كتاب وجيز في طرحه، عميق في مضمونه، مثير للجدل عند مناقشته، وقاتل عند محاولة تطبيق ما جاء به! قد يكون مدعاة للعجب أن يسبق د. علي شريعتي (1933 : 1977) أوانه وزمانه، لا سيما في وقت طغى على الشرق الإسلامي ثقافة الجهل المقدس أو كما وصمه هذا النابغة بـ (الاستحمار)، فكان كمن يسبح عكس التيار حينها، غير أنه ليس من دواعي العجب على الإطلاق أن يتم اغتياله غدراً، وإن يتم تغليف الحادثة بموت مفاجئ ناجم عن أسباب صحية، فذلك من لوازم ثقافة (الاستحمار) السائدة آنذاك، والتي لا تزال حاضرة في الوقت الحالي في كثير من الأوجه!
فمع النهج المتفرد الذي سار عليه د. شريعتي في تجديد الخطاب الديني، وطرح قضايا الإسلام المعاصرة من منظور حداثي قائم على أسس علم الاجتماع الذي حمل إجازته من جامعة السوربون في فرنسا، فقد كان هذا مدعاة لالتفاف جمهرة الشباب حوله ممن وجدوا فيه ضالتهم، وقد كانوا معاصرين لزمن تخبّطوا فيه بين ثقافتي الشرق والغرب، وبين أبعاد الفلسفة وجمود الدين. غير أن هذا النهج التوعوي الذي أشعل ثورة فكرية عارمة في النصف الثاني من القرن المنصرم ضمن ما أثاره من قضايا، قد أثار بدوره غضب أصحاب السلطة الديكتاتورية، فكان ما كان من مؤامرة تصفية المفكر وفكره. وفي شهادة للمفكر العراقي عبدالرزاق الجبران، فإن الإصلاح الذي نادى به د. شريعتي ارتكز على بناء الذات الإنسانية من منظور إسلامي-سياسي-اجتماعي، يتأتى من خلال استعراض التاريخ الإنساني. وعن (جدلية الصراع) القائمة، فقد استحدث فلسفة يتواجه فيها طرفان (هابيل-قابيل)، ففي حين مثّل هابيل (الناس)، مثّل قابيل (السلطة)، وقد ارتكز هذا الطرف على ثالوث (فرعون-قارون-بلعم بن باعوراء) في رمز للسلطة السياسية والاقتصادية والدينية على التوالي. ومن شرارة تحالف هذا الثالوث، اندلع الاستعباد باستراتيجية القوة الناعمة، أو ما أسماه المفكر بـ (الاستحمار) على مرّ التاريخ الإنساني.
حمل الفكر الإسلامي في بعض مراحله مفهوماً فلسفياً مغلوطاً تمركز حول الذات الإلهية والغيبيات حصراً، وأهمل الإنسان ومبحث الوجود، فلا يُفهم الإسلام إلا فهماً صوفياً بعيداً عن مقاصده في خلق الإنسان .. فكأنما خُلق الإنسان للدين وما خُلق الدين للإنسان، مما أردى الإسلام في جمود فكري وانتكاس حضاري على مدى قرون. من قلب هذا الصراع، عمد د. شريعتي إلى خلق مسئولية الفيلسوف كصاحب للنظرية الاجتماعية التي تستشف سنن التاريخ وتقف على فلسفة وجود الإنسان، وتسقطها على السياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب. لذا، “كان الأنبياء أعظم الفلاسفة” كما ارتأى.
