في عتمة تلك الحفرة، وبين ظلال أحرف وأسطر وصفحات، يجاهد القارئ غياهب الظلمات كما عاشها أبطالها مضاعفة مع ظلم سجّانيهم! تأتي اشراقة الروح التي رافقت الراوي من لدن العناية الإلهية لتُبهر ظلمات ثمانية عشرة عام قضاها خلف القضبان، بل وتُبهر ظالميه عقب إطلاق سراحه والذي ما كان له أن يكون لولا المطالبات الحقوقية. كان للقارئ نصيبه، كجرعة روحانية أبقت عليه حتى يطوي آخر صفحة معتمة، لرواية قُبرت أركان مسرحها بأمر السلطان، ليعيش راويها يحكي الإبهار الذي غلب!.
يُبدع (الطاهر بن جلّون) أيما إبداع في ترجمة قدر (عزيز بنبين) مع سجن تزمامارت، في رواية أُهديت له تقع ضمن تسع وثلاثين جزء .. لا يحمل أيها عنوان، لكنها قد تُطلق لقارئها العنان في تسميتها إن أسعفته الكلمات .. استنزفت رصيد أنجمي الخماسي ولم تُبق!.
بينما تروي الرواية في متفرقات كواليس الأحداث التي أودت بحياة أبطالها في حفائر تزمامارت الواقعة في صحراء شرق المغرب، تضج شبكة المعلومات الإلكترونية بالمواد المسموعة والمقروءة عن انقلاب فاشل استهدف ملك المغرب الحسن الثاني في سبعينيات القرن الماضي، وفي قُعر قصر الصخيرات الملكي حيث كان يحتفل مع عدد من الأعيان والضباط ومشاهير محليين وعالميين بعيد ميلاده الثاني والأربعين! قاده جنرالات من مدرسة هرمومو العسكرية خططوا له مسبقاً، وحشدوا له صفوف من الضباط المعاونين لم يكن أغلبهم على دراية به!. تحمل تلك الوثائقيات أيضاً شهادات دامية لضحايا الانقلاب أنفسهم، من بينهم راوي هذه الرواية بنبين وكاتبها بنجلّون .. وقد جاءت روايته باللغة الفرنسية (Cette aveuglante absence de lumière – By: Tahar Ben Jelloun) في نسختها الأصلية.
وفي مفارقة! تُعيب بعض الأقلام “فرنكفونية” الكاتب .. الفرنسي الهوية والمغربي الأصل، غير أن بنبين وهو يروي روايته يكاد يحسد ذاك الذي حاول اغتيال الرئيس الفرنسي شارل ديغول قبل نظيره المغربي بعقد من الزمان، حيث أُعدم بالرصاص وحسب! فهل يُلام الكاتب -على الأقل- عند حد هذه المفارقة؟!
وفي مفارقة تتلبّسها نفس الروح، تأتي كريستين الناشطة الحقوقية -والتي قد يوصمها أولئك الطغاة ووعاظ سلاطينهم وبقية القطيع بـ (الكافرة)، فضلاً عن كونها امرأة- لتنشط نشاط غير اعتيادي كعادتها، لا تألو جهداً ولا تفتر حماسة لفضح حقيقة السجن ومن ثم إطلاق سراح معتقليه، من خلال الاتصال الحثيث بمنظمة العفو الدولية، وبصحفيين متنفذين، وتأليب الرأي العام العالمي.
