الكتاب
خطاب العنف وعنف الخطاب: قراءة ثقافية في الامثال العربية القديمة
المؤلف
دار النشر
دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع
الطبعة
(1) 2023
عدد الصفحات
230
النوع
ورقي
تاريخ القراءة
09/11/2024
التصنيف
الموضوع
العنف الممنهج خطابياً ضد الرجل مرة وضد المرأة ألف مرة
درجة التقييم

خطاب العنف وعنف الخطاب: قراءة ثقافية في الامثال العربية القديمة

تعتبر اللغة أداة ذات تأثير فعّال في القيم التي تعتنقها أي جماعة إنسانية وتنعكس بالضرورة في سلوكياتها، والتي تأتي في مجملها كنتاج لما ترّسخ من أنماط فكرية في وعيها الجمعي. يتجلى هذا التأثير في ثقافة أي مجتمع من خلال ما تضرب من أمثال تثبّت بها تلك الأنماط وتسوغ لها حجج الإقناع، لا سيما حين يؤسس لها طبقة ثقافية نخبوية أو حين يباركها القوم بالإجماع! من هذا المنطلق، يضع الباحث كتابه مستهدفاً خطاب العنف المتداول في الثقافة العربية، والموجّه ابتداءً للذكورة والصادر عنها بطبيعة الحال ضد الأنوثة، مستقرئاً تلك القيم التي تبث أمثالها وأشعارها وقصصها ومروياتها وأحداثها، ومتفحّصاً آليات تطبيعها وتقنينها، ومتتبعاً لعللها المخبوءة تحت حُجب التغافل أو الممنوع أو المسكوت عنه في المجتمع. بيد أن تلك الأمثال المتداولة على قدر من الخطورة فيما يتوارى خلفها من عنف، العنف المستتر الذي قد يتورط في الترويج لأمثاله والدفاع عنها نخبة المثقفين، سواء بسواء عامة الناس ممن وقع في شباكها.

فمن هذا الباحث؟ إنه (د. صغير العنزي)، أستاذ جامعي تخصص في اللغة العربية، ثم تقاعد مبكراً بغية التفرّغ لأبحاثه الأدبية والثقافية. يعرّف عن نفسه على وسائل التواصل الاجتماعي كـ “مهتم بقضايا التطرف والمهمشين”، وقد يبدو -للمفارقة- أن تبنيه لقضايا العنف والتطرّف والهامش قد صنّفه كـ (مثير للجدل)، كما فعل هذا الكتاب، وكتابه الآخر (النكاح والحرب في التراث العربي: قراءة في أنساق الهيمنة).

وفي تناوله للعنف وصناعة المعنى في الجانب الذكوري، ينطلق الباحث من مرحلة تعطيل العقل الممهدة للعنف في صورته العصبية، بحيث يقوده نحو الانجراف لقوانين الغاب “إذ يضحى العنف حينئذ ضامن وجود لا مجرد قوة”. تقود مرحلة التأصيل هذه إلى ترسيخ متطلبات العصبية، كتضخيم الأنا وإنكار الغير وتسويغ إيذاءه، في حين قد يتخذ العنف صوراً مغايرة لمفهومه المتعارف عليه، كجلد الذات والعنف بدافع النصح، والذي قد “يتغوّل معاني الحياة الأخرى كالصداقة والحب والحكمة”. أما ما يتعلق بالعنف واختطاف المعنى في الجانب الأنثوي، فقد حدّث الباحث ولا حرج، مستهلاً برحلة الوأد المتصلة من المهد إلى اللحد، والمنطوية على رموز ثقافية عنيفة تبدأ باستقبال غير مرّحب به وتصرّح ضمنياً عن “الضمائر الجمعية” في ممارسات الوأد وتنوع أساليبه، تنتهي بتشكيل هوية تم الإعداد لها مسبقاً. وقد لعب “المخيال الجنسي” دوراً مهماً في “تطبيع الوأد من خلال صناعة نموذج الأنثى الهشة المستلبة المفتقرة إلى التحكم في غرائزها”. يردف دور هذه المخيلة المبتكرة دور الأمثال التي تصدت لتجريد الأنثى من أي جوهر إنساني يبرر بشكل أو بآخر تصفيتها جسدياً ومعنوياً، في حين تصدت أنساق العنف المختلفة لمن تبقى منهن، لا سيما “النوابغ في القيادة وفي الإدارة وفي الإبداع”، بوسائل مواجهة أكثر أفعوانية.

يعقّب الباحث ويقول: “من هنا تأتي دراسة الأمثال بما هي مؤثرة وفاعلة في مفاصل حياة العرب، وليست مجرد وسيلة عاكسة لأنماط حياتهم وأفكارهم فحسب، ذلك أن (الأمثال تُجسّد بامتياز تحول الفعل الكلامي إلى فعل اجتماعي، كما تُجسّد طواعية الفعل الكلامي للتجليات الاجتماعية)، فهي بمنزلة القانون الذي يرجع إليه القوم على اختلاف طبقاتهم، ومن خلاله تشرع قيماً وسلوكيات ومواقف، الأمر الذي يستدعي إعادة قراءتها في ضوء ما تحدثه من تأثير في الوعي والسلوك”.

يتقاسم الكتاب بالمناصفة الذكر والأنثى، حيث ينقسم إلى فصلين رئيسيين يندرج تحت كل منهما عدد من المباحث التي تتفرّع بدورها إلى عدة مواضيع .. وينال ثلاثة من رصيد أنجمي الخماسي. وهي كما يلي:

  • الفصل الأول: العنف وصناعة المعنى: الذكورة معنّفة ومعنِفة
    • المبحث الأول: رحلة العصبية من تعطيل العقل إلى تجميل العنف
      • تعطيل العقل شرط للعصبية
      • جمالية العنف وحلول القوة
    • المبحث الثاني: العصبية وثنائية المركز والهامش: عنف الطبقية والتمايز
      • الملك المقدس
      • القبيلة النموذج والآخر المنفي
      • الجسد الناقص منفياً
      • قهر المسترق (الأسود نموذجاً)
    • المبحث الثالث: العنف دستورا للحياة العنف في غير مظانه
      • بطولة الكرم بوصفها عنفا ضد الذات
      • النصح ومصادرة الصوت
      • الحضانة الأئمة
  • الفصل الثاني: العنف واختطاف المعنى: الوأد صانعاً للهوية الأنثوية
      • المبحث الأول: رحلة الوأد من عنف الاستقبال إلى تشكيل الهوية
        • الوأد حقيقة تاريخية أم مخترع ثقافي أم هما معاً
        • اشتغالات الوأد
      • المبحث الثاني: الأنوثة والارتياب: المخيال الجنسي وتسويغ الوأد
        • المرأة الهشة (النموذج الوضمي)
        • تعميم الصورة من خلال رموز الحكمة
        • المصادقة على المخيال ومطاردة الوهم
        • الخطيئة المذكرة والخطيئة المؤنثة
      • المبحث الثالث: المرأة والشرط الإنساني
        • عقل المرأة مادة للسخرية
        • منزلة العقل في الجسد الأنثوي
        • الأنوثة منفى الذكورة الفاسدة
        • نفي المرأة عن العالم الإنساني وانعكاساته على مكانتها في الحياة الزوجية
        • المرأة كائن بغيره لا بذاته
      • المبحث الرابع: نبوغ الأنثى ورصد النسق
        • النبوغ وسطوة التهمة الجنسية
        • الوصم اللغوي
        • سحب الثقة

وكلمحة سريعة عن أبرز ما ورد في الفصلين:

  • يتناول الفصل الأول ابتداءً (نسق العصبية) كعامل تحريضي في افتعال العنف وديمومته، وقد كان تعطيل العقل وما يتبعه من استحالة المراجعة والتساؤل والتروي شرطاً في ترسيخ العصبية، بحيث يكون المجد في تسليم العقل والنصرة العمياء ومظاهر البطش والقهر والاستبداد، تباركها جميعاً الأمثال وتثني عليها وتسميها بغير أسمائها بل وتضفي عليها صفات جمالية! وبمرور الوقت، تستوطن العاطفة المتأججة الضمائر، وتشعل الثورات لأجل كل صغيرة، وتحيل المجتمع إلى غابة البقاء فيها للأقوى لا للأعقل. أما عن (بنية العصبية) فتقوم على ثنائية اجتماعية، الأولى متمركزة منغلقة متضخمة الأنا تملك زمام القوة، والأخرى منفية مهمشة نالت من التحجيم بقدر ما فقدت من تلك القوة، يمثّلها في هذا خير تمثيل المرأة والعجائز وذوي العاهات. غير أن العنف كدستور للحياة تمظهر في غير مواضعه، حيث طال قيم إنسانية راقية كالحب والصداقة والكرم والحكمة، وتغلغل في معانيها، ما أفضى بمرور الوقت إلى تطبيعه إنسانياً.
  • يتناول الفصل الثاني ابتداءً صناعة هوية المرأة، باستخدام المنظومة الثقافية المنطوية بالضرورة على (نسق الوأد) بما فيه من رفض وإلغاء وإقصاء، متضمنة بطبيعة الحال الأمثال والقصائد والمرويات والمدونات الفكرية ومآثر رموز الحكمة، تغلفها الحصانة وتعززها الكثرة والتكرار، وما يرتبط بها من حيل لغوية وأدبية وفكرية تسوّغ تصفية الكيان الأنثوي جسدياً ومعنوياً .. وقد تصدر تلك الصناعة (المخيال الجنسي) كأكبر مسوّغ للوأد. أدت تلك الصناعة إلى فرض نموذج نسوي يثير الوجل والتوجس والشكوك ويستلزم بالتالي تشريعات رقابية وعقابية صارمة! لقد كان أحد مبتكرات تلك الصناعة هو فرض تمثيلاتها على المرأة نفسها، بحيث تعمد بمرو الوقت إلى اختصار مكانتها في حيز ما من جسدها، الحيز الذي يتغلب على عقلها ويسلبها بالتالي صفة الإنسانية. لا بد إذاً لصناعة التشيء هذه التصدي لنموذج المرأة الشاذ عن قاعدة التمثيلات المعلن في تفوقها ونبوغها، بحيث تلوي التفسيرات صريح الآيات القرآنية كما في قصة ملكة سبأ، وذلك من ناحية دينية، أو تتمظهر -من ناحية اجتماعية- في ملاحقة كل مارقة عن النسق بالوصم والعار والتنكيل.