يحمل الكتاب الفكري عنوان يثير الفضول والظُرف في آن واحد، حين جاءت ترجمته إلى اللغة العربية من أصلها الفارسي (خود آكاهي استحمار)، وعلى ما يبدو، تشترك الثقافتين في استخدام البهيم المشار إليه كمضرب مثل في الغباء. غير أن ترجمته إلى اللغة الإنجليزية استخدمت كلمة (الجهل) كمرادف ألطف للمعنى، بـ (Intelligence and Ignorance)
يُختتم الكتاب بصفحتين، تستعرضان الفهرس الذي يضم عدد من العناوين التشويقية، منها: (العبث / أصغر فأصغر / مجتمع النباهة / الاستحمار الديني / حرية المرأة / التقليد والتبعية)، وقد استنفد رصيد أنجمي الخماسي كاملاً. وكما أسلفت، يعكس الكتاب رؤية فكرية فطنة في شرح موضوعي مستفيض، أسرد منه ما علق في ذهني، وبقليل من الاقتباس في نص جريء (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:
- في استهلاله عن مفهوم (النباهة والاستحمار)، يقسّم د. شريعتي (النباهة) إلى قسمين (فردية واجتماعية) تصبّان في انتماء الفرد لمجتمعه وشعوره بالمسئولية وارتباطه به في مصيره التاريخي، أي كما أطلق عليه بـ “الوعي الوجودي”، ليأتي (الاستحمار) بكل ما من شأنه سلب هذا الوعي وتضليل مسار “النباهة الإنسانية”. ثم يستطرد ليقسّم من جديد اتجاهين رئيسين لتحقيقه هما (التجهيل والإلهاء)، فيعمد الأول إلى تجهيل العقول وصرفها عن قضايا المجتمع المصيرية، ويلهي الثاني الفرد بحقوقه الشخصية عن حقوق المجتمع الكبرى.
- يبدأ د. شريعتي حديثه بموضوع (الأنا والمصير) رغم قناعته بأنه موضوع ينبغي أن ينتهي الحديث به لا العكس، إذ يرى أن أساسه وزبدة حديثه فكري أكثر مما هو علمي، فالأفكار من طبيعتها التغير حيث تخضع للوعي والنقاش، بعكس العلوم المعيارية الخاضعة للتفسير العلمي الصرف!. في هذا الصدد يشير إلى النتيجة العكسية التي قد ترتد مع تضخم الأنا لدى طبقة المثقفين المصاحبة لشعور الاكتفاء العلمي، حيث يبقى العالم منهم جاهلاً ما لم يصاحبه وعي فكري وحس عالٍ بالمسئولية تجاه مجتمعه وتحدياته التاريخية المستمرة.
- على الرغم من قناعته بأن: “الدين الذي هو فوق العلم يعتبر الإنسان ذاتاً أرقى وأشرف من جميع المظاهر الطبيعية”، فإنه يستطرد ليؤكد أن ما عناه بالدين ليست السنن الموروثة والعادات المتحجرة التي تم تناقلها عبر السلف في إطار شرعي تقليدي مشكوك في أصالته وفي قدسيته، والتي باتت لا عقلانية عند أبناء الجيل الجديد المستنير .. بل ما عناه هو “دين المعرفة والتنبه”.
- في حين يشير د. شريعتي إلى الفلسفة الوجودية التي لا تقرّ بوجود إله، يرى أنها تشترك والفكر الإسلامي في “أصالة الإنسان”. كان جان بول سارتر يعتقد أن الإنسان هو رب نفسه وصانع مصيره وبيده مقاليد الطبيعة يسخرها في خدمته، وقد جاء الإسلام من ذي قبل ليعلّي شأن الإنسان، حيث اصطفاه الله وكرّمه وأسجد له ملائكته واستخلفه في الأرض وسخّر له قوى الكون. فلا أكرم من إسباغ روحه جلّ وعلا في ذاته ليغدو عاقل وخالق ومختار ذو إرادة حرة، ومغيّر لذاته ولمصيره.
- رغم ما سبق، يثير هذا الإنسان المختال فخراً -والذي يكاد يخرق برأسه عنان السماء ليصل إلى الله- عجب د. شريعتي، حين تحوطه المغريات والملذات والتحديات فيتردى إلى مستوى أحطّ فيه من قدر الكلب، يشبع فيه نفسه على حساب القيم الإنسانية. يقول في نص الكتاب: “وهكذا نجد الإنسان في حياته اليومية متجهاً إلى خارجه دائماً، ومقبلاً على ما يوفر له لذائذه مائلاً نحو شهواته. ونجد (أنا) تلك (الأنا) التي هي من الله تهبط من العرش إلى حضيض الأرض، فتنغمس كالدودة في الماء المتعفن بالقذارات وتهش للجيفة”.