يتألم قلمي لآلام أضلاعي التي احتوت وجع عقدين من الزمان في سويعات من القراءة، كانت من السواد لترجئ كتابة هذه الأسطر حتى ينقشع عن ذهني ضباب حالك خانق .. قلّما عصف به:
السجن والسجناء:
- عقب الانقلاب المشؤوم في 10 تموز من عام 1971، حُشر المنقلبون إلى حتفهم الأخير في تزمامارت!. وبينما أودع الضباط من ذوي الرتب العالية جناح (أ)، أودع معاونيهم المغدورون جناح (ب) وكانوا ثلاث وعشرون سجيناً عندما دخلوه، وخمسة فقط عندما خرجوا منه في حزيران عام 1991 والذي لم يكن مقدّراً لهم في الأساس .. فيموت أحدهم ليكون الصافي أربعة أحياء فقط!. هل كانوا أحياءً بالفعل؟
- لم يستطع الراوي فك شفرة منقوع الماء الفاتر بالمادة النشوية الحمراء الذي كان يُقدم يومياً كقهوة الصباح! أكان بول بعير ممزوج ببول رئيس المعسكر؟ أم أنه محلول حقنة شرجية لا يلبث حتى يتحول إلى قيء؟ ومراعاة لعدد السعرات الحرارية، فقد كان (الدايت) يحوي قرص خبز أبيض مصنوع من الأسمنت الأصم، يُقدم أسبوعياً، لا سبيل لمضغه دون صلصة نشويات مطبوخة بشحم جمل لا تؤكل إلا بسد المنخر! كان هذا النظام الغذائي ثابتاً طوال ثمانية عشر عام، أي ما يعادل ستة آلاف وستمائة وثلاث وستون يوم.
رفقة أخرى:
- العقرب غدّار لكنه ليس بالذكي .. يتشبث دائماً بالحجارة لكنه إذا وقع لدغ! هكذا حذّر واكرين الخبير رفاقه، وقد حلّ الصيف وحلّ معه موسم نشاط العقارب، علاوة على الظلام الدامس الذي كان يلفهم أجمعين حيث لا مفر من انتشارها بينهم. كان من جملة النصائح عدم النوم لفترة، حتى يتم تعيين أماكنها في حفرهم، غير أن إحداها فتكت بلحسين بعد أن غفى، فبات يهذي وقد ارتفعت حرارته، ما دفع واكرين التوسل للحراس والسماح له بإنقاذه عن طريق شفط وبصق السم من جسده.
- اليمامة (حرية)! كانت رفيقة المساجين تقاسمهم الطعام والنوم والهموم .. ألفتهم فلم تبد امتعاضاً ولا رغبة في الرحيل، حتى أجمعوا على إطلاق سراحها، محمّلينها رسائل للوالدين والأقربين والجوامع والمقابر وقصر الصخيرات ومنظمة العفو الدولية.
- العصفور (ثيبيبط)! كان راداره الفطري يخبر السجناء بالأحوال الجوية وبتحركات الحرّاس الذين فاجئهم الراوي بخبر ما عنده حتى ظنوا أن الجن يحدثه. كان غرّيداً أصهب الريش، اعتاد أن يتبادل التغريد مع حديث الراوي من خلال كوة، يُطعمه فيها فتات الخبز بالماء. وقد أوصاه ألا يقطع عليه صلاته، فكان يمكث حتى يسمع التسليمتين ثم يشرع بحديثه الغرّيد.
- الكلب (كيف كيف)! زاحم السجناء في تهمة مبهمة قضت بحبسه خمس سنوات! أ عضّ أحد قادة الثكنة المجاورة؟ أصيب الكلب بداء الكلب من بأس الحبس والجوع والعطش، فأستمر في نباحه حتى همد وخمد ونفق، فتعفنت جيفته داخل زنزانته العامرة بفضلاته التي كان يلقيها حيث شاء.
- طيور الخبل الليلية .. الناعقة الحائمة، لم يكن لها مغزى سوى نذير الموت، حتى أصبح السجناء يخبرون الحراس باقتراب موت أحدهم، لاتخاذ ما يلزم من تجهيز الكفن البلاستيكي والكلس الحار وحفر القبر.
الموت:
- يخجل الراوي من غبطة تلبّسته بعد وفاة رفيقهم حميد، حيث فرصة رؤية الشمس أثناء دفنه، في حين لم يتوان إدريس من التعبير عنها. كان الدفن أمل مشترك بين رفقاء السجن، لا تجرؤ كلماتهم أن تحكيه، لكنه كان يعتمل في الصدور.
