الكتاب
حكايات مسافر
المؤلف
دار النشر
دار المعارف - القاهرة
الطبعة
(4) 1993
عدد الصفحات
124
النوع
ورقي
تاريخ القراءة
11/17/2022
التصنيف
الموضوع
مسافر يفكّر لا يتجوّل وحسب
درجة التقييم

حكايات مسافر

كتاب إبداعي آخر فائق الروعة من إبداعات المفكّر الراحل د. مصطفى محمود وهو يتحدث فيه من خلال مقالات قصيرة عن رحلاته التي طاف فيها مدن أوروبية .. وهو لا يقتصر في حديثه هذا على المعالم الثقافية البارزة في كل مدينة، بل يتوغّل في عمق الذات والإنسان والأرض والعقل والتاريخ والحضارة والموروث، فيعقد بذكاء مقارنة موضوعية بين إنسان تلك الثقافة وإنسان الثقافة الشرقية التي ينتمي لها .. كشاهد من أهلها! كالجنس -على سبيل المثال- الذي يأخذ بتلابيب لبّ الرجل الشرقي إلى حد الهوس بالنظر -لمجرد النظر وحسب- إلى العضو التناسلي .. أي عضو تناسلي كان وإن فضّل الأنثوي .. يحسبه في هذا نصراً مبينا، بينما يترفّع نظيره الغربي عن هذا المطمح الحيواني ويتجرّد عن أية رغائب حسية وهو ينظر إلى ما وراء الألوان والإنحناءات والحركات والتعابير، من خلال فلسفة الجسد التي يعتنقها.

تظهر حكايات المفكّر المسافر في هذا الكتاب على مدار المحطات التالية، وقد حصدت رصيد أنجمي الخماسي كاملاً وبجدارة فائقة:

  • ‎‎الليالي الحمراء في ألمانيا
  • شد الحبل في هامبورج
  • تأملات من روما
  • فلسفة الجسم العاري
  • روايات تتحدث عنها باريس
  • لقطات من لندن
  • الله في لندن
  • التفكير بطريقة جنسية
  • بيروت بلد المتناقضات
  • أيام في طرابلس

ومن تلك الحكايات، أقتبس في نص ممتع بعض ما ورد (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) .. وودت لو دوّنت كل ما ورد ولا أستثني حكاية:

