“إني لا أعلم شجرة أطول عمراً ولا أطيب ثمراً ولا أقرب مجتنى من كتاب”. لم يكن قول الأديب العربي الجاحظ مجرد إطناب ولم يأتِ مجافياً للحقيقة، بل جاء يحاكي واقعاً عايشه بين كتب لازمها وأعلام أخذ العلم عنهم في زمانه. يأتي هذا الكتاب القصير يترجم شيئاً من ذاك المعنى، وهو يضم بين دفتيه مجموعة من المقالات تتناول بالبحث والتحليل عدد من الأدباء العالميين، فتعرض جانباً من سيرهم الذاتية بما فيها من أخبار، عن أشهر مؤلفاتهم، عاداتهم اليومية، أساليبهم الأدبية، طقوس كتاباتهم، ظروف إبداعاتهم، الكتّاب الذين تأثّروا بهم، الكتّاب الذين أثّروا فيهم، الأثر الذي أحدثوه على الساحة الأدبية، النقد الذي لحق بإصداراتهم … وغيرها الكثير من أمور، إضافة إلى ما توصي به من كتب وروايات متنوعة تم تصنيفها ضمن الأعمال العالمية الخالدة.
وخلافاً لعدد ليس بالقليل من الإصدارات المترجمة التي اطلعت عليها، جاءت ترجمة هذا الكتاب حِرَفية بشكل متقن، فضلاً عن خلوها من الحشو اللفظي، والمفردات الغريبة، والمط والزيادة، حيث جاءت واضحة ومباشرة في صميم ما تناولت من علوم!. لقد قام باختيار مقالات هذا الكتاب وعني بترجمتها (أحمد الزناتي)، وهو مترجم مصري عمل على ترجمة عدد من الأعمال الإنجليزية والألمانية إلى اللغة العربية، إضافة إلى إصداراته الروائية، وقد حظي بتكريم بعض الجهات المحلية والعربية وحصل على عدد من الجوائز الأدبية.
وفي هذه الأثناء، أسترجع أول كتاب قرأته عن الكتب وأنا في سن مبكّرة جداً، وهو (كتاب عن كتب) للكاتب الراحل أنيس منصور، وهو الذي قال فيه عميد الأدب العربي د. طه حسين أنه (أكبر قارئ في مصر) .. ولا زلت أحتفظ به! وعن هذا الكتاب، فيعرض فهرسه قائمة من المقالات التي عنيّ المترجم باختيارها علاوة على ترجمتها، إذ تظهر عناوينها شائقة لمن يهوى الأدب ويعتريه الفضول نحوه في العادة، وهي:
- كيف نقرأ؟ ولماذا؟
- هارولد بلوم: المعتمد الغربي في الأدب
- رسائل الخريف: كارل أوفه كناوسجارد
- الأساطير هي أحلام العالم: جوزيف كامبل وسلطان الأسطورة
- آلبرتو مانجويل: (قراءة في فصول الفضول)
- بيتر هاندكه: سيرة موجزة
- بيتر هاندكه: ليلة على نهر مورافا
- بيتر هاندكه: رواية سارقة الفاكهة
- جيمس جويس: من يخاف يقظة فينيجين؟
- خوسيه ليثاما ليما: رواية براديسو: المعنى للقارئ .. لا للمؤلف
- رواية هيرتسوج لسول بيللو: لمن نكتب الرسائل؟
- إيتالو كالفينو: الهروب من القنافذ
- سجلات عدن: يوميات جون شتاينبك
- إيريس ميردوخ: الرسائل
- التكرار الجميل
- مارسيل شواب: أدب الاستعادة
- موجز تاريخ الورد
- متون الأحلام
- الرواية العالمية في القرن الحادي والعشرين
- عن الكتابة والغربة والاحتراق
لذا، أراني أمنح الكتاب أربع نجمات من رصيد أنجمي الخماسي، وأختار من جميل ما حملت خزانة الكتب الجميلة وعلق في ذاكرتي بعد القراءة الماتعة ما أدونّه في الأسطر التالية .. وباقتباس في نص ثري (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
- يختار المترجم الحديث عن الكاتب (ألبرتو مانغويل) الأرجنتيني الأصل الكندي الجنسية، الشغوف أبداً بعالم الأدب والمأخوذ بسحر الكتب .. يجمعها، يقرأها، يحدّث عنها. فبينما يتأثر في طفولته بقصة (أليس في بلاد العجائب)، يرافقه في شبابه كتاب (التخيلات) لأستاذه لويس بورخيس، حتى يعترف وهو على مشارف السبعين أن (الكوميديا الإلهية) لدانتي هو “الكتاب الجامع” الذي لا يضاهي “عمقه واتساعه وحذاقة مبناه” أي إنتاج أدبي آخر. وهو إذ يتوّج كوميديا دانتي على رأس كل ما قرأ، يخصص المترجم لكتابه (الفضول) نصيب الأسد في مقالة (آلبرتو مانجويل: قراءة في فصول الفضول)، إذ أن مانغويل في تأثره بالكوميديا، أعاد قراءتها بغية فهمها من منظور آخر يعينه على فهم العالم بدرجة أكثر عمقاً، الإعادة التي شكّلت وعياً جديداً بداخله! فبينما يرحل دانتي نحو الفردوس بادئاً بالجحيم متبوعاً بالمطهر، يرحل مانغويل نحو ذاته .. حياته، ذكرياته، فلسفته، وأسئلته الفضولية التي لا تقف عند حد! يختم المترجم المقالة بتحليل شامل يلخّص مسيرة الأديب وعصارة خبرته، في عبارات يسيرة، فيقول: “ترسو مراكب مانجويل بعد رحلته الطويلة على ميناء أخير هو الأدب، فالأدب هو الإجابة النهائية عن كل شيء، ولكنه في الوقت ذاته، الإجابة التي لا تقول الكلمة الأخيرة، بل الإجابة التي تفتح بوابات الأسئلة من جديد في دائرة مغلقة لا تنتهي، فالعالم يمنحنا القرائن التي تسمح لنا بإدراكه، فنرتبها في متوالية سردية تبدو بالنسبة إلينا حقيقية أكثر من الأصل، ونواصل طريقنا مدفوعين بمزيد من الفضول والشغف للحقيقة في رحلة لا تنتهي”. ومع فيض الشغف والفضول والحقيقة، يتبلور العالم في نظره إلى عطاء لا ينضب، يقول المترجم فيه: “العالم، وفقا لكلمات مانجويل، في حالة تدفق مستمر من الأشياء، وهو يبدو في هذا الرأي متأثراً بمقولة أستاذه خورخي لويس بورخيس الذي قال في إحدى قصصه إنّ العالم موجود من كتاب وإننا عبارات أو كلمات من حروف كتاب سحري، وإن ذلك الكتاب اللانهائي هو الموجود بحق في هذا العالم، بل هو العالم”.
- إن الماضي كالبئر العميقة ما لها من قرار! فكلما توغلت البشرية في ماضيها السحيق، وهبطت وبحثت ونقّبت، تكشّفت لها أسسها الأولى، التاريخية والثقافية والحضارية، لكنها -ومع المزيد من التنقيب- لا تلبث أن تؤكد بدورها أن “لا غور لها”. هكذا يعتقد الروائي الألماني (توماس مان) في روايته الضخمة (يوسف وإخوته)، ما يدفع المترجم للتطرّق بدوره إلى عالم الميثولوجي الأمريكي (جوزيف كامبل) في مقالة (الأساطير هي أحلام العالم: جوزيف كامبل وسلطان الأسطورة)، لا سيما من خلال كتابه الأهم (سلطان الأسطورة). فيوّضح ابتداءً ولع العالم بالأساطير التي تُعد ضرب من الخرافة في العصر الحديث، إذ هي ليست سوى حكمة القدماء جامعة، كما يبرر ولعه! عليه، يبرز سؤال إنسان الألفية الثالثة حاذقاً، “وكيف تعين الأساطير إنسان اليوم على تجاوز محنته الوجودية؟” يعود المترجم إلى كامبل ليعرض فلسفته التي تفسّر الحياة من منظور القدماء، والتي يجد لها صدى لا يزال يتردد حتى اليوم، حيث “يشير كامبل إلى كلمة وردت عن بوذا مفادها أن «كل الحياة معاناة»، ولن تكون حياة إن لم يكن متضمناً فيها أنها مؤقتة. عليك أن تقول نعم للحياة، معرّجاً على الأديان السماوية الثلاثة «اليهودية والمسيحية والإسلام»، مؤكداً أن النصوص المقدسة للديانات السماوية تحمل معنى «الكبد والمعاناة»”.