- حضر إدريس الموت! لقد زُج به بين المعتقلين حتى يموت تحت الأرض، رغم تقلصات عظامه وعضلاته التي كان لها أن تتمدد في المستشفى العسكري. رقّ كعصفور منتوف الريش وانطوت ساقاه على صدره، فبدأ الراوي يحشر لقيمات الطعام في فمه بعد أن يمضغها له، ويسقيه الماء حتى يتجرعها، غير أنه كان يختنق أحياناً فيتدحرج على الأرض منحنياً على فخذيه حتى يسلك الماء المريء. لم يكن ينام إلا مقرفصاً، حتى نحتت ركبتيه تجويفاً في قفصه الصدري، وتشابكت مفاصله بأضلاعه فاستحال فردها عندما حانت مراسم الدفن .. حينها بدى ككومة عظام وقد “فقد كل صفة بشرية”.
- يعترف المبتلون بأن (الحب بلاء والعشق سم قاتل). لكن! هل لسيجارة أن تودي بحياة عاشقها؟ فعلت هذا بلعربي بعد أن أصابه الجنون! كان أشبه بمن يمضغ السجائر لا يدخنها، وحين تيّقن ألا سبيل لها وقد عرض ما عرضه على حارسه من حرمة جسده، أضرب عن الطعام الذي أودى به بعد شهر، وقد أصابه هذيان تراءى فيه الموت فودع رفاقه. بدى عند دفنه محتقن العينين بارز عظام الوجه والجسد، تختلط فضلاته بالقيء في زنزانته .. ومن الحب ما قتل!
- يموت ماجد ضحية أخرى للسيجارة بعد أن نضب النيكوتين من جسده، وقد كان شرهاً للسجائر الأمريكية. بعد أن يدخل في جو من الهلوسة يرى فيها من يرى أنه مرسل له من العناية الإلهية، فيتحدث عن الأحياء من الأموات ويترقّب ملاقاتهم حيث متعة التدخين الأبدي. يصمت ماجد .. وبعد أيام، وبعد أن أطبق الليل ستاره، يسمع الراوي جلبة وارتطام ناحية زنزانته، ليُصبح ماجد عارياً قد لفّ كل ما أوتي من ملابس حول عنقه، في أول حادثة للانتحار شنقاً داخل حفائر تزمامارت!
- يعقب الموت (انتحاراً) والموت (عشقاً) .. الموت (إمساكاً)! لم يجد بوراس خفيف الظل بد من استعمال العلاج الذي قدّمه له لحسين الماهر في الأعمال الخشبية، بعد أن استهزأ الحرس من داء الإمساك الإسمنتي الذي ادّعاه. كانت مجرد ملعقة خشبية لتسليك القناة وقد أوصى لحسين أن تتم بحذر، غير أن بوراس تسبب لنفسه بجرح قاتل ختمه بصرخة مدوية! لم يكن لأحد أن يتصور بوراس الرجل الضخم الصنديد وقد أصبح غارقاً في بركة من دمائه وفضلاته التي لم يعد لها كابح بعد أن فارقت روحه جسده، وما كان يحتاجه ليس سوى علاج بسيط.
- يردد الليل البهيم صرخات مصطفى إثر لدغة عقرب يستيقظ لها كل الرفاق، فيطلب منه واكرين -وقد احترف منذ طفولته مص السم من أجساد الملدوغين- الصبر، حتى يسعفه في الصباح عندما يفتح الحراس الزنازين المغلقة. يُطفئ الظلام صرخته الأخيرة، ليشهد الصباح اجتماع حشد العقارب على جسده المسجّى. دُفن مصطفى في حفرة قفز إليها موح قبل دلق دلو الكلس الحارق فوق جثته، متمنياً الموت، غير أنه تم انتشاله. كان موح قبل ذلك بدقائق معدودة قد التقط حفنة عشب من سبخة، وابتلعها خلسة، فهرع الحارس المدجج بالسلاح نحوه آمراً أن يعيد ما أكله وإلا …!
- يموت موح بعد أن يستغرق وقتاً طويلاً يراه يصنع لأمه أطباق الطعام الشهية -وكان طباخاً ماهراً- ويطعهما رغم المرض والحمية. لقد كان يثير جو من التسلية لرفاقه المستمعون، حتى يخفت ذلك الصوت شيئاً فشيئاً بعد أن قرر التوقف عن الطعام .. وعن إطعام أمه.
- يعد الراوي عبدالقادر بالعودة إلى سرد القصص بعد أن بحّ صوته وفقد أسناناً أُخر. كان عبدالقادر رغم تواضع تعليمه توّاقاً للمعرفة، لا سيما أنه اعتاد سماع قصص الراوي بحيث لم يكن يتوقع لحياته في السجن استمراراً دونها. مرض الراوي واستغرق مرضه أياماً ليفيق ويسأل ابتداءً عن عبدالقادر، فيعلم أنه مات البارحة بعد أن تقيأ الدماء، وقد غلب الظن أنه كان انتحاراً. لم يُصل عليه ولم يُكفّن، بل رُمي في حفرة غُطيت بالكلس الحارق.
- يكتفي عبدالكريم بأكل الخبز يابساً بعد تطريته بالماء، وقد عكف يجمعه في جراب له، ثم ما لبث أن لزم الصمت بعد أن كان نشطاً في حوارات السجناء الدائرة. في صباح اليوم الذي تلى محاولة هربه، عُثر عليه ميتاً جراء آلام مبرحة أصابته. ورث الراوي حاجيات عبدالكريم من ضمنها الجراب .. مخزن الخبز اليابس، وكان صادماً حين عثر بداخله على صراصير وبيوضها أكثر من كسرات الخبز. لقد ظن عبدالكريم أنه كان يأكل فتات الخبز، وما علم أنه مات مسموماً.
- يموت لحسين كمداً وهو يذود عن شرفه، بعد أن قضى ليلة والراوي يتراشقان التهم في الأعراض! حسابياً لا يمكن أن يُنسب (مبروك) لبنوّته وقد تأخرت ولادته عن آخر لقاء له مع زوجته! بهذا استفز الراوي لحسين الذي دافع عن طُهر زوجته (مبروكة) بكل ما أوتي من سلاطة القول. أجهزت قاذفات الراوي على لحسين فبات يتعتع طوال أشهر منادياً زوجته، وحين مات محموماً بين أحضان الراوي لما جاءه معتذراً -وقد فات الأوان- تمتم له بصحة تهمه، إذ ما كان للطفل أن يكون من صلبه!.
- يموت صبّان بعد أن انتشرت غرغرينا ذراعه إلى جسده، فنزحت أفواج الصراصير والحشرات من زنازين السجناء لتستقر في زنزانته، تحديداً على جسده تلتهمه! حينها، كان البوم أو طير الخبل توقف عن نعيقه بعد خمسة عشر يوما، وهي علامة استدل بها السجناء بانقضاء أجل أحدهم.
- حان الوقت أخيراً لكي يتوقف بندول الساعة إلى الأبد! كريم الذي أوتي دقة حادة في حساب مواقيت الشهر واليوم والساعة، والذي لولاه لفقد السجناء إحساسهم بالزمان. مات في صمت بعد أن فقد شهيته للطعام وساء حاله.
- يموت عبدالله من الإسهال المستمر، ويموت فلّاح من احتباس البول وهو لا يزال يحيل ما أصابه لأعمال خديجة السحرية. وبينما رافقت رائحة القيح وحداء الطير موت الأول -وقد نبّه السجناء الحراس لتفتيش الزنازين حيث أن أحدهم قد مات- لم يرافق موت الثاني في ليلته أي صوت مشؤوم!.
- يوصي الأستاذ غربي الراوي بتكفينه والصلاة عليه والحيلولة دون سكب الكلس على جثمانه حتى يلقى الله نظيفاً، بعد أن أحس بأن آلام صدره الثقيلة ستكون القاضية، وقد كان شيخ الحفائر يتلوا عليهم القرآن طويلاً. بعد الدفن واختلاط دموع السجناء بدموع بعض الحراس، يفاجئ السجناء حين يلتفتون على تلك الناحية بسبع حفر فاغرة أفواهها تنتظر جثث أصحابها، وقد كانوا هم بالعدد سبعة باقيين!.