  • يترجّل المفكّر من الطائرة القادمة من ميونخ إلى روما، وكأنه ينحدر عبر سلالم تاريخية من عصر رقمي إلى متحف أثري عتيق وكبير! يصف المشهد في (تأملات من روما) فيقول: وبدأت أتساءل: ما الذى يجعل روما .. هي روما؟ وأجابتني التماثيل في كل شارع وزقاق وميدان! كانت المدينة تبدو كمتحف بدون أسوار وبدون باب .. في كل مكان تجد تمثالاً قديماً ونافورة .. وفي كل شبر تجد خرابة أثرية على بابها عسكري، ولو تصورت أحشاء الهرم الأكبر وأحشاء معابد الأقصر وقد خرجت لتحتل ميادين القاهرة الرئيسية وتتناثر في شوارعها الرئيسية، فهذه هي روما .. إن روما هي حافظة أمينة لتاريخ الفن الروماني، وكل آثار الفن الخالدة في روما أقامتها تبرعات من جميع أرجاء أوروبا بدعوة من البابا .. ومن أجل المسيح! إن الفن والدين سبيكة واحدة هناك”.
  • وهو لا يزال في تأملاته تلك، يتفكّر في التاريخ الذي كشف عن العلاقة الوطيدة بين الصناعة والقوة .. بين الإنتاج والحضارة .. فيستمر قائلاً: “إن الصناعة لها معنى واسع! إنها تعنى الحرية، لأن الآلة تحرر الإنسان وتوفر له ثمن ما يمتلك .. الطاقة والوقت والعمر، وتحرر الشعوب بما تمنحها من القوة .. والنظرية القائلة بأن الصناعة تؤدى إلى مجتمع آلي وإنسان آلي كاذبة من أساسها، لأن الصناعة في الحق تأخذ على عاتقها الواجبات الآلية وتترك للإنسان مجالاته الإبداعية. إن الحضارة تقوم على ساقين: إحداهما الكتب والأخرى المصانع! الكتب تصنع للإنسان الغايات مثل الآداب والعلوم والفنون، وفي المصانع يصنع الإنسان الوسائل إلى هذه الغايات”.
  • يستفّز المفكّر في (فلسفة الجسم العاري) كل سائح شرقي وصل إلى مدينة باريس وهو يعتمر عقلية شرقية تتحين فرصة اقتناص امرأة .. فهو خائب رجائه وهو لم يعرف بعد باريس! فما إعلاناتها وأفلامها ومسارحها وما تعرض من عري سوى فلسفة وتجارة، لا إثارة ولا دعارة .. بل هي في الحقيقة أقرب ما تكون إلى لغة يومية متداولة فقدت معناها الجنسي المباشر وإن لم تزل تحتفظ بطابعها الخارجي. لذا، يصبح الأجدر بهذا الخائب الاحتفاظ بنقوده والعودة أدراجه إلى بلاده، ففيها قطعاً ما يشتهي! ويقول قولاً مطوّلاً: طبيعي جدا أن يتوقف الشرقي الذي جاء من بلاد البراقع والعباءات أمام هذه الوفرة من الأجسام العارية المعروضة في الفاترينات .. وكل شيء في باريس يعرض بلغة الجسم العاري .. إعلانات القمصان، إعلانات العطور، الدعايات السياسية، آخر دواء منوم، حتى طوابع البريد! تصدر لك مصلحة البريد طابعاً عليه رسم عريان. وليست الدوافع السياحية فقط، فالباريسيون أنفسهم في هذا الشهر الشديد البرودة، وهو ليس شهراً سياحياً، يملكون مسارح الستربتيز فى البيجال، ويحتلون الصفوف الأولى يتأملون العروض العارية في اهتمام شديد .. اهتمام ليس منبعه الحرمان الجنسي ولا الفضول الشرقي لرؤية الأعضاء التناسلية، فالاختلاط في باريس هو القاعدة، والعلاقات ميسورة، وإنما منبعه فلسفة باريسية .. فلسفة الجسم العاري، فالجسم العاري هنا لغة فنية مثل الأدب والموسيقى، لها نقاد، وهو أيضاً سلعة لاجتذاب أموال السائح الشرقي. والفرنسيون من رواد البيجال يتابعون العروض بكل برود وهم يدخنون، فليس ما يعرض بالنسبة لهم موضوعاً للإثارة ولكنه موضوع للنقد وأسلوب سريع لنشل جيوبنا .. وما يعرض على المراقص الأخرى بهدف التعبير عن الجنس يعرض بفن يحاولون به إخفاء الإثارة بوضعها في قالب ثقافي! إنها فلسفة الجسم العاري .. اعتياد العين على رؤية الجسم العاري نقل التفكير من موضوع الإثارة الغريزية إلى موضوع التأمل الذهني .. البحت في كل ما يمكن أن يُرى في الجسم العاري من علاقات جمالية بحتة ومعان مجردة وإلى موضوع للتجارة الصرفة وابتزاز المال!. ومع ذلك، فلیست باريس هي ملاهي الستربتيز والخنافس! فبرغم جاذبية هذه الموضوعات للكتابة الصحفية والقراء الشرقيين .. فإن باريس شيء آخر. في باريس أكثر من ثلاثمائة مسرح تعرض أحدث ما وصلت إليه مبتكرات الأذهان من فن رفيع بعيد عن الإغراء، خال من إسفاف التجارة، وفي باريس عشرات المتاحف وعشرات المكتبات العامة تحوي مخطوطات نادرة يسافر إليها الدارسون من كل مكان. في باريس آثارنا الفرعونية معروضة بذوق أجمل مما هي في متحفنا القديم الذى يشبه -من كثرة التكدس في أروقته بلا نظام- صندوق زبالة كبيراً. ونجد في باريس مخطوطات ابن سينا وجابر بن حيان ونفائس