ومنها، أدوّن نموذجين عن الندين المعنفين خطابياً، وباقتباس في نص قاسٍ (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) إضافة إلى ما سبق من اقتباسات:

  • لم تزل القوة الجسدية تحظى بتقدير عظيم في مجتمع العصبية، حيث هفوات القوي مغفورة، مقابل النفي المعنوي الذي يُمارس على من بلغ الشيخوخة، يصل إلى حد تجريده من هويته الجنسية لنقيضها، حيث تنهار الوجاهة بالضرورة مع انهيار الجسد في ذلك المجتمع! يبرر الباحث هذا الموقف في (الجسد الناقص منفياً) ويقول: “إن مصطلح الرجولة شديد الالتصاق بمعاني القوة ومتفرع منها، وهو ما يتعارض مع أي مظهر من مظاهر الضعف الذي يخون قيم الرجولة، فتطرده إلى «عالم الأنوثة/ اللا فاعل»، ولا تكتفي بإبعاده، أو تثبيت عدم جدواه وحسب، وإنما تقدمه في مهمته الجديدة مثيراً للسخرية والشفقة معا. وتتطرّف الثقافة في موقفها من الشيخوخة فيبلغ توحشها وعُنفها أنْ ترَى أَنَّ «أَهْوَن هالِكِ عَجُوْزٌ فِي هَامِ سَنَة»، فمُجتمع المثل لا يواري عُنْفَه ضدّ المُسنّ، ولا يخجل من أن يُصيّره وَسْمًا خَالِدًا، وَمَضْرِبَ مَثَلٍ للشيء يُسْتَخَفْ به وبهلاكه. ولتشابه موقفهم من المسن مع موقفهم من المرأة استدعت ذاكرة الميداني عند نقاشه هذا المَثَلَ بيتَ الفَرَزْدَق: (عَلَى المَرْءِ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ تَقَنَّعَا * وَأَهْوَنُ مَفْقُودٍ إِذا المَوْتُ نالَهُ) ليؤكد معنى المثل القاضي بهوان قيمة المسنين، ويجمعهم مع جنس النساء في الاستخفاف بفقد الاثنين؛ لأنهما عبئان -في تصور المركز- على مجتمع العصبية، وهو مجتمع شديد النفعية -كما تفيد مناقشة خطاب الأمثال- على الرغم من صَدْحِه بالقيم النبيلة والإيثار، ولعل قراءةً مُتأملةً لهذه القيم، ومنها قيمة الكرم، تكشف لنا عن حجم التبادل البراغماتي بين الكريم والمُكْرَم، وأقلّل ذلك الثناء ونيل السمعة المنشودة“.
  • تتأصل الفكرة الراسخة في المخيلة الذكورية بهشاشة المرأة، فيما تجسّده الثقافة العربية من نصوص مشوهة لكيانها، المركب جسدياً من ضعف والمهيأ نفسياً لارتكاب الفاحشة، فإنما هي جسد محض متاح ورخيص ومفطور على إشباع شهوات محظورة! ولعل المثل القائل “إنما النساء لحم على وضم” يحمل كناية واضحة عن الضعف المتمثل في اللحم وهو موضوع فوق خشبة، فيتقاسمه القوم وهو لا يمتنع عن أحد، وكذلك المرأة وهي معروضة كسلعة لا تملك من أمرها شيئاً ولا تتمنّع عمّن طلبها! يعرض الباحث في (تعميم الصورة من خلال رموز الحكمة) قصة ينسبها التراث العربي على تنوع مصادره إلى (لقمان الحكيم) الذي خانته نسائه أجمعين فقتلهن ومعهن ابنته البارة به، مبرراً فعلته بـ “وأنت أيضاً امرأة”، وقد جعل منه التراث “أول الوائدين العرب” ولا فخر، وهي القصة التي لا يخفى المغزى منها في ربط أشد الخيانات فحشاً ومن ثم التشريع للوأد التاريخي، على يد حكيم العرب! يعقّب الباحث قائلاً: ومثلما جاء تنفيذ قرار تطبيق الوأد بيد حكيم العرب وفي ظل رأيه، فقد كانت أقدم حكيمات العرب صُحر أول شخصية يُطبق عليها حكم التنفيذ، وكأنما الهدف من ذلك تأكيد أن النموذج الوَضَمِي يستوي فيه الجنس كله، وأن «عقل» المرأة لا يحول بينها وبين السقوط في وحل الرذيلة، بل ربما ساعدها عقلها على التخطيط لفسقها. ومن هنا فقتل ربة العقل مقدم على قتل غيرها تحرزاً من تدبيره، مادام أن (حكمة) المرأة بين فخذيها، كما تقول حكيمة النفزاوي”. يتحرى الباحث مثل هذه الروايات الملفقة، ليجد أكثرها منسوجاً ضد نوابغ النساء على وجه الخصوص، فيستمر قائلاً: “وتَدْعَمُ الأمثال هذه الفكرة بتسجيلها جريمةَ شَرَفِ ضدَّ حكيمة العرب الثانية هند بنت الحس التي ضبطتها الأمثال متلبسة بخيانتها، وسجلت اعترافها في قول دائر اخترق حجب الزمان والمكان: «قُرْبُ الوِسَادَ وطُولُ السَّوادِ»، كان هذا المثل المتداول جواباً منها عن سؤال موجه إليها: لِمَ زنَيْتِ، وأنت سيّدةُ قُوْمِك؟ وليس من باب الصدفة أن يسير إقرارها مثلاً، وأن تكون جنايتها الأخلاقية المزعومة مع عبد أسود، فتهدم بذلك منطق العقل، وتهد نظام المواضعات الاجتماعية (سيدة وعبد). وقد ركزت روايات قصة المثل على استهداف عَقْلِها: «كيف زَنَيْتِ وأنتِ عاقلة لبيبة؟“.

