كلمات وجيزة في الروحانيات، لكنها عبقة بفكر فلسفي يربط علاقة الإنسان بخالقه جلّ وعلا، وهو في رحلة صوفية تراتبية يسعى إلى نزوع خلقه من ثقل الطين ووطأة الغرائز، والسعي من ثم نحو القربى من النور والوصول إلى أقداس الحضرة الإلهية.
يتناول المفكّر هذه المعاني النورانية من خلال المباحث التي ضمّها في كتابه القصير، وقد نال بها نجمات أربع من رصيد أنجمي الخماسي .. وهي:
- الفصل الأول: التعرّف على ملك الملوك
- الفصل الثاني: الوجود كله لله
- الفصل الثالث: توحيد أهل الأسرار
- الفصل الرابع: الوجود والعدم
- الفصل الخامس: السير إلى الله
ومنها، أقتبس في نص من نور ما يلي (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
- مع استهلال مبحث (توحيد أهل الأسرار)، يطرح المفكّر سؤالاً أزلياً أدلى فيه الكل بدلوه: “هل هناك ما سوى الله”؟ وتأتي الإجابة باختلاف المذاهب والمشارب بـ “نعم .. هناك العدم .. فما سوى الله عدم”. وبدوره، وبعد عرض عدد من الآيات التي تحضّ على تسبيح الله بوصفه الأعلى والعظيم وذي الجلال والإكرام، وبكافة أسمائه الحسنى وصفاته العليا، يقول المفكّر: “فالله بإفادته القدرة للقادرين سمي قادراً، وبإفادته الكرم للكرماء كريماً .. وكذلك كل ما وُصف به إنما جرى عليه من قبيل أنه وهبة وإفادة لا من قبيل أن هذا الوصف أو ذاك كمال لذاته، فصفات الله بهذا الاعتبار موهوبات من ذات الله ومفادة لأسمائه الحسنى، أما ذاته فمنزهة عن الصور والأوصاف لأنها واحدة الحسن، وإنما هو سبحانه يتلطّف بعباده فيظهر لهم بالصفات والأسماء ويدعوهم بالصور المشابهة لهم حتى يستأنسوا .. ولهذا قال الحديث: «خلق آدم على صورة الرحمن»، ولم يقل على صورة الله أو الذات، فالله ظهر بالاسم الرحمن، والرحمن خلق الإنسان على صورته لطفاً منه، ليتم الإئتناس وليمكّن الحوار، أما الذات فهي في العلو والتجريد لا يحيط بها وصف ولا اسم! وفى ذلك يقول ابن مكزون: «من عرف موقع الصفة بلغ قرار المعرفة» .. أي من عرف وأدرك أن الصفة لا تقع على الذات الإلهية وإنما مستفادة منها ومفادة إلى الواحد أو الاسم أو الشيء أو النفس القابلة وواقعة عليها .. من عرف ذلك بلغ قرار المعرفة! ولهذا يرد النبي عليه الصلاة والسلام كل شيء في النهاية إلى الذات الإلهية في حديثه: «أعوذ بعفوك من عقابك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك» .. فهو في البداية يستعيذ من أفعال وأسماء وصفات إلهية «أعوذ بعفوك من عقابك وأعوذ برضاك من سخطك» .. ثم في النهاية يسلم إلى الذات كل شيء «أعوذ بك منك»“.
- أما في مبحث (الوجود والعدم) الذي احتل عنوانه عنوان الكتاب، فيفصّل فيه المفكّر من خلال رؤيا فلسفية عن أصل الكون والروح والنشأة، والعدم الذي ليس عدماً في أصله بل حيّزاً قائماً له وجود! فيقول ابتداءً: “ما ثم إلا وجود وعدم، ولكن العدم غير معدوم، بل هو حضرة لها حقائقها، كما أن الوجود (الله) حضرة لها حقائقها! فالعدم حضرة سالبة بمثل ما أن الوجود حضرة موجبة، والعدم حضرة «قابلة» بمثل ما أن الوجود حضرة «فاعلة»، وهما أشبه بالظلمة والنور والمرآة والشمس التي تبدو فيها، وهي تشبيهات قاصرة عاجزة ولكننا لا نجد غيرها”. كذلك، هو يؤكد على أن كل ما هو حقيقي قائم قد كان قائماً منذ الأزل، غير أن الحاجة وانتفاء القدرة الذاتية على الإتيان بشيء، هي صفة تلحق به! فيستمر ويقول: “وكل حقيقة في العدم هي قابلية وهي عين ثابتة قديمة في الأزل، وهي ذات لها خصوص وصف هو الافتقار الكامل والاحتياج المطلق وعدم القدرة على شيء .. وهي حقيقة غير مجعولة (غير مخلوقة) فهي قديمة أزلية وتشخّصها أزلي، فكل ذات تحمل معها خصائصها ومكنونها منذ الأزل”. إنها إذاً حقائق تكتنفها الأسرار ولا يطالها الكشف إلا بإذن الله! فيقول مجدداً: “وتتفاوت الحقائق (الذوات) في الجانب السلبي العدمي كما تتفاوت درجات البرودة سلباً تحت الصفر، وهو مثال تقريبي لأشياء لا يمكن تقريبها ولا تمثيلها بعبارات وكلمات، فنحن في منطقة من الأسرار النهائية لا يجلوها اجتهاد فكر ولا يجيب عليها إلا كشف إلهي وعلم لدني”. غير أن من الحقائق العدمية ما يفضّل البقاء في العدم بينما يطالب غيرها الله بالظهور! فكما يقول: “ومن الحقائق في العدم ما لا يطلب الظهور ولا الوجود وتلك الحقائق تبقى عدماً مطلقاً ولا يجعل الله لاسمه الظاهر سبيلاً إليها، ومن الحقائق في العدم ما يتوق إلى الظهور والوجود وما يتطلع إلى الله حين يتجلى عليه طالباً أن يرحمه بإيجاده .. وتلك الحقائق أو الذوات يخرجها الله من العدم إلى الإمكان ويجعلها محلاً لولاية أسمائه الحسنى وصفاته، وتلك هي شئون الملك والملكوت .. وهذا هو عالمنا .. وهذه الذوات هي أنا وأنت ونحن”. بهذا، لا يقهر الله أحداً على هيئة ما، بل يُظهره كما هو على هيئته الأصلية .. “وكل ذات منا تحمل حقيقتها معها وتحمل خصوص وصفها معها، ولا يجعل الله لقدراته سبيلاً إليها إلا من حيث إعطائها لبسة الوجود الخارجية وإعانتها على الفعل بحسب خصوص نياتها، ولا يقلب الله حقيقة أحد ولا يقهر أحداً على غير طبيعته، (فالحقائق كما قلنا قديمة أزلية غير مجعولة)، ولو قلنا إن الله يجعلني قهراً كذا وكذا، ففي هذا الكلام نفي لذاتي ونفى لحقيقتي! وقلب الحقائق مستحيل، وإلا كانت الحقائق ظواهر لا حقائق .. وهذا نفى للحكمة التي أقامها الله ناموساً لكل شيء، ثم إن الجعل والقهر هو نفي للإمكان، وقد أراد الله في ناموسه أن يكون كل منا ذاتاً قابلة للاحتمالات من البداية، وإمكانية بحتة مفتوحة لجميع الاختيارات. ولو كان «القابل» مجعولاً لما كان قابلاً، ولضرب عليه التحديد من بدايته ولأنتفت المحاسبة والمساءلة، كما أننا إذا نفينا «الذات» جعلنا من المساءلة عبثاً. وما دون هذا من القول فهو تجديف على الله “ولا يصح أن تُجوز على الله ما ينافي الحكمة! فالله قضى في أزله أن يستعمل كلا على شاكلته، وأن يوقف كلا عند استحقاقه في سابقته وألا يقهر أحداً على غير طبعه «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه» .. فهو لم يجعل إبليس إبليساً، ولكن كبرياء هذه النفس الملازم لها منذ الأزل هو الذي رشحها لهذا المنصب الإبليسي! وهكذا يقيم الله كل نفس في مكانها بحسب خصوص وصفها، وهذا مقتضى الحكمة الإلهية .. لا جبر من رب على عبد ولا من عبد على رب، ولكن المواقف تتغير إذا ألقى العبد باختياره طوعاً وأسلم نفسه إلى ربه، وطلب بلسانه وقلبه وجوارحه أن يزكيه ربه ويطهره ويغيره! يقول الله لعبده: (ألق الاختيار ألق المساءلة البتة) .. المواقف والمخاطبات – النفري” ويتضح هنا بجلاء مفهوم التسليم لله، والتوكل على الله حق الاتكال “فهنا أعلى مستوى توحيد بين العبد وربه على مستوى الذات حباً واختياراً وتسليماً، فقد أعطى العبد لربه أثمن ما يملك «حقيقته» وتلك ذروة المعرفة التي يكافئها الله بأعلى تكريم، فيقول الله عن هؤلاء العباد: هؤلاء هم أهلي وخاصتي وخلاني، وهؤلاء العباد تسقط عنهم المساءلة لأنهم أسقطوا عن أنفسهم الاختيار والتدبير، وارتضوا اختيار الله لهم بتمام التوكل”.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (37) في قائمة احتوت (70) كتاب قرأتهم في عام 2022، وهو الكتاب رقم (13) ضمن (23) كتاب قرأتهم في شهر نوفمبر. وهو كتاب اقتنيته عندما كنت في بواكير العشرين، ضمن مجموعة كبيرة من إصدارات المؤلف حيث قرأتهم جميعاً آنذاك، والتي جاءت جميعها في طبعة منسوخة بالآلة الكاتبة على أوراق صفراء، والتي ازدادت اصفراراً حتى اللحظة .. وها أنا أعود لقراءته مجدداً كعادتي بين الحين والآخر في قراءة قديم الكتب واسترجاع شيء من ماضي الفكر! ولا زلت بعد مرور الأعوام أقرّ، بأن الفكر الحر كأصالة الذهب .. ولا يزال د. مصطفى محمود المفكّر الغائب-الحاضر .. بأصالة فكره وصدق منهجه وإخلاصه لما يعتنق.
تستحضر ذاكرتي أجواء قراءتي الأولى للكتاب ضمن مجموعة تتألف من خمس وثلاثين كتاب رافقتني في إجازة امتدت لشهر. لقد كنت فرحة وأنا أدفع أجرة صاحب المكتبة الذي كان فرحاً بدوره حين ودعّني شاكراً قائلاً: “مكتبتك عمو”. أما المكتبة وصاحبها والسوق .. فلم يعد لهم الآن أي أثر!
من فعاليات الشهر: لا شيء سوى مصارعة الوقت لقراءة المزيد من الكتب وتعويض ما فات خلال العام .. وقد أجّلت عمل الأمس إلى اليوم كثيراً والذي أصبح فائتاً كذلك! وهو الشهر الذي خصصت معظمه في إعادة قراءة عدد من كتب قرأتها سابقاً، إضافة إلى ما خفّ منها.
تسلسل الكتاب على المدونة: 368
التعليقات