- إن القوة تضاهي الموهبة في صنع كاتب رائد! هكذا كان يعتقد الروائي الأمريكي (جون شتاينبك) الحاصل على جائزة نوبل للأدب. لم تكن القوة التي قصدها سوى: الكتابة العظيمة .. الصعود والهبوط .. الجرأة في كتابة الكلمة الأولى .. الرموز المعبّرة بدل الكلمات .. الصلاة عند امتناع الكتابة! لذا، يجد المترجم نفسه مدفوعاً للاقتباس من كتابه (مذكرات رواية)، الذي عرض فيه مجموعة من الرسائل خطّها لصديقه الناقد والمحرر في دار فايكنج للنشر (باسكال كوفيتشي)، وهو يبثّه يوميات عكوفه على تسويد روايته (شرق عدن)، والتي على ما يبدو لم تكن بالهينة، حيث انتابته أوقات شعر فيها بقلة الحيلة، وتمنى لو صلى الناس من أجله ومن أجل إتمامها. ينقل المترجم طرفاً من تلك الرسائل في (سجلات عدن: يوميات جون شتاينبك)، وهو يطري الكتابة رغم غموض عالمها: “لا أنكر أنني أعاني دائماً من خوف كتابة السطر الأول من الرواية، لكن أتعلم شيئاً؟ كم هو رائع ذلك الخوف والسحر والبريق الذي يمس روح الكاتب حيث يضع السطر الأول فوق الورقة، آه .. الكتابة ذلك العمل الغريب الغامض”. وعن المهارات التي يجب أن يتقنها كل روائي يطمح للريادة، يقول: “مهمة الروائي أن يصعد ويهبط، أن يوسّع رئة أفكاره، أن يشجع نفسه على الاستمرار في الكتابة”. وعن سر اللحظة التي يتدفق فيها الإلهام، يقول “ينبغي أن يكون كل فصل من الرواية وحدة قائمة بذاتها .. أيها الكاتب سأخبرك بشيء: في اللحظة التي تخترق فيها روح الكتاب عظامك، ستكون قادراً على مواصلة الكتابة، وعندها ستأتي الحبكة وحدها دونما عناء”. ولأن العبرة بالخواتيم، يقول وهو يضع قلمه وقد فرغ من كتابة روايته تلك: “الكتاب مثله مثل الإنسان، يجمع بين الذكاء والحمق، بين الشجاعة والجبن، بين الجمال والقبح”. لكنه، وهو يشعر في النهاية بأن ثمة روح إنسانية فارقته، يقول: “انتهى الكتاب بغتة .. إنه شيء أشبه بالموت .. وما أقوم به الآن قداس جنائزي على روحه”.
تنويه: ورد خطئاً في مقالة (بيتر هاندكه: سيرة موجزة) مرتين، اسم الصحفية اللبنانية التي نشرت لقاءً مع الكاتب النمساوي (هاندكه) في كتابها (صحبة لصوص النار) بـ (جومانا مراد)، والصحيح هو (جومانا حداد).
وأقول ختاماً: إن القراءة فعل خشوع، والكتابة شكل من أشكال الصلاة .. فبقدر ما استنشق القارئ بعمق من روح كل كتاب قرأه وأعقبه بآخر فآخر، تأتي الزفرات عبقة بكل ما ضخّت تلك الكتب في روحه من حياة!.
تم نشر مراجعة الكتاب في جريدة الشرق
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (39) في قائمة ضمت (57) كتاب قرأتهم عام 2021 تتضمن أربعة كتب لم أتم قراءتها وثلاثة كتب أعدت قراءتها من جديد، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان أكثر بكثير، لكن لم تسمح ظروف الحياة لمجابهته! وهو الكتاب الثالث عشر الذي اقرؤه في شهر نوفمبر من بين أربعة عشرة كتاب .. وقد حصلت عليه من متجر جملون الإلكتروني للكتب العربية في يوليو من نفس العام، ضمن (20) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة.
لقد أثار فضولي مجموعة كتب دوناً عن أخرى، أسعى لاقتنائها، وقد ورد في الكتاب الكثير .. وهي: كتاب/ الكتب في حياتي – لمؤلفه/ هنري ميللر .. كتاب/ كيف نقرأ؟ ولماذا؟ – لمؤلفه/ هارولد بلوم .. كتاب/ تجربة مع الزمن – لمؤلفه/ جون دون .. كتاب/ الرواية العالمية: كتابة العالم في القرن الحادي والعشرين – لمؤلفه/ آدم كيرش .. رواية/ الحاج مراد – لمؤلفه/ ليو تولستوي.
خاطرة: كم تستهويني الكتب والكتب التي تتناول الكتب! أحببت غلاف الكتاب كثيراً، صورته المعبّرة وطباعته البارزة .. وكأنني أتحسس تلك الكتب التي تحملها الأرفف الخشبية برفق وحب!.
ومن فعاليات الشهر: لا شيء مميز، غير أن حماس القراءة قد بلغ أشدّه في هذا الشهر تبعه الذي تلاه! قد يعود السبب لما فرّطت من القراءة التي أعددت لها من الكتب الكثير للشهور الماضية .. كما أظن!.
تسلسل الكتاب على المدونة: 315
التعليقات