كتاب يتناول توأم (القراءة والكتابة) من خلال حديث يتراوح بين المتعة في خفته، وعمق المعنى الفلسفي في طياته، حيث يعرض طائفة لآراء عدد من الكتّاب العالميين الذين عنّي باختيارها وترجمتها مؤلف الكتاب، ضمن نطاق اهتماماته واطلاعاته، وكنتاج لدراسته الأكاديمية، وعمله المهني في الترجمة .. وفي حين يعكس هذا الجهد طموح شاب يرقى ليسد الفراغ بنشاط مثمر، فإنه من ناحية أساسية يلقي ضوءاً على ماهية الكتابة السردية من خلال القامات الأدبية العالمية، والتي لا بد وستعكس تجارب أولئك القامات الشخصية وآرائهم وأفكارهم، حيث الضوء الآخر الذي يسلّطه هذا الجهد المثمر! غير أن الأمر لا يقف عند طيف هذين الضوءين، بل أن المؤلف يبث ضوءاً ثالثاً من منظوره الثقافي على تلك النصوص بما تحويه من آراء وأفكار، ليثري الساحة الثقافية بفيض من آراء أخرى وأفكار قد تتفق وقد لا تتفق .. أو كما يقول المؤلف في مقدمته: “يقرأ البعض حباً في التعليم، والبعض الآخر ليخفف من خيبات الأمل، والبعض لتزجية الوقت .. لكن بالنسبة إليّ، لم تكن القراءة سوى مسألة متعة أولاً، وتليها الفائدة بعد ذلك”.
كم يبدو المؤلف دقيقاً في اختياره، حيث تظهر قائمته في صفحة المحتويات كما يلي:
- كيف نقرأ كتاباً كما يجب؟ – فيرجينيا وولف
- منافع القراءة – رديارد كيبلنغ
- أن أقرأ أو لا أقرأ – هنري ميللر
- حول قراءة الكتب – هيرمان هيسه
- القراء الجيدون والكتاب الجيدون – فلاديمير نابوكوف
- لماذا نقرأ الأدب؟ – ماريو بارغاس يوسا
- كيف تقرأ كتاباً؟ – جوزيف برودسكي
- أهمية المكتبات والقراءة – نيل جايمان
- فن القراءة وحرفة الكتابة – ألبرتو مانغويل
ومن تلك القائمة التي جاءت في ترجمة متقنة وأفكار متنوعة ونصوص تزخر بالمعنى، أدوّن ما راق لي، وأقتبس في نص بلون الحبر (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، وقد نال الكتاب ثلاثاً من رصيد أنجمي الخماسي:
- تولي الأديبة الإنجليزية (فيرجينيا وولف) الكلمات عناية خاصة من حيث قوتها في عملية بناء النص بإحكام، فليست القراءة هي الوسيلة الأسرع لفهم عناصر النص، بل الكتابة، حيث التجربة الخاصة في اختيار الكلمات وما يحوطها من أخطار وصعوبات .. تلك الكلمات التي تتشظى إلى آلاف المشاعر المتناقضة والتي لا بد من إخضاع بعضها على حساب إبراز البعض الآخر، وبحيث لا تطغى العاطفة مقابل الفهم السليم. تقول في (كيف نقرأ كتاباً كما يجب؟) قولاً فلسفياً وهي تفاضل بين عدد من الكتّاب الكلاسيكيين في زمانها وتقابل نصوصهم: “ينكشف الجانب الآخر من العقل أثناء القراءة، أي الجانب المظلم الذي يظهر في وجود الأصحاب. في تلك اللحظات لا تقوى علاقاتنا مع الناس من حولنا، بل مع الطبيعة والقدر أكثر”.
- يرى الروائي البيروفي (ماريو بارغاس يوسا) بأن الأدب بات يتحول شيئاً فشيئاً إلى “نشاط نسوي”، حيث الحضور الطاغي للمرأة في مؤتمرات الكتاب وفي تخصصات العلوم الإنسانية، وفي المكتبات عموماً .. مقابل الرجال! يعقّب ويقول في (لماذا نقرأ الأدب؟): “هذا الأمر يحدث في كل مكان تقريباً! في إسبانيا -على سبيل المثال- كشفت إحصائية حديثة أقامها اتحاد الكتاب الإسبان أن نصف السكان لم يقرؤوا كتاباً من قبل، وكشفت أيضاً أن النساء ضمن الأقلية التي تقرأ يتعدين الرجال بنحو 6.2%، وأن هذا الفارق يزداد مع الوقت. أنا سعيد من أجل أولئك النسوة، لكني أشعر بالأسف للرجال، وللملايين ممن يستطيعون القراءة لكنهم اختاروا تركها”.