غالية من تراثنا العربي لا نجدها في بلادنا .. ونجد في باريس صحفاً جادة تنشر مقالات مطولة مدعمة بالإحصاءات والهوامش والدراسات والتعليقات العميقة والمناقشات الحرة .. صحفاً لها رواج ولها قراء بمئات الآلاف. وإذا كان الباريسي يسكر طيلة ليلة رأس السنة، فهو يعمل بيديه وأسنانه طول العام .. والقبلات المباحة في المترو هي المكافآت التي أحلها الأوروبي لنفسه بعد عمل دائب، مرهق ومخلص في المصنع طول النهار. في باريس أكثر من 6 ملايين ساكن، ولا زحام ولا تعلّق بعربات المترو .. وفي باريس أتوبيسات قديمة «كهنة» ولكنها مازالت تسير بكفاءة نتيجة الإشراف الدائب والصيانة المستمرة .. باريس ليست مدينة دعارة كما يحلو للفرد الشرقي أن يسميها .. باريس كالمرآة سوف تعكس لك ما في نفسك، فإذا لم تر فيها سوى الدعارة فلأنك داعر ليس في رأسك سوى الدعارة، وليس الذنب ذنب باريس وإنما الذنب ذنبك، وأنا رأيت في باريس بيئة خصبة غنية تنشط الذهن على العمل”.
  • وبينما يتطرّق في (لقطات من لندن) عن أفلامها المعروضة آنذاك وهي تذمّ البرجوازية، ومسارحها التي تعرض المشهد السياسي عن طريق ثائر أفريقي يقود حملة ضد الاستعمار البريطاني لبلاده، يتحدث المفكّر ابتداءً عن المسرح الأسبوعي في ركن المتحدثين الذي تشهده ساحات الحديقة الملكية الشهيرة، فيقول: في هايد بارك سمعت هذا الحوار الطريف: الخطيب شاب أسود إفريقي والمستمعون عدة مئات من الإنجليز والبيض من مختلف الجنسيات، والخطيب ينقد بشدة الأوضاع داخل بريطانيا .. رأس المال المتحكم، وتجار السلاح، ونهب الشعوب، وامتصاص دم المستعمرات، في الوقت الذي يرفض فيه أي صاحب عمل تشغيل السود ويفضل عاملاً أبيض سكرتيراً مدمن مخدرات مصاباً بالشذوذ الجنسي لمجرد أنه أبيض! ويرد عليه خنفس من الواقفين شعره ناعم ومسترسل حتى كتفيه: إذا كانت لا تعجبك بلادنا فلماذا لا تعطينا عرض أكتافك وتحل عنا وتعود إلى بلاد القرود التي تعيش فيها؟ أراهن أن لك ذيلاً تخفيه تحت هذه العباءة الخضراء الفضفاضة التي تلبسها «ضحك» .. أنا لي ذيل فعلاً ولكن ليس من الخلف، وبالمناسبة يا سيدى أو سيدتي .. في الواقع أنا في حيرة، هل أنت رجل أو امرأة .. «ضحك وتصفيق» .. ويرد الخنفس في هدوء: أنا أناقشك على مستوى سياسي أرجو ألا تخرج عن الموضوع! لقد طرحت عليك سؤالاً محدداً فلم تجبني! إذا كنا لا نعجبك فلماذا لا تغور في داهية عليه وتريحنا؟ أنا مستعد أن أغوار في داهية وأعود إلى بلادي إذا غار في داهية اثنان ونصف مليون إنجليزي متشرد هلفوت يعملون في قارتي إفريقيا .. دخلوها بدون دعوة وبدون استئذان .. دخلوها قفراً من النوافذ! دخلوها ليعلموك ويمدنوك! علموني الوصايا العشر وقالوا لي: لا تسرق .. لا تسرق السيجارة .. ورأيتهم يسرقون حقول التبغ كلها وحقول الشاي والقمح والقطن ومناجم الذهب والحديد، ويسرقون أولادي ويبيعونهم في أسواق النخاسة .. لا تقتل جارك ورأيتهم يقتلون بدل الجار مليون جار بالقنابل الذرية .. لا تزن مع امرأة ورأيتهم يزنون مع الرجل .. لا تنس أننا دخلنا إفريقيا لنجدكم عراة برابرة بدائيين آكلي لحم البشر! إنه لأمر مؤسف يا سيدي أننا أقلعنا عن أكل لحم البشر، فالواقع أني أرى أنك أكلة شهية جداً .. دجاجة لذيذة تغرى بالقضم «ضحك وتهريج» .. ويرد الخنفس في هدوء : ألم يكن من الأولى أن تأخذ أمك العزيزة أقراصا لمنع الحمل حتى لا تلد خنازير وغوريلات مثلك؟ يبدو أن الكثيرات من الإنجليزيات الجميلات من أهل بلدك لهن وجهة نظر أخرى! فهن يفضلن صحبة الخنازير والغوريلات أمثالنا! رد علي رداً سياسياً .. قل لي ماذا يحدث لو أن الرجل الأبيض حمل ما بنى لكم من مدارس ومصانع ومستشفيات وعاد إلى بريطانيا؟ وماذا يحدث لبريطانيا لو حملتم أنتم اختراعاتكم ومبتكراتكم وعدتم بها إلى الغابة؟ يا سيدي، الرجل الأسود صفر .. وهو غير موجود في بلادنا ووجوده مثل عدمه، أما نحن فإذا هجرنا بلادكم فإنها سوف تتحول إلى خراب لأننا نحن الحضارة .. الحضارة بدأت من إفريقيا .. من مصر .. إذا كنت قرأت التاريخ .. وهى سوف تعود إلى إفريقيا .. الحضارة تنتقل حيث يحلو لها، وحيث يوجد من يعمل لها ويسهر من أجلها ويعرق من أجلها، وليس حيث تسهرون أنتم في البارات وفى صالونات الحلاقة تحت السشوارات .. «ضحك من البنات» .. وبين الجمهور عشرات من البنات سن ستاشر يتابعن ويتحمسن ويشتركن في المناقشات”.

