كتاب يضم مجموعة من المقالات -اعتبرها الكاتب بمثابة مقدمات- تتمركز حول الانسان ومدى سطوة الأنظمة السياسة عليه، واستخدام الأدب والفن والإعلام لخدمة أغراضها وأجنداتها الخفية، وذلك من خلال مصادرة حق الشعر في التطرق لأحاديث السياسة، ومن خلال الفن الذي يحتكره طبقة البرجوازيين، أو من خلال قتل الشرير كحل نهائي، لا باستئصال قيمة الشر من جذوره!.
وعلى هذه البسيطة، ثمة جنون مطلوب وبشدّة من أجل فضح زيف ثقافة تقوم على تزويق مرادفات، كالتعقل والتحضر والرقي، وهي لا تعدو في حقيقتها ثقافة ترسّخ لقيم الجبن والتقاعس والعجز والانهزام، ومن ثم اللامبالاة، حيث يبدو الجميع راضٍ وراضخ، تتشابه مقاييسهم، وهم يتشابهون فيما يفرحهم وفيما يبكيهم، وينفعلون لهما .. لذا، تحالفهم الهزيمة دائماً، فلا ينتصرون أبداً!.
إن هذا الوضع البائس لكي يُقوّم بحاجة إلى حرية .. لا وقر في الآذان ولا عماء في البصيرة، ولا آذان تسترق السمع ولا أعين تراقب من بعيد! عندها، يصدح الإنسان بكلمة الحق في جرأة، ويشق الإبداع طريقه.
إنه كتاب يترافع عن الجنون .. فحينما يتوسط عاقل مجموعة من المجانين، يطلق عليه المجانين لقب مجنون! لكنه في الواقع يبدو كالمجنون الذي يحكي الأدب العالمي موقفه العفوي عندما رأى الملك عارياً، وهو يتبختر شامخاً وسط موكبه، فلا يتورّع من إشهار رأيه على الحشد الغفير من الرعية الذين رأوا الملك -أو كما أريد لهم أن يروه- يرتدي أجمل حلّة .. جبناً أو نفاقاً أو ومخاتلة أو تفادياً للشر، أياً كان، فقد تم غسل أدمغتهم!
أهو جنون أم عبقرية؟ حماقة أم جرأة؟ مداهنة أم كرامة؟ وهل المطلوب الإبحار مع التيار إيثاراً للسلامة، أم الإبحار عكسه إكراماً للحق؟
يضع هذا الكتاب (ممدوح عدوان 1941 : 2004)، وهو كاتب وروائي وشاعر سوري، حاصل على درجة أكاديمية في اللغة الإنجليزية عام 1966، وقد عمل في الصحافة والتدريس والكتابة والنقد والترجمة، وترك ما يقارب تسعين مؤلفاً في الشعر والنثر والرواية والأعمال المترجمة، والكثير من سيناريوهات المسلسلات التلفزيونية.
تعرض صفحة المحتويات للكتاب الذي حصد من رصيد أنجمي الخماسي أربعاً، المواضيع التي تناولت أزمة الجنون الإنساني وأرّقت الكاتب! وهي كما يلي:
- تقديم المقدمات
- احتفالاً بالجنون
- بين الشعر والقراء
- لا بد من الشعر
- الجنس شعراً
- وهذا أنا أيضاً
- اعتراف
- النمور تتعلم الرسم
ومن تلك المواضيع التي جاءت عميقة بما يكفي رغم قصر الكتاب، أدوّن ما علق في ذهني بعد القراءة، وباقتباس في نص قاسٍ (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، كما يلي:
- يضرب الكاتب بيوم النكسة (5 يونيو 1967) مثلاً وهو يستهل دفاعه عن الجنون، في (احتفالاً بالجنون)، فيواجه أولئك الذين لم يعيشوا أحداثها ولا ما تلاها من أحداث، إذ هم لا يستطيعون فهم ما يقدمه من مبررات في جنون بعض الناس أو في واجبهم أن يجنّوا! إذ لم تكن الفاجعة في الهزيمة التي منيت بها الجيوش العربية وحكوماتها، بل في “حجم العجز في حياتنا والغبن اللاحق بنا، ولم يكن ما يدفع إلى الجنون حجم الخسارة، بل أسلوب المعالجة: القفز فوق الهزيمة، ومنع التحدث عنها، وإهمالها وتجاهلها”. لقد كانت الواقعة صادمة، إذ “لم يكن أحد يتصور أن من الممكن تحطيم ثلاثة جيوش (المصري والسوري والأردني) مع المساهمات العربية الشكلية والإعلامية الأخرى، في ستة أيام، بل وفي ست ساعات، بمعنى إنهاء الفعالية العسكرية. وأن من الممكن أن نخسر أرضاً بحجم سيناء والضفة الغربية ومحافظة القنيطرة في زمن أقل من الزمن اللازم لانسحابنا منها أو لمرور العدو من أقصاها إلى أقصاها (وحتى دون حرب)”. غير أن المواطن العربي الذي تم خوض الحرب باسمه والذي انهزم دون أن يحارب، فقد واجه ما هو أدهى وأمرّ! لقد كان “مقموعاً إلى درجة أن الحكومات كانت قادرة على منعه من الكلام عن هذه الهزيمة. إن ذكر القنيطرة أو الهزيمة أو القول: أنني متألم للهزيمة، كان يعد بطولة استثنائية شبيهة برشق القصر الجمهوري بالحجارة”، فكيف السبيل إلى طمس هذه الهزيمة المدوية بممسحة بالية؟ “بالمزيد من التجاهل والتجهيل والقمع، وبالمزيد من الكذب والأقنعة النظرية” .. وكيف يمكن منع الدمعة؟ بإطلاق النار أو التهمة عليها .. وكيف يمكن سجن التنهيدة؟ بتهديدها بمدفع الدبابة الموجه صوب العدو! فبالرغم من دماء الشهداء والأرض المسلوبة والكرامة المهانة “صدّق أنك لم تهزم، وصدّق، أكثر من ذلك، أن الأمور على أحسن ما يرام، وأنك منتصر، وأنك تستطيع أن تتحدث عن القدس (ولكن ليس عن القنيطرة) وأن عليك قبول الكلام ذاته، والشعارات ذاتها، والأشخاص أنفسهم كأن شيئاً لم يقع، وكأن ما حدث لم يكن إلا زخة مطر من غيمة عابرة بللتك قليلاً، وها أنت قد جففت هذا البلل”. لم يكن استرجاع أحداث نكبة حزيران أمراً صحياً على الإطلاق، بل “إن تذكر تفاصيل تلك الأيام يؤكد أن العالم من حولنا كان قد تحول إلى مستشفى للمجانين تقوم بينهم علاقات لا معقولة ولم تنزل في قاموس المستشفى”. وفي هكذا وضع إنساني بائس بشكل مأساوي، أصبحت الحياة لا تُطاق، فانقسم الناس على بؤسهم إلى قسمين: “قسم يرى أنها ليست حياة، وبالتالي فهي قد استوت بالموت، ولا شك في أن إحساساً كهذا قد ساعد على نمو العمل الفدائي ورفع وتيرة عملياته، وقسم آخر بقي في الحياة الأخرى ليواجه لا معقوليتها، فكان لا بد أن تكون إجابته عليها لا معقولة، أي بلا عقول”.
- ينتقل الكاتب للحديث -كشاهد من أهلها- عن الشوفينية الذكورية المتأصلة لدى الرجل العربي، والتي تقود عنجهيته -كجنس أسمى عن المرأة- إلى إسقاط كل ما يعتمل في نفسه المهزوزة من تُهم على المرأة، في الوقت الذي لم يكّلف نفسه عناء الاستماع إليها، فيقول في (الجنس شعراً) مخاطباً هذا الرجل الذي أخذ في نفسه مقلباً كبيرا: “إن رجولتك قد نمت خارج عالم المرأة، وبالتالي فكأن رجولتك قد نمت بعيداً عن الشمس، ودائماً تكتشف أن أسلحة رجولتك (جنس مريض، قسوة مبالغ فيها، مظاهر الرجولة الشكلية) غير صالحة للاستخدام معها، فتحار وتتهم المرأة لأنك لم تتعود أن تعرف رأيها أو أن تفترض أن لها رأياً. ولذا تعاقب الفلاسفة المرضى مثلك يتهمون المرأة بالغموض والخبث، فهم يسقطون معها حين يحددون إنسانيتهم بفعل الجنس من جانب واحد .. جانبهم، كأنما هم يقفون على رجل واحدة، ولذا فهم معرضون لفقدان التوازن دائماً”. لذا، ولضمان عذرية الرجولة التي يجب ألا تُختبر، كان لا بد من استخدام الجنس كوسيلة لإخضاع المرأة، غير أن الحقيقة تتحدد بمجرد انتهاء مهامه. يستمر الكاتب في صفع ذلك المغرور وأشباهه قائلاً: “الرجولة مبنية، جنسياً، على إرغام المرأة وقسرها وإخضاعها وإسكاتها بحيث تظل الرجولة بلا امتحان أو تحد! ولكن، ما الذي يبقى من الرجولة أمام المرأة أو معها بعد انتهاء الجنس؟ الجواب يحدده توجهك الأول نحوها، إذ تكتشف أن المرايا التي كنت تستخدمها كانت كلها مرايا محدبة أو مقعرة، وأنت تحتاج إلى مرآة مستوية تريك نفسك على حقيقتها، بتحقيق التوجه الصحيح نحو العالم. ولحظة الالتقاء بالمرأة هي الحقيقة لأنه ليس التقاء الأعضاء التناسلية، بل هو التقاء الجسد حواساً ومساماً ودماً ونفساً”.
- وهنالك ظلم آخر موغل في القدم، لا يسجّله التاريخ الذي لا يكتبه سوى المنتصرون -كما يُقال- بينما يستشّفه الكاتب من خلال ما ورثته البشرية في فلسفة أفلاطون الساخرة من المجموعة المعارضة أو المجادلة، والتي أطلق عليها اسم (السوفسطائيون)، والذين لم يصل من فلسفتهم أو حواراتهم أو آرائهم شيئاً. فيقول الكاتب في (النمور تتعلم الرسم): “والظلم الذي لحق بالسفسطائيين ظلم نموذجي! لقد سخر منهم أفلاطون سخرية مرة، ولسوء حظ العلم والبشرية فإن فلسفة أفلاطون وحوارياته الساخرة منهم هي كل ما وصلنا .. لم تصلنا وجهات نظر هؤلاء الفلاسفة الشعبيين إلا كما عبّر عنها أفلاطون في محاوراته، وهذا يعني أن أي حكم على هؤلاء من خلال شهادة أفلاطون عليهم -وهو خصمهم- سيكون حكماً مجحفاً”. وبطبيعة الحال، فإن سهم أفلاطون هو الذي سيعلو في ظل غياب شهادتهم قبال شهادته، والذين لم يظهروا سوى خصوماً صاغ آرائهم أفلاطون نفسه، في الوقت الذي تولى فيه دحضها وعرض فلسفته هو. “لقد أوردهم أفلاطون كما يمكن أن يورد أي خصم صورة خصومه في شهادته. وحتى في الحواريات فقد قدم وجهات نظرهم ممنتجة بالطريقة التي يستطيع فيها الرد عليهم وإيقاع الهزيمة بهم”. فيستنتج الكاتب عدم مصداقية التراث الثقافي بالتمام والكمال، إذ “إن إهمال فكر السفسطائيين والاكتفاء بالصورة التي نقلها أفلاطون عنهم، ثم تسرب كلمة السفسطة والسفسطائي بالمعنى السيئ المعروف إلى عامة الناس -الذين أراد السفسطائيون خدمتهم- لترتبط بالسخرية، دلالة أخرى على أن التاريخ الثقافي لم يصلنا صحيحاً”.
وإلى جانب (دفاعاً عن الجنون) فوق أرفف مكتبتي، يقف كتابين آخرين للكاتب، هما: حيونة الإنسان / تهويد المعرفة، بالإضافة إلى كتابين آخرين من ترجمته، هما: رواية/ سدهارتا – لمؤلفها/ هرمان هيسه، وكتاب/ تاريخ التعذيب – لمؤلفه: بيرنهاردت هروود.
ختاماً أقول في دفاع عن الجنون أضمّه إلى دفاع الكاتب: وإن إبقاء المجنون ثابتاً على قواه العقلية في زمن الجنون يحوط به المجانين من كل جانب .. لهو ضرب من خوارق الأمور، بل ومدعاة للجنون لا محالة!.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (35) في قائمة ضمت (57) كتاب قرأتهم عام 2021 تتضمن أربعة كتب لم أتم قراءتها وثلاثة كتب أعدت قراءتهم من جديد، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان أكثر بكثير، لكن لم تسمح ظروف الحياة لمجابهته! وهو تاسع كتاب اقرؤه في شهر نوفمبر من بين أربعة عشرة كتاب .. وقد حصلت عليه من متجر جملون الإلكتروني للكتب العربية في فبراير من نفس العام، ضمن (20) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة.
ومن فعاليات الشهر: لا شيء مميز فيه، غير أن حماس القراءة قد أخذ بي مأخذاً تلاه الشهر اللاحق، لما فرّطت من قراءة ما أعددت له من كتب كان ينبغي عليّ قراءتها في الأشهر الماضية .. أو هكذا أظن!.
تسلسل الكتاب على المدونة: 312
التعليقات