- وعلى الضفة المقابلة لإسبانيا، يأسف مؤلف الخيال العلمي الإنجليزي (نيل جايمان) على المكتبات التي فقدت الدعم الحكومي بحجة التوفير، في حين لا يجد هذا التوفير المزعوم سوى بمثابة “السرقة من المستقبل لأجل الحاضر”، ففي حين لا بد وللأبواب أن تبقى مفتوحة، يعمد هؤلاء إلى إغلاقها! يقول في (أهمية المكتبات والقراءة): “ظهرت دراسة حديثة من المركز الوطني للتطوير والتنسيق الاقتصادي تفيد بأن إنجلترا هي البلد الوحيد الذي يحظى فيه كبار السن بقدرات لفظية وكمية أعلى من الأجيال الشابة. وإن أردتم صياغة أخرى، فإن الدراسة هذه تخبركم بأن أطفالكم وشبابكم أقل ثقافة منكم، وبالتالي هم أقل إدراكاً ووعياً بالعالم الذي يعيشون فيه، وأقل فهماً من الجيل القديم، وبالتالي هم لا يستطيعون حل مشاكلهم بالإمكانيات ذاتها التي لدينا، فصار الآن من السهل خداعهم والتحكم فيهم، مما سيجعل هذا البلد في مصاف البلدان المتأخرة، وذلك لكونها تفتقد قوة عاملة ماهرة. وفي ذلك الوقت، بينما يكيل السياسيون لبعضهم الاتهامات لن ينجدنا إلا حب القراءة الذي سننشئه في أبنائنا بداية من هذه اللحظات”.
- أما الكاتب الموسوعي الأرجنتيني (ألبرتو مانغويل)، فيقول في (فن القراءة وحرفة الكتابة) قولاً لا بد وأن يتفق معه القرّاء الكلاسيكيين .. في تقديس الكتاب الورقي مقابل الرقمي، وما يلحق بهما بالضرورة من مكتبات تضج بالحياة إلى متاجر إلكترونية صمّاء لا روح فيها: “أعتقد أننا نعيش في وقت تحاول فيه المجتمعات تحديد هويتها بما يتعارض مع هوية الفرد، وهي تريد أيضاً إقناعنا بأن تلك الكتب، تلك الكنوز التي احتفظنا بها منذ بداية الزمان لا تحمل أي قيمة. اقتنعت المكتبات في هذه الأيام بأن لا لزوم للنصوص المطبوعة، وقررت أن تكتفي بتحويلها إلى كتب رقمية. وبدأت شريحة كبيرة من القراء بالتفكير في أنه ما من لزوم للذهاب إلى متاجر الكتب كي يقتنوا نسخاً بينما يقدرون على الشراء من متاجر إلكترونية كبرى مثل أمازون، وما من فائدة لقطع كل تلك المسافات إلى متجر ما وإمضاء الوقت بمحادثة مع أحد عمال المتجر حول الكتب التي يريدونها. ولكن، بعيداً عن هذا الضغط المهول لإخضاع حاجاتنا إلى الفن والأدب، يعلم القراء جميعاً أن الكتب المطبوعة هي ما يعول عليه”.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (119) ضمن قائمة لا تنتهي من الكتب التي خصصتها لعام 2024، وهو رابع ما قرأت في نوفمبر .. وقد حصلت عليه من معرض للكتاب بإحدى المدن العربية في مايو الماضي، ضمن (250) كتاب كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض!
ومن فعاليات الشهر: لا شيء سوى مواصلة النهار بالليل في القراءة وحدها .. وكأنه حلم تحقق!
ومن الكتب التي قرأتها في هذا الشهر: العشق / ملوك الهرجلة / أهل الكتابة والقراءة / مائة نصيحة لحياة سعيدة / الاكتئاب: أسبابه وطرق علاجه / من كتبي: اعترافات قارئة عادية / عزيزي العالم: فتاة سورية تروي الحرب وتُطالب بالسلام
وعلى رف (المكتبات) في مكتبتي عدد متزايد من الإصدارات .. منها ما نشرت على مدونتي!
تسلسل الكتاب على المدونة: 569
التعليقات