- قد يثير د. شريعتي الجدل في رأيه عن التمرد كما جاء تحت عنوان (هزة) في كتابه، حيث يرى أن قيمة الإنسان تبدأ مع قدرته على الرفض، كما فعل من قبل أبو البشر آدم .. فلولا “لا” لكان مجرد ملاك “لا ميزة له” سجد لبشر آخر اصطفاه الله بدلاً عنه!. مع هذا التمرد، حظي بشيء من صفات الألوهية حيث أصبح خليفة الأرض، غير أنه قد يخسر تلك الصفات من أجل إشباع لذة دنيوية. على هذا، يستنتج د. شريعتي أنه من الصعب التخلي عن لذائذ التمرد وقد أسفرت عن نباهة وأخلاقيات، إلا أن درجة اللانباهة والغفلة والتسويف التي قد ينغمس فيها الإنسان لاحقاً، لا يوقظها سوى العقاب.
- في لفتة قيّمة من التاريخ، يستنبط د. شريعتي مدى الوعي والجسارة والجرأة التي تحلّى بها الرعيل الأول في صدر الإسلام لا سيما عصر الخلفاء الراشدين، حيث كانوا يهرعون إلى الصلاة وإلى محاسبة أنفسهم بعد إقامتها. وتبلغ درجة الوعي الاجتماعي أوجها حين تصدى أحد الصحابة للخليفة عمر -فاتح الأمصار وقاهر الأباطرة- وهو فوق المنبر، ليحاجّه على قطعة قماش اشتبه على أنها زائدة في سهمه عن أسهم باقي الصحابة، وذلك حينما وُزعت عليهم الكسوة بالتساوي كما كان مفترضاً. برر عمر تلك الزيادة بطول قامته حيث تبرع ابنه بسهمه له، والذي أتى شاهداً على رأس القوم في ذلك الموقف العصيب.
- يستعين د. شريعتي بالتاريخ مرة أخرى ولكن على النقيض، ليشير إلى الليالي الملاح التي كتب لها القدر أن تتواصل لبني العباس في مناسبة زواج البرمكي بالعباسة، وقد تراكمت بعدها أكوام فضل الطعام في المدينة لتجتمع عليها السائبة من الحيوانات والطيور، وتشكل خطراً بيئياً وقتها، استدعت استئجار عمّالاً لرميها خارجاً. وعلى الرغم من أن مدينة بغداد كانت مركز الإشعاع الحضاري الإسلامي آنذاك، إلا أن شيوخها وعلمائها ومفكريها لم يعيبوا هذا الترف والسرف، بل قد تراهم اجتمعوا في زاوية أحد الدواوين يناقشون قاعدة نحوية جديدة، أو كتاب في الطب يسعون إلى ترجمته. لقد طغت الحركة العلمية على الوعي الاجتماعي إلى الحد الذي مهّد للتتار دخول المدينة، فخضع الجميع واستكان حين فقدوا وعيهم الجمعي، ولم ينفعهم أي علم ولا أدب ولا حضارة.
- يبدع د. شريعتي أيما ابداع عندما يتجرأ ليفضح ما أسماه بـ “الدين الاستحماري”. فمع مضي زمن الأنبياء العظيم، ابتليت الأمم بأدعياء من شيوخ وقساوسة ورهبان ومتصوفة اتخذوا من الأديان مطية لإستحمار أتباعها. بيد أن هؤلاء الأشقياء قد نالوا من الحصانة والمزايا الشيء الكثير تحت سلطة الثالوث (فرعون-قارون-بلعام) في تنفيذ أجندتهم التي تصب في صالح تلك السلطة، فتأتي مواعظهم الحانوتية لتزّهد الناس في دنيا فانية وتمنّيهم بأخرى باقية، فيستغنوا بما في أيديهم للثالوث. يضرب هذا الدين المستحمر أتباعه بحجرين، فيضمن الحجر الأول استكانة الفرد منهم أمام سطوة الظلم والقهر والفقر، مستلهماً الصبر في التضرع واستدعاء روح العباس والأولياء الصالحين، بينما يضمن الحجر الثاني التمكين للظالم في التكفير عن ظلمه -ليس برد الحقوق لأصحابها- بل بكلمات يتمتمها سبع مرات نحو القبلة، فيحظى بالمغفرة والرحمة والشفاعة، ولو بلغت ذنوبه عنان السماء وتساوت مع عدد قطر الأمطار ومياه الأنهار والبحار .. هكذا في لمح البصر وبقدرة قادر.
- الإيهام .. إنها السياسة القديمة-الحديثة!. فمن أجل صرف أذهان الشعب الإيراني عن قضية شركة النفط المحلية في فترة ما من القرن الماضي، تم افتعال عشرون معركة أهلية، كما شهدت حركة الاستعمار الغربي في القرن السادس عشر الميلادي ظهور سبعة عشر نبياً في الشرق، لشغل المسلمين في صد ادعاءاتهم .. تعددت الغايات والاستحمار واحد!.
- أخيراً، يتحدث د. شريعتي عن قدرة الوعي في تغيير واقع الإنسان إن شاء، إذ قال: “… فالإنسان الواعي يمكن أن يكون قوياً إلى حد يسيطر على مصيره. من هو ذاك الإنسان؟ إنه ليس نابليون القوي الذي يعبر عن نفسه وسجنه في جزيرة سانت هيلينا: كأني خشبة صغيرة ضعيفة تلعب بها الأمواج كيفما شاءت .. (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ). نعم، إذا غير الإنسان ذاته وطبيعته فإنه قادر على تغيير مصيره ومصير تاريخه، ولا يرتبط هذا بالجسم والمال والمقام، والذي يبقى للفرد إنسانيته فقط”.
بعيداً عن مادة الكتاب الفكرية، يؤخذ عليه ورود شيء من (اللحن) في ترجمته، مثل: (الوعاية) بدل الوعي، (عرفان) بدل معرفة، (انزجار) بدل زجر، (تبتني على) بدل تُبنى على .. بالإضافة إلى بعض الصيغ اللغوية الغريبة مثل: يعيش ترانستالية متعالية، مائزية منهجه.
كفتاة قد شغفها الكتاب حباً، أحرص دائماً على أن يفتح لي كتاب طويت جلدته الأخيرة، جلدة كتاب جديد. لم يخيب هذا الكتاب أملي، فقد حوى عدد منها كمراجع استند عليها الكاتب في وضع كتابه، هي:
- كتاب/ ميلاد مجتمع: شبكة العلاقات الاجتماعية – المؤلف/ مالك بن نبي.
- كتاب/ المعذبون في الأرض أو معذبو الأرض – المؤلف/ فرانز فانون.
- كتاب/ الكينونة والعدم – المؤلف/ جان بول سارتر.
- كتاب/ الكينونة والزمن – المؤلف/ مارتن هيدجر.
في عجالة -وعلى سبيل النقد الأدبي- فإن هذا الكتاب القصير العميق:
- سليم اللغة، واضح المفردات، ويخلو من الكلمات الغريبة.
- ترجمة متقنة مبسطة تعكس فكر الكاتب بوضوح، ومن غير لبس في المعنى.
- متناغم الإيقاع في سرد الأفكار حول موضوعاته المختلفة، وعلى طول الكتاب.
- مثير في أسلوبه الأدبي لعاطفة القارئ، ومحفّز لنظرته التوعوية نحو نفسه ونحو مجتمعه.
- لطيف الخيال في إيراد بعض الأمثلة لتوضيح فكرته، مثل: بقرة أفلاطون، صراع الديكة، قضية روح الإمام.
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 6 يوليو 2022 – صفحة (10) جزء1
المقالة على صحيفة المشرق العراقية 7 يوليو 2022 – صفحة (10) جزء2
المقالة على ضفة ثالثة / العربي الجديد 9 سبتمبر 2023
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (38) في قائمة ضمت (105) كتاب قرأتهم عام 2020 تتضمن تسعة كتب لم أتم قراءتها، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان (100) كتاب فقط! وهو سابع كتاب اقرأه في شهر يونيو من بين واحد وعشرين كتاب. وقد حصلت عليه من متجر جملون الإلكتروني للكتب العربية في يناير من نفس العام ضمن (35) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة.
لقد كان عام الوباء الذي جاء من أعراضه الجانبية (ملازمة الدار وقراءة أكثر من مائة كتاب)! لم يكن عاماً عادياً وحسب .. بل كان عاماً مليئاً بالكمامات والكتب.
وفي هذا العام، دأبت على كتابة بعض من يوميات القراءة. وعن هذا الكتاب، فقد قرأته في شهر (يونيو)، والذي كان من فعالياته كما دوّنت حينها:
“كان شهراً حافلاً بالقراءة وإعداد مراجعات الكتب المقروءة .. مع استمرار الحجر الصحي بطبيعة الحال”.
تسلسل الكتاب على المدونة: 49
التعليقات