ملاحظة هامشية: فضلاً عن الإشكالية التي قد يخلقها هذا البحث، بين مؤيد له مستعيناً بواقع الحال، وبين معارض محتجّ بواقع مواز مغاير، وبين وسطي يجده حق تشوبه مبالغة .. فإن الباحث يستخدم لغة أكاديمية مقعرة قد تستعصي على مدارك القارئ العادي، وهو يتطرق لمواضيع تختص بالنقد الثقافي والمفاهيم النظرية والدلالات الرمزية والقيم الجمالية والمعرفية للنصوص الأدبية …. وغيرها، تتطلب -في أحسن الأحوال- قدر من مرجعية ثقافية واطلاع مسبق.

ختاماً أقول: بينما يجد القارئ الموضوعي هذا الكتاب قد ألقى الضوء على جانب مسكوت عنه في الثقافة العربية لم يعلم به من قبل، والذي قد يثير الفصل الأول شيء من حفيظته .. فإن القارئة -على ما أوتيت من موضوعية مماثلة- تحتاج جلّ ما قُدّر لها من طاقة عصبية لاستيعاب فحشاً ذكورياً جاوز خطابه الموبوء مداه في تبخيس كيان المرأة .. الإنساني قبل كل شيء!

 

= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =

نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (94) ضمن قائمة لا تنتهي من الكتب التي خصصتها لعام 2024، والذي أرجو أن يكون استثنائياً في جودة الكتب التي سأحظى بقراءتها فيه، وهو في الترتيب (2) ضمن ما قرأت خلال سبتمبر! أما عن اقتنائه، فقد حصلت عليه من معرض للكتاب في إحدى المدن العربية عام 2023 ضمن (400) كتاب كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض!

ومن فعاليات الشهر: لا شيء سوى مواصلة النهار بالليل في القراءة وحدها .. وكأنه حلم تحقق!

ومن الكتب التي قرأتها في هذا الشهر: السرقة من المسلمين (الساراسن) / أنا والكتب / مجتمع الاحتراق النفسي / اشف جسدك / كون عقلك / الاعتذار

تسلسل الكتاب على المدونة: 544

تاريخ النشر: سبتمبر 20, 2024

عدد القراءات:123 قراءة

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *