كتاب قصير جداً يتحدث في لغة فلسفية عن الطغيان السياسي الذي يمسّ الحياة الاجتماعية، وسيكولوجية الجماهير التي بدورها تتماهى مع الطغيان لتكوّن ما هو أشبه بـ (الرأي العام)، بينما يكون “التعايش المتنافر للفرضية والفرضية المضادة”، الذي يخلق حالة من التناقض، هو في حد ذاته وسيلة للتحرر. لذا يدير المؤلف ذو الأوجه المتعددة خمس حوارات في الطغيان بين (فرانشيسكو) و (أنطونيو)، وهو الذي ما برح يعتقد أن مخلوقاً ذو حاسة يقظة وذكاء حاد وأعصاب حديدية يدفع “مخه” إلى تبديل آرائه وقناعاته عدة مرات في اليوم الواحد، وهو في هذا لا يعتنق أي معتقد ديني أو رأي سياسي أو توجه أدبي، إنما كل ما يقدّمه هو مجرد “أحاسيس دينية وانطباعات سياسية ونبضات أدبية”.
يتصدّى المؤلف على وجه التحديد للمفاهيم التي تتقاطع بين (الطغيان) و (الديمقراطية) من أجل تحطيمها وتعرية جوهرهما الحقيقي المشترك، في لغة متوارية ولاذعة وساخرة، ليصل في نهاية الحوارات إلى حقيقة دامغة هي بمثابة سقطة مدوية مفادها “إن جوهر الطغيان موجود بسبب أن الأكثرية تمارسه! بعبارات أخرى: إن الطغيان ديموقراطي”، وما على الأكثرية المنافحة عن الطغيان لكي تُصبح أقلية في الحرية -حسب هذه الحقيقة- سوى النضال والتحرر من الطغيان.
وفي الحوار الرابع الذي يشير فيه أنطونيو إلى (محاكم التفتيش) كضرب من الغباء أفرزه الطغيان الديني لا غير، يفنّد فرانشيسكو هذا الرأي معارضاً، إذ لم يكن حرق غير المؤمنين والمشبوهين، والاضطهاد الديني الذي طال رقاب المختلفين دينياً، سوى طغياناً سياسياً بامتياز يمارس باسم الدين، في حين أن الطغيان الديني في حقيقته هو أكثر ذكاءً وأشدّ فحشاً، فما أن يفقد الدين قوته السياسية، لا يعود لهذا النوع من الطغيان أي وجود.
إنه أنطونيو فرناندو بيسوا (1888 : 1935)، أعظم شعراء البرتغال والذي يُصنف ضمن أهم الشخصيات الأدبية في القرن العشرين، وهو كذلك فيلسوف وكاتب ومترجم وناقد أدبي. وبالإضافة إلى إصداراته المنشورة، تذكر شبكة المعلومات بأنه ترك عند وفاته ما يقرب خمس وعشرين ألف مخطوطة ضمّنها أشعاره وفلسفته وآرائه ومسرحياته وترجماته، فضلاً عن الخرائط التي تصف الشخصيات الأدبية التي خلقها بتوجهاتها الفكرية ووضع عنها إصداراتها المستقلة، والتي وصلت إلى نحو ثمانين شخصية متفرّدة، وهي محفوظة اليوم في (أرشيف بيسوا) في مكتبة لشبونة الوطنية، وله نصب تذكاري وهو جالس خارج مقهى كان يتردد عليه، في العاصمة لشبونة.
وبينما لا يعرض الكتاب صفحة للفهرس، أسرد ما جاء في محتواه متسلسلاً كما يلي، وقد حظي بنجمة واحدة من رصيد أنجمي الخماسي:
- ديمقراطية الطغيان
- خمسة حوارات حول الطغيان
- معاهدة الإنكار
- الحنان اللوزيتاني أو روح العرق
- حوليات الحياة التي تمر
ومن الحوليات التي كان ينشرها بيسوا عندما كان عضواً في (حركة أورفو – جروبو دي أورفو) في البرتغال، وقد كانت حركة أدبية ضمت عدد من المفكرين البرتغاليين البارزين، وتقلّدت مسئولية إدخال البناء الحداثي على الأدب والشعر والفنون من خلال منشوراتهم .. ما جاء في التعصب للرأي الذي يشوّه الحياة خلافاً للتحرر الذي يُضفي عليها الأمن والجمال، وقد كان يكتب بأسلوب استفزازي يستهدف فيه الطبقة البورجوازية .. فأقتبس منه في نص أنيق (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) الآتي:
“ثمة قناعات راسخة، لا يملكها إلا الكائنات المصطنعة! فأولئك الذين لا ينتبهون إلى الأشياء، لا يرونهـا مطلقاً إلا لكيلا يصطدمـوا بها. هـؤلاء نجدهـم دائمـا أصحاب رأي ثابت، إنهـم جميعـاً مـن طينـة واحـدة، ومنسجمين. إنهـم مصنوعـون مـن الخشـب الـذي يستعملونه في السياسة والدين، لذلك يحترقون بشكل سيء أمـام الحقيقة والحياة”. ومع نقده الصريح، يوجه تساؤلاً بمثابة منبّه للاستفاقة: “متـى سـننتبه إلى ذاك المفهـوم الصـائـب، بأن السياسـة والـديـن والحيـاة في المجتمـع ليسـت سـوى الدرجـات الأدنى والعامـة مـن علـم الجـمال، علـم جـمـال أولئك الذيـن غـير مهيئـيـن بعـد لامتلاكه؟ فقـط، حين تتحـرر إنسانية مـا مـن أحـكام الإخلاص المسبقة ومـن الانضبـاط، وحـين تـعـود أحاسيسـها عـلى العيـش باستقلالية، عندهـا يمكـن لـنـا أن نصـل في الحياة، إلى مـا يـشـبه الجمال والأناقـة والطمأنينة”.
لا يخلو الكتاب من الصعوبة، رغم قصره، الأمر الذي يُعزى في الأغلب لفلسفة الشاعر المركّبة في النفس وفي الحياة، وقد جاءت ترجمته متقنة بشكل عام، والتي عني بها المترجم اللبناني (إسكندر حبش)، وهو إضافة إلى شهرته كمترجم، صحفي وشاعر معاصر، حيث تذكر شبكة المعلومات إسهاماته في ترجمة العديد من الأعمال الشعرية والروائية العالمية، إضافة إلى باكورة مؤلفاته الإبداعية التي بدأها عام 1988. كما أن للشاعر على مكتبتي بالإضافة إلى هذا الكتاب مجموعة أخرى، هي: الباب وقصص أخرى / دكان التبغ: وقصائد أخرى / كتاب اللاطمأنينة.
وأختم بفلسفة الشاعر بيسوا عن الإبداع الذي كان يمثّل لديه ثورة ضد التقليد! فلا العباقرة زمرة من المجانين أو المرضى، وإن كانت العبقرية تعني اللاتكيّف .. إنما العبقرية هي التي تُبدع عندما لا تكون راضية.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
نقلاً من المفكّرة: جاء تسلسل الكتاب (15) في قائمة لا تنتهي من الكتب التي خصصتها لهذا العام .. 2022، وقد حصلت عليه من معرض للكتاب في إحدى المدن العربية خلال العام، ضمن (120) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض.
أنشطة شهر أغسطس: استأنفت القراءة بعد انقطاع عدة أشهر لاستكمال مهمة ما .. وكأني تنفست الصعداء من جديد!
تسلسل الكتاب على المدونة: 346
التعليقات