحطاط المرأة في رأي فقهائنا، وسرى منهم إلى عامة المسلمين، ولا يستغرب بعد ذلك أن يرى المنزلة الوضيعة التي سقط إليها الزواج حيث صار عقداً غايته أن يتمتع الرجل بجسم المرأة، ليتلذذ به، وتبع ذلك ما تبعه من الأحكام الفرعية التي رتبوها على هذا الأصل الشنيع”.
- ويستطرد الإمام في نفس الفصل ليتحدث عن مسألة الطلاق، وقد أسمعت كلماته من به صمم لكن شاء بعض القوم أن يكون في آذانهم وقر وعلى قلوبهم عمى وأقفال: “لا يمكن مهما ضيقنا حدود الطلاق أن تنال المرأة ما تستحق من الاعتبار والكرامة إلا إذا منحت حق الطلاق، ومن حسن الحظ أن شريعتنا النفيسة لا تعوقنا في شيء مما نراه لازماً لتقدم المرأة، علينا أن نعمل بمذهب غير الحنفية، لأنه حرم المرأة في كل حال من حق الطلاق، حيث قال الفقهاء من أهله: (إن الطلاق منع عن النساء لاختصاصهن بنقصان العقل ونقصان الدين وغلبة الهوى)، مع أن هذه الأسباب باطلة، لأن ذلك إن كان حال المرأة في الماضي فلا يمكن أن يكون حالها في المستقبل، ولأن كثيرا من الرجال أحط من النساء في نقصان الدين والعقل وغلبة الهوى. أو أن يستمر العمل على مذهب أبي حنيفة، ولكن تشترط كل امرأة تتزوج أن يكون لها الحق في أن تطلق نفسها متى شاءت، أو تحت شرط من الشروط، وهو شرط مقبول في جميع المذاهب”.
يعد د. أبو زيد القارئ في ظهر كتابه بأنه لن يجد “عفريتاً” بل اجتهاداً مما فتح الله عليه، لا يُلزم به أحدا. وقد صدق! إلا أنني وجدت “عفاريتاً أُخر” لم أجد بد من صعقها بقلمي الحارق كما جاء أعلاه. لا يعني هذا أنني (سلقت) كل العفاريت، فلا يزال الكثير منها يتنطط بين النصوص، ليأتي الدور عليها عاجلاً أو آجلاً .. إما بيدي أو بيدي عمرو.
وبالإضافة إلى دوائر الخوف، فللمفكّر المسلم في مكتبتي خمسة كتب أخرى، هي: التفكير في زمن التكفير / هكذا تكلم ابن عربي / إشكاليات القراءة وآليات التأويل / دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة / فلسفة التأويل: دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين بن عربي.
في عجالة -وعلى سبيل النقد الأدبي- فإن هذا الكتاب الغزير علماً وإيماناً:
- واضح المفردات، سليم اللغة رغم ما يكتنفها من صعوبة قد تعود إلى لغة الكاتب المقعرة (وهو الأستاذ الضليع)، ولعمق الأفكار.
- متناغم الإيقاع في سرد الأفكار حول موضوعاته المختلفة على طول الكتاب.
- مثير في أسلوبه الأدبي لعاطفة القارئ، ومحفز لنظرته التحليلية نحو النصوص الدينية وما احتوشها من تفاسير ذكورية وآراء مغلوطة، أفرزها فقهاء وأد المرأة، وفرّخت شرائع بما لم يُنزل الله.
- خصب الخيال في إيراد الكثير من الأمثلة لتوضيح أفكاره.
- مستفز العنوان لا سيما لأولئك المتنطعين من فقهاء وتجار وأدعياء .. في الدين.
- خالٍ من الأخطاء المطبعية والتي قلما يسلم منها الكثير من المطبوعات الحالية.
يبقى الفكر الحر الأصيل باق رغم رحيل المفكر .. وتستمر الكلاب المسعورة تنبح .. ويأبى الله إلا أن يسلط على المفسدين جند من جنوده ما بقيت السموات والأرض .. وما دام عباد له على الحق ظاهرين.
ختاماً .. يهدي د. أبو زيد كتابه -في لحن جميل- إلى نساء الأرض، من خلال زوجته الصديقة، وقد اختصها بالفضل في أعذب ما يكون الامتنان قائلاً: “وقوفك ضد القبح دليل دامغ على أن الرجل شريك المرأة وليس العكس”
ومنا لها جزيل الشكر .. ولروحه السلام.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (53) في قائمة احتوت على (105) كتاب قرأتهم عام 2020 تتضمن تسعة كتب لم أتم قراءتها، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان (100) كتاب فقط! وهو أول كتاب اقرأه في شهر يوليو من بين اثنا عشرة كتاب .. وقد وصل إلى مكتبتي من إحدى المكتبات العربية في مدينة لندن، حيث الكتب الممنوعة محلياً في عالمنا العربي الفسيح!.
لقد كان 2020 عام الوباء الذي جاء من أعراضه الجانبية (ملازمة الدار وقراءة أكثر من مائة كتاب)! لم يكن عاماً عادياً وحسب .. بل كان عاماً مليئاً بالكمامات والكتب.
وفي هذا العام، دأبت على كتابة بعض من يوميات القراءة .. وعن هذا الكتاب، فقد قرأته في شهر (يوليو)، والذي كان من فعالياته كما دوّنت حينها:
“لا يزال الوقت حافلاً بالقراءة وإعداد مراجعات الكتب المقروءة .. ولا يزال الحجر الصحي مستمراً“.
ومن فعاليات الشهر كذلك: كنت قد استغرقت في القراءة بشكل مهووس خلال النصف الأول من هذا العام دون أي فاصل يُذكر، رغم الوقت الذي استقطعه عادة بعد قراءة كل كتاب من أجل تدوين مراجعة عنه! ما حدث في تلك الفترة هو تراكم الكتب التي أنهيت قراءتها من غير تدوين، حتى قررت على مضض بتعطيل القراءة لصالح التدوين .. وأقول “على مضض” لأن القراءة المسترسلة من غير انقطاع بالنسبة لي هي أشبه بالحلم الجميل الذي لا أودّ أن أستفيق منه، لكنني تمكّنت من تخصيص وقتاً جيداً في نهاية هذا الشهر لتأدية عمل الأمس الذي أجلّته للغد.
تسلسل الكتاب على المدونة: 232
التعليقات