كتاب يضم مجموعة مقالات عني بها كاتب تونسي وهو يتناول أطرافاً من سيرة الأديب الأرجنتيني الأصل (بورخيس)، وقد أضفى عليها ككل -بطبيعة الحال- انطباعه الشخصي وتحليلاته الأدبية كمطّلع متعمق على أعمال الأديب، وهو بهذا ضمّنها ترجمة لبعض أشعاره، واقتباسات لبعض أقواله، مع سرد عدد من المواقف التي جاءت إما على لسان الأديب أو بقلمه هو، وهو يستلهم تجليّاته المتوارية بين طيّات سيرته .. وقد جاء تصنيف الكتاب كـ (دراسة) على غلافه الأول! لذا، تراه يقول ابتداءً: “كان خورخي لويس بورخيس مكتبة كونية بالمعنى الحقيقي والعميق للكلمة، وقـد ساعده اتقانه للغات عدة مثل الفرنسية، والألمانية، والإنجليزية، والإيطالية، على اكتساب ثقافة موسوعية عالية، وعلى النهل من ثقافات مختلفة ومتعددة. وهذا ما تعكسه قصصه ومقالاته ومحاضراته التي لا تقتصر فقط على الخوض في مواضيع أدبية وشعرية ونقدية، بل تتعدى كل هذا لتشمل الفلسفة، والعلوم الاجتماعية والأنثروبولوجية، وعلم الأديان، والسحر والتنجيم، أو ما يسمى بالعلوم السوداء”. وفي هذا، يذكر الكاتب إقبال بورخيس في الأشهر الأخيرة من حياته على تعلّم اللغة العربية مستعيناً بمعلم مصري من مدينة الإسكندرية، وذلك لرغبة منه في إعادة قراءة (ألف ليلة وليلة) التي فُتن بها منذ صغره، في نصّها الأصلي.
إنه إذاً خورخي لويس بورخيس (1899 : 1986)، الكاتب الأرجنتيني المولد السويسري الإقامة. اشتهر بإصداراته في الأدب والنقد والشعر والقصة وكتابة المقالات، وإعداد مقدمات الكتب، وتأليف المسرحيات، إضافة إلى إسهاماته في ترجمة بعض الأعمال الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسكندنافية، إلى الإسبانية، وقد حصل على عدد من الجوائز والتكريمات العالمية، كما تُرجمت بعض أعماله إلى العربية، منها: كتاب/ نافذة العرب على العالم .. كما تنقل عنه في ذلك شبكة المعلومات.
يعرض الفهرس قائمة مطوّلة من المقالات التي يحظى معها الكتاب بنجمتين من رصيد أنجمي الخماسي، والذي أعرض ما جال في خاطري من تجليّاته بعد القراءة في الأسطر القادمة، وباقتباس في نص ملهم (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) بالإضافة إلى ما سبق من اقتباس:
- بينما يتحدث بورخيس عن سيرته الأدبية، يذكر بسخاء رائعة سارفانتس (دون كيخوته) التي ولّاها اهتماماً خاصاً منذ طفولته، إلى جانب الأعمال الأدبية الخالدة الأخرى، كـ (جزيرة الكنز) لمؤلفها روبرت ستفنسون، و (أليس في بلاد العجائب) لصاحبها لويس كارول، وقد كان محظوظاً بمكتبة والده التي كانت عامرة “بأعمال عظيمة” وقد اعتقد عندما كبر أنه “لم يخرج منها أبداً”. وهو إذ يسترجع أطيافاً من ذاكرته، حينما استلم (جائزة سارفانتس) في مدريد عام 1980 بحضور ملك أسبانيا خوان كارلوس، وتوجهه إلى الترجمة في سن مبكّرة بمعاونة والدته التي “كانت تتقن لغة شكسبير”، متخلياً في ذلك عن العمل في أدب الرواية، سارداً خواطره الفلسفية والتاريخية والفكرية عن تلك القصة النبيلة، يختم الكاتب مقالة (بين بورخيس وسارفانتس) برأيه في مقاربة بورخيس بين الأسباني ميغيل سارفانتس والفرنسي بيار مينار، وهما يوثّقان شهادة عن الماضي ويضربان مثلاً في الحاضر ويحذّران من المستقبل .. إذ بينما كان الأول عبقرياً وحسب، كان الثاني معاصراً لفلاسفة ومفكرين .. وإن طابق قول الأول الثاني لغوياً، فقد جاء قول الثاني أكثر ثراء وبلاغة، وذلك تأكيداً للفكرة التي استهوى بورخيس تكرارها: “بأن اللوحات داخل اللوحات، والكتب التي تزدوج في كتب أخرى، تساعدنا على أن تكون أحلامنا أكثر اتساعاً، وخيالنا أعلى قدرة على الابتكار وعلى التحليق بعيداً“.
