كتاب عبقري آخر للحكيم أوشو .. فيه يعيد الإنسان إلى ذاته من خلال عملية تنقية روحية، تطهرّه مما خالطه من شوائب عقائدية وأسرية واجتماعية ودنيوية أثقلت روحه، فأصبح لا بد له من التحرر، وأصبح الوقت سانحاً لتعلم أجمل اللغات .. لغة الصمت!
إن ذلك الإدراك المعرفي كفيل بخلق الحرية المنشودة .. غير أن الحرية في حقيقتها تفوق الحب، بل إنها تستحضر الحب، فلا يزهر الحب في أجواء ملبّدة بالعبودية، ولا على أرضية هشّة قائمة على اتباع ما قد سلف، وإن بلوغ النضج هو الخلود في الأبدية. ليس النضج المقصود هو التقدم في السن، فليس كل كبير حكيم، إنما هو سمو المدارك نحو فهم أعمق للحياة المادية، وتأمل روحي يجدد الوعي، وتفكر دائم في عظمة الخالق .. إنه نضج لا ينتهي بالموت، إنه دائم بديمومة الروح!.
… كل تلك المعاني يستمطرها أوشو من لدن علمه ..
إنه إذاً أوشو .. أو تشاندرا موهان جاين (1931 : 1990) الذي تذكر شبكة المعلومات العالمية أنه ولد في الهند البريطانية، ودرس الفلسفة ودرّسها في الجامعات المحلية، ومن ثم تدرج في العلوم الصوفية ليُصبح (غورو) أو معلم روحاني فاقت شهرته حدود وطنه، ليصل إلى العالمية ويُلقب بـ (زوربا البوذي)، إشارة إلى توجهاته الانفتاحية رغم دعوته الروحية! وبينما تختاره صحيفة (صنداي ميد داي) الهندية كواحد من عشرة روّاد شكّلوا مصير الهند، إلى جانب بوذا ونهرو وغاندي، تختاره صحيفة (الصنداي تايمز) البريطانية كواحد من ألف شخصية عالمية صنعت القرن العشرين، وهو الذي يصفه الكاتب الأمريكي (توم روبنز) بأنه “الرجل الأكثر خطورة منذ يسوع المسيح”.
تعرض صفحة المحتويات قائمة من مرادفات النضج التي توسّع الحكيم في تناولها بالشرح مع ضرب الكثير من الأمثلة، يحصد بها الكتاب رصيد أنجمي الخماسي كاملاً، وقد جاء في نسخته الإنجليزية بعنوان (Maturity: The Responsibility of Being Oneself – By: Osho) .. وهي كما يلي:
- تمهيد: فن العيش
- تعريفات: من الجهل إلى البراءة
- النضج والتقدم في السن
- النضج الروحي
- دورة الحياة السباعية (سبع سنين)
- العلاقة الناضجة: التبعية، الاستقلالية، الاعتماد المتبادل
- الحاجة والعطاء، الحب والتملك
- الحب والزواج
- الأهل والطفل
- عندما يجتمع الحب والوعي يتحقق الوجود
- الوقوف على مفترق الطرق عندما تخترق الأبدية الزمن
- أعراض شخص غريب في غرفة الاستقبال
- سن اليأس ليس ظاهرة نسائية فقط
- الرجل المسن القذر
- الشعور بالمرارة
- التحول من لا إلى نعم
- التكامل والتوازن
- عندما تصبح الولادة والموت شيئاً واحداً
- الاختفاء من الصورة
- أحاجي جريمة قتل مبررة
- الحياة من غير موقف محدد
- من الجنس إلى الشهوات الحسية
- رحلة متواصلة.
ومن النضج الذي جاء مرادفاً لعودة الإنسان إلى ذاته، أدوّن في الأسطر التالية ما علق في روحي بعد القراءة، وباقتباس في نص يانع ناضج (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:
- يحضّ أوشو مريديه في (تمهيد: فن العيش) إلى البدء بالتأمل، عندها تبدأ كل الأشياء بالنمو داخلياً وبالتدريج: السعادة، الصفاء، الصمت، الحس المرهف …، غير أن ثمار ذلك التأمل لا تؤتي أكلها سوى بمشاركة الآخرين الحصاد، وبذلك يزداد النمو ويتكاثر. حتى إذا آن أوان الموت، تتأكد حقيقة أن لا موت، وتصبح دموع الوداع دموع فرح لا حزن. فيقول ناصحاً: “هذه الأشياء أهم بكثير من أي دواء. عندما يصيبك المرض، استدع الطبيب، ولكن أهم من ذلك يجب أن تستدعي الذين يحبونك لأنه لا دواء أفضل من الحب. اتصل بأولئك الذين بإمكانهم أن يخلقوا الجمال، والموسيقى، والشعر حولك، لأنه لا شيء يشفي أكثر من جو احتفالي. والطب هو أدنى أنواع العلاج، ولكن يبدو أننا نسينا كل شيء، وتوجب علينا أن نعتمد على الطب وأن نبدو بمظهر التذمر والحزن”. ثم يضرب مثلاً بالموظف المرهق في عمله الذي يعتقد أن تغيبه عن العمل ليوم واحد سيوفر له قسطاً من الفرح، حتى يُفاجئ في اليوم اللاحق وهو يباشر عمله أن التعاسة لم تفارقه! فيتوجّه أوشو لهذا ولمريديه بالنصح من جديد قائلاً: “تصرف بطريقة خلاقة، وحقق أفضل ما يمكنك تحقيقه عندما تكون في أصعب الوضعيات، هذا ما أسميه فن العيش. وإذا عاش الإنسان حياته بأكملها، وجعل من كل لحظة منها لحظة حب، وجمال، وفرح، سيكون موته بالطبع تتويجاً لجهود حياته” .. ستضفي اللمسات الأخيرة حتماً على حياته جمالاً، ولن يموت في بشاعة كما يموت الناس في كل يوم! لذا، يوصي أوشو بالاحتفاء بلحظات الموت كتوديع لحياة سابقة وبداية رحلة جديدة، فيقول: “إذا كان الموت بشعاً، فهذا يعني أن حياتنا بأكملها كانت وقتاً ضائعاً، ولكن يجب أن نتقبل الموت باطمئنان داخلي، كدخول متشوق لعالم المجهول، كوداع فرح لأصدقاء قدامى وعالم قديم .. يجب أن لا نعطيه صفة مأساوية”.
- ينتقل أوشو للحديث عن قيم (الحاجة والعطاء .. الحب والتملك) وهو في (العلاقة الناضجة: التبعية، الاستقلالية، الاعتماد المتبادل) فينقل عن أحد الباحثين تفرقته بين نوعين من الحب: “الحب الحاجة” و “الحب العطاء”، أو كما شبّه باحث آخر النوع الأول بالنقص والآخر بالوجود. فبينما يقوم حب 99% من البشر على النوع الأول، الذي لا يُعد حباً بل استغلالاً من قِبل أحد الطرفين ضد الآخر بغية فرض السيطرة عليه، يتسامى الإنسان الناضج عن هذا الحب غير الناضج، إذ هو يقدّم الحب للآخرين كعطاءً سخياً دون مقابل، منزّهاً عن كل غرض وحاجة واستغلال. يرى أوشو أن هذا الجشع العاطفي يتم تبادله بصفة أكبر بين من يُطلق عليهم (العشّاق) .. الزوج والزوجة، ألد الأعداء، اللذان لا يتوقفان عن القتال، ولا يتبادلان الحب إلا نادراً، فإذا تقرّب أحدهما للآخر وتودد له، أظهر له الآخر تقاعساً، وتردد وتمنّع، حتى يتحيّن الفرص ليرد له الصاع بالصاع عند تبادل الأدوار .. وهكذا دواليك! يحلل أوشو هكذا موقف معاند فيقول: “هذه طرق للسيطرة على الآخر، لتجويعه وجعله أكثر تبعية. طبعاً، المرأة أكثر ديبلوماسية من الرجل في هذا المجال لأن الرجل هو الطرف القوي في هذا الصراع، وهو ليس بحاجة لإيجاد طرق ماكرة ومبطنة ليسيطر، إنه الأقوى، والمسيطر، والذي يتولى الشؤون المالية، وهذا أهم مصادر القوة”. يستمر أوشو في فضح تلاعب الرجل بالمرأة عبر التاريخ، إذ لا يقف الأمر عند حد سلطته الاقتصادية، بل: “هو أيضاً أقوى من الناحية الجسدية، ولقد طبع المرأة عبر العصور وجعلها تعتقد أنها أقل قوة منه” .. وهو يحاول بكل ما أوتي من مكر حماية مكانته، فتراه: “وهو يبحث دائماً عن امرأة أقل منه شأناً، ولا يرغب بالزواج من امرأة أكثر منه علماً وثقافة، لأنه قد يفقد السيطرة. كذلك لا يرغب بالزواج من امرأة تحب النقاش والجدال لأن الجدال يدمر سلطته، ولا يرغب بالزواج من امرأة مشهورة خوفاً من أن يصبح مهمشاً. كما أنه لا يرغب بالزواج من امرأة تكبره بالعمر، لأنها قد تفوقه خبرة ومعرفة وهذا سيدمر سلطته”. تطبع مراوغات ومناورات الرجل تلك قدر المرأة، لكن دوام الحال من المحال! يستمر أوشو ويقول: “إذاً، لقد بحث الرجل دائماً عن امرأة أقل منه على جميع المستويات، وبسبب ذلك فقدت المرأة طول قامتها، ولا مبرر على الإطلاق لأن يكون الرجل أطول قامة من المرأة. بيد أن المرأة فقدت طول قامتها لأن الرجل كان دائماً يختار أقصرهن قامة، وهكذا تضاءلت نسبة النساء طويلات القامة من خلال عملية الانتقاء الطبيعي. ولقد فقدت المرأة ذكاءها لأن الرجل لم يكن بحاجة إلى امرأة ذكية. وستصاب بالدهشة إذا علمت أن قامة المرأة ازدادت طولاً في القرن العشرين وكبر حجم هيكلها العظمي، حتى أدمغتهن أصبحت أكبر حجماً، وقد حصل كل ذلك خلال خمسين عاماً فقط، وخاصة في الولايات المتحدة”.
- يتطرّق أوشو إلى الأمور الحميمية بين الجنسين في (أعراض شخص غريب في غرفة الاستقبال)، حيث يؤكد من خلال حديثه عن (سن اليأس ليس ظاهرة نسائية فقط) بأن عتبة سن الخمسين عند الرجل هي علمياً مرحلة مشابهة لمرحلة سن اليأس عند المرأة، حيث يشهد الرجل انحطاطاً جنسياً لم يعهده من قبل، يتمثّل في عدم مقدرته التعبير عمّا يشعر به في حضور امرأة. إنه كذلك يمر بدورة شهرية، كما المرأة- كل ثمان وعشرين يوماً! وعلى الرغم من أنها غير مرئية بالمقارنة، إلا أنها تظهر بوضوح من خلال ثلاث أو أربع أيام مستمرة من الاكتئاب، دون سبب ظاهر. يطمئن أوشو مريديه بأن ذلك الانحطاط في تلك المرحلة الانتقالية لا تستدعي القلق، بيد أن انحطاط الطاقة الجنسية تولّد طاقة روحية، آخذة بالزيادة. وفي هذا، يقارن أوشو بين الغرب المادي والشرق الصوفي، فيقول: “في الغرب، أصبح انحطاط الطاقة الجنسية مشكلة كبيرة، لأن الحياة الجنسية هي الحياة الوحيدة التي يعرفونها. في اللحظة التي تبدأ فيها طاقتهم الجنسية بالانحطاط يشعرون أنهم يقتربون من الموت. في الشرق، على عكس ذلك، نشعر بسعادة غامرة عندما تبدأ طاقتنا الجنسية بالانحطاط لأننا نتخلص بذلك من حالة الهياج والاضطراب التي كانت تسببها. لا داعي للقلق، ليس هناك أي عائق جنسي .. بعد مرور سنة، تستقر الأمور وتنتقل إلى مستوى أعلى: ستتمكن من رؤية الحياة بطريقة مختلفة، ولن يكون الرجال مشابهين كثيراً للرجال، والنساء لن يكن شبيهات كثيراً بالنساء. سيكون هناك مخلوقات بشرية في العالم بدلاً من رجال ونساء! وهذا عالم مختلف كلياً من المخلوقات البشرية. في الواقع، بعد ذلك يصبح من غير المقبول أن ننظر إلى المرأة كامرأة وإلى الرجل كرجل .. كان الجنس سبب الانقسام. وعندما يزول الجنس كعامل تقسيم، لن نرى سوى مخلوقات بشرية”.
تعليق: فيما يتعلق برأي أوشو في سعادة رجال الشرق عند بلوغهم سن اليأس وتخلصهم من حالة الهياج الجنسي -حسب تعبيره- فأنا لا أعتقد بعمومية هذا الرأي، إذ ليس كل الشرق كشرق أوشو الذي عناه! فإن تحقق صحة هذا الرأي في الشرق الأقصى، فليس بالضرورة أن يكون الوضع بالمثل عند رجال الشرق الأوسط .. والصمت هنا أبلغ من الكلام!
وعلى مكتبتي المتراصة الأرفف بما عليها، زاوية، تحوي من خزائن الحكمة ما جاد به الحكيم أوشو، منها ما قرأت ومنها ما ينتظر. فبالإضافة إلى (النضج: عودة الإنسان إلى ذاته) أحظى أيضاً بـ: (الشجاعة / الإبداع / الفهم / عن المرأة / المركب الفارغ / الحياة والأبدية / كتاب الحكمة / الرحلة الداخلية / الثورة لعبة العقائد / الحرية: شجاعتك أن تكون كما أنت / الحدس: أبعد من أي حدس / كتاب المرأة: احتفالاً بروحية المرأة / لغة الوجود: ما وراء الحياة والموت / العلاقة الحميمة: لغز العلاقة الحامية / سيكولوجية الاستنارة والأجساد السبعة / التانترا: الروحانية والجنس / سر التجربة الداخلية: رؤية التانترا / سر أسرار التانترا: تقنيات النور والظلام – أسمى من الأنا / سر أسرار التانترا: السمع والجنس – الاستنارة المفاجئة) .. ويبدو أن العدد آخذ في الزيادة.
ختاماً أقول كما قال الحكيم: إن الحياة الحقيقية هي الحياة التي يحيا فيها المرء بذاته الحقيقية، بعيداً عن تملّق الأديان والأعراف، وبعيداً عن تكلّف أفعالاً لا تتفق بما يعتمل في صدره .. وإن كانت التضحية تُستوفى من سمعته .. وصدق أوشو حين قال: “إن الأشخاص الذين يتحلون بما يكفي من الشجاعة لندعوهم بالمجانين، هم فقط قادرون على أن يحيوا ويحبوا ويكونوا ذاتهم الحقيقية .. والنضج يتولد من عدد أكبر وأعمق من تجارب الحياة، وليس من تحاشي الحياة .. عندما نتحاشى الحياة نبقى أطفالاً”.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (42) في قائمة ضمت (57) كتاب قرأتهم عام 2021 تتضمن أربعة كتب لم أتم قراءتها وثلاثة كتب أعدت قراءتهم من جديد، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان أكثر بكثير، لكن لم تسمح ظروف الحياة لمجابهته! وهو ثاني كتاب اقرؤه في شهر ديسمبر من بين سبعة عشرة كتاب .. وقد حصلت عليه من معرض للكتاب في إحدى المدن العربية عام 2018 ضمن (140) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض.
ومن فعاليات الشهر: لقد جاء حماس القراءة في هذا الشهر مضاعفاً، وذلك للإجازة الطويلة التي بدأتها في خواتيمه، وللترقّب في حضور معرض للكتاب الذي سيُعقد الشهر القادم من العام الجديد بإحدى المدن العربية.
تسلسل الكتاب على المدونة: 318
التعليقات