تأملات:
- فنطس وحميدوش! كانا الأسوأ ضمن طاقم الحرّاس الثمانية. لم يكن يحلو لفنطس الطويل النحيل ذهبي السنون النطق دون البصق والشتم. كان السجناء يتجنبونه لفُحشه، وقد كان يوشي بالحراس الأقل فُحشاً عند القادة، بتهمة التعاطف مع “الكلاب والخونة” قاصداً السجناء. غاب فنطس ليعود بعد شهرين طالباً المغفرة منهم أجمعين، فقد كان مشبعاً بالكراهية، يبصق في طعامهم بعد أن يخلطه بالتراب، متمنياً لهم موتاً بطيئاً! وقد عاقبه الرب بأن فقد ابنيه فوراً إثر حادث سير. كان يطلب غفرانهم عوناً له في الرحيل، وقد مات بعد شهر من اضرابه عن الطعام. يرى كل هذا حميدوش فيتّعض، ويهرع لهم طالباً العفو.
- يلعن رئيس الحرس القدر الذي رماه هنا، حين تناهى إلى القادة خبر خروج المسجونين لدفن رفقائهم في الفضاء القريب، فكاد أن يُسجن بسببهم. لذا، يحرّم عليهم الخروج ما داموا أحياء مذكّراً إياهم بأنهم: “محكومون بالعيش في ظلمات مؤبدة”، وقد طفق يتضرع إلى الله متسائلاً عن الذنب الذي أرداه في جحيم أولئك المساجين وهو الملتزم بصلاة وصيام وزكاة؟
- يغرق الراوي في بحر من المرّة .. يملئ جسده من رأسه حتى أخمص قدميه، بعد أن أصاب مرارته الجنون. تستغرق مهمة رفع أصبع واحد إلى حلقه -والتي كانت تبدو كلعبة أطفال- ساعات، حتى يتفجر الينبوع ويفيض ليغطي أرضية زنزانته بعبق من زنخ. يستغرق بعدها في صلواته، ويسأل الله أن يزيل الحقد من جوفه ضد أياً كان .. ذلك السم الزعاف!.
- في مقارنة جارحة تتكرر، تكرّس أم الراوي -ما أحياها الله- حياتها فداء لأبنائها، مقابل نكران الأب زير النساء المهندم على الدوام، الذي ما طفق يركع للرئيس وقد تبرأ من فعل ابنه، وكان عنده النديم والقاص والعبقري ومن المقربين!.
- كان الحجر الأسود دليل الراوي في رحلة النور وسط العتمات! رأى فوقه بصمة أكف إبراهيم يجمع العالم، ورأى روحه شفافة تحلق حوله وتطوف بالكعبة مع جمع المصلين من حيث لا يروه. كيف لحجر مقدس على بعد آلاف الكيلومترات أن يرسل شعاعه ليطرق نافذة الراوي المقابلة لذلك الليل البهيم في عمق الحفائر، فإذا به يبصر الشروق؟!.
- حظي الراوي دون غيره برؤى من نور خاطب فيها الأنبياء الثلاث! أما موسى فكان يسمعه ولا يحاوره، وقد طغى الجانب السياسي عل حديثه. وعيسى كان صامتاً كموسى، يبسط له ذراعيه ويملأ عينيه الحزن. أما محمد فقد كان يكسو وجهه النور فلا يراه، لكنه كان يسمع صوتاً عميقاً قصياً يعبق بالحكمة ويوصي بالصبر الذي سيعقبه الظفر، وأن الله لمع الصابرين.
جلود إنسانية:
من الآلام ما تحدها خطوط حمراء دموية فلا تُروى .. وبالكاد يتجرأ قلمي، فيكتب:
- يعصف البرد بأركان جسده، لكن تغدو الآلام في مركز الجسد أكثرها حاجة للدفء في حين لا تُسعفه يداه، فيأمل بقطعة من قماش يصنع منها ضمادة خاصة، ويحصل عليها تسريباً من أحد الرفاق بعد جهد جهيد.
- مقابل رشفة .. رشفة واحدة من فم سيجارة -وقد أخذت به كل مأخذ- يعرض على السجّان ارتكاب الفاحشة به!!.. يقدم “×××” هبةً له، ويسمح له بعد ذلك إطلاق الرصاص في موضع الهبة حتى يلتحق بسرعة الصاروخ بركب المدمنين في الجحيم!.
- يعبث اثنان من التلامذة البحريين في أرجاء القصر الملكي أثناء اقتحامه، غير أن عبثهما طال إحدى غرف نوم الملك الخاصة، إذ أمسك بهما قائدهما متلبسين وقد فرّجا عن ساقي إحداهن ودس أوقحهما فوهة البندقية في القلب، صائحاً محتقنة عيناه: “هنا حيث يدس الآخر عضوه، أدس بندقيتي”.
- يجمح الهذيان بأحلامه، فيرى أمه وقد حضّر لها من أصناف الطعام ما لذّ وطاب. تهمّ بإطعامه، فيرفض ويطالب بثديها بديلاً ليرضع منه، حيث يستلقي هناك فوق صدرها وهي تداعب شعره الذي فقده.
- يمزج الحراس مادة برومور أو عقار مشابه في مشروبهم الصباحي، كفيل بعمل الارتخاء المطلوب! أما أيام عملهم في أكاديمية هرمومو، فقد كانوا يقطعونها في لهو جنسي أشبه بالحيواني، فقد كان يُسمح لهم بما أسموه ضمناً “مأذونية مضاجعة” يفرّغون في بيوت المومسات مخزون كبتهم، في سرعة البرق، مغادرين يعلوهم الخجل.
ومن العتمة، أقتبس قطرات من ألم ودم في نص دامس (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:
- عن الموت البطيء: “كأن علينا أن ننطفئ كشمعة مضاءة بعيداً منا وتذوب بعذوبة الرغد. غالباً ما كنت أتخيل تلك الشمعة المصنوعة لا من شمع، بل من مادة مجهولة توهم بالشعلة الخالدة، ستارة رمزية على بقائنا”.
- عن البلسم: “كما كان يفعل بعض من عُذّبوا إذ يغادرون أجسادهم بمقدار فائق من التركيز ما يتيح لهم ألا يشعروا بالألم. كانوا يتركون أجسادهم لجلاديهم ويمضون في نسيان كل شيء، منصرفين إلى صلاة أو تأمل لدُني”.
- عن تجربة الخروج من الجسد: “فلشدة ما تألمت، ولشدة ما تعذبت، تمكنت شيئا فشيئا من الانفصال عن جسدي، ووجدتني أكافح العقارب في تلك الحفرة. كنت محلقاً على الضفة الأخرى من الليل. ولكن قبل أن أبلغ ما بلغت، كان عليّ أن أسير لقرون من الزمن في ليل النفق الذي لا ينتهي”.
- عن التعايش: “فقد اعتبرت نفسي كمن أُعيد الى عصر الكهوف فانبغى عليه أن يعاود اختراع كل شيء بأدوات أقل من قليلة”.
- عن الحنين: “التذكر هو الموت! لقد استغرقني بعض الوقت كيما أُدرك أن التذكر هو العدو. فمن يستدعِ ذكرياته يمت تواً بعدها، كأنه يبتلع قرص السم. ولكن، كيف كان لنا أن نعرف أن الحنين في ذلك المكان يؤدي إلى الموت؟”.
- عن الشعرة بين العقل والجنون: “أما هنا فالمجنون والعاقل فيَّ يخوضان نزاعاً مريراً: من منهما سيحملني إلى أبعد ما أستطيع؟!. وكن أراقب، مبتسماً، مطمئناً، هذا التجاذب بين الطرفين”.
- عن السلام الداخلي: “كان الصمت درباً، سبيلاً أسلكه لكي أرجع إلى ذاتي. كنتُ الصمت .. تنفسي وخفق قلبي صارا صمتا .. عريي الداخلي كان سري”.
- عن شح الأخلاق وانعكاسه: “البخيل هو من يتمسّك بكل شيء: المال، الوقت، المشاعر، الانفعالات. لا يعطي شيئاً، لذلك لا يستطيع أن يمنح امرأته البذر الذي منه الحياة”.
- عن صاحب متجر الكتب في فاس: “كان رجُلاً متقدماً في السن، حسير النظرِ، لا يكف عن القول إنه يبيع الكتب حباً بالنساء لأنهن أفضل زبائنه!، يعرف أذواقهن وماذا يفضلن!، ومثل طبيب أو عطار، يُشير عليهن بالقراءات التي تلائم أهواءهن. كان دكانه يضيق بآلاف الكتب المكدسة بفوضى لا يعرف أحد سواه ترتيبها. وكان يحتفظ لي دائماً بالروايات الفرنسية الكلاسيكية وبدواوين الشعر العربي”.
- عن الأم ومعاني الأصالة والإباء والعزة والشكيمة: “كنت أعلم أن أمي لا تتراجع عن قرار اتخذته. فعندما طردت أبي من البيت، رامية متاعه إلى الشارع، حاول مراراً وتكراراً أن يتملَّقها بالمراسيل وباقات الورد والحرائر، من دون جدوى. إذ جعلته خارج حياتها وخارج بيتها. كان عنادها ذاك مثيراً للإعجاب، ويبدو أنها ورثته بدورها عن أمها التي كانت تُلقَّبُ بـ “الجنرالة”. امرأة ذات شخصية طاغية، شديدة القسوة مع الرجال، بالغة الرقة مع أولادها، مدركة حقيقة الأمور، ترى العالم من دون أوهامه. وكانت أمي تعتبرها مثالاً”.
- عن الجزاء الأخروي .. ليس دائماً مقابل العمل الصالح الدنيوي: “ويقيناً: أنه مهما بلغ إيمان الرفاق الذين قضوا ألماً وحزناً، فإنهم يستحقون الجنة. كانوا يتعرضون لانتقام مفرط في قسوته. حتى لو اقترفوا ذنوباً، حتى لو أساؤوا التصرف، فما قاسوه في تلك الحفرة تحت الأرض، كان أبشع أشكال البربرية”.
- عن شيء من التجلي: “وكنتُ في ذلك أستعيد سيرة المتصوفة المسلمين الذين ينعزلون ويتخلون عن كل شيء حباً بالله ليس له نهاية. بعضهم وقد اعتاد الألم، يُدجِّن الألمَ ويجعله حليفاً. فيحمله الألم إلى ربِّه حتى يفنى به ويغيب عن رشده. هكذا تسهمُ صميمية الشقاء في أن تشرّع أختام قلبه على آخرها. أما أنا، فكانت تفتح لي بين الفينة والفينة، بعض أبواب السماء”.
- عن حالة التخلي: “كنتُ أؤدي تلك الفروض المنزهة عن المنفعة بالمطلق على الضد من أولاءِ الذين يقيمون مع الله وأنبيائه قيوداً حسابية مدروسة. فالإيمان بالله، وحمده على رحمته، والإقامة على ذكره، وتمجيد روحانيته، كل هذه كانت بالنسبة إلي ضرورة طبيعية لا أرجو في مقابلها شيئاً، أي شيء على الإطلاق. كنتُ قد بلغت حالاً من التخلي والزهد اللدُني الذي يمدّني بعزاء لا يستهان به. أصبحت شخصاً آخر!. أنا الذي آمنتُ في السابق بأن الكائن لا يتبدل، كنتُ في مواجهة أنا آخر منعتق من كل قيود الحياة المصطنعة، لا حاجة له إلى شيء، غير طامع بأي رأفة. كنتُ عارياً، وكان ذاك فوزي”.
- عن اكتشاف الروح: “أدركتُ أنه ينبغي أن أتمالك نفسي، أن أسلك مجدداً درب الفكر السامي الذي لا ينتهي، أن أبتهل للروح الأكثر غموضاً، الأكثر خفاء التي لابد من أنها مقيمة في كون أمتلك مفاتيحه وعلاماته”.