- الوطن عند بورخيس، لا يملك حدوداً، ولا يحمل اسماً واحداً، بل تتعدد وجوهه وطقوسه وأزمانه .. فهو يستهويه البيت البسيط، لا ذلك المحشور ضمن طوابق تصارعه على الهواء .. والوقت المارّ في اللاشيء، لا النهار الذي يقطعه رنين الساعات .. ويعشق تلك الحبيبة الموعودة كزوجة وهي تحوّل كل شيء إلى نذور للحب وحده .. يحب أيضاً القمر الساطع وحيداً ضمن ملايين المرايا .. يحب الشارع الساكن في هدوء الشرفات المطلّة على السماء، بينه الأزقة المترعة بالأمل .. والشارع الطويل الموحش الممزق بالرحيل .. والشارع الآخر الذي قاده يوماً نحو السعادة الباقية على العهد، والتي تسكنه في انتظار لا بد وأن يحين أوانه .. على أنغام قيثارة! يقرظ بورخيس كل هذه المعاني البديعة في أبيات تحت مقالة (أوطان):
“أحب البيت الواطئ
البيت الذي يصل فوراً إلى السماء
البيت الذي لا تزاحمه طوابق أخرى سوء الهواء ..
أحب وقت الساحة
أحب البيت الكبير
على طرف باحة ..
أحب الوقت الساكن
الوقت برغبات غير مفيدة
وبأن لا نفعل أي شيء ..
أحب حبيبتي الضوئية الموعودة
ضماناً للسعادة في قلب النعمة
أحب جسدها الفتي الذي لا يطفئه الظل ..
أحب أن أرى عند الآخرين ما يواصل حركتي
مثل القمر الذي يلمع وحيداً في عدد هائل من المرايا ..
أحب الشارع الهادئ بكل شرفاته التي تتقاسم السماء
والأروقة السخية المثقلة بالأمل ..
أحب الشارع الوحشي
الذي يمزقه الغروب والرحيل“
- ومن سحر الشرق الذي أخذ بلبّ بورخيس، فقد اعتبر تحفة (ألف ليلة وليلة) العربية، إحدى أمهات التراث العالمي في تاريخ الأدب الإنساني، إذ ينقل عنه الكاتب في مقالة (بورخيس وألف ليلة وليلة) ما كتب عنها نصاً، كالآتي: “مثّل اكتشاف الشرق بالنسبة لتاريـخ الأمم الغربية حدثاً هائلاً. وربما يكون أكثر دقة الحديث عن وعي بالشرق، كامن، ومتواصل، وشبيه بالحضور الفارسي في التاريخ الإغريقي. وفضلاً عن هذا الوعي بالشرق -وهو ظاهرة متسعة، وثابتة، ورائعة، وغير مفهومة- هناك نقاط أساسية يتوجب الوقوف عند البعض منها. ويبدو لي أن هذا الأمر مهم لكي نحيط بهذا الموضوع، الذي أحبه جداً، وأحبه منذ طفولتي، أعني بذلك «ألف ليلة وليلة»، أو كما سمي في الترجمة الإنجليزية -وهي أول ترجمة قرأتها «الليالي العربية»- وهو عنوان له سره الخفي رغم أنه أقل جمالاً من «ألف ليلة وليلة»“.
وعن سيرة بورخيس الأدبية، فقد تعرّفت عليها ابتداءً من خلال كتب مواطنه، الأديب العالمي ألبرتو مانغويل -الأرجنتيني الأصل الكندي الجنسية- الذي ذاع صيته في العشرين عاماً الماضية كمترجم وروائي وكاتب مقالات، والذي حالفه الحظ -كما يقول- بأن يتتلمذ على يد الأديب لويس بورخيس، وهو أحد أبرز أدباء القرن العشرين.
وأختم بما راق لي من خواطر بورخيس عندما قبل على مضض إدارة المكتبة الوطنية، بعد إلحاح أصدقائه وتوزيعهم عريضة عن هذه المطالبة، إذ كتب حينها: “لقد تخيّلت الجنة دائماً على شكل مكتبة! آخرون تخيّلوها على شكل حديقة أو قصر. كنت إذن هناك .. أي في قلب تسعمائة ألف مجلّد بمختلف اللغات” .. وعني، فأتخيل المكتبة (لا الجنة) تطفو فوق الغمام الأبيض، باتساع الأفق، المظلل لقصر الحديقة .. في تلك الجنة!.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
نقلاً من المفكّرة: جاء تسلسل الكتاب (18) في قائمة لا تنتهي من الكتب التي خصصتها لعام 2022، وقد حصلت عليه من معرض للكتاب في إحدى المدن العربية خلال العام نفسه، ضمن (120) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض.
أنشطة شهر أغسطس: استأنفت القراءة بعد انقطاع عدة أشهر لاستكمال مهمة ما .. وكأني تنفست الصعداء من جديد!
تسلسل الكتاب على المدونة: 349
التعليقات