ختاماً أقول: وكأنه كتاب يصل الشرق بالغرب بخيوط تتنافر لا تتشابك .. وكأنه كتاب كُتب اليوم لا بالأمس بقلم كاتب عبقري لا يتكرر!
إنه كاتب وإن كان يعرض الفكرة فيثير حفيظة قوم ما، ويحشر بها طرفة فيثر تهكّم آخرين .. فليس ذلك للاستفزاز السلبي ولا لمجرد إثارة الضحك، إنما ذلك للعمل بعد للتبصّر!.

رحم الله د. مصطفى محمود

 

= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =

من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (39) في قائمة احتوت (70) كتاب قرأتهم في عام 2022، وهو الكتاب رقم (15) ضمن (23) كتاب قرأتهم في شهر نوفمبر .. وهو كتاب كنت قد اقتنيته وأنا في بواكير العشرين ضمن مجموعة كبيرة من إصدارات المؤلف قرأتهم جميعاً آنذاك، والتي جاءت جميعها في طبعة منسوخة بالآلة الكاتبة على أوراق صفراء وقد ازدادت اصفراراً حتى اللحظة .. وها أنا أعود لقراءته من جديد كعادتي بين الحين والآخر في قراءة قديم الكتب واسترجاع شيء من ماضي الفكر! ولا زلت بعد مرور الأعوام أقرّ، بأن الفكر الحر كأصالة الذهب .. ولا يزال د. مصطفى محمود المفكّر الغائب-الحاضر .. بأصالة فكره وصدق منهجه وإخلاصه لما يعتنق.

تستحضر ذاكرتي أجواء قراءتي الأولى للكتاب ضمن مجموعة تتألف من خمس وثلاثين كتاب رافقتني في إجازة امتدت لشهر. لقد كنت فرحة وأنا أدفع أجرة صاحب المكتبة الذي كان فرحاً بدوره حين ودعّني شاكراً قائلاً: “مكتبتك عمو”. أما المكتبة وصاحبها والسوق .. فلم يعد لهم الآن أي أثر!

من فعاليات الشهر: لا شيء سوى مصارعة الوقت لقراءة المزيد من الكتب وتعويض ما فات خلال العام .. وقد أجّلت عمل الأمس إلى اليوم كثيراً والذي أصبح فائتاً كذلك! وهو الشهر الذي خصصت معظمه في إعادة قراءة عدد من كتب قرأتها سابقاً، إضافة إلى ما خفّ منها.

تسلسل الكتاب على المدونة: 370

 

تاريخ النشر: نوفمبر 17, 2022

عدد القراءات:1153 قراءة

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *