كتاب جريء يُفصح عن تابو آخر يُشدّ فيه الوثاق حول المرأة فلا تجهر به أبداً .. ألا وهو (الندم على الأمومة)! لكن أين؟ في مجتمع غربي .. ما يجعل منه تابو مغلّظ -بطبيعة الحال- لدى نظيره الشرقي!
لا يُعتبر هذا الكتاب جريء في حد ذاته لطرحه أو لتعميمه أو لاستنتاجه أو لما كشف من أهوال، إنما هو كذلك لمجرد رفعه (نقطة نظام) تستدعي التوقف عند بعض العابرات على طريق الأمومة من أجل تصحيح مسارهن ومسار مثيلاتهن، وقد راودتهن مشاعر الندم على تجربتهن .. تجربة الأمومة، خلافاً لما هو متعارف عليه في المجتمعات الإنسانية، حيث تجرّد أي أم نادمة على أمومتها من إنسانيتها، لا بحكم القانون الجنائي، بل بحكم العرف الاجتماعي المستند إلى الفطرة والغريزة والطبيعة .. أو تُعامل كامرأة مضطربة نفسياً في أكثر المجتمعات احتراماً وتفهّماً وتعاطفاً.
تستلهم الكاتبة الفرنسية -وهي منتجة ومخرجة راديو وتلفزيون- فكرة كتابها، من دراسة لعالمة اجتماع تصبّ في صلب الموضوع، والتي نشرتها في إسرائيل عام 2015، وصاحبتها آنذاك ضجة كبرى .. في إسرائيل حيث نُشرت وفي ألمانيا حيث تُرجمت. والكاتبة إذ تستعين بمنتديات النقاش على شبكة الإنترنت، وتتلقى الكثير من المشاركِات اللاتي شاركن بتكتم وعبّرن لها بلا قلق عن ندمهن في خوض تجربة الأمومة، فهي تعرض في كتابها عشرة تجارب منهن قد عدّتهن الأكثر تأثيراً.
ورغم ندمهن، تُظهر شهادات تلك الأمهات النادمات تفانياً في تربية أطفالهن لم يختلف عن تفاني أي أم محبة، هذا مع حرصهن إخفاء تلك المشاعر والتكتّم عليها .. تفانياً لا يزال مستمراً، بل إن بعضهن صرّحن بشعور الذنب الذي ينتابهن لشعورهن بالندم، فضلاً عن التصريح بمشاعر الحب تجاه أطفالهن إلى حد تمني الموت لو أصابهن أي مكروه! من ناحية أخرى، تعكس بعض تلك الشهادات ملامح قسوة تعرضن لها في صغرهن على يد والديهن، أو ملامح علاقات مفككة تخلو من أي عاطفة واهتمام!
والكاتبة وهي تستعرض قائمة الأمهات النادمات العشر، تسترجع ذكرى جدتها المتمردة في زمن لم يمنح فيه المرأة أي اعتبار، فكافحت وتعلمت وتولت مناصب عليا رغماً عنه .. وهي التي لم تزل تصرّح بالندم على إنجاب طفلها الوحيد .. والدها! والقائمة بأسمائها المستعارة هي:
- إيفون: المرأة والأمومة في فرنسا
- إلسي: الرغبة في الإنجاب رغم كل شيء
- كولين: الخيار المستحيل
- أينا: الأم المستقبلية: لم تعد تملك نفسها
- كلارا: أسطورة الأم الصالحة
- جيوليا: البحث العبثي عن غريزة الأمومة
- سيلفي: حدود خطيرة للندم على الأمومة
- لونا: الحب بأي ثمن
- آمبر: ندم على الأمومة لا رجوع عنه
- فيكتوريا: الكلمة المحررة
ومن الكتاب الذي لو أضيف له الرأي العلمي لكان أكثر موضوعية، والذي جاء في ترجمة متقنة من نصّه الأصلي (Mal de mères: Dix femmes racontent le regret d’être mère – By: Stephanie Thomas) أقتبس شذرات (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، وقد نال ثلاثة من رصيد أنجمي الخماسي:
- إن تجربة الأمومة من غير الممكن توقعها، إذ لا تدري أي امرأة أي أم ستكون! تنقل الكاتبة وهي تعرض حالة (إلسي)، عن والد أحد أصدقائها -وقد كان طبيباً- كلامه لها أثناء حملها: “يجب أن يكون المرء مجنوناً بعض الشيء لينجب طفلاً، والظروف المثالية لن تتحقق أبداً”.
- إن عدم إبداء الجاني ندماً أمام القاضي وأمام ضحيته، يحيله إلى وحش لا يعي حقيقة آثامه، أو أنه -في سيناريو أكثر رحمة- مضطرب نفسي! تقول الكاتبة في خاتمة حالة (إينا): “تغمر الأديان التوحيدية الثلاثة أتباعها بمصادر الخير والشر، والذنب والتسامح. الندم شعور أخلاقي، عندما يعبر عنه المرء، يمكن أن يبرأ من الأفكار السيئة والأفعال الخاطئة. لكن من الصعب للغاية إن لم يكن من المستحيل على الدين وعلى المجتمع، تشبيه ولادة طفل في هذا العالم بفعل بغيض. لهذا السبب، فإن الندم غير مسموح عندما يرتبط بالأمومة. هذه المبادئ تشكل العقليات بلا وعي. والأمر مماثل بالنسبة إلى أسطورة الأم الصالحة المستوحاة من دينونة سليمان في الكتاب المقدس العبري، التي تثقل كاهل الأم طوال حياتها وحياة أطفالها”.
- وفي الحديث عن الزعم بتعزيز علاقة الأم بمولودها عن طريق ملامسة الجلد للجلد، لا سيما عقب الولادة، تقول الكاتبة في خاتمة حالة (كلارا): “أما غريزة الأمومة خلافاً لاسمها الذي يدل على أنها متجذرة لدى جميع الأمهات، فلم يعد هناك شك في أنها شعور ينمو يوماً بعد يوم، وأنه بالتأكيد ليس مدوناً في الجينات”.
أخيراً، تقول الكاتبة بدورها في خاتمة كتابها عن اليقين الذي اكتسبته من تلكم الشهادات: “ينشأ الندم من ضغط اجتماعي يجبر كل امرأة على أن ترغب في أن تصبح أماً، وأن تكون أماً صالحة إن أمكن، وتجربة كل واحدة منهن تحدد علاقتها بالأمومة” .. وتضيف عن أهمية ربط وعي المجتمع بعملية الإفصاح عن مشاعر الندم تلك باعتبارها ضمن منظومة العواطف المتعلقة بالأمومة: “وبقدر ما قد يبدو ذلك غريباً، فإن اهتمام أولئك النساء بشعور الندم الذي يجتاحهن، هو بالضبط ما يجعلهن متفانيات في أداء دورهن كأمهات”.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (139) ضمن (150) كتاب قرأتهم في عام 2024، وهو تاسع ما قرأت في ديسمبر .. وقد حصلت عليه من معرض للكتاب في إحدى المدن العربية العام الماضي ضمن (400) كتاب كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض!
ومن فعاليات الشهر: لا شيء سوى ملاحقة الساعات لإتمام قائمة القراءة .. والتي تطول عادة في آخر شهر من كل عام!
ومن الكتب التي قرأتها في هذا الشهر: سقوط رجل/ حياة الكتب السرية / النوم إلى جوار الكتب / عمر أبو ريشة: قيثارة الخلود / معركة الحياة: رحلة البحث عن الذات / اعترافات تولستوي / موت عذب جداً / القرية التي كنا فيها / وداعاً لآلام المفاصل / عودة ليليت / كتاب الجيم / اسمها فلسطين / زيارة لمكتبات العالم / نساء رفضن عبادة الرجل / وقائع من حياة فتاة مستعبدة / النوم إلى جوار الكتب / الغيرة والخيانة / في مديح القارئ السيء / On Bullshit
وعلى رف (قضايا المرأة) في مكتبتي الكثير من الإصدارات .. منها ما نشرت على مدونتي!
تسلسل الكتاب على المدونة: 589
التعليقات