- عن نعيم الموت والخلود الترابي بعد رحيل شيخهم .. رفيق الحفرة: “صوته الجهوري المشرق ما زالت أصداؤه تترددُ في رأسي. لم يكن يخشى الموت ولم يَثُر يوماً على الظروف التي نحيا فيها. كان دائماً يقول إنه في حال “عبودية خالصة لله”، وإنه موجود ليصلي لا ليُدين البشر. وقال لي ذات يوم، إن الإنسان له رفعة أكبر وهو ميت منه وهو حي، لأنه إذ يعود إلى التراب يمسي تراباً، وما من شيء أكثر رفعة من التراب الذي يوارينا ويُغمض أعيننا ويُزهر في خلود بهيّ”.
- عن الإيمان بالله في ذروة الابتلاء: “لستُ لغير الله. هو وحده من ستلاقيه روحي فيقاضيها. إن قسوة أولاء الجنود ما عادت تعنيني. وازداد إيماني بالله العلي العظيم، الرحمن، الأكبر، الرحيم، الذي يعلم ما على الأرض وما في السماء، والعليم بما في القلوب وبمصائر النفوس”.
في عجالة .. وعلى سبيل النقد الأدبي، فإن هذا الكتاب العُضال:
- سليم اللغة واضح المفردات في العموم، رغم ما يشوبه من ألفاظ غريبة وتركيبات لغوية غير مألوفة، قد تعود إلى الترجمة. على سبيل المثال: بضربات معزقة / بنظرات أسغة / نقاط اعتلام / يقتعدون ظل شجرة / ألطف جُلجلتي / أن تُعتلم تحركاتهم / ممسحة جنفاص / والبلغات من فاس / لكي نعتلم المكان / اللاسكرة الصغيرة / تزجية الوقت / كان القمندار مجايلاً لأوفقير / أروحة قلم / من نوع المحدلة.
- حسن الترجمة في العموم، باستثناء ما سبق!.
- متناغم الإيقاع في سرد الأحداث والتفنن في صوغ التشبيهات البلاغية والصور البيانية، على طول الكتاب.
- مثير جداً في أسلوبه الأدبي لعاطفة القارئ، مضافاً إلى طبيعة أدب السجون وما يكتنفها من قسوة.
- خصب الخيال في إيراد الكثير من الأمثلة الحية لتوضيح فكرته.
- لافت العنوان .. يُقرأ الكتاب من خلاله، تعلوه صورة غلاف داكنة تُترجمه.
- يعلو غلاف الكتاب كلمة (رواية) رغم أن مادته تعرض (سيرة ذاتية) تُصنف تحت (أدب السجون).
لقد كانت أجواء ضبابية رغم صباح أيلول المشرق الذي عاكس شرفتي .. حيث انزوي كلما استفردت بكتاب! غير أن هذا الكتاب قد استفرد بي .. وأخذ مني مأخذا!
وإن كان أمير الشعراء يجعل كلنا في الهم شرق
تأتي هذه العتمة لتجعل من كل بلاد العُرب غرب
وأصعب غربة عن الوطن
ما كان في داخل الوطن
وبلاد العرب أوطاني!
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (75) في قائمة احتوت على (105) كتاب قرأتهم عام 2020 تتضمن تسعة كتب لم أتم قراءتها، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان (100) كتاب فقط! وهو أول ما قرأت في شهر سبتمبر من بين ستة كتب! وقد حصلت عليه من متجر جملون الإلكتروني للكتب في يوليو من نفس العام، ضمن (50) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة!.
لقد كان 2020 عام الوباء الذي جاء من أعراضه الجانبية (ملازمة الدار وقراءة أكثر من مائة كتاب)! لم يكن عاماً عادياً وحسب .. بل كان عاماً مليئاً بالكمامات والكتب.
وفي هذا العام، دأبت على كتابة بعض من يوميات القراءة .. وعن هذا الكتاب، فقد قرأته في شهر (سبتمبر)، والذي كان من فعالياته كما دوّنت حينها:
“تعود الحياة وكأنها تتنفس الصعداء من جديد .. ويتم البدء بإعطاء متنفس من الحجر الصحي“.
تسلسل الكتاب على المدونة: